110

بعد وفاة «لطفي السيد» - رحمه الله - ظهرت لزميله وصديقه «عبد العزيز فهمي باشا» مذكرات عن تاريخ حياته، تكلم فيها عن أعمالهما في الحياة العامة، وفي حركة الوفد المصري الذي كانا عضوين فيه، واستوقفني خلال المذكرات بعض مواضع للملاحظة والتصحيح ولم يتسع المجال للتعقيب عليها جميعا، فاكتفيت بما جاء منها عن مقدمات الحركة وهو كاف للإبانة عن مدى الاختلاف بين الواقع والرواية في سائر المذكرات، وهذا هو التعقيب كما نشرناه في صحيفة الأخبار:

قرأنا في مذكرات الأستاذ «عبد العزيز فهمي باشا» فصلا عن تأليف الوفد المصري، وعن الأعضاء الثلاثة الذين قابلوا المندوب البريطاني «سير ريجنالد ونجت»، قال فيه: «هؤلاء الثلاثة هم سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي، ومما تجب ملاحظته هنا أن اختيار هؤلاء الثلاثة إنما وقع بطريق المصادفة والاتفاق، وإلا فباقي إخوانهم فيهم من هو أكفأ في النضال المنطقي وأولى بالسفارة، مثل رجلنا الكبير أحمد لطفي السيد، ولعل التقدم في السن كان هو السبب الطبيعي الذي أدى إلى اختيارهم.»

هذا ما جاء في المذكرات بنصه منقولا عن أحد الأعضاء الثلاثة، يليه كلام عن المناقشات التي دارت بين «سعد» وزملائه حول الاستعداد لإثارة القضية المصرية أمام مؤتمر الصلح، يدل كله على ضرورة «التبييض» في كل كلام يتعرض لمسائل الخلاف في السياسة؛ لأنه يحتمل السهو والنسيان كما يحتمل التأثر بالميول والخصومات، ولكننا نكتفي هنا بالفقرة الأولى من هذه القصة كلها؛ لأن الحقيقة فيها أظهر من أن تحتاج إلى المراجعة والمناقشة، وهي تتعلق بسبب اختيار الأعضاء الثلاثة لمقابلة ممثل الدولة البريطانية دون غيرهم من المشتركين في الوفد بعد تأليفه.

لم يكن اختيار هؤلاء الأعضاء الثلاثة مصادفة واتفاقا، ولم يكن للتقدم في السن على سائر الأعضاء، ولكنهم كانوا هم نواب الجمعية التشريعية بين الأصدقاء الخمسة الذين تألفت منهم نواة الوفد في المرحلة الأولى، وهم كما ذكرهم الأستاذ «أحمد لطفي السيد» في قصة حياته: «سعد زغلول» و«عبد العزيز فهمي» و«علي شعراوي» و«محمد محمود» و«لطفي السيد»، ولم يكن الاثنان الأخيران من أعضاء الجمعية التشريعية، فتقرر الاكتفاء «بسعد» وكيلا للجمعية و«شعراوي» و«عبد العزيز» العضوين فيها، ليكون للثلاثة صفة الكلام بالنيابة عن الأمة.

وقد كان الانتخاب للجمعية التشريعية أهم أسباب هذا الاختيار باتفاق الأعضاء، ولكنه لم يخل من أسباب أخرى لوحظت فيه - كما سمعنا من «سعد» بعد ذلك - ومنها أن «علي شعراوي» يمثل أعيان الفلاحين، وأن «عبد العزيز فهمي» - الذي كان نقيبا للمحامين - يمثل طائفة المتعلمين، وأن الأول من الوجه القبلي والثاني من الوجه البحري، فهم صالحون لتمثيل الناخبين في أوسع نطاق.

ولما تقرر القبض على الزعماء الأربعة ونفيهم إلى جزيرة مالطة، لم يكن هذا الاختيار أيضا من قبيل المصادفة والاتفاق في نظر الجهات الرسمية، ولكنه كان عند هذه الجهات موافقا لتقاليد «البروتوكول» في نظام الأولية، فكان «سعد زغلول» رئيس الوفد ووزيرا سابقا، وكان «إسماعيل صدقي» عضوا يليه في الأسبقية الوزارية، وكان «محمد محمود» مديرا من كبار الموظفين، وكان «أحمد الباسل» يحمل لقب الباشوية ويمثل رؤساء العشائر في البلاد.

فلم يكن هنالك محل للمصادفة، ولا لاعتبارات السن، في اختيار الزعماء من جانب الوفد أو من جانب السلطات الرسمية، ولكنه عمل من أعمال النظام متفق عليه، وقد سها عن ذلك رجل من أولى الناس بذكر مسائل النظام فضلا عن كونه أحد هؤلاء فكيف بسائر الروايات؟ وكيف بسائر الرواة؟

أما بقية الكلام على المناقشات التي دارت عند التفكير في إثارة القضية الوطنية، فهي أحوج من هذه القصة إلى التعقيب، وهي لحسن حظ التاريخ مما يكفي للتعقيب عليه مجرد البيان الوجيز.

2

كان حزب الأمة يضم بين أعضاء مجلس إدارته وسائر أعضائه البارزين فئة كبيرة من السروات وأصحاب الجاه والثراء في البلاد، وكانت الصلة الجامعة بينهم كافة أنهم من «غير المرضي» عنهم في قصر الأمير، وأرادوا أن يتخذوا لحزبهم صحيفة على «أوجه» طراز بين الصحف الأوروبية، وبخاصة صحافة «فرنسا» التي كان معظم المتعلمين من رؤساء الحزب يتثقفون بثقافتها ويفضلون صحفها على صحف «إنجلترا» دولة الاحتلال، فاختلفوا زمنا على اختيار إحدى الصحفيتين الكبريين في باريس مثالا لصحيفة الحزب اليومية، وهما «الطان» و«الجرنال».

Bog aan la aqoon