105

وقد كنت - كلما ازددت معرفة ب «مي» وبحياتها في ندوتها وفي بيتها - أشعر بحنان هؤلاء الأفاضل الأبويين نحوها، فإنهم - ولا ريب - كانوا يقصدون التسرية عنها، ويدركون من بواكير صباها أن فرط التزمت في طويتها يجاوز حده المأمون، وإنما يوشك أن تعاني كثيرا من عادة العزلة النفسية التي جنت عليها في أخريات أيامها، وأنها تغالب شجنا كمينا لانطوائها الشديد على ذاتها، يخيل إلي أنه مزيج من الصدمة العاطفية وشعور التبتل العميق في سليقتها الدينية.

أحمد لطفي السيد

1

كان في فكرته «أفلاطونيا» بجميع معاني هذه الكلمة، ومن معانيها «الأفلاطونية» التي هي فكرة بغير منفعة أو بغير داع من دواعي الأثرة والأنانية، كالحب العذري كما تفهم بالعربية.

ومن معانيها، وهو أقرب إلى ما نعنيه في هذا المقال، أن الرجل العام ينبغي أن يعيش للمصلحة العامة تطوعا وحسبة بغير جزاء، وألا يشتغل بخاصة أموره «الشخصية»؛ لأن الدولة التي يتجرد لخدمتها هي التي تتكفل له بكل وسائل التفرغ لتلك الخدمة، وليس له بعد ذلك حق في وقته الخاص لغير القيام بحقوقها.

وهذا هو دستور الحكم الأفلاطوني كما شرحه الفيلسوف اليوناني في كتابه الموسوم باسم «الجمهورية»، وقد اشتهر في العالم القديم والعالم الحديث باسم «جمهورية أفلاطون».

ولقد كان «لطفي السيد» يعيش فعلا على وفاق هذا الدستور، وكان - من زمن بعيد - يعهد في زراعة أرضه وتثميرها إلى بعض أقربائه، ولا يتعرض لتفصيلات حسابها، مكتفيا بما يقدمه وكيله عليها من حساب مجمل عن غلاتها ونفقاتها. وكانت طريقته في تدبير نفقات البيت كطريقته في تدبير حساب ضيعته، وهي الضيعة التي أبى أن يملكها كلها حين أراد أبوه أن يختصه منها بخمسمائة فدان لا تدخل في تقسيم الميراث بينه وبين إخوته، فأبى ذلك وأصر على الإباء، ولم يقبل من الميراث غير حصته التي يستحقها مع سائر الورثة على سنة المساواة.

يفكر للكون كله

طال حديث اللغة والمجمع يوما حتى وصلنا إلى نادي «محمد علي»، وكان النادي على مقربة من المجمع اللغوي؛ إذ كان مقره بأول شارع القصر العيني، فدعاني إلى إتمام الحديث في مجلسه المختار بالنادي، حيث كان يقضي أوقات الفراغ ويتناول أحيانا طعام الغداء أو العشاء.

وحضر إلى النادي صديقه الدكتور «بهي الدين بركات»، فعلم منه عرضا أنه ينوي السفر إلى عزبته لبعض أعمال زراعية تستدعي حضوره، فسأله مصطنعا الجد كعادته في توجيه بعض الأسئلة التي يريد أن يستطرد منها إلى مناوشة من مناوشاته الفلسفية، قال يخاطب الدكتور «بهي الدين»: وهل من حق «الرجل العام» أن يفرغ لخاصة شئونه.

Bog aan la aqoon