ولكن المنفلوطي في غير هذه الزاوية، يعرف بمكانته الأدبية العامة، فلا يعرف له نظير بين أعلام الأدباء الناثرين من مطلع النهضة الكتابية قبل مولده إلى ما بعد وفاته، فليس بين أدبائنا الناثرين من استطاع أن يقرب بين أسلوب الإنشاء وأسلوب الكتابة كما استطاع صاحب «النظرات» و«العبرات»، فربما ذهب القصد في الكتابة بجمال الإنشاء في أساليب الناثرين المجيدين، ربما ذهب الأسلوب «الإنشائي» الجميل بالمعنى المقصود في كتابة أدباء الفكر والتعبير، ولكن المنفلوطي - قبل غيره - هو الذي قارب بين الجمال والصحة على نسقه الفصيح في سهولة لفظ ووضوح معنى وسلاسة نغم، وهو لا يبلغ مبلغ التبرج بالصقل والزينة، ولا يترك التبرج والزينة ترك المتقشف في مسوح النساك، وليس لدروس الإنشاء نموذج أصلح من هذا النموذج من وجهته الفنية، وعن أدبه هذا أقول في بعض فصول «المراجعات»: إنه أحد الذين أدخلوا المعنى والقصد في الإنشاء العربي، بعد أن ذهب منه كل معنى وضل به الكاتبون عن كل قصد، وكانت الكتابة قبل جيله قوالب محفوظة تنقل في كل رسالة، وكانت أغراض الكتابة كخطب المنابر تعاد سنة بعد سنة بنصها ولهجة إلقائها.
وقد اطلعت على مجموعة وافية مما كتب المنفلوطي للفن وما كتب بغير كلفة، فكان لكتابته على كلا النمطين المتباعدين طابع الرائد المجاهد في أمثال هذه الرسالة: رسالة التقريب بين حفاوة الإنشاء ورخصة الخطاب واطراح الكلفة.
ويتمثل طابع الرائد في تباعد الشقة بين موضع الحفاوة وموضع الرخصة مما يكتب للفن وما يكتب لخاصة أمره، فكان المنفلوطي «يدبج» مقالاته الفنية فلا يفوته موضع العناية بكل كلمة وكل فاصلة، وكان يكتب رسائله لصحبه - ومنهم المتعلمون بل المعلمون - فلا يبالي أن ترد فيها أمثال هذه التعبيرات الدارجة: «فيدوني تلغرافيا» أو «مرسول لحضرتكم» أو «تأملوا الأسطوانات حتى لا تكون مستعملة ثم أرسلوها في البوسطة» أو «فهموها أن ترسل شهادة المدرسة المتخرجة فيها» أو «أهديك سلامي» أو «تلامذتك بخير يسلمن عليك وأرجو تبليغ سلامي لحضرات الأفاضل إخوانك المعلمين».
وكلها من شواهد النظر إلى الكتابة الفنية، كأنما هي كتابة «الاستعداد والحفاوة»، وما عدا ذلك من كتابة الأغراض الخاصة فرخصة العرف فيها أولى من كلفة الاستعداد، أو كلفة «السمعة والحشمة!»
وتعيد إلينا قدرة المنفلوطي على تبسيط الأسلوب الجميل كلمة «أناتول فرانس» التي يقول فيها: «إن البساطة الجميلة هي القدرة على إخفاء الجهد والكلفة، وإن النور الأبيض بسيط في النظر، ولكنه أوفر الألوان تركيبا؛ لأنه توليفة من جميع الألوان.»
محمد المويلحي
كانت للحياة الأدبية في القرن الماضي مؤامراتها ودسائسها التي تشبه المؤامرات والدسائس في حياة القصور الملكية، والصواب أن مؤامرات الأدب ودسائسه كانت في باطن أمرها فرعا من فروع المؤامرات المعهودة في كل حاشية ملكية؛ لأن الأدباء كانوا على اتصال قريب أو بعيد بحاشية الأمير، وكان للقصر أشياع ودعاة بين أصحاب الأقلام كما كانت له خصوماته معهم على حسب الظروف والعلاقات التي تتغير بينهم جميعا من حين إلى حين، وربما كان حامل قلم عونا على حامل قلم آخر مرضاة للسياسة أو مرضاة للمنافسة المعهودة بين أبناء الصناعة.
وكان لمحمد المويلحي صاحب «عيسى بن هشام» نصيب واف من مؤامرات القصور، ولعله استحقها بقدم الصلة بين أسرته وبين الأسرة الخديوية من عهد مؤسسها محمد علي الكبير، وقد عاش أبوه إبراهيم في معمعان سياسة القصور بين عابدين بالقاهرة ويلدز بالآستانة، وكان صاحب القلم الوحيد الذي اصطحبه الخديو إسماعيل إلى منفاه، سفيرا له في علاقاته بعد المنفى بالسلطان عبد الحميد.
ولم يسلم المويلحيان معا من مؤامرات عابدين، ولم يسلم عابدين ويلدز معا من مؤامرات المويلحي الكبير على الخصوص، وكان حامل القلم الذي اختارته حاشية عابدين للنكاية بالمويلحيين صحفيا من أقرب الناس إليهما وأشدهم إعجابا بهما ومحاكاة لهما في أسلوبه، وهو صاحب «الصاعقة» أحمد فؤاد، وما كان يرجو لصاعقته حظا في ميدان الصحافة أعظم من مقارنة «مصباح الشرق» صحيفة المويلحيين في هذا الميدان.
وقد كانت وقيعة «أحمد فؤاد» بالمويلحي الكبير ألوانا لا تحصى من الشائعات والأراجيف و«القفشات» التي كان ينشرها على الأندية والقهوات، وكانت وقيعته الكبرى بالمويلحي الصغير أنه كان يجرده من ملكة الكتابة الأدبية، ويزعم أن «عيسى بن هشام» من قلم أبيه، وأنه كان يرى مسودات المقالات بخطه في مطبعة المصباح! وكانت وقيعته بأبيه أنه طامع في إمارة الشعر بقصر الأمير.
Bog aan la aqoon