Safar Waqtiga Nubia
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Noocyada
الليلة الأولى
تتذكر د. كوثر الليلة الأولى التي قضتها وحدها في نجع قناوي، بعد أن جرف تيار النيل القارب «لندا» وعليه الأستاذ أسعد ود. رياض. ***
نزلنا من «عمدا» إلى البر الغربي في نجع قناوي أول نجوع أمبركاب، وحيث يرسو القارب «لندا» منذ نحو ثلاثة أشهر في عهدة بحار من الكنوز اسمه محمد علي شاجة، وبعد أن نزلنا بقليل جاء شخصان عرفنا منهما أن الريس محمد متغيب عن النجع، وبدا لزوجي والأستاذ أسعد تفقد القارب، وخطر لي أن أنتهز الفرصة وأستغلها في التعرف على نساء النجع ومشاهدة بيوتهم، وسرعان ما أتت مجموعة من الأطفال مع سيدة شابة في مقتبل العمر، جميلة الملامح باسمة الثغر، يلمع فوق جبهتها قطعة من الذهب تسمى قصة الرحمن مثبتة إلى الشعر، دعتني للصعود إلى النجع، واندهشت؛ فليس من عادة النوبيات الإقبال السريع على الغرباء، بل حسب خبرتي قبل أشهر في سيالة أنهن كن يهربن داخل الأسوار سريعا، ولم أتمكن من التكلم معهن إلا بعد الحديث مع الفتيات الصغار لكي أصل إلى أهاليهن.
على أية حال، قبلت دعوتها ومشيت إلى جوارها وقطعنا المنطقة السهلية بصعوبة؛ إذ إنها تتكون من تربة طميية شققها الجفاف بعد انحسار مياه الخزان، وكانت الشقوق كثيرة وكبيرة، قد يصل بعضها إلى عشرين سنتيمترا مع عمق كبير، كان لا بد أن أرى موضع قدمي تجنبا لما لا يحمد عقباه من التواء أو ملخ، وساعدني في ذلك الحذاء الكاوتشوك الذي ييسر الخطى، وبعد أن قطعنا المنطقة السهلية وصلنا إلى أقدام الهضبة، حيث تقع البيوت أعلاها، وبصعوبة وحذر مشيت وراء فاطمة أتسلق المرتفع الصخري، بينما أطفالها يقفزون أمامنا في خفة الغزال وصغار الماعز فوق الصخور.
ووصلنا إلى النجع وقابلتنا سيدة كبيرة السن ترتدي ملابس سوداء، عرفت أنها شقيقة الريس محمد، أما فاطمة فكانت زوجته، دخلنا البيت الذي يواجه النيل من عل، وهو محاط بسور يصل ارتفاعه إلى نحو ثلاثة أمتار، مزين في جزئه العلوي بزخارف من الجبس تأخذ شكل مثلثات داخلها دوائر مفرغة، وللمنزل بوابة خشبية كبيرة، فوقها أيضا بعض الزخرف هندسي الشكل، عندما عبرنا البوابة وجدنا أنفسنا في حوش سماوي رملي كبير، في ركنه الأيمن جزء محاط بسور منخفض - نحو 30 سنتيمترا - به شجرة قصيرة شبه جافة، وكانت هذه هي الحديقة كما أسموها، وكان في الجزء الأيسر من الحوش ما يسمونه «السبيل»، وهو عبارة عن جزء مسقوف على ثلاثة حوائط، والجانب الرابع مفتوح على الحوش، وسقف السبيل مصنوع من فلج النخيل وعيدان الذرة، وقد زان الجدران رسوم ملونة لأغصان وورود، وفي داخل السبيل عنجريب واحد للجلوس والراحة، وخارج السبيل زير مياه تغطيه مظلة من الخشب والذرة، مفتوحة الجوانب لتبريد الماء في هذا الهجير القاسي، والسبيل هو مكان استقبال النساء، بينما يجلس الرجال خارج السور غالبا على مصطبة مبنية، وفي مواجهة البوابة حجرتان: إحداهما للنوم، أثاثها عنجريب ومنضدة صغيرة وصندوق خشبي كبير مزدان بالرسومات الملونة، وهو مثل الصناديق التي توجد في الريف وتستعمل لخزن الملابس، ويتدلى من السقف عدد من «الشعاليق» أو «الشعاليب» التي تعلق فيها الأطباق؛ والشعليق عبارة عن ثلاث جدائل من غزل الصوف، تربط أطرافها العليا معا إلى السقف، وتجتمع الأطراف السفلى معا ويتدلى منها «شرشوبة» من الصوف المنفوش، ويوضع الطبق بين الجدائل المتدلية فوق العقدة السفلى والشرشوبة، وتزين هذه الجدائل بالودع الذي تجمعه النساء عند زيارتهن لأزواجهم العاملين في مدن ساحلية، وهذه الشعاليب بجانب فائدتها في حفظ الطعام بعيدا عن الحشرات والأيدي، فإنها أيضا من أسباب الزينة داخل الحجرات أو المضايف؛ خاصة إذا كان الصوف والأطباق كثير الألوان المتناسقة، وكثرة الشعاليب عنوان على الرخاء، وليست الشعاليب والرسوم الجدارية هي كل أسباب الزينة الداخلية للبيوت، فهناك أيضا أشغال السلال والخوص من أبراش وأطباق تزين بها العروس حجرة نومها.
أما الحجرة الثانية فهي «الكانون»؛ أي المطبخ، وبها عدد من الأزيرة الفخارية صنع الصعيد، وتستخدم لخزين اللوبيا والتمر والدقيق والذرة، وفي ركن الحجرة يوجد مكان «الدوكة»، وهي عبارة عن ثلاث قطع من الحجارة، فوقها قطعة مستديرة من الصاج يحمى تحتها النار لعمل عيش «الخمريت» أو «الدوكة»، كما يوجد موقد كيروسين وبعض أواني المطبخ الفخارية والنحاسية.
وأمام الغرفتين بنيت مصطبة ترتفع إلى نصف متر بطول نحو خمسة أمتار أو ستة، ويوجد في أعلى حوائط الغرف بعض الفتحات هي طاقات للتهوية، بعضها استخدمه الحمام الذي يربى في البيوت للدخول والخروج، كما يوجد بجوار الغرفتين مكان صغير محوط للطيور الداجنة، وفي السور الخلفي للبيت يوجد باب صغير يستعمل لخروج الحيوانات المنزلية إن وجدت.
وقد زرت منزلين آخرين لا يخرجان عن وصف البيت السابق في شيء، اللهم إلا إضافة غرفة ثالثة في أحد البيتين مثبت عليها راية بيضاء مخضبة بالحناء، علمت أنها الراية الباقية من أربع رايات تعلق فوق باب حجرة العروس عند زواجها.
والبيوت كلها مبنية من الحجر الرملي النوبي الشائع في النوبة، وبعضها أضيفت إلى جدرانها محارة من الرمل والطين، ثم طلاء جيري أبيض مزين برسومات نباتية من الزهور والأغصان والطيور، أو أشكال هندسية، وتستخدم بكثرة الألوان الزرقاء والصفراء والحمرة الضاربة إلى البنية.
وكنت قد أرسلت فتى إلى زوجي ليأتي لي بحقيبة يدي والكاميرا، وقمت بتصوير بعض مناظر للبيوت والسكان، وطوال التجوال والجلسة كنا نسمع صوت موتور القارب يعمل فترة ويتوقف فترات، ولما طال الانتظار وفرغ الحديث، قررت النزول إلى الشاطئ لتحري الخبر.
Bog aan la aqoon