كنت أحرر صحيفة الدستور مع صاحبها كما تقدم، وكان صاحبها عضوا في الحزب الوطني، والصحيفة لسان من ألسنة هذا الحزب القليلة في ذلك الحين بين الصحف اليومية والأسبوعية. كانت «الدستور» لسان الحزب الثاني و«اللواء» لسانه الأول، ولكني لم أشترك في الحزب بعد إعلان تأليفه كما اشترك فيه زملاؤنا الصحفيون. ولا يخطر لي الآن، ولم يخطر لي قبل الآن، أن تلك الصورة التي ارتسمت في ذهني من لقاء مصطفى كامل للمرة الأولى هي التي أخرتني عن طلب الاشتراك في حزبه، فلم يزل مصطفى كامل أحب المجاهدين إلينا في حومة القضية الوطنية بين أصحاب الصحف وأعلام القضية المصرية يومذاك، وكنت أتشيع له إذا نشبت المعركة بينه وبين خصومه، كما تقدم في الكلام على الشيخ علي يوسف - صاحب «المؤيد » - وبعد أن عرفت من حقائق الدعوة الوطنية وحقيقة نفسي ما لم أكن أعرف. أستطيع أن أقول إن اختلاف الطبيعة البعيد قد رسم أمامي مثالا للإمامة المذهبية غير هذا المثال، فإن مصطفى كامل كان من أصحاب الطبيعة الخطابية الشعورية، وكانت الطبيعة الأدبية والفكرية أقرب إلي وأحرى بالاتباع، فضلا عن نفور أصيل عندي من التقيد بالحزبية في الرأي، أيا كان مقصدها في السياسة أو الأدب أو الثقافة على الإجمال.
واختلاف الطبيعة هو الذي جعل لي سبيلا في المسائل القومية غير السبيل التي كان يختارها مصطفى كامل في كثير من مواقفه العامة.
فلم يعجبني موقف المصري المتوسل أمام تمثال فرنسا يناجيها ويناديها:
يا فرنسا يا من رفعت البلايا
عن شعوب تهزها ذكراك
أنقذي مصر إن مصر بسوء
وارفعي النيل من مهاوي الهلاك
ولم يكن أدب فرنسا، ولا ما اطلعنا عليه من تاريخ ثورتها، داعيا عندنا للثقة بنجدتها واستعدادها لإنقاذ مصر أو سواها، ولم تكن طبيعتي التي تأبى طلب المعونة من القادرين عليها كما تأبى طلبها من العاجزين عنها مما يقنعني بإمكان التعويل في قضية الاستقلال على معونة دولة قط، من الدول الكبار أو الصغار.
ولهذا أيضا لم يعجبني تعليق الاستقلال المصري بالسيادة العثمانية؛ لأننا على عطفنا الدائم على الدولة العثمانية في مكافحتها للتعصب الأوروبي، لم نكن نفهم أن هذا العطف ينتهي بجهادنا إلى الرضا باستقلال تشرف عليه سيادة دولة أخرى، وقد كان مصطفى كامل يمزج كثيرا بين المصرية والعثمانية حتى في أحاديثه الخاصة، كما قال في جوابه لسؤال الجنرال «بارنج» شقيق لورد كرومر: هل أنت مصري أو عثماني؟ فكان جوابه: مصري عثماني. وعجب الجنرال بارنج فعاد يسأله: كيف تجتمع الجنسيتان؟
قال مصطفى: ليس في الأمر جنسيتان، بل في الحقيقة جنسية واحدة؛ لأن مصر بلد تابع للدولة العلية، والتابع لا يختلف عن المتبوع في شيء من أحكامه.
Bog aan la aqoon