Socdaal Maskaxeedka Zaki Najib Mahmud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Noocyada
وباختصار أصبح زكي نجيب محمود «موظفا» في مدرسة الوضعية المنطقية، تنحصر مهمته في نشر فكر المدرسة والدفاع عنها؛ مع أن العكس هو الصحيح تماما؛ أعني أنه «وظف» هذا المذهب لصالح الفكر التنويري.
34
فلم تكن الوضعية المنطقية عنده «مذهبا» يعتنق ويتجمد في إطاره، بقدر ما كانت «منهجا» يأخذ بالنظرة العلمية ويدعو إليها؛ ومن ثم فهو يرسم للباحث خطواته التي تضمن له السير على أرض صلبة لا تميد تحت قدميه.
35
ولم تدرك سوى قلة ضئيلة من الباحثين الفارق الهام بين الدور الذي لعبته الوضعية المنطقية في إنجلترا وأمريكا، والدور التنويري الخطير الذي قامت به هذه الفلسفة في بلادنا عندما هاجمت الخرافة، والتفكير اللامسئول، ودعت إلى التمييز بين العبارات اللغوية، ومجالات النشاط الذهني للإنسان ... إلخ إلخ، وهو دور لم يكن من الممكن أن تقوم به هذه المدرسة في الدول المتقدمة التي نشأت فيها.
كان هذا الهدف التنويري هو الذي جذب زكي نجيب محمود إلى الوضعية المنطقية، أو التجريبية العلمية، كما يحلو له أن يسميها، فقد رأى فيها الفلسفة التي «وصلت إلى أعظم كشف فلسفي في هذا العصر»، والذي تمثل في التمييز بين مجالات التفكير عندما ميزت بين أنواع العبارات اللغوية، وهو كشف اعتبره ملبيا لحاجة ماسة عندنا ، بعد أن ساد حياتنا الثقافية استهتار عجيب لا سيما في مجال الفكر «... فقد اعتادت الألسنة والأقلام أن ترسل القول إرسالا غير مسئول دون أن يطوف ببال المتكلم أو الكاتب أي شعور بأنه مطالب أمام نفسه، وأمام الناس، أن يجعل لقوله سندا من الواقع الذي تراه الأبصار وتمسه الأيدي!»
36
فلم يكن توجهه إلى الوضعية المنطقية يهدف إلى «اعتناق» مذهب فلسفي يعارض به المذاهب الفلسفية الأخرى بقدر ما كان عثورا على «طريقة التفكير»، و«منهجا» للنظر، رأى أنه يفيد في إصلاح التسيب والاعوجاج الذي شاهده في حياتنا الثقافية؛ ذلك لأن الوضعية المنطقية إذا كانت قد صبت كل اهتمامها في مجال التفكير العلمي، فقد اعترفت في الوقت نفسه، أن هذا التفكير ليس هو كل النشاط الذهني للإنسان، وإنما هو جزء واحد من النشاط، فهناك إلى جانب التفكير العلمي ضروب الوجدان بشتى صنوفها، ومن أهمها الجانب الديني من الإنسان، والفن، والشعر، وسائر ألوان الإبداع الأدبي، ومنها الحياة العاطفية الانفعالية التي يحياها الإنسان كل يوم، ويعبر عنها قولا وسلوكا؛ ومن هنا جاءت أهمية فصل الوضعية المنطقية بين هذين المجالين والتميز بين العبارات اللغوية التي تعبر عن «تفكير علمي» من ناحية، والعبارات التي تعبر عن الوجدان والمشاعر من ناحية أخرى.
غير أن الوضعية المنطقية عادت إلى التمييز، داخل مجال التفكير العلمي نفسه، بين العبارات العلمية ذاتها، ففرقت بين العبارات التي تندرج تحت مجموعة العلوم الرياضية، والعبارات التي تندرج تحت مجموعة العلوم الطبيعية، فلكل من المجموعتين أسس خاصة بتكوينها، وبالطريقة التي يحكم بها على صدقها وكذبها. وكانت الفلسفات السابقة تحسب أن الوقفة العلمية واحدة في جوهرها، فلا فرق بين أن يكون الموضوع المطروح للتفكير ذا خصائص تجعله رياضي الطابع، أو ذا خصائص تجعله من قبيل العلوم الطبيعية. لدرجة أن بعض الفلاسفة بذلوا جهودا مضنية، للوصول إلى نظرية عن الكون تبلغ مبلغ «اليقين» الرياضي الذي لا يحتمل أدنى ظل من الشك. ومنهم، على العكس، من كان ينشد، مثل جون ستيوارت مل (1806-1873م) إخضاع الفكر الرياضي لمنهج التجربة في العلوم الطبيعية. فجاءت الوضعية المنطقية لتكشف عن الفرق الشاسع في بنية التكوين ذاتها بين العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية، وتحذرنا من الخلط بينهما؛ فالفكر الرياضي تحليلي ومنهجه استنباطي، والفكر الطبيعي تركيبي ومنهج استقرائي. الأول تحصيل حاصل لا يضيف جديدا ولهذا هو «يقيني»، أما عبارات العلم الطبيعي المستمدة من التجربة فهي تحمل إضافة جديدة إلى الموضوع الذي نتحدث عنه؛ ومن هنا يجيء احتمال الخطأ.
37
Bog aan la aqoon