كل يوم وأنا أحملق من النافذة على البركة الآسنة أرفع عيني إلى المساحة الصغيرة من السماء بين الجدران وأخاطب الله: من هو المسئول عن هذه التعاسة فوق الأرض؟ أنت أم رئيس الدولة؟
وتسري في جسدي قشعريرة الخوف. وقد ألقيت المسئولية على رئيس الدولة وليس على الله، وكنت لا أزال أومن بالعدالة الإلهية.
ذلك اليوم دق جرس التليفون فجأة، وانتفضت في مقعدي، تصورت أن مكتب الأمن بالوزارة التقط بجهاز ما شكوكي العميقة في عدالة الدولة.
وجاءني صوت يقول بلهجة متعالية: صدر قرار وزاري بسفرك ضمن وفد الأطباء إلى الجزائر. •••
وفي كل رحلة خارج الوطن كنت أظن أنني لن أعود، لكني في كل مرة كنت أعود؛ حنين لابنتي يشدني إلى الوطن، وحنين إلى الأرض، رائحة الأرض والتراب والهواء، الوجوه والملامح المألوفة، اللغة واللهجة تشتاق إليها أذني، والشوق له ألم حاد في الأذن، وفي القلب تحت الضلوع، وفي حركة الدم في العروق، كاشتياق المدمن لوجع السم. •••
أحملق من خلال الزجاج على أرض الوطن. لا أرى إلا السماء والسحاب وفي القاع البعيد الساحل الداكن كالخط الأسود يفصل البحر عن الأرض، هل نحلق فوق الإسكندرية؟ أحملق في القاع البعيد. لا شيء يتغير تحت عيني. لا زال وجه موظف الأمن أمامي، رأسه أصلع أملس كرأس السلحفاة، عيناه بيضاوان بغير جفون ولا رموش، يرمقني من قمة رأسي إلى أطراف قدمي، كياني ينقلب إلى برغوث مثبت بالصمغ تحت عدسة الميكروسكوب، جهاز يشبه الأشعة يكشف عن أعماقي، أخفيت الكراهية في طيات أمعائي ورسمت على وجهي ملامح قديسة تفيض بالحب والخوف، فلا شيء يهدد الأمن إلا الكراهية أو الحب بغير خوف.
لأول مرة أقف للفحص أمام موظف الأمن لاستخراج ذلك الدفتر الصغير المستطيل المسمى «جواز السفر». لأول مرة في حياتي أستخرج جواز سفر، وحين استقر «الباسبور» في حقيبة يدي سرت في الشارع مرفوعة الرأس في زهو، كأنني بهذا الدفتر صعدت من طبقة إلى طبقة، لكن سرعان ما تبدد الزهو حين ابتلعني المبنى الضخم المسمى «مجمع التحرير»، وسقط جسمي في خندق مزدحم بالأجسام تلهث، وتنز بالعرق، وأخذت ألهث أنا الأخرى، وأجري من مكتب إلى مكتب، وفي يدي أوراق ألصقت عليها دمغات صفراء وخضراء، وتوقيعات بالحبر الأحمر والأسود والأزرق. واستقر بي الأمر في النهاية داخل مكتب الأمن، وموظف يشبه الموظف الآخر، رأس أصلع وصوت ناعم، رمقني من رأسي إلى قدمي، وحملق في صورة وجهي ثم سألني: لماذا تسافرين إلى الجزائر؟
قلت: لحضور المؤتمر الطبي العربي.
وتساءل كأنما بدهشة: أنت طبيبة؟
وقلت: نعم.
Bog aan la aqoon