Safar Waqtiga Nubia
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Noocyada
وفي مناسبة أخرى سألنا الريس محمد بكم يبيع الصفيحة فقال: حوالي عشرة قروش، وقلت: لماذا يبيعها رخيصة؟ فقال إنه يبيع بالجملة، ثلاثا أو أربعا معا، ويبيع لأي شخص يقابله على الشاطئ الذي نرسو عليه، فلا يوجد وقت للصعود إلى النجوع وبيع الصفائح على مهل، وربما تصرف الريس محمد في نحو ثلاثين صفيحة طوال الرحلة؛ مما أضاف إلى مدخوله نحو ثلاثة جنيهات، وهذه ليست بالمبلغ القليل كمكسب إضافي خلال شهر واحد، ولكن مثل هذه الفرصة شيء نادر الحدوث في النوبة.
تحركنا حوالي الرابعة بعد الظهر من نجع قناوي الذي يتبع عمدية أمبركاب، برغم أنه مواجه لدهميت وأكثر تعاملات أهله هي مع دهميت، وعمدية أمبركاب هي منطقة صخرية فقيرة في مجموعها، وتمتد نجوعها نحو 19 كيلومترا، وهي بذلك أطول عمديات النوبة قاطبة، ولا ندري لماذا هذا الطول المفرط سوى أنه ولا شك تقليد تاريخي.
المنظر العام متكرر غير متغير؛ الحافات الصخرية العالية تقترب في معظم الأحيان من النهر، فلا تترك سوى مساحات حوضية صغيرة متناثرة على الشاطئين الشرقي والغربي وقد كستها الخضرة اليانعة، وفوق الحافات الصخرية تظهر المساكن بعضها طليت باللون الأبيض، وكلها تكون على البعد شكلا كالحمائم البيضاء أو كسلسلة من القلاع والأسوار.
وحينما بدأت الشمس تغيب بدأت نسمات رطبة تلطف الجو كالمعتاد، وتضفي علينا جوا من البهجة والسرور: «لندا» تسير بنا مجتهدة والنوبة تتكشف لنا رويدا رويدا، ونحن على صفحة النيل الخالد نرقب كل شيء وأي شيء، وغربت الشمس فجأة وراء الجبال الغربية، أخذت الأضواء تبهت تدريجيا، وفي السابعة والنصف دخلنا بوابة كلابشة.
وبوابة كلابشة عبارة عن منطقة خانقية ضيقة، يمر بها النيل في مسار فيه تعرجات كثيرة لمسافة تناهز خمسة كيلومترات، هنا تشرف الحافة الصخرية تماما على النيل في معظم مساره، وترتفع في صورة شبه عمودية من الماء إلى نحو 30-50 مترا، والقادم من الشمال يجدها فعلا في صورة بوابة ضخمة؛ إذ إن النيل يضيق مرة واحدة دون مقدمات كثيرة، وإذا به يجد نفسه بين حوائط صخرية عالية متتابعة، وفي داخل المسار المائي منعرجات كثيرة وبعض المناطق الفسيحة نسبيا حين تنسحب الحافة الصخرية بعيدا عن النهر قليلا .
وحينما اقتربنا من البوابة كان الضوء يقل والظلمة تسود، وحين دخلنا البوابة كان على الريس محمد أن يبعد القارب عن الضفة ويتوسط نحو ثلث مجرى النهر، وعلى الرغم من أن المحرك كان يعمل بانتظام طيلة الساعات الأربعة الماضية، إلا أن ظلا من الشك والقلق ساورنا، ماذا نفعل لو أن هذا المحرك الوحيد تعطل لسبب ما؟ نحن هنا في منطقة صخرية جوانبها شبه عمودية، ولا توجد فيها ضفافا من الأرض الطينية التي يمكن أن يرسو إليها القارب دون أن يصاب بتلف جسيم؛ فالقارب يحمل أربعة أشخاص وحمولة لا بأس بها، ومحركا واحدا ضد التيار المائي العنيف، وفي ظلمة بدأت تطبق علينا إطباقا، لكننا سرعان ما أبعدنا هذا الخاطر المخيف عن أذهاننا بالاستمتاع بلذة المغامرة!
وسرعان ما أخذنا نقلل من التساؤل والكلام حتى أطبق علينا صمت مثل إطباق الظلام، ولم يعد صوت المحرك نسمعه قويا وسط الحفيف الكثير الذي كانت «لندا» تفعله مع الماء، والرشاش الصغير الذي كان يتطاير من مقدمتها بين الحين والحين عندما تضرب المقدمة موجة صغيرة إثر أخرى، فتهدهد القارب قليلا فتعود بنا حركته إلى عالم الواقع، وأخذ كل منا يتطلع إلى الصخور أمامه وعلى جانبيه وخلفه، وأخذ القمر يطلع ببطء في السماء فيلقي ظلالا عملاقة للصخور على الماء الداكن، أخذت الصورة تتحدد خطوطها العامة كما لو كنا ننظر إلى صورة فوتوغرافية مهزوزة بعض الشيء، وراح كل منا يضرب بخياله في آفاق لامادية مستمدة من صلب المادة التي تملأ فراغ أعيننا: الصخر والماء وسماء سوداء ترصعها آلاف مؤلفة من النجوم، ينعكس ضوء بعضها كحبة ألماس فوق جزء هادئ من سطح الماء، ثم يتلألأ مع تموجات الماء فيستطيل خطوطا رفيعة متشابكة، لا تلبث أن تختفي مع موجة أخرى؛ فتظهر نقاطا صغيرة من الضوء على سطح الماء المتحرك أبدا.
وبين فترة وأخرى يظهر على صفحة الماء ظل شجرة من تلك الأشجار السنطية التي تنمو في أماكن غير معقولة على الصخور شبه العمودية، وتمد جذورا طويلة في شتى الاتجاهات لتحفظها من السقوط ، بينما يلتوي جذعها إلى أعلى يطلب الشمس والهواء! ونمر في منطقة يبتعد فيها الشاطئ قليلا فيما يشبه القوس الكبير، فتمتد خيوط من ضوء القمر الساحر بين تعرجات الصخور، كما لو كانت أصابع يتشبث بها القمر وهو يجهد نفسه في الصعود.
ونظل قرابة الساعة نمخر العباب في هذه الثنيات العديدة، نتأمل هذه الصخور الجبارة، وهي لا تكاد تحس بنا، ونمضي في صمت إلا من جلبة المحرك الذي أصبح الآن على هامش السمع، يطن على الدوام فيمنحنا شعورا بالحياة وسط هذا العالم الأبكم، وعادت بي الصورة إلى يوم أن كنت فيه أنقل الخطى في تؤدة وصمت في ليلة مقمرة في دهاليز معبد الكرنك، كنت شيئا صغيرا يتحرك في احترام بالغ في ظلال الأعمدة الشامخة والحوائط الشاهقة، وسط خضم زاخر بتاريخ المجد والفخار ... تاريخ مصر العظيم ... وتاريخ الحضارة الإنسانية.
وسئمنا الصمت، وسئمنا الخيال، ورحنا ندير أعيننا بنهم كلما مرت «لندا» بإحدى المنعطفات باحثين عن هدفنا المنشود، فلقد أصبحت الساعة التاسعة، وفي كل مرة نسأل الريس محمد: كم بقي على كلابشة؟ يطمئننا قائلا: «جريب» - يعني عما قريب - ويسكت. ثم انفرجت الحوائط الصخرية فجأة، واتسع المجرى وأمامنا على البعد وملء العين أنوار كهربية تشيع انعكاسات عديدة كبيرة أحالت النهر حولها كتلة من الضياء، فلم نعد نعرف مصدر النور من انعكاساته، ولم نتبين العوامة التي تحمل هذا الضياء.
Bog aan la aqoon