الإهداء
مقدمة
نشأته الأولى
مقارنات وآمال
دور التحصيل في باريس
بعد العودة
مدرسة الألسن
قلم الترجمة
جهود أخرى
في السودان
أمير الآلاي رفاعة بك
رفاعة ناظر قلم الترجمة في عهد إسماعيل
إصلاحات رفاعة في التعليم والمجتمع
رفاعة ومونتسكيو
تلاميذ رفاعة من خريجي الألسن
رفاعة الرجل
كلمة ختامية
من مراجع البحث
الإهداء
مقدمة
نشأته الأولى
مقارنات وآمال
دور التحصيل في باريس
بعد العودة
مدرسة الألسن
قلم الترجمة
جهود أخرى
في السودان
أمير الآلاي رفاعة بك
رفاعة ناظر قلم الترجمة في عهد إسماعيل
إصلاحات رفاعة في التعليم والمجتمع
رفاعة ومونتسكيو
تلاميذ رفاعة من خريجي الألسن
رفاعة الرجل
كلمة ختامية
من مراجع البحث
رفاعة الطهطاوي
رفاعة الطهطاوي
زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد علي
تأليف
جمال الدين الشيال
الإهداء
إلى روح والدتي:
اعترافا ببعض ما ضحت وبذلت في سبيل تربيتي وتكويني.
مقدمة
ثلاثة قرون طويلة خضعت مصر فيها للحكم العثماني، وفي هذه القرون كانت بلدان الشرق الأدنى - ومن بينها مصر - تنعم بسبات عميق، وفي إبان هذا السبات تأخرت نواحي حياتها الحربية والعلمية والصحية والاقتصادية.
وفي هذه القرون بالذات نهضت الدول الأوروبية نهضة قوية سريعة، انتقلت بها من ظلام العصور الوسطى وجهلها إلى نور العصور الحديثة وعلمها.
وكان من الممكن أن تفيد مصر من هذه النهضة لو أنها حافظت على صلاتها القديمة بالعالم الأوروبي، ولكن هذا الحكم العثماني قطع هذه الصلات، فلبثت مصر طول هذه القرون تعيش - كما كان يعيش صوفيوها ومريدوهم في ذلك العصر - في زاوية، أو رباط، أو خانقاه من حدودها.
وفي السنة الأخيرة من القرن الثامن عشر وفدت على مصر الحملة الفرنسية تحمل إليها كل جديد في الغرب، وكانت هزة عنيفة أيقظت الكنانة النائمة. ومنذ هذه السنة بدأت مصر تتصل بالغرب.
وقد آمن محمد علي منذ ولي عرش مصر بأن سر عظمة الغرب وتقدمه هو هذا العلم الجديد؛ ولهذا بذل الجهد كل الجهد لنقل هذا العلم إلى مصر والمصريين، فأنشأ المدارس، واستدعى الأساتذة الأوروبيين، وأوفد البعوث إلى الخارج، وبدأ حركة الترجمة الواسعة لنقل العلوم الأوروبية إلى اللغة العربية.
ورفاعة رافع الطهطاوي هو أنبغ المصريين الذين بعثوا إلى أوروبا، وقد كانت له بعد عودته جهود محمودة في حياة مصر الثقافية؛ مما يجعله بحق زعيما لنهضتنا الفكرية في ذلك العصر.
وحياة رفاعة توحي إلينا بأمور كثيرة يجب أن نأخذ بها ونحن نستكمل نهضتنا الثقافية: أولها وأهمها أننا يجب ألا نأخذ شبابنا بإحدى الثقافتين - الشرقية والغربية - دون الأخرى، بل يجب أن نأخذه بالثقافتين معا. وثانيهما: أننا يجب أن نضاعف العناية بالترجمة والنشر وألا نقصر عنايتنا على التأليف وحده.
وهذا الكتاب - وإن كان أول كتاب يكتب عن رفاعة - لازالت بعض فصوله - في رأيي - تحتاج إلى زيادة في البحث، واستيفاء في العرض، مما أرجو أن أوفق إليه في المستقبل إن شاء الله.
وقد رجعت عند وضع هذا الكتاب إلى كل ما كتب عن رفاعة، وإلى معظم المصادر العربية والأجنبية التي أرخت لنهضتنا الحديثة، فهو نتيجة لجهد علمي شاق طويل. غير أنني آثرت أن أعرض هذا العرض المبسط، واكتفيت بذكر قائمة كاملة بالمراجع في نهايته ليرجع إليها من شاء الاستزادة.
كما أنني أرى من واجبي أن أتقدم بالشكر الجزيل لصديقي الدكتور أحمد عزت عبد الكريم مدرس التاريخ الحديث بجامعة فؤاد الأول، فقد أفدت الكثير من كتابه القيم عن تاريخ التعليم في عصر محمد علي، كما أنه تفضل وسمح لي بالاطلاع على كتابه - الذي لم يطبع بعد - عن تاريخ التعليم في عصور عباس وسعيد وإسماعيل.
جمال الدين الشيال
الإسكندرية
في شوال 1364ه/سبتمبر 1945م
نشأته الأولى
ولد رفاعة في طهطا سنة 1216ه/1801م، وإليها ينسب، وفيها تلقى علومه الأولى، وفي سنة 1232ه/1817م وفد على القاهرة، والتحق بالأزهر ومكث به نحو خمس سنوات ختم فيها دروسه؛ فلما أتم الحادية والعشرين من عمره أصبح أهلا للتدريس، فدرس في الأزهر، وكان يتردد أحيانا على مدينته طهطا فيلقي على أهليها بعض دروسه، وقد كان رفاعة منذ عهده الأول مدرسا ممتازا، فأقبل عليه الطلاب وأفادوا منه، وكانت حلقات دروسه في السنتين التاليتين لتخرجه حافلة دائما بالمستمعين من التلامذة والمشايخ. يقول تلميذه ومؤرخ حياته صالح مجدي: «وكان رحمه الله حسن الإلقاء بحيث ينتفع بتدريسه كل من أخذ عنه، وقد اشتغل في الجامع الأزهر بتدريس كتب شتى في الحديث، والمنطق، والبيان، والبديع، والعروض، وغير ذلك، وكان درسه غاصا بالجم الغفير من الطلبة، وما منهم إلا من استفاد منه وبرع في جميع ما أخذه عنه؛ لما علمت أنه كان حسن الأسلوب، سهل التعبير، مدققا محققا، قادرا على الإفصاح عن المعنى الواحد بطرق مختلفة بحيث يفهم درسه الصغير والكبير بلا مشقة ولا تعب، ولا كد ولا نصب.»
ولقد كان من حسن حظ رفاعة أنه تتلمذ في الأزهر على الشيخ حسن العطار، فقد كان هذا الشيخ سابقا لعصره، طوف في الأرض، وسافر برا وبحرا، وزار الشام، ووصل في تطوافه إلى الآستانة وأقام بها سنوات، وأفاد من هذه الرحلات واتسع أفق تفكيره، ولما نزلت الحملة الفرنسية بأرض مصر اتصل ببعض علمائها ولقنهم اللغة العربية، كما أخذ عنهم بعض علومهم، وأعجب بما وصل إليه الشعب الفرنسي من رقي وحضارة، وقارن في نفسه بين علوم الفرنسيين التي رأى بعض مظاهرها في دار المجمع، واستمع لبعض أفكارها في حديثه إلى علماء المجمع، وبين علوم المصريين التي درسها ويدرسها في الأزهر، فرأى الفرق كبيرا والبون شاسعا، وتنبأ لهذا البلد بنهضة علمية سريعة ينهج فيها نهج فرنسا، قال: «لا بد أن تتغير حال بلادنا ويتجدد لها من المعارف ما ليس فيها.»
وبدأ هو بنفسه فأقبل على كتب لم تكن تدرس وقتذاك في الأزهر؛ أقبل على كتب التاريخ والجغرافيا، والطب والرياضة، والفلك والأدب، وقرأ الكثير من هذه الكتب وتفهمها. غير أنه يبدو أن نظام التدريس في الأزهر لم يكن ليسمح له أن يدرس بعض هذه الكتب أو ما أفاد منها. وإن سمحت النظم فإن المجموعة التي كانت تحيط به من شيوخ وطلاب ما كانت لتستسيغ هذه العلوم أو تقبلها، بل لعلها كانت تتهم المشتغلين بها بشيء من الزيغ عن الجادة والبعد عن علوم السلف وعما يجب أن يلزمه رجل الدين .
ولكن العطار كان ذا شخصية فذة وطريقة جديدة؛ لهذا لم يلبث أن اختص به نفر من تلاميذه الممتازين، فقربهم إليه، وأقرأهم ما كان يقرأ، ورغبهم في هذه العلوم الجديدة فأقبلوا عليها. فلما بدأ محمد علي نهضته واحتاج إلى بعض مشايخ الأزهر للتدريس في مدارسه الجديدة أو لتصحيح الكتب المترجمة، كان تلاميذ العطار أمثال: التونسي، والدسوقي، والطنطاوي ... إلخ خير من ندب، وخير من قام بالواجب الجديد في العهد الجديد.
وكان رفاعة أقرب تلاميذ العطار وأحبهم إليه. وقد فرح الأستاذ بنبوغ تلميذه في التدريس بعد تخرجه فلبث يشمله برعايته وحسن توجيهه. فلما طلب إليه محمد علي أن يختار له إماما لإحدى فرق الجيش الجديد، أسرع فرشح رفاعة لهذا المنصب. وعين الشيخ رفاعة في سنة 1240ه / 1824م واعظا وإماما في آلاي حسن بك المناسترلي، ثم انتقل إلى آلاي أحمد بك المنكلي.
وفي سنة 1242ه/1826م أوفدت أول بعثة كبيرة إلى فرنسا. وهنا أيضا طلب محمد علي إلى العطار أن ينتخب من علماء الأزهر إماما للبعثة «يرى فيه الأهلية واللياقة، فاختار الشيخ رفاعة لتلك الوظيفة.»
مقارنات وآمال
كانت نصيحة العطار لرفاعة أن يسجل مشاهداته في رحلته في كتاب خاص، وقد استجاب التلميذ لنصيحة أستاذه، فبدأ منذ ركوبه السفينة في الإسكندرية يفتح عينيه وأذنيه ليرى كل شيء ويسمع كل شيء. وكان كلما رأى جديدا أو سمع جديدا، انطوى على نفسه يفكر فيما رأى وفيما سمع، ثم لا يلبث أن يستحضر في مخيلته الصورة المقابلة - لما رأى أو سمع - في وطنه، أو في ديار الإسلام عامة، ثم يترك نفسه على سجيتها يلقي النظرة بعد النظرة على الصورتين: الصورة القديمة التي عرفها في وطنه أو في ديار الإسلام، والصورة الجديدة التي رآها في الغرب أو في ديار النصرانية، فإذا ملأ نظره من الصورتين انقلب يحلل ويقارن؛ لأنه كان يرى دائما أن الصورة القديمة باهتة كريهة وأن الصورة الجديدة زاهية حية محبوبة.
وقد حملته هذه المقارنات إلى عالم من الآمال العريضة، فهو كلما رأى خيرا تمناه لبلده ولمواطنيه. ورحلته إلى باريس معرض غني بهذه الصور وهذه المقارنات والآمال.
ترك رفاعة مصر والعلم فيها مقصور على رجال الدين من خريجي الأزهر - وهو واحد منهم - ولكنه ألفى العلم في باريس ميادين واسعة، له فروع كثيرة، وللفروع فروع، وهكذا ... وقد تخصص كل عالم في دراسة فرع من هذه الفروع فوهبه كل وقته وجهده فأنتج فيه وابتكر. ووجد أن علماء الدين ليست لهم المكانة الأولى كما هي الحال في مصر أو في بلدان العالم الإسلامي، فرسم لمواطنيه الصورة الجديدة للعلم والعلماء وكأنه يوحي إليهم في كل سطر من السطور بأن هذه هي الطريقة المثلى والصورة الحقة للعلم والعلماء. وفي رأيي أن محاولتنا وصف هذه الصور التي رسمها رفاعة قد تؤدي إلى تشويه معالمها. والخير كل الخير أن ننقل للقارئ بعض هذه الصور كما رسمها رفاعة بقلمه. قال مقارنا بين العلم والعلماء في مصر وفي باريس: «وأما علماؤهم فإنهم منزع آخر، لتعلمهم تعلما تاما عدة أمور، واعتنائهم زيادة على ذلك بفرع مخصوص، وكشفهم كثيرا من الأشياء، وتجديدهم فوائد غير مسبوقين بها، فإن هذه عندهم هي أوصاف العالم، وليس عندهم كل مدرس عالما، ولا كل مؤلف علامة، بل لا بد من كونه بتلك الأوصاف، ولا بد له من درجات معلومة، فلا يطلق عليه ذلك الاسم إلا بعد استيفائها والارتقاء. ولا تتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضا. وأما ما يطلق عليه اسم العلماء فهو من له معرفة في العلوم العقلية، ومعرفة العلماء في فروع الشريعة النصرانية هينة جدا، فإذا قيل في فرنسا: «هذا الإنسان عالم.» لا يفهم منه أنه يعرف في دينه، بل إنه يعرف علما من العلوم الأخر. وسيظهر لك فضل هؤلاء النصارى في العلوم عمن عداهم؛ وبذلك تعرف خلو بلادنا من كثير منها، وأن الجامع الأزهر المعمور بمصر القاهرة، وجامع بني أمية بالشام، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بفاس، ومدارس بخارى ، ونحو ذلك، كلها زاهرة بالعلوم النقلية، وبعض العقلية: كعلوم العربية ، والمنطق، ونحوه من العلوم الآلية. والعلوم في مدينة باريس تتقدم كل يوم، فهي دائما في الزيادة، فإنها لا تمضي سنة إلا ويكشفون شيئا جديدا، فإنهم قد يكشفون في السنة عدة فنون جديدة، أو صناعات جديدة، أو وسائط، أو تكميلات ...»
وقال يصف انتشار الثقافة العامة بين أفراد الشعب الفرنسي كبارا وصغارا: «ثم إن الفرنسيس يميلون بالطبيعة إلى تحصيل المعارف، ويتشوفون إلى معرفة سائر الأشياء؛ فلذلك ترى أن سائرهم له معرفة مستوعبة إجمالا لسائر الأشياء، فليس غريبا عنها، حتى إنك إذا خاطبته تكلم معك بكلام العلماء ولو لم يكن منهم؛ فلذلك ترى عامة الفرنساوية يبحثون ويتنازعون في بعض مسائل علمية عويصة. وكذلك أطفالهم فإنهم بارعون الغاية من صغرهم ... فإنك قد تخاطب الصغير الذي خرج من سن الطفولية عن رأيه في كذا وكذا، فيجيبك، بدلا عن قوله «لا أعرف»: «أصل هذا الشيء ما معناه الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ونحو ذلك، فأولادهم دائما متأهلون للتعلم والتحصيل، ولهم تربية عظيمة، وهذا في الفرنسيس على الإطلاق »...»
وبعد هذه التقدمة انطلق رفاعة يصف دور الكتب ومعاهد العلم في باريس، فهو يلاحظ أن «لكل إنسان من العلماء أو الطلبة أو الأغنياء خزانة كتب على قدر حاله، ويندر وجود إنسان بباريس من غير أن يكون تحت ملكه شيء من الكتب؛ لما أن سائر الناس تعرف القراءة والكتابة ... إلخ ... إلخ.» وهو يعرض بعد هذا وصفا مسهبا لمعاهد العلم المختلفة، وكلها غريب عن مصر في ذلك الوقت، والمسميات غريبة عن اللغة العربية؛ لهذا بدأ رفاعة محاولاته لترجمة هذه المسميات، فهو يعرب بعضها تارة، وهو يرسم البعض الآخر كما هو تارة أخرى. فالدور التي نحفظ فيها النماذج والآثار، سميناها في القرن الماضي أسماء كثيرة، فكنا نطلق عليها دور العاديات أو دور الآثار ثم انتهينا إلى تسميتها بالمتاحف. أما رفاعة فقد سماها: «خزائن المستغربات»، وفسر اللفظ ليدل مواطنيه على معناه، فقال: «ويوجد بها ما تتشوق إليه نفوس الفضلاء، ليستعينوا به على الغرض في الطبيعيات، كالمعادن، والأحجار، والحيوانات البرية والبحرية المحفوظة الجثة ، وسائر المواليد من الأحجار والنباتات وسائر الأشياء التي فيها آثار القدماء ... إلخ.»
وانتقل من هذا إلى وصف «بستان النباتات السلطاني» وما به من أنواع النبات والحيوان المختلفة، و«الرصد السلطاني» وما به من آلات لرصد الكواكب؛ و«الكنسروتوار ... ومعناه المخزن أو المحفظ ... وفيه جميع الآلات ... خصوصا الآلات الهندسية كآلات الحيل وتحويل الأثقال.»
وذكر رفاعة بعد ذلك أن في باريس المدارس الكثيرة لدراسة العلوم والفنون، ومنها «ما يسمى أكدمة، ومنها ما يسمى مجمعا أو مجلسا، والأنسطيوت عندهم اسم عام يشتمل على جميع اجتماع الأكدمات، أي المجالس الخمسة، وهي: أكدمية اللغة الفرنساوية، وأكدمية العلوم الأدبية ومعرفة الأخبار والآثار، وأكدمية العلوم الطبيعية والهندسية، وأكدمية الصنائع الظريفة، وأكدمية الفلسفة ...» وبعد أن وصف كل «أكدمية» من هذه «الأكدميات» وصفا مسهبا، ذكر أن في باريس أيضا «مدارس سلطانية تسمى الكوليچ، وهي مدارس يتعلم فيها الإنسان العلوم المهمة التي تكون وسائل في الأمور المقصودة منها، وهي خمسة كوليچات ... إلخ.»
كان طبيعيا أن تحظى الحياة العلمية في باريس بهذه اللفتات من رفاعة وهو خريج الأزهر والمبعوث إلى باريس لإتمام علومه، ولكننا نلاحظ أنه لم يغمض عينيه عن مظاهر الحياة الأخرى، بل لقد كانت له نظرات ولفتات إلى مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والسياسية في فرنسا. والسمة الواضحة لهذه اللفتات جميعا هي الظاهرة التي سجلناها قبلا، أي المقارنة والأمل، فهو إذا وصف نهر السين تذكر نهر النيل فقال: «... وشتان بين هذا وبين النيل والروضة والمقياس، فإن نزهة الإنسان في الروضة والمقياس لا تضاهى؛ لأن الخليج يعبر مصر، والسين يعبر باريس، إلا أن نهر السين بتمامه يشق باريز، وتجري به السفن العظيمة الوسق، وبه الأرصفة الجيدة، والنظافة على حوافيه، ومع ذلك فنزهته غير سارة. وشتان أيضا بين ماء النيل والسين من جهة الطعم وغيره؛ فإن ماء النيل لو كانت العادة جرت بترويقه قبل استعماله كما هي العادة في ماء نهر السين لكان من أعظم الأدواء. وأقول أيضا إنه فرق بعيد بين طعم ماء نهر السين وماء العيون والقطوع والسواقي ببلاد صعيد مصر ...» وينتقل بعد هذا إلى المقارنة بين الجو في مصر وفي فرنسا، فيصف شدة البرد في باريس إلى أن يقول: «وأما مصر فإنها سليمة من مكاره برد باريس، كما أنها خالية أيضا عن الأمور المحتاج إليها في وقت الحر، مثل الاستعانة على تطرية الزمن. فإن أهل باريس مثلا سهل عندهم رش ميدان متسع من الأرض وقت الحر، فإنهم يصنعون دنا عظيما ذا عجلات، ويمشون العجلة بالخيل؛ ولهذا الدن عدة بزابيز مصنوعة بالهندسة تدفع الماء بقوة عظيمة وعزم سريع، فلا تزال ماشية والبزابيز مفتوحة حتى ترش قطعة عظيمة في نحو ربع ساعة لا يمكن رشها بجملة رجال في أبلغ من ساعة. ولهم غير ذلك من الحيل، فمصرنا أولى بهذا لغلبة حرها ... ومن الأمور المستحسنة أيضا أنهم يصنعون مجاري تحت الأرض توصل ماء النهر إلى حمامات أخرى وسط المدينة أو إلى صهاريج بهندسة مكملة، فانظر أين سهولة هذا مع صهاريج مصر بحمل الجمال، فإن ذلك أهون مصرفا وأيسر في كل زمن ... وفي هذه المدينة (أي باريس) عدة فسحات عظيمة تسمى المواضع يعني الميادين، كفسحة الرميلة بالقاهرة، في مجرد الاتساع لا في الوساخة، وعددها خمسة وسبعون ميدانا ... إلخ.»
هذه صورة قد تبدو عادية للقارئ المصري الحديث، ولكنها كانت غريبة الغرابة كلها لرفاعة وزملائه؛ فقد كانت الحياة في مصر في أوائل القرن الماضي تختلف عن مثيلتها في باريس اختلافا بينا، وهذه الصور لا تعدو أن تكون نماذج لما أثار انتباه رفاعة. أما الرحلة فمليئة بعشرات من الصور الأخرى، وكلها طريف يستحق القراءة والدراسة.
دور التحصيل في باريس
في يوم الخميس السادس من شهر رمضان سنة 1241ه/14 أبريل 1826م أبحرت السفينة من الإسكندرية تحمل رفاعة وزملاءه. وفي التاسع من شهر شوال وصلت بهم إلى «مارسيليا»، ومذ وطئت قدما رفاعة أرض هذه المدينة بدأ يتعلم اللغة الفرنسية. يقول في رحلته: «وتعلمنا في نحو ثلاثين يوما التهجي.»
وفي باريس قضى تلاميذ البعثة جميعا نحو سنة وهم يقيمون معا في بيت واحد، ويشتركون معا في دراسة مواد واحدة. يقول رفاعة : «كنا نقرأ في الصباح كتاب تاريخ ساعتين، ثم بعد الظهر درس رسم، ثم درس نحو فرنساوي، وفي كل جمعة ثلاثة دروس من علمي الحساب والهندسة.»
وكانت هذه الخطة ترمي إلى عزل تلاميذ البعثة حتى لا يفسدهم الاختلاط أو الحياة في باريس، وحتى يستطيعوا التوفر على دراستهم ليحصلوا العلوم التي يريدون على أحسن وجه وفي أسرع وقت، ولكن هذه العلوم التي أوفدوا لدراستها مودعة في بطون المؤلفات الفرنسية، ولا سبيل إليها إلا إتقان هذه اللغة حديثا وقراءة وفهما. ولا سبيل إلى هذا الإتقان إلا أن يختلط هؤلاء الشبان بأندادهم من الفرنسيين حتى تستقيم ألسنتهم.
أحس هذا النقص المشرفون على البعثة، كما أحس به أعضاء البعثة أنفسهم. يقول رفاعة: «مكثنا جميعا في بيت واحد دون سنة نقرأ معا في اللغة الفرنسية وفي هذه الفنون المتقدمة، ولكن لم يحصل لنا عظيم مزية إلا مجرد تعلم النحو الفرنساوي؛ لهذا صدرت الأوامر بتوزيع هؤلاء المبعوثين، فتفرقوا «في مكاتب متعددة، كل اثنين أو ثلاثة أو واحد في مكتب مع أولاد الفرنساوية، أو في بيت مخصوص، عند معلم مخصوص، بقدر معلوم من الدراهم في نظير الأكل والشرب والسكنى والتعليم ...» وفي هذه المكاتب، أو «البانسيونات» كان التلاميذ المصريون يقضون ليلهم ونهارهم في التحصيل، ولم يكن يسمح لهم بالخروج إلا في يوم الأحد أو بعد ظهر الخميس أو في الأعياد الفرنسية. وكان يحدث أحيانا أن يخرج بعضهم بعد العشاء إن لم يكن يشغله درس أو واجب.»
وكان رفاعة أكثرهم انهماكا في عمله وأشدهم إقبالا عليه، ولم تكن تسعفه أوقات فراغه في النهار، فكان يقضي معظم ساعات الليل ساهرا بين كتبه ودروسه، يقرأ ويتفهم ويترجم، حتى أصيبت عينه اليسرى بضعف، ونصحه الطبيب بالراحة ونهاه عن المطالعة في الليل، ولكنه «لم يمتثل لخوف تعويق تقدمه.»
ولم يقنع رفاعة بالكتب التي تشترى له على حساب البعثة، فقد أحس لذة المعرفة، فأقبل يشتري كتبا أخرى من ماله الخاص، ثم أحس أن دروس أساتذته لا تكفي لإشباع فهمه، فاستأجر معلما خاصا ظل يدرس له أكثر من سنة وكان يدفع له أجره من مرتبه الخاص.
أرسل رفاعة إلى فرنسا ليكون إماما للبعثة، ولكن يبدو أن الأوامر صدرت في آخر لحظة أن يسمح له بالدراسة، فإن أقبل ووفق فليوجه إلى إتقان الترجمة؛ وذلك لأن ثقافته الأزهرية في اللغة العربية ترشحه لهذا العمل إذا ألم باللغة الفرنسية وأتقنها. وهذا عمل واسع عريض لأنه غير محدود، فحكومة محمد علي كانت مقبلة على الترجمة في كل علم وفن: في الهندسة، والطب، والفنون العسكرية، والتاريخ، والجغرافيا ... إلخ؛ فواجب رفاعة إذن أن يقرأ كتبا في كل هذه العلوم وأن يمرن على الترجمة فيها جميعا، ويا له من واجب شاق! ولكن همة رفاعة كانت همة عالية، فاستسهل الصعب، وأقبل ووفق.
وقد ذكر رفاعة في رحلته العلوم والفنون التي درسها، وعين الكتب التي قرأها والتي ترجمها أو بدأ يترجمها وهو في باريس. ومنها نلحظ أن ثقافته كانت موسوعية، فقد قرأ كتبا كثيرة في مختلف العلوم مع أساتذته، ثم قرأ كتبا كثيرة أخرى وحده. وبرهن بهذا على أنه كان يتمتع بروح جامعية حقة. ولا عجب فقد ساعد على تزويده بهذه الروح أمور أربعة: المران الذي اكتسبه وهو يطلب العلم في الأزهر، والنفحة التي أضفاها عليه أستاذه العطار، وحبه العجيب للعلم وشغفه بالتحصيل، ثم نفسه العالية الطموح ورغبته في إشباع هذه النفس وإرضاء باعثه وباعث النهضة الجديدة في مصر «ولي النعم» محمد علي.
وكان هناك عامل آخر، أو حافز آخر بعث رفاعة على الجد والاجتهاد لا يقل عن العوامل السابقة إن لم يكن أقوى منها. ذلك أن رفاعة درس دراسة دينية في أكبر جامعة دينية، ثم تخرج عالما دينيا، وكان تلميذا لشيخ الأزهر، كما كان قوي الإيمان متين العقيدة، وقد راعه منذ اللحظة الأولى الفارق الكبير بين ما كانت تتمتع به ديار المسيحية من تقدم في مختلف نواحي الحياة، وبين ما كانت تتمتع به مصر وديار الإسلام من تأخر وخمود وجمود في مختلف نواحي الحياة وخاصة في الناحية العلمية. ورحلته مليئة بهذه المقارنات كما سبق أن ذكرنا؛ لهذا نحس في جهوده التي ذكرها أنه ما كان يفرغ من قراءة كتاب في أي علم أو فن حتى يقبل على ترجمته؛ يريد بذلك أن ينقل لديار الإسلام وبنيه هذا العلم الجديد؛ عله يبعثهم إلى نهضة جديدة تنتهي بهم إلى أن يكونوا كأبناء المسيحية حضارة ورقيا، ولكن أنى له الوقت لترجمة هذه الكتب جميعا؟ ومع هذا فقد بدأ وترجم كتبا أو رسالات صغيرة ثم ترجم فصولا من الكتب الكبيرة. وكأني به قد ترك الباقي حتى يعود لمصر فيتم ما بدأ، وقد فعل، ولكن جهده جهد إنساني محدود، ووقته وقت محدود، وهنا ترقب الفرص حتى سنحت له فعرض على محمد علي مشروعه لإنشاء مدرسة الألسن، وقد أنشئت. واتسعت بعد إنشائها حركة الترجمة، واستطاع رفاعة أن يحقق بعض آماله. ويؤيدنا في رأينا هذا أن معظم الكتب الأولى التي ترجمها خريجو الألسن هي الكتب التي قرأها رفاعة في باريس والتي كان يتمنى أن يترجمها بنفسه.
والآن ليس أحسن من أن ننقل هنا تقرير رفاعة نفسه عن الكتب التي قرأها، وعن جهوده في الدراسة والترجمة وهو في باريس، قال في رحلته:
في التاريخ: «ابتدأنا في بيت الأفندية حين كنا معا بكتاب سير فلاسفة اليونان فقرأناه وتممناه، ثم ابتدأنا بعده في كتاب تاريخ عام مختصر يشتمل على سير قدماء المصريين والعراقيين وأهل الشام واليونان وقدماء العجم والرومانيين والهنود، وفي آخره نبذة مختصرة في علم «الميثولوجيا» يعني جاهلية اليونان وخرافاتهم، ثم قرأت عند مسيو «شواليه» كتابا يسمى لطائف التاريخ، يتضمن قصصا وحكايات ونوادر، ثم بعده قرأت كتابا يسمى سير أخلاق الأمم وعوائدهم وآدابهم، ثم تاريخ سبب عظم دولة قياصرة الروم وانقراضها، ثم كتاب رحلة «أنخرسيس» الأصغر إلى بلاد اليونان، ثم قرأت كتاب «سيغور» في التاريخ العام، ثم سيرة نابليون، ثم كتابا في علم التواريخ والأنساب، ثم كتابا يسمى «بانوراما» العالم، يعني مرآة الدنيا، ثم رحلة صنفها بعض المسافرين في بلاد الدولة العثمانية ، ثم رحلة في بلاد الجزائر.»
في الرياضيات: «وقرأت في الحساب كتاب «بزوت
Bezout ».
وفي الهندسة: الأربع المقالات الأول من كتاب «لوجندر
Legendre ».
في الجغرافيا: «وقرأت مع المسيو «شواليه» كتاب جغرافية يشتمل على الجغرافية التاريخية والطبيعية والرياضية والسياسية، ثم قرأت رسالة أخرى في الجغرافية الطبيعية مقدمة لقاموس في الجغرافية يعني معجم البلدان، ثم قرأت الكتاب الأول بعينه مع معلم آخر غير مسيو «شواليه». وقرأت أيضا مع مسيو «شواليه» جملا عظيمة من جغرافية «ملطبرون» ورسالة ألفها لتعليم بنته في هيئة الدنيا. وقرأت وحدي مؤلفات عديدة في هذا الفن.»
في علوم وفنون مختلفة كالمنطق والفلسفة والقوانين والاجتماع والأدب والمعادن والفنون الحربية: «وقرأت كتابا في علم المنطق الفرنساوي مع مسيو «شواليه» ومسيو «المونري»، وعدة مواضع من كتاب «ليبر تروايال» من جملتها المقولات، وكتابا آخر في المنطق يقال له: كتاب «قندلياق
Condillac » غير فيه منطق أرسطو. وقرأت مع مسيو «شواليه» كتابا صغيرا في المعادن، وترجمته. وقرأت كثيرا من كتب الأدب، فمنها مجموع «نويل»، ومنها عدة مواضع من ديوان «ولتير
Voltaire » و«رسين
Racine » وديوان «روسو
Rousseau »، خصوصا «مراسلاته الفارسية
Lettres Persanes » التي يعرف بها الفرق بين آداب الفرنج والعجم، وهي أشبه بميزان بين الآداب المغربية والمشرقية. وقرأت أيضا وحدي مراسلات إنقليزية صنفها «القونت شسترفيلد» لتربية ولده وتعليمه، وكثيرا من مقامات الفرنساوية. وبالجملة فقد اطلعت في الآداب الفرنساوية على كثير من مؤلفاتها الشهيرة، وقرأت في «الحقوق الطبيعية
Droit naturel » مع معلمها كتاب «برلماكي
Burlamaqui » وترجمته وفهمته فهما جيدا. وهذا الفن عبارة عن التحسين والتقبيح العقليين يجعله الإفرنج أساسا لأحكامهم السياسية المسماة عندهم شرعية. وقرأت أيضا مع مسيو «شواليه» جزأين من كتاب يسمى «روح الشرائع
l’Esprit des lois » ومؤلفه شهير بين الفرنساوية يقال له: «منتسكوا
Montesquieu »، وهو أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية، ومبني على التحسين والتقبيح العقليين، ويلقب عندهم بابن خلدون الإفرنجي، كما أن ابن خلدون يقال له عندهم أيضا منتسكو الشرق أي منتسكو الإسلام. وقرأت أيضا في هذا المعنى كتابا يسمى «عقد التآنس والاجتماع الإنساني
Le Contrat Social »، مؤلفه يقال له: «روسو»، وهو عظيم في معناه. وقرأت في الفلسفة تاريخ الفلاسفة المتقدم المشتمل على مذاهبهم وعقائدهم وحكمهم ومواعظهم. وقرأت عدة محال نفيسة في معجم الفلسفة للخواجة «ولتير»، وعدة محال في كتب فلسفة «قندلياق». وقرأت في فن الطبيعة رسالة صغيرة مع مسيو «شواليه» من غير تعرض للعمليات. وقرأت في فن العسكرية من كتاب يسمى «عمليات كبار الضباط» مع مسيو «شواليه» مائة صفحة، وترجمتها. وقرأت كثيرا في «كازيطات» العلوم اليومية والشهرية التي تذكر كل يوم ما يصل خبره من الأخبار الداخلية والخارجية المسماة «البوليتيقة». وكنت متولعا بها غاية التولع، وبها استعنت على فهم اللغة الفرنساوية. وربما كنت أترجم منها مسائل علمية وسياسية خصوصا وقت حرابة الدولة العثمانية مع الدولة الموسقوبية.»
هذه هي العلوم التي درسها رفاعة، والكتب التي قرأها، وهي تدل - كما سبق أن ذكرنا - على أنه ثقف ثقافة موسوعية. وقد كان لا بد له أن يتثقف هذه الثقافة ما دام قد بعث للتخصص في الترجمة؛ حتى إذا طلب له بعد عودته أن يترجم في أي علم من العلوم لبى الطلب ونفذ الأمر. وهذا ما حدث مثلا، فإنه عين بعد عودته مترجما بمدرسة الطب، ثم نقل مترجما بمكتب طرة الحربي. ولما أنشئت الألسن كان يشرف على أعمال خريجيها الذين ترجموا كتبا في كل هذه العلوم والفنون.
قضى رفاعة سنة في باريس، ثم عقد له ولزملائه امتحان في نهاية هذه السنة، فنجح رفاعة بتفوق، وأرسل إليه مسيو «جومار» مدير البعثة جائزة التفوق، وهي كتاب «رحلة أنخرسيس في بلاد اليونان» وهو «سبعة مجلدات جيدة التجليد مموهة بالذهب»، وأرسل إليه مع الجائزة خطابا تاريخه أول أغسطس سنة 1827م كله تشجيع وتقدير لما بذل رفاعة من جهد ولما نال من نجاح. جاء فيه: «قد استحقيت هدية اللغة الفرنساوية بالتقدم الذي حصلته فيها، وبالثمرة التي نلتها في الامتحان العام الأخير. ولقد حق لي أن أهنئ نفسي بإرسالي لك هذه الهدية من الأفندية النظار دليلا على التفاتك في التعليم. ولا شك أن ولي النعمة يسر متى أخبر أن اجتهادك وثمرة تعليمك يكافآن المصاريف العظيمة التي يصرفها عليك في تربيتك وتعليمك. وعليك مني السلام مصحوبا بالمودة ...»
وبعد عام آخر عقد امتحان ثان فوفق فيه كما وفق في سابقه، وكانت جائزته في هذه المرة كتابين من تأليف المستشرق الفرنسي «دي ساسي»، وهما: «الأنيس المفيد للطالب المستفيد» و«جامع الشذور من منظوم ومنثور».
وفي باريس اتصل الشيخ رفاعة بكبار المستشرقين الفرنسيين، وخاصة المسيو «سلفستر دي ساسي» والمسيو «كوسان دي برسيڨال» ونشأت بينه وبين هذين العالمين صداقة متينة، وكان كل منهما يقدر جهد الشيخ التلميذ وعلمه، وقد تبودلت بينه وبينهم كثير من الرسائل أثبت بعضها رفاعة في رحلته، وقد أطلعهما قبيل سفره على مخطوطة رحلته فأعجبا بها وكتبا عنها تقريظا، وأرسل كل منهما للمسيو جومار بصفته مدير البعثة خطابا كله ثناء وتقريظ لرفاعة وكتابه. قال دي ساسي: «إن مسيو رفاعة أحسن صرف زمنه مدة إقامته في فرنسا، وإنه اكتسب فيها معارف عظيمة وتمكن منها كل التمكن حتى تأهل لأن يكون نافعا في بلاده. وقد شهدت له بذلك عن طيب نفس، وله عندي منزلة عظيمة ومحبة جسيمة ...» وقال دي برسيڨال: «إن هذا التأليف «الرحلة» يستحق كثيرا من المدح، وإنه مصنوع على وجه يكون به نفع عظيم لأهالي بلد المؤلف؛ فإنه أهدى لهم نبذات صحيحة من فنون فرنسا وعوائدها وأخلاق أهلها وسياسة دولتها. ولما رأى أن وطنه أدنى من بلاد أوروبا في العلوم البشرية والفنون النافعة، أظهر التأسف على ذلك، وأراد أن يوقظ بكتابه أهل الإسلام، ويدخل عندهم الرغبة في المعارف المفيدة، ويولد عندهم محبة تعلم التمدن الإفرنجي والترقي في صنايع المعاش. وما تكلم عليه من المباني السلطانية والتعليمات وغيرها، أراد أن يذكر به لأهالي بلده أنه ينبغي لهم تقليد ذلك. وما نظر فيه في بعض العبارات يدل في الغالب على سلامة عقله وخلوه من التعسف والتحامل. وعبارة هذا الكتاب بسيطة، أي غير متكلف فيها التنميق، ومع ذلك فهي لطيفة ... إلخ.»
وبعد خمس سنوات عقد لرفاعة الامتحان النهائي، فجمع المسيو «جومار» «مجلسا فيه عدة أناس مشاهير، ومن جملتهم وزير التعليمات الموسقوبي رئيس الامتحان.» يقول رفاعة: «وكان القصد بهذا المجلس معرفة قوة الفقير في صناعة الترجمة التي اشتغلت بها مدة مكثي في فرنسا ...»
وتقدم رفاعة إلى لجنة الامتحان بخلاصة مجهوداته في الترجمة طوال هذه السنوات الخمس، وهي اثنتا عشرة رسالة ترجمها عن الفرنسية إلى العربية، وهذا بيانها: (1)
نبذة في تاريخ إسكندر الأكبر مأخوذة من تاريخ القدماء. (2)
كتاب أصول المعادن. (3)
روزنامة (يقصد تقويم) سنة 1244ه، ألفه مسيو «جومار» لاستعمال مصر والشام، متضمنا لشذرات علمية وتدبيرية. (4)
كتاب دائرة العلوم في أخلاق الأمم وعوائدهم. (5)
مقدم جغرافية طبيعية مصححة على مسيو «دهنلبض». (6)
قطعة من كتاب «ملطبرون» في الجغرافية. (7)
ثلاث مقالات من كتاب «لجندر» في علم الهندسة. (8)
نبذة في علم هيئة الدنيا. (9)
قطعة من عمليات رؤساء ضباط العسكرية. (10)
أصول الحقوق الطبيعية التي تعتبرها الإفرنج. (11)
نبذة في الميثولوجيا يعني جاهلية اليونان وخرافاتهم. (12)
نبذة في علم سياسات الصحة.
كذلك قدم رفاعة للجنة الامتحان كراسة أخرى فيها مخطوطة رحلته إلى باريس؛ وذلك لأن هذه الرحلة ليست تأليفا كلها، بل فيها نبذ كثيرة مترجمة في مختلف العلوم، قصد بها رفاعة إلى تقريب هذه العلوم إلى القارئ المصري، وشرح نهضة الفرنسيين العلمية ومدى إقبالهم على الدروس والتحصيل. وفي هذه الرحلة أيضا ترجم رفاعة الدستور الفرنسي الذي وضعه «لويس الثامن عشر»، وسماه: «شرطة». وفيها أيضا ترجم بعض الأشعار الفرنسية إلى شعر عربي، وبعض هذا الشعر لشعراء مجهولين، وبعضه أبيات «من القصيدة المسماة نظم العقود في كسر العود، للخواجة يعقوب، المصري منشأ الفرنساوي استيطانا ...» وقد ذكر رفاعة أنه ترجمها في سنة 1242ه/1826-1827م، أي بعيد وصوله إلى باريس بقليل. وقد أحس أن الشعر يفقد كثيرا من روعته إذا ترجم من لغة إلى أخرى، فقال في نهاية القصائد التي ترجمها: «وهذه القصيدة كغيرها من الأشعار المترجمة من اللغة الفرنساوية عالية النفس في أصلها، ولكن بالترجمة تذهب بلاغتها فلا يظهر علو نفس صاحبها. ومثل ذلك لطائف القصائد العربية، فإنه لا يمكن ترجمتها إلى غالب اللغات الإفرنجية من غير أن يذهب حسنها، بل ربما صارت باردة ...»
ولم تقنع لجنة الامتحان بهذه الجهود المكتوبة ، ورأت أن تختبره اختبارا شفهيا لتتأكد من مقدرته على الترجمة الصحيحة، فأحضرت له بعض الكتب المطبوعة في بولاق فترجم بعض فقراتها بسرعة، «ثم قرأ بالفرنساوي مواضع، منها ما هو صغير ومنها ما هو كبير في «كازيطة» مصر المطبوعة في بولاق» (يقصد الوقائع المصرية).
وبهذا تم اختباره في الترجمة عن العربية إلى الفرنسية، ثم أعطته اللجنة النص العربي للرسالة التي ترجمها عن «عمليات رؤساء الضباط العسكرية»، وأمسك أحد أعضاء اللجنة النص الفرنسي، وأعاد رفاعة ترجمة النص الذي بيده إلى الفرنسية. والممتحنون يقابلون بين ما يقول وبين النص الأصلي الذي بأيديهم. ووفق في ترجمته، وقررت اللجنة أنه تخلص من هذا الامتحان على وجه حسن «فأدى العبارات حقها من غير تغيير في معنى الأصل المترجم.» ولكنها أخذت عليه أنه «ربما أحوجه اصطلاح اللغة العربية أن يضع مجازا بدل مجاز آخر من غير خلل في المعنى المراد. مثلا في تشبيه أصل علم العسكرية بمعدن مشبع يستخرج منه كذا، غير العبارة بقوله: علم العسكرية بحر عظيم تستخرج منه الدرر. وقد اعترض عليه في الامتحان بأنه في بعض الأحيان قد لا يكون في ترجمته مطابقة تامة بين المترجم والمترجم عنه، وأنه ربما كرر، وربما ترجم الجملة بجمل والكلمة بجملة، ولكن من غير أن يقع في الخلط، بل هو دائما محافظ على روح المعنى الأصلي. وقد عرف الشيخ الآن أنه إذا أراد أن يترجم كتب علوم، فلا بد له أن يترك التقطيع، وعليه أن يخترع عند الحاجة تغييرا مناسبا للمقصود ...»
وبنفس الطريقة اختبر في كتاب آخر مما ترجمه، وهو: «مقدمة القاموس العام المتعلقة بالجغرافية الطبيعية»، ولاحظت اللجنة أن ترجمة هذا الكتاب ضعيفة، ولكنها التمست لرفاعة العذر لأنه ترجمه بعيد وصوله إلى فرنسا ولم يكن قد وصل حينذاك إلى «درجته الآن في اللغة الفرنساوية»؛ ولهذا كانت ترجمته لهذا الكتاب أضعف من ترجمته للكتاب السابق، «وكان عيبه أنه لم يحافظ على تأدية عبارة الأصل بجميع أطرافها. وعلى كل حال فلم يغير في المعنى شيئا، بل طريقته في الترجمة كانت مناسبة.» وتفرق الممتحنون أخيرا وهم مجمعون على إتقانه صناعة الترجمة، وعلى «أنه يمكنه أن ينفع في دولته بأن يترجم الكتب المهمة المحتاج إليها في نشر العلوم والمرغوب في تكثيرها في البلاد المتمدنة ...»
اجتاز رفاعة الامتحان بعد أن قضى في فرنسا خمس سنوات طوال أقبل فيها على الدرس والتحصيل إقبال الطالب المجد المحب لعمله. وقد قرأ في هذه السنوات كتبا شتى في علوم متباينة وترجم الكثير من هذه الكتب، ولكنه - متأثرا بميله الخاص وبدراسته الأدبية الأولى في الأزهر - شغف أكثر ما شغف بعلمي التاريخ والجغرافيا، ورشح نفسه لترجمة هذين العلمين. فهو يقول في خاتمة رحلته: «وإن شاء الله تعالى بأنفاس ولي النعم يصير التاريخ على اختلافه منقولا من الفرنساوية إلى لغتنا ... فقد تكفلنا بترجمة علمي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة بمشيئته تعالى، وبهمة صاحب السعادة محب العلوم والفنون، حتى تعد دولته من الأزمنة التي تؤرخ بها العلوم والمعارف المتجددة في مصر مثل تجددها في زمن خلفاء بغداد ...»
بعد العودة
في رمضان سنة 1241ه غادر رفاعة الإسكندرية مرتحلا إلى فرنسا، وفي رمضان سنة 1246ه غادر باريس عائدا إلى مصر. خمس سنوات كاملة تغير فيها الشيخ عقلا وعلما، وتفكيرا وآمالا، لكنه لم يتغير، بل لم يتأثر دينا وأخلاقا. يقول علي مبارك: «ولم تؤثر إقامته بباريز أدنى تأثير في عقائده، ولا في أخلاقه وعوائده ...»
وفي الإسكندرية تشرف بمقابلة إبراهيم باشا، فرحب به لأنه سمع عنه ثناء جما أثناء زيارته لباريس، ولأنه كان يعرف أسرته في طهطا معرفة وثيقة. وفي ختام المقابلة وعده إبراهيم باشا «بدوام الالتفات إليه»، وأنعم عليه بستة وثلاثين فدانا في الخانقاه، فكانت أول مكافأة مادية نالها رفاعة على جده واجتهاده. وأول الغيث قطرة. (1) في مدرسة الطب
وسافر إلى القاهرة، وحظي بمقابلة ولي النعم محمد علي باشا، وكان محمد علي قد عرفه معرفة أكيدة من تقارير مسيو «جومار» الكثيرة عنه، وكلها مدح وتقريظ لجهوده وتقدير لعمله. وفي هذه المقابلة لقي رفاعة من مولاه كل عطف وتشجيع «ورأى من ميله إليه ما حمله على الثقة بنجاح البدء والنهاية». وصدر أمره العالي بتعيينه مترجما بمدرسة الطب، فكان أول مصري يعين مترجما بهذه المدرسة؛ فقد كانت هيئة المترجمين جميعا حتى ذلك الوقت من السوريين؛ لهذا لم يلبث رفاعة أن تفوق عليهم في عمله، فهو يتقن اللغة العربية إتقانا لا يدانيه فيه أحد من هؤلاء المترجمين السوريين وهو يجيد الفرنسية مثلما يجيدونها. وترجمته في النهاية صحيحة سليمة لا تحتاج - كترجمة السوريين - إلى مراجعة أو تصحيح شيخ من شيوخ الأزهر المحررين بالمدرسة.
لبث رفاعة مترجما في مدرسة الطب نحو سنتين، ولكنه يبدو أنه كان في هذه المدرسة مصححا ومحررا أكثر منه مترجما، إذ لم يعرف أنه ترجم في الطب غير الرسالة الصغيرة التي ترجمها وهو في باريس وضمنها رحلته، ولكنه قام في هذه الفترة بمراجعة كتاب «التوضيح لألفاظ التشريح» في الطب البيطري، الذي ترجمه يوسف فرعون وصححه الشيخ مصطفى حسن كساب. فقد قرر مجلس الجهادية في 20 جمادى الأولى سنة 1248ه «بناء على ما ورد على مجلس المشورة في مدرسة الطب البيطري الموافقة على طبع كتاب التشريح الذي ترجم بعد مراجعة الترجمة بمعرفة الشيخ رفاعة أفندي وهرقل البيكباشي واتضاح صحتها ...» وقد ذكر في خاتمة الكتاب أنه تم ترجمة في التاسع عشر من شعبان سنة 1247ه، وأنه تم طبعا في بولاق في غرة صفر سنة 1249ه. (2) في مدرسة الطوبجية
وفي سنة 1249ه نقل رفاعة من مدرسة الطب ليكون مترجما بمدرسة الطوبجية بطرة خلفا للمستشرق الشاب «كنيك
Koenig ». وفي هذه المدرسة قام رفاعة بترجمة بعض الكتب الهندسية والجغرافية اللازمة لمدرسة الطوبجية وغيرها من المدارس الحربية، فأتم أولا ترجمة كتاب «مبادئ الهندسة» الذي طبع في سنة 1249ه.
أما علم الجغرافيا، وهو العلم الحبيب إلى رفاعة منذ كان يتلقى العلم في باريس، فقد كان علما هاما وضروريا لتلاميذ المدارس الحربية، ولم يكن في متناول أيديهم حتى ذلك الحين كتاب واحد في هذا العلم باللغة العربية أو التركية، فأشار «سكويرابيك
Don Antonio de Seguera Bey » ناظر المدرسة بأن يعيد طبع كتاب «الكنز المختار في كشف الأراضي والبحار»، وهو كتاب جغرافي صغير سبق أن طبع في مالطة. غير أن رفاعة وجد أن عبارة الكتاب «مالطية وحشية»، فأعاد تصحيحها وتحريرها حتى خرجت الطبعة الثانية «بالنسبة للعبارة أظرف من طبعة مالطة وأجمل.» ومع هذا فإن رفاعة لم يقنع بأن يعتمد على مجهود غيره، وقد كان في عزمه منذ عاد من البعثة أن ينقل كتب الجغرافية التي قرأها إلى العربية، فبدأ بترجمة كتاب خاص أسماه: «التعريبات الشافية لمريد الجغرافية»، وهو - كما يتضح من مقدمته - أصول دروسه في هذا العلم، تخيرها من كتب فرنسية مختلفة، لا من كتاب واحد، وألقاها على تلاميذ مدرسة خاصة أنشئت فيما يبدو ملحقة بمدرسة طرة لتدريس علم الجغرافيا ولتخريج مدرسين مختصين في هذا العلم يتولون تدريسه في المدارس الحربية الأخرى. (3) في مدرسة التاريخ والجغرافيا
لم تشر المراجع التي كتبت عن تاريخ التعليم في عصر محمد علي إلى هذه المدرسة، ولكن بعض وثائق العصر أشارت إلى وجودها. وأيد هذا الوجود رفاعة نفسه في مقدمته للكتاب السابق الذكر، فقد صدر أمر من محمد علي باشا إلى ناظر الجهادية في 14 جمادى الآخرة سنة 1251ه (قبيل إنشاء مدرسة الألسن) بتعيين «عبده» «مدرسا للجغرافيا بمكتب البيادة بدمياط، وهو من ضمن الأربعة المتممين السابق إرسالهم لطرة للقيام بتدريس (يقصد تعلم) الجغرافيا بمدرستها، وهم من الذين رباهم الشيخ رفاعة؛ وإرسال 10 شبان للشيخ لتربيتهم ...»
وهذه كما يتضح من نص الأمر السابق لم تكن مدرسة بالمعنى الصحيح، ولكنها لم تعد أن تكون فصلا ملحقا بمدرسة المدفعية خصص لتعليم بعض الطلبة علم الجغرافية ليتخرجوا مدرسين لهذا العلم في المدارس الحربية الأخرى. غير أن رفاعة يسمي هذا الفصل مدرسة، ويذكر أنها أنشئت بموافقة «مشورة الجهادية» لتعليم الجغرافيا والتاريخ، فلا بأس إذن من أن نحاول شرح الأسباب التي أدت إلى فتح هذا الفصل، أو المدرسة؛ فإنها في نظري النواة التي نشأت عنها مدرسة الألسن بعد قليل.
لم يكن رفاعة على اتفاق مع «سكويرابك» ناظر مدرسة الطوبجية، فقد عرف هذا الرجل باعتداده الزائد بنفسه، وبحدة طبعه، وبعدائه للفرنسيين، وبالتالي للمثقفين ثقافة فرنسية، فهو إسباني الأصل، وكان قبل حضوره إلى مصر ضابطا برتبة «كولونل» في سلاح المدفعية في الجيش الإسباني، وإليه كما يقول الدكتور عزت عبد الكريم «يرجع الفضل في إنشاء المدفعية المصرية ومدرسة المدفعية بطرة.» غير أنه للأسباب السابق ذكرها كان يرفض أن يستمع لأوامر مختار بك مدير المدارس، كما كان يكره سليمان باشا الفرنساوي مفتش المدارس الحربية كرها شديدا ويطعن في معارفه العسكرية وخاصة في فن المدفعية. وقد أدت هذه السياسة وهذا الخلق إلى عزله في سنة 1836م/1251ه، ففي تلك السنة صدرت أوامر محمد علي بتكوين لجنة لتنظيم التعليم في مصر. ورأت اللجنة أن يكتب كل عضو فيها اقتراحاته، ثم يجتمع الأعضاء فينظرون في هذه المقترحات مجتمعين، ولكن «سكويرابك» رفض وحده هذا الرأي، قائلا إنه لا يخضع لرأي غيره، ولا يعمل إلا ما يراه هو صالحا، «فكان ذلك سبب عزله لاعتباره أجنبيا عن مصلحة الجناب العالي، وليس من العقل ائتمان الأجنبي المتجنب على المصالح، كما كان عزله سببا في طاعة بقية نظار المدارس، فانصرفوا ينفذون القرار ويدونون مقترحاتهم ...»
1
لم يكن من المنتظر إذن أن تحسن العلاقات بين رفاعة وبين هذا الناظر المتعجرف. وكان رفاعة قد شغف - منذ كان طالبا في باريس - بدراسة وترجمة علمي التاريخ والجغرافيا، ورسم لنفسه أن يقوم بترجمة الكتب فيهما بعد عودته. فقد قال في رحلته: «وإن شاء الله تعالى بأنفاس ولي النعم يصير التاريخ على اختلافه منقولا عن الفرنسية إلى لغتنا، وبالجملة فقد تكفلنا بترجمة علمي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة بمشيئته تعالى وبهمة صاحب السعادة محب العلوم والفنون ...» فلعله رفع - وهو يدرس الجغرافية بمدرسة طرة - إلى محمد علي باشا أو إلى مشورة الجهادية اقتراحه بأن ينشئ مدرسة لتدريس هذين العلمين وترجمتهما، ولعل المشورة وافقت على إنشاء هذا الفصل كتجربة، فإذا تبين نجاحه أكملته وزادت في اختصاصه. يقول رفاعة في مقدمة «التعريبات الشافية» موضحا لهذه الفكرة وداعيا لها ومبينا الغرض من ترجمة هذا الكتاب وطريقة ترجمته: «لما سمحت مشورة الجهادية، ذات الآراء السنية الذكية، أن أفتح لفنون الجغرافيا والتاريخ مدرسة، تكون على قراءة هذه العلوم مؤسسة، لتشتهر ثمراتها الزاهرة، في إيالات أفندينا الفاخرة العامرة، فإن ذلك مما تدعو الحاجة إليه، ويتأكد العمل به والوقوف عليه، لا سيما لأرباب الدولة والسياسة المدنية، وأصحاب التدبير والإدارة الملكية، وأصول أهل المناصب وضباط الطوائف العسكرية، وكامل ذوي الصنايع والحرف والمهمات التجارية. فكل من تأمل فيها وعرف، رقي فيها إلى أعلى مراتب الفضل والشرف. على أن كثيرا منها ما تبنى عليه أحكام شرعية، وحكم وآداب عرفية، وقوانين بين سائر ملوك البرية. فهو لمثل هذا الغرض، يعد عند أرباب الصناعة من المفترض. أخذت عدة تلامذة لهذا المعنى الممدوح، وتوجهت بالقلب والقالب لتعليمهم بصدر مشروح. وليس بيدي من كتب الجغرافيا شيء باللغة العربية يحتوي على التفصيل والترتيب على نسق ما في الكتب الإفرنجية؛ فلهذا اعتمدت كتابا موجزا في هذا الفن النفيس، موضوعا لمدارس مبادئ العلوم بمدينة باريس، وشرعت في ترجمته درسا بعد درس لهذا القصد؛ حتى لا يضيع السعي ولا يخيب الجد. ولما رأيت أن مؤلفه أطنب في أوروبا لكونها وطنه، وأوجز في غيرها حيث لم تكن داره ولا سكنه، فبهذا الوصف لا يكون لنا كافيا، ولا لغليل المتطلعين إليه شافيا. وكنت اطلعت على غيره من كتب العلوم الجغرافية، ومارست كثيرا منها وراعيتها حق رعايتها مدة إقامتي بمملكة الفرنساوية، أردت أن أتمم المرام، بتلخيص ما يناسب المقام؛ حتى تحصل الموازاة والموازنة، والمعادلة والمقارنة.» إلى أن قال: «... وإن شاء الله يترجم من اللغة العربية إلى اللغة التركية، حتى تكون ثمرته عامة جلية ... إلخ.»
ولعل الأمر الصادر من محمد علي في 5 ذي الحجة سنة 1249ه «بطبع ألف نسخة من كتاب الجغرافيا المترجم عن الفرنسية للعربية بمعرفة الشيخ رفاعة.» خاص بذلك الكتاب؛ فقد تم طبعه في سنة 1250ه، وهو أول ما ترجم من الكتب الجغرافية. وقد أشير في نفس الأمر إلى طبع «ألف نسخة من الأطلس بعد إتمام ترجمته بمعرفة المذكور.» وذلك «لما في هذين الكتابين من المنفعة الكلية التي تعود على تلامذة المدارس.» غير أنني لم أعثر في فهارس الكتب العربية المطبوعة على أثر لهذا الأطلس، فلعله لم يتم ترجمة، أو لعله ترجم ولم يطبع.
انتهى رفاعة من ترجمة هذا الكتاب في الشهر الأخير من سنة 1249ه، ثم أسلمه للمطبعة في أوائل سنة 1250ه، فطبع. وكان قد قدم للمطبعة في هذه السنوات الثلاث التي مرت منذ عودته من فرنسا (1246-1249ه) كتابين مما ترجم وهو في باريس، وهما: (1)
كتاب المعادن النافعة، تأليف «فرارد»، وهو رسالة صغيرة في 47 صفحة من القطع المتوسط. ذكر رفاعة في خاتمته أنه ترجمه «بمشورة جناب مسيو جومار ناظر الأفندية بباريس، ومحب الديار المصرية وعزيزها ولي النعم.» وقد تم طبع هذا الكتاب في بولاق في شوال سنة 1248ه. (2)
قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر، وهو رسالة صغيرة أيضا تقع في 112 صفحة من القطع المتوسط. ذكر رفاعة كذلك أنه ترجمها إجابة لطلب المسيو جومار. فقد قال في مقدمته ص3: «قد اشتهر بين الخاص والعام أن طائفة الإفرنج قد امتازت الآن بين الطوائف بالتجارات، والمخالطة لسائر البلاد، بل لقد اتخذت معرفة البلاد وأحوالها سببا، وانتخبت بذلك نخبا، فاتسعت معارفها في الجغرافيا والميقات، ولا زالت في الزيادة في العلوم على سائر الأوقات، فلا سبيل حينئذ في معرفة أحوال البلدان والخلائق إلا بنقلها عمن حققها من الإفرنج. ولا شك أن من أعلم الإفرنج وأحكمهم طائفة الإفرنسيس؛ فإنها الآن بلاد الفنون والصنائع من غير شك وتلبيس. ولما كان للفقير معرفة هذه اللغة، وفيه ملكة مطالعة عظيم كتبها وتمييز الغث من السمين، طلب مني الخواجة «جومار» مدير تعليم الأفندية المصريين المبعوثين من طرف حضرة ولي النعمة إلى باريس، كرسي الفرنسيس، أن أترجم إلى العربية كتابا لطيفا يسمى بما معناه: ديوان قلائد المفاخر ... إلخ، فأجبته لذلك، علما بأنه نصوح في محبة أفندينا ولي النعم، ومحب لبلاد مصر كأنها وطنه. ولما كان هذا الكتاب غير مقصور على مجرد نقل العوائد، بل هو مشتمل على استحسان واستقباح بعضها، أشار علي مدير التعليم المذكور أن أحذف ما يذكره مؤلف الكتاب من الحط والتشنيع على بعض العوائد الإسلامية أو مما لا ثمرة لذكره في هذا الكتاب ... إلخ.»
وقد ذكر رفاعة في خاتمة الكتاب أنه أتم ترجمته في يوم الاثنين من العشر الأوائل من جمادى الآخرة سنة 1254ه، أي وهو في باريس ، وأنه تم طبعا في بولاق في غرة شعبان سنة 1249ه.
ولم يذكر رفاعة في المقدمة أو الخاتمة اسم مؤلف الكتاب. وقد رجح المستشرق الفرنسي «بيانكي
Bianchi » - في مقاله عن الكتب التي طبعت في مطبعة بولاق الذي نشره في مجلة الجمعية الآسيوية سنة 1843ه - أنه من تأليف
Depping ، فقد قال عند ذكر هذا الكتاب:
Ceci est, Je pense, l’ouvrage de Depping, intitulé: “Moeurs et usage des nations” .
وقد أكد رفاعة نفسه هذا الترجيح؛ فقد أورد في رحلته ترجمة رسالة وصلته - قبيل عودته إلى مصر - من المستشرق الفرنسي مسيو «رينو
Reinaud »، جاء فيها: «... قد حملني مسيو «دبنغ» أن أسأل عن ترجمتك لكتاب العلوم الصغير المشتمل على أخلاق الأمم وعوائدهم وآدابهم؛ لأن مسيو «دبنغ» مؤلف هذا الكتاب. فإذا كانت ترجمتك تنطبع في مصر، هل يتيسر لمؤلف الأصل أن يقيد اسمه لتحصيل عدة نسخ من هذا الكتاب بالشراء؟»
وهكذا كان رفاعة بعد عودته، كما كان قبل عودته، دائم العمل، دائب النشاط. فقد استطاع في السنوات الثلاث التي تلت عودته أن يراجع كتبا مترجمة في الطب والجغرافية. وقدم للمطبعة كتابين مما ترجم في باريس: أحدهما في علم المعادن، والثاني في علم الاجتماع، وترجم كتابين جديدين طبعا أيضا في بولاق: أولهما في الهندسة، وثانيهما في الجغرافية. واستطاع بعد هذا كله أن يوفق لفتح مدرسة صغيرة تولى وحده فيها تدريس علمي التاريخ والجغرافيا ...» (4) التمهيد لإنشاء مدرسة الألسن
وفي أوائل سنة 1250ه ظهر في مصر مرض الطاعون، وانتشر في القاهرة وكثير من البلدان الأخرى، فطلب رفاعة إجازة وسافر إلى بلده طهطا، ولبث هناك نحو ستة أشهر زار خلالها الأهل والأقارب، ولكنه لم ينعم في خلالها بالراحة، بل حمل معه الجزء الأول من جغرافية «ملطبرون
Malte Brun »، وكان قد بدأ فترجم منه صفحات وهو في باريس، فأكمل ترجمة الجزء الأول كله. يقول في المقدمة: «وكان ذلك في نحو سبعة أشهر مع تراكم غيره من الأشغال علي من ترجمة هندسة أو طبع ما كان وقت تعريبه بين يدي.» ويتضح من مقدمة هذا الجزء أن رفاعة عرض على محمد علي رغبته في ترجمة هذا الكتاب، فطلب منه الباشا أن يترجم هذا الجزء في مدة لا تزيد على هذه الشهور السبعة؛ ولهذا بذل رفاعة الجهد كل الجهد ليفي بوعده، وقد فعل، وذلك: «قصدا لكسب رضاء ولي النعم الأكرم، الذي أمر بترجمته في نحو هذا الزمن وحتم ...» وقد عاونه في تبييض الكتاب وتحريره أثناء الترجمة الشيخ محمد هدهد الطنتدائي «فقام بواجبات هذه الوظيفة وزيادة من غير ارتياب، وربما تصرف بعد مشاورتي في بعض عبارات، وأشار علي بتغيير ما يظن أنه يعسر فهمه على من لم يسبق له في هذا الفن علمه، فأجبته حيث قام عندي على صحة ذلك أمارات ... إلخ»
تقدم رفاعة بهذا الجزء من الجغرافيا العمومية إلى محمد علي، فحاز الكتاب القبول، وحاز رفاعة الرضاء؛ فقد كان محمد علي معنيا - منذ بدأت حرب الشام الأولى - بالكتب والمصورات الجغرافية، يريد أن يعرف - وهو يبني ملكه الجديد - أين هو من الشرق القديم المنحل وأين هو من الغرب الجديد الناهض. وفي الوثائق المعاصرة شواهد كثيرة على هذه العناية؛ فقد كتب سامي بك إلى الديوان الخديوي في 12 جمادى الأولى سنة 1248ه يخبره «برغبة الجناب العالي في الاطلاع على خرائط الشام والأناضول، وبوجوب استدعاء أرتين أفندي للتفتيش عن هذه الخرائط في خزينة الأمتعة أو في خزينة القصر العيني أو في أي محل آخر ...»
وبعد عشرة أيام من هذا الخطاب (22 جمادى الأولى) صدر أمر من محمد علي إلى حبيب أفندي أشار فيه إلى أنه سبق أن طلب منه «خرائط رسم عن بر الشام والأناضول»، وأنه «علم مما ورد منه عدم وجود ذلك.» وأشار في هذا الأمر إلى أنه «متذكر وجود أطلس فلمنك، وآخر فرنساوي به رسم جميع الكرة الأرضية؛ فيجري البحث عن هذين الكتابين بخزينة الأمتعة أو بمحل وجودها وإرسالها لطرفه متى وجدت ...»
وفي 18 ذي القعدة سنة 1248ه كتب إبراهيم باشا إلى سامي بك يأمره «بوجوب ترجمة الجغرافيتين البرية والبحرية بمعرفة إستيفان أفندي وأرتين أفندي، وبوجوب حفر الخرائط اللازمة بمعرفة الشيخ أحمد العطار الذي عاد من باريز.» وفي 5 من ذي الحجة سنة 1249ه صدر أمر من محمد علي إلى وكيل الجهادية بطبع ألف نسخة من كتاب التعريبات الجغرافية «وكذلك ألف نسخة من الأطلس بعد إتمام ترجمته بمعرفة المذكور لما في هذين الكتابين من المنفعة الكلية ...»
وفي غرة ذي القعدة سنة 1250ه أرسلت إلى باغوص بك إفادة سنية «تقتضي تقديم خريطة نهر الفرات ونواحيه إلى المقر العالي.» ... إلخ ... إلخ.
كانت الفرصة سانحة إذن - ومحمد علي معني هذه العناية بالدراسات والرسوم الجغرافية - أن يتقدم إليه رفاعة باقتراحه الجديد لتحقيق أمنيته القديمة. كان ذلك الاقتراح يتلخص في أن يؤذن لرفاعة بافتتاح مدرسة للترجمة تعلم فيها الألسن الشرقية والغربية، وبعض المواد المساعدة كالتاريخ والجغرافية والرياضة، ليقوم خريجوها بترجمة الكتب في العلوم المختلفة.
ووافق محمد علي. وأنشئت المدرسة في أوائل سنة 1250ه. وفي الفصل التالي تفصيل الحديث عنها وعن قلم الترجمة الذي أنشئ ملحقا لها في سنة 1258ه/1841م.
مدرسة الألسن
(1) الخطوات التمهيدية (1-1) مدرسة الإدارة الملكية
كان محمد علي في حاجة إلى عدد كبير من الموظفين المثقفين ثقافة جديدة لمساعدته في إدارة ما أنشأت حكومته من «دواوين» ومصالح وأقلام؛ ولذلك بادر فحاول المحاولة الأولى، فأنشأ في جمادى الأولى سنة 1250ه/1834م مدرسة الإدارة الملكية، واختير لها ثلاثون تلميذا من تلاميذ الدرسخانة الملكية، وعين للتدريس بها أرتين شكري أفندي وإسطفان رسمي أفندي عضوا البعثة إلى فرنسا اللذان تخصصا في دراسة الإدارة الملكية.
وكان على هؤلاء التلاميذ أن يدرسوا في الدرسخانة الملكية من الصباح إلى الظهر، ثم يتوفرون من الظهر إلى ما قبل غروب الشمس على دراسة المواد الإعدادية لدراسة الأمور الملكية. وأهمها اللغة الفرنسية والمحاسبة ومبادئ الهندسة والجغرافية.
وكان على هذين المدرسين - إلى جانب قيامهما بالتدريس - أن يبذلا جهودا أخرى في الترجمة في هذا الفن - فن الإدارة الملكية - فنصت لائحة المدرسة على: (1)
أن يعهد إليهما في الصباح بترجمة ما يحال إليهما ترجمته. (2)
أن يقوما بترجمة دروس في الإدارة المدنية وإعدادها.
كذلك نصت اللائحة على أن تدرس مادة الترجمة دراسة عملية لتلاميذ المدرسة، فإنه «لما كان من أغراض المدرسة تخريج مترجمين وموظفين لفروع الإدارة المصرية، فقد أشارت اللائحة بأن يقدم للتلاميذ بعد تقدمهم في اللغة الفرنسية كتب في التاريخ سهلة، وتترجم لهم درسا درسا، حتى إذا تمت ترجمة الكتاب وإصلاحه قامت المطبعة على طبعه. وإنه لأجل حصول ائتلاف التلامذة بالمصالح المصرية تقدم للمدرسة نسختان من الوقائع المصرية، وتترجم لتلاميذها المواد المشتملة على عمارية الملك بجرنالات أوروبا.»
1
غير أن هذه المدرسة لم تعمر طويلا، فقد ألغيت بعد قليل، ونقل تلاميذها إلى مدرسة الألسن في آخر سنة 1251ه/1836م. (1-2) مدرسة التاريخ والجغرافيا
أنشئت في حدود سنة 1250ه، وألحقت بمدرسة المدفعية. وكان ناظرها ومدرسها الوحيد هو رفاعة رافع الطهطاوي. وكان القصد من إنشائها تخريج مدرسين للجغرافيا في المدارس الحربية المختلفة. وقد ألغيت هذه المدرسة عند إنشاء مدرسة الألسن. وقد فصلنا الكلام عنها في الفصل السابق.
وبهذا كانت هاتان المدرستان الخطوتين التمهيديتين لإنشاء مدرسة الألسن. (1-3) مدرسة الألسن
أنشئت في أوائل سنة 1251ه/1835م باسم مدرسة الترجمة، ثم غير اسمها فأصبح مدرسة الألسن، وجعل مقرها السراي المعروفة ببيت الدفتردار بحي الأزبكية حيث فندق شبرد الآن.
وقد أنشئت هذه المدرسة تحقيقا لاقتراح تقدم به رفاعة لمحمد علي باشا. يقول علي مبارك: «ثم عرض (أي رفاعة) للجناب العالي أن في إمكانه أن يؤسس مدرسة ألسن يمكن أن ينتفع بها الوطن ويستغني عن الدخيل، فأجابه إلى ذلك، ووجه به إلى مكاتب الأقاليم لينتخب منها من التلامذة ما يتم به المشروع، فأسس المدرسة.»
وكان تلاميذ المدرسة في أول عهدها ثمانين تلميذا. اختار رفاعة معظمهم من مكاتب الأقاليم، وضم إليهم تلاميذ مدرسة الإدارة الملكية بعد إلغائها، ولكن هذا العدد زاد بعد ذلك حتى أصبح مائة وخمسين. وكانوا ينقسمون إلى قسمين ويرأس كل قسم أستاذه ويساعده بعض التلاميذ المتقدمين.
وكانت مدة الدراسة بالمدرسة 5 سنوات قد تزداد إلى ست ، كما أنه كان «لشورى المدرسة الداخلي - أي مجلس إدارتها - الحق في تعديل منهاج الدراسة بها. وكان هذا المنهاج ينص على أن تدرس بها اللغات العربية والتركية والفرنسية، والحساب، والجغرافيا، ثم أضيفت بعد ذلك دراسة التاريخ، وأرسلت المدرسة إلى أوروبا لشراء كتب فرنسية في الأدب والقصص والتاريخ.»
وفي سنة 1255ه/1839م اكتملت المدرسة، وأصبح بها 5 فرق ، وخرجت أول فريق من تلامذتها. وكان تلاميذ الفرقة الأولى (أي الأخيرة) «يترجمون كتبا في التاريخ والأدب، ويقوم على إصلاحها أستاذهم ومدير مدرستهم رفاعة رافع، ثم تقدم إلى المطبعة فتطبع وتنشر كتبا يقرؤها المدرسون والتلاميذ ...»
غير أن العناية بتدريس اللغات في مدرسة الألسن لم تكن في درجة واحدة؛ فقد كانت العناية كبيرة بتدريس اللغتين العربية والفرنسية؛ وذلك لأسباب واضحة، منها: أن كل التلاميذ كانوا من المصريين الذين يعرفون العربية ولا يعرفون التركية. ومنها أن ناظر المدرسة وأستاذها رفاعة كان يتقن هاتين اللغتين.
ومع هذا فقد درست اللغة الإنجليزية وقتا ما بمدرسة الألسن كما يقرر الدكتور عزت عبد الكريم، وقام على تدريسها مدرس إنجليزي، وقرأ التلاميذ قصصا وكتبا في قواعد اللغة الإنجليزية. وقد ذكر السيد صالح مجدي في كتابه «حلية الزمن» - عند كلامه عن تلاميذ رفاعة - أن من بين من نبغ في اللغة الإنجليزية من خريجي الألسن «محمد أفندي سليمان مدرس اللغة الإنجليزية بالمدارس الحربية، وأول من برع في الترجمة من الإنجليزية.» أما اللغة التركية فكانت العناية بها ضعيفة للأسباب السابقة، ولأنه «كان من الصعوبة بمكان أن تجد الحكومة مترجما يحذق اللغات العربية والتركية والفرنسية جميعا.»
2
مدرسو المدرسة
ذكر في لائحة المدرسة أن هيئة التدريس بها تتكون من: (1)
مديرها. (2)
مراقبان للمدرسة. (3)
أستاذان للغة العربية. (4)
أستاذ للغة التركية. (5)
ثلاثة أساتذة لتدريس اللغة الفرنسية والرياضة والتاريخ والجغرافيا. أما مدير المدرسة فهو زعيم النهضة العلمية في عصر محمد علي، العالم الكبير رفاعة رافع الطهطاوي، وقد كان من واجباته: (1)
أن يشرف على المدرسة من الناحيتين الفنية والإدارية. (2)
أن يدرس للتلاميذ الأدب والشرائع الإسلامية والغربية. (3)
أن يختار الكتب التي يرى ضرورة ترجمتها ، ويوزعها على المترجمين من تلاميذ المدرسة وخريجيها الملتحقين بقلم الترجمة، ويشرف على توجيههم أثناء قيامهم بالترجمة، ويقوم بمراجعة الكتب وتهذيبها بعد ترجمتها. يقول حسن قاسم أحد خريجي الألسن في مقدمة كتاب «تاريخ ملوك فرنسا»: «ولما تم هذا التعريب لحظه بنظر التصحيح والتهذيب حضرة رفاعة بك ناظر مدرسة الألسن وقلم الترجمة، فشيد مبنى ألفاظه وأحكامه.» (4)
وكان رفاعة يرأس كل عام لجنة امتحان تلاميذ مكاتب المبتديان بالأقاليم، فيسافر إليها في النيل، ويمتحن تلاميذها، ويصطحب المتفوقين منهم ليلحقهم بالمدرسة التجهيزية الملحقة بمدرسة الألسن.
وكان إخلاص رفاعة لمهنته يدفعه إلى عدم التقيد بأوقات محددة للدراسة، فكان يستمر في الدرس ثلاث أو أربع ساعات ما دام يجد في نفسه رغبة وفي تلاميذه قبولا. يقول علي مبارك باشا: «كان دأبه في مدرسة الألسن، وفيما اختاره للتلاميذ من الكتب التي أراد ترجمتها منهم، وفي تأليفاته وتراجمه خصوصا، أنه لا يقف في ذلك اليوم أو الليلة على وقت محدود، فكان ربما عقد الدرس للتلامذة بعد العشاء أو عند ثلث الليل الأخير، ومكث نحو ثلاث أو أربع ساعات على قدميه في درس اللغة أو فنون الإدارة أو الشرائع الإسلامية والقوانين الأجنبية، وله في الأولى مجاميع لم تطبع. وكذلك كان دأبه معهم في تدريس كتب فنون الأدب العالية، بحيث أمسى جميعهم في الإنشاءات نظما ونثرا أطروفة مصرهم، وتحفة عصرهم. ومع ذلك كان هو بشخصه لا يفتر عن الاشتغال بالترجمة والتأليف. وكانت مجامع الامتحانات لا تزهو إلا به.»
وقد أرهقت هذه الأعمال الكثيرة رفاعة فعين له ديوان المدارس مدرسا فرنسيا ليقوم بمساعدته في إدارة المدرسة والتفتيش على الدروس وأمانة المكتبة.
أما مدرسو اللغة العربية فكانوا نخبة من مشايخ الأزهر الممتازين في معرفتهم وحبهم للقراءة والبحث والتنقيب. ذكر منهم علي مبارك: (1)
الشيخ الدمنهوري. (2)
الشيخ علي الفرغلي الأنصاري (ابن خال رفاعة). (3)
الشيخ حسنين حريز الغمراوي. (4)
الشيخ محمد قطة العدوي. (5)
الشيخ أحمد عبد الرحيم الطهطاوي. (6)
الشيخ عبد المنعم الجرجاوي. (7)
حسن أفندي (باشخوجة المدرسة).
أما مدرسو اللغة الفرنسية فهم: (1)
مسيو «كوت»، وقد خلفه بعد وفاته «إسكندر دوده». (2)
مسيو «بيتيير». (3)
مسيو «ديزون» وهو الذي اختير لمساعدة رفاعة ولأمانة المكتبة.
وقد حقق خريجو مدرسة الألسن الغرض من إنشاء المدرسة، فعين المتقدمون من أول فريق تخرج في سنة 1839م مدرسين للغتين العربية والفرنسية في نفس المدرسة وفي مدرسة المهندسخانة.
ولما أنشئ قلم الترجمة في أوائل سنة 1258ه/1841م ألحق به كل خريجي المدرسة. غير أن الواحد منهم لم يكن يمنح الرتبة حتى يترجم كتابا «يحوز الرضا السامي». وقد ألحق كثيرون منهم مدرسين بالمدارس الأخرى أو موظفين بالمصالح المختلفة.
نمو المدرسة واتساعها
وظهر للباشا ما للمدرسة من فوائد جليلة، وأدرك ما بلغته من نجاح، فظل يعمل على تنميتها: (1)
ففي سنة 1841م ألحقت بها المدرسة التجهيزية التي كانت قبلا في أبي زعبل. (2)
وفي سنة 1260ه/1845م أنشئ بالمدرسة قسم لدراسة الإدارة الملكية لتخريج الموظفين الإداريين للعمل «في المديريات والمصالح والضابط خانة.» (3)
وفي نحو سنة 1262ه أنشئ بها قسم ثان لدراسة الإدارة الزراعية الخصوصية. (4)
وفي أواخر سنة 1263ه أنشئ بها قسم لدراسة العلوم الفقهية. وكان عدد تلاميذه كما يقرر الدكتور عبد الكريم «أربعين تلميذا، ويتلقون دروسا في الفقه على المذهب الحنفي حتى إذا أتموا دراستهم عينوا قضاة بالأقاليم «حيث إن أكثر القضاة ليسوا علماء».»
وقد أدى هذا النمو إلى ازدحام المدرسة بالطلاب حتى كان التلاميذ من فرق مختلفة يجلسون في حجرة واحدة لتلقي علوم متباينة على أساتذة متباينين، فعمل رفاعة على تنظيم بناء المدرسة حتى صار «لكل درس محل مخصوص بباب مخصوص.»
قلم الترجمة
أنشئت هذه الفروع جميعا لتخريج الموظفين الإداريين والقضاة. غير أن طلبتها تعلموا اللغات الأجنبية، وتلقوا علوما جديدة حديثة إلى جانب العلوم العربية القديمة، وشاركوا إلى حد ما في حركة الترجمة. ولكن من الواجب أن نذكر هنا كلمة عن فرع المدرسة الذي يتصل اتصالا وثيقا بموضوعنا، وهو قلم الترجمة:
أنشئ في أوائل سنة 1258ه/1841م تنفيذا لإشارة لجنة تنظيم التعليم (1841م)، فقد رأت اللجنة أنه «لما كانت الكتب الجاري ترجمتها معدودة آثارا خيرية من مآثر سمو مولانا الخديو الأعظم الذي تخلد اسمه الكريم إلى أبد الآبدين، فلا شك في أن الواجب يقضي بأن تكون التراجم مضبوطة، مستوفية حقها من الصحة، سليمة من الخطأ. فلهذا، ولكون ترجمة كتب العلوم والفنون ليست مقصورة على معرفة اللغة فحسب، بل متوقفة أيضا على الإلمام بالعلم أو الفن المترجم كتابه، فقد أنشأت اللجنة غرفة الترجمة الخاصة بالمترجمين ...»
وقسمت هذه الغرفة إلى أربعة أقلام: (1)
قلم ترجمة الكتب العلمية والرياضية، ورئيسه «البكباشي محمد بيومي أفندي» يعاونه «ملازم» متخرج في مدرسة الألسن وخمسة من تلاميذ فرقتها الأولى. (2)
قلم ترجمة كتب العلوم الطبية والطبيعية، ويشرف عليه «اليوزباشي مصطفى واطي أفندي» أحد مدرسي مدرسة الطب البشري، وتحت رئاسته ملازم من مدرسة الألسن وثلاثة من تلاميذها. (3)
قلم ترجمة المواد الاجتماعية أو «الأدبيات» كالتاريخ والجغرافيا والمنطق والأدب والقصص والقوانين والفلسفة ... إلخ، ورئيسه الملازم الأول خليفة محمود أفندي أحد مدرسي مدرسة الألسن وخريجيها، وألحق به ملازم ثان وثلاثة من تلاميذ المدرسة. (4)
قلم الترجمة التركية، ويشرف عليه ميناس أفندي المترجم بديوان المدارس، وتحت إمرته أربعة من تلاميذ المدرسة.
ثم ألحق بهذه الأقسام عدد من المبيضين لتبييض الكتب بعد ترجمتها وإرسالها إلى ديوان المدارس للاطلاع عليها، فكان يشير بطبع النافع القيم منها. (1) مصير هذه المؤسسة
عاشت مدرسة الألسن نحو الخمسة عشر عاما بدأت فيها تسيطر على شئون الثقافة العامة في مصر، وأنتجت في إبانها الإنتاج العلمي الوفير. فلما ولي العرش عباس الأول - ولم يكن على انسجام مع رجال جده وعمه، وخاصة رفاعة - أخذ يسعى سعيه للقضاء على هذه المدرسة، فبدأ بإلغاء قسم الفقه بالمدرسة، ثم ثنى بتصفية تلاميذ المدرسة وفصل عدد كبير منهم. يقول الدكتور عزت عبد الكريم: «وفي الشهر الأخير من عام 1265ه/أكتوبر 1849م صدر الأمر بنقل مدرسة الألسن إلى مكان مدرسة المبتديان بالناصرية. وبذلك حرمت المدرسة من مكانها ... وضاق بها مكانها الجديد حتى اضطروا إلى نقل الكتبخانة الأفرنكية والأنتيكات إلى المهندسخانة ببولاق. ولم تمض أيام على ذلك حتى ألغيت مدرسة الألسن في المحرم سنة 1266ه (نوفمبر سنة 1849م) وضم تلامذتها إلى التجهيزية قبيل إلغائها.» وفي أواخر سنة 1266ه سافر رفاعة إلى الخرطوم ليكون ناظرا ومدرسا لمدرسة الخرطوم الابتدائية؛ ولهذا حديث مفصل نذكره بعد قليل.
أما قلم الترجمة فقد خضع لتجربة جديدة في الشهور القليلة التي ولي فيها إبراهيم باشا، وصدر الأمر بتقسيمه تقسيما جديدا إلى قلمين: قلم للترجمة التركية ويشرف عليه «كاني بك»، وقلم للترجمة العربية ويشرف عليه رفاعة بك. وجعلت الرئاسة العليا لكاني بك، فقد نشرت الوقائع المصرية في العدد 127 الصادر في 26 ذي القعدة سنة 1264ه: «لما كانت ترجمة الكتب المرغوبة التي تشتمل على القوانين والتراتيب والآداب وسائر العلوم والفنون النافعة من اللغة الفرنساوية إلى التركية والعربية وطبعها ونشرها وسيلة عظمى لتكثير المعلومات المقتضية، وقضية مسلمة عند أولي النهى، وكان حصول ذلك لا يتأتى إلا بوجود المترجمين البارعين في ألسنة الإفرنجي والتركي والعربي، واجتماعهم في محل واحد، وقسمهم إلى قلمي ترجمة، وضمهم إلى نظارة حضرة أمير اللواء كاني بك وكيل ديوان التفتيش الفريد في فن الترجمة، المشهور بالسلاسة والبلاغة، حصل فتح القلمين كما ذكر. وقد تعين حضرة رفاعة بك أمير الآلاي الذي كان ناظر مدرسة الألسن التابعة إلى ديوان المدارس ناظرا على قلم الترجمة العربي في معية حضرة المومأ إليه ...»
ويقول الدكتور عزت عبد الكريم في كتابه الذي لم يطبع بعد عن تاريخ التعليم في عصر عباس وسعيد:
1 «على أن إلغاء مدرسة الألسن في نوفمبر سنة 1849م لا شك قد أثر أثرا بليغا في قلم الترجمة ورجاله، فقد حرمه الدعامة القوية التي كان يرتكن عليها في عمله الفني وحرم المصدر الذي كان قائما على تغذيته بالمترجمين. كما حرم ناظره رفاعة بك المكانة السامية التي كانت له في دوائر التعليم. وبعد أشهر رحل رفاعة إلى السودان ولم يستطع القلم أن يقف بعد فقد مؤسسه ومديره فتشتت رجاله ...»
جهود أخرى
(1) مراجعة الكتب المترجمة في الفنون المختلفة
ستة عشر عاما ظل فيها رفاعة ناظرا للألسن، ومدرسا بها، ومديرا لها، ومشرفا على قلم الترجمة، ومصححا لجميع الكتب التي ترجمها تلاميذه. ومع هذا فقد كان يلجأ إليه - في تلك الفترة - المترجمون من أعضاء البعثات في المدارس الخصوصية الأخرى لمراجعة ما يترجمون من كتب، فقام - وهو يدير الألسن - بمراجعة وتصحيح كتب مختلفة في الطب والجغرافية والرياضيات.
ففي سنة 1252ه/1837م ترجم محمد أفندي عبد الفتاح كتاب «تحفة القلم في أمراض القدم» (طب بيطري)، «وقابله على أصله الفرنسي العمدة الفاضل، والحجة الكامل، من لا ينازعه في الفصاحة منازع، حضرة رفاعة أفندي رافع.»
وفي سنة 1257ه ترجم نفس المترجم كتاب «نزهة المحافل في معرفة المفاصل»، وبعد أن قام على تصحيحه الشيخ مصطفى حسن كساب «قابله على أصله الفرنساوي قدوة الأفاضل، وعمدة الأماثل، اللوذعي البارع، رفاعة أفندي رافع.»
ولما عاد السيد أحمد الرشيدي من بعثته الطبية عهد إليه ديوان المدارس بترجمة كتاب «الدراسة الأولية في الجغرافيا الطبيعية». ومع امتيازه في الترجمة، وحذقه للغة العربية، رأى ألا يقدم الكتاب إلى المطبعة إلا بعد أن يراجعه مدرس الجغرافيا ومترجم كتبها رفاعة أفندي. يقول الرشيدي في خاتمة كتابه: «... ولما كمل حسب الطاقة تصحيحا، وتم تهذيبا وتنقيحا، رأيته يحتوي على أسماء بلاد كثيرة وأنهار ونحو ذلك، لست في ترجمتها إلى العربية قوي البضاعة؛ لأني وإن كنت درست أصول الجغرافيا بالأوروبا إلا أنني لم أتخذها صناعة، فجزمت أن لا مرد لها إلا العمدة الفاضل، والسيد الكامل، الحاذق اللبيب، والنحرير النجيب، رفاعة أفندي معلم الجغرافيا الطبيعية، ومن له في هذا الفن التآليف والتراجم البهية، فأعرضت (كذا) للديوان أن لا بد من مقابلته مع هذا الهمام، فأجبت لذلك وبلغت من سؤلي المرام، وقابلته على أصله مع غاية الانتباه والإتقان ... إلخ.»
وقد طبع هذا الكتاب في شهر ربيع الأول سنة 1254ه.
وفي سنة 1257ه ترجم أحمد أفندي فايد المدرس بالمهندسخانة كتاب «الأقوال المرضية في علم بنية الكرة الأرضية». وقام على تصحيحه الشيخ إبراهيم الدسوقي، ثم «قوبلت ترجمته بأصله على حسب الاقتدار، على يد مصطفى بهجت أفندي، ورفاعة أفندي بأمر المختص من المعارف بالنفائس، سعادة أدهم بك مدير ديوان عموم المدارس ...» (2) تنظيم الوقائع المصرية
وفي هذه الفترة أيضا، في سنة 1257ه، عهد إلى رفاعة بتنظيم صحيفة الوقائع المصرية والإشراف على تحريرها، فأحدث فيها تغييرات جمة وخطا بها وبتحريرها خطوات واسعات. ففي تلك السنة اجتمعت لجنة مكونة من سعادة مدير المدارس، والبك الترجمان، وكاني بك، ومحمود بك مدير الإيرادات، وغيرهم. وذلك للنظر - تنفيذا لرغبة الجناب العالي - «في وضع خطة سديدة تضمن صدور الوقائع على الوجه الأكمل كما هو الحال في الممالك الأخرى.» ورأت اللجنة بعد اجتماعها في 27 ذي القعدة سنة 1257ه/11 يناير 1842م «أن الغرض من طبع الوقائع إنما هو لنشر الأخبار الحديثة على الناس حتى يستفيد منها كل إنسان. ولا يجب الاكتفاء بنشر أخبار مصر فحسب. وقد أصبح من اللازم إضافة بند للحوادث الخارجية في الجريدة؛ حتى يتقبلها الناس برغبة وشوق ... وحيث إن نشر مثل هذه الأخبار يتوقف على قراءة الجرائد التي تنشر في الخارج، ويستوجب أن يكون الموظف المشرف على ترتيب الجريدة وتنظيمها ملما باللغتين. وعلى ذلك فقد تقرر إحالة أعمال ترجمة المواد المناسبة من الجرائد، وعلاوة بعض قطع أدبية من الكتب الأدبية، وانتخاب أخبار الملكية، وترتيب الجريدة المصرية بصفة عامة على حضرة الشيخ رفاعي (كذا) أفندي ناظر مدرسة الألسن لوجود مترجمين جاهزين في هذه المدرسة ... وحيث إن حضرة الشيخ رفاعي سيضع أصول الجريدة بحسب اللغة العربية، فتحال أعمال إفراغ الترجمة في قالب حسن بدون الإخلال بالأصل العربي، وتنظيم المواد حسب النظام التركي على حضرة حسين أفندي ناظر المطبعة العامرة ... وحيث إن الحوادث الأجنبية معتاد تقديمها إلى الجناب العالي بعد ترجمتها إلى اللغة التركية، فيكلف البك المترجم بانتخاب المناسب منها وإرسال صورها إلى ديوان المدارس. فبهذه الطريقة يمكن نشر الجريدة أسبوعيا ...»
1
وهكذا عهد إلى رفاعة - تنفيذا لهذا القرار- «أعمال ترجمة المواد المناسبة من الجرائد الأجنبية، وعلاوة بعض قطع أدبية، وانتخاب أخبار الملكية، وترتيب الجريدة المصرية بصفة عامة.» وقد قام رفاعة بهذا العمل الجديد خير قيام، وطبع الوقائع في عهد تحريره بطابع جديد مستعينا في هذا بخبرة طويلة وثقافة فرنسية وعربية واسعة. قدر هذا التأثير الجديد وهذه الجهود الفذة الدكتور إبراهيم عبده في كتابه عن تاريخ الوقائع المصرية، فقال: «وكان لمكانة رفاعة الطهطاوي أثر كبير في تقدير الصحيفة واعتبارها، واحترام لغة البلاد فيها؛ فإن مكان اللغة قد تبدل، فأصبحت العربية في الناحية اليمنى تتصدر الجريدة في صفحاتها الأربع، وأخذت التركية مكان اليسار ...» وقال أيضا: «وقد استطاع رفاعة أن يفرض وجوده وشخصيته في تحرير الجريدة بالرغم من تعيين الحكومة لأرتين بك مشرفا على أخبارها الداخلية فيما بعد بحيث تمكن من إهماله والانتصار عليه ... ومن أهم ما لاحظناه منذ تعيين الطهطاوي أن ناظر الوقائع أصبح في المرتبة الثانية بالنسبة لمحررها. وقد بذل رفاعة جهده في رعاية الصحيفة، وأضاف فيها، وحورها تحويرا يليق بفهمه ويتصل بإدراكه. واستعان في ذلك بفئة من المحررين، أهمهم: أحمد فارس الشدياق، والسيد شهاب الدين تلميذ العطار ومساعده
2
على أن المظهر الهام حقا الذي ظهرت به الوقائع في عهدها الجديد - عهد رئاسة رفاعة لتحريرها - هو التغير الواضح في موضوعاتها التي انتقلت فجأة - كما يقول الدكتور إبراهيم عبده - «من توافه الأخبار والحوادث والافتتاحيات الثقيلة المحشوة مديحا وثناء للوالي، بمبرر وبغير مبرر، إلى موضوعات رئيسية لها خطرها، لا في الشرق وحده، بل في أوروبا في ذلك الوقت ...»
قام رفاعة بهذه الجهود الشاقة خير قيام، وبذل لها كل وقته وتفكيره. وكان يدفعه إلى الإخلاص في عمله والتفاني في أداء واجبه وازع قوي من ضميره الحي، وحب لوطنه وبنيه، وتشجيع مستمر من «ولي النعم» محمد علي باشا وأولاده؛ ففي سنة 1260ه أنعم على رفاعة برتبة القائمقام، وفي 14 ذي الحجة 1263ه أنعم عليه برتبة أمير آلاي لمناسبة انتهائه من ترجمة مجلد آخر من جغرافية «ملطبرون». وبهذا الإنعام الأخير أصبح يدعى رفاعة بك، بعد أن كان يدعى فيما مضى بالشيخ رفاعة، أو مسيو رفاعة (وذلك في باريس)، أو رفاعة أفندي.
وقد أنعم عليه محمد علي بمائتين وخمسين فدانا، وأقطعه إبراهيم باشا حديقة نادرة المثال في الخانقاه تبلغ ستة وثلاثين فدانا، وأنعم عليه سعيد باشا بمائتي فدان، وإسماعيل باشا بمائتين وخمسين فدانا.
في السودان
في 13 ذي الحجة سنة 1264ه/10 نوفمبر 1848م توفي إبراهيم باشا. وفي 27 من نفس الشهر تولى عرش مصر عباس باشا الأول، وكان محمد علي لا يزال حيا يعاني من مرضه الأخير، فلم يجرؤ عباس على تغيير ما يريد تغييره من الأوضاع القديمة. وفي 12 رمضان سنة 1265ه/2 أغسطس 1849م انتقل محمد علي إلى الرفيق الأعلى، فاستقل عباس بالأمر.
ولم يكن عباس كجده وعمه، بل لعله كان على النقيض منهما؛ ولهذا يكاد يجمع مؤرخو عصره على وصفه بالجمود والرجعية. فالأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك يرى أنه كان «قبل ولايته الحكم وبعد أن تولاه خلوا من المزايا والصفات التي تجعل منه ملكا عظيما يضطلع بأعباء الحكم ويسلك بالبلاد سبيل التقدم والنهضة ... وبالجملة فلم تكن له ميزة تلفت النظر سوى أنه حفيد رجل عظيم أسس ملكا كبيرا، فصار إليه هذا الملك دون أن تئول إليه مواهب مؤسسه، فكان شأنه شأن الوارث لتركة ضخمة جمعها مورثه بكفاءته وحسن تدبيره وتركها لمن هو خلو من المواهب والمزايا ...»
ويرى المؤرخ الإيطالي «ساماركو»: «أن أظهر ما تتسم به حكومة عباس عداؤه الوحشي للحضارة الغربية، وكرهه العنيف لجميع الأعمال التي كونت مجد جده، والتي بذل هو كل الجهد في تحطيمها شيئا فشيئا ...»
ويرى الدكتور عزت عبد الكريم أن عباسا «أظهر منذ تولى الحكم في مصر أنه لن يكون الحاكم الذي يتابع سياسة جده ويحنو على مؤسساته ويؤيد نظمه.» وأن «سيرته في الإصلاح الداخلي كانت فشلا متصلا. ولا يشفع له في ذلك أن حكمه كان قصيدا ...» والسبب الأساسي لهذا كله في نظره يرجع إلى أن «سياسة عباس قامت على تسفيه الجهود التي بذلها محمد علي وإبراهيم في ميدان الإصلاح الداخلي، والسياسة التي اعتقد أنهما كانا يتمسكان بها ويدعوان إليها في تقريبه علاقات مصر بالدولة العثمانية والدول الأوروبية ...»
فإذا فهمنا سياسة عباس الأول على هذا الأساس، لم يكن من العسير إذن أن نفهم لم أقفلت معظم المدارس الخصوصية في أول عهده. وكانت مدرسة الألسن أول مدرسة ألغيت؛ وذلك أن مؤسسها وناظرها كانا من المقربين لمحمد علي وإبراهيم الحائزين لثقتهما؛ لهذا نشأ بين عباس ورفاعة نوع من الكراهية وسوء التفاهم.
لم يوضح رفاعة نفسه ولم يوضح المؤرخون المعاصرون أسبابه الحقيقية، مما دعا المؤرخين المحدثين إلى أن يذهبوا في تفسيره مذاهب شتى؛ فالأستاذ الرافعي بك يرى أن لكتاب رفاعة «تخليص الإبريز» «سببا يتصل بنفيه؛ إذ لا يخفى أنه طبع للمرة الثانية سنة 1265ه، أي في أوائل عهد عباس باشا. والكتاب ... يحوي آراء ومبادئ لا يرغب فيها الحاكم المستبد. وعباس باشا الأول كان في طبعه مستبدا غشوما، فلا بد أن الوشاة قد لفتوا نظره إلى ما في كتاب رفاعة بك مما لا يروق عباس، فرأى أن يبعده إلى الخرطوم ليكون السودان منفى له. ولا غرابة في ذلك، فلو أن هذا الكتاب ظهر في تركيا على عهد السلطان عبد الحميد لكان من المحقق أن يكون سببا في هلاك صاحبه، فمن الجائز أن يكون عباس باشا قد رأى نفي رفاعة وأمثال رفاعة إلى السودان ليبعدهم ويبعد أفكارهم وثقافتهم عن مصر، واتخذ لنفيهم صورة ظاهرة وهي إنشاء مدرسة بالخرطوم ...»
أما الدكتور عزت عبد الكريم فيرى أن هناك احتمالين لإبعاد رفاعة إلى السودان، أولهما: سعي علي مبارك «الذي عاد من أوروبا مليئا بالأطماع والذي كان يحقد على رفاعة ما أصاب من مكانة. وقد قرب عباس إليه علي مبارك وأبعد رفاعة إلى السودان، فلما خلفه سعيد قرب إليه رفاعة وأبعد علي مبارك إلى القرم. والثاني: ما يحتمل أن يكون رفاعة قد لقيه من معارضة بعض المشايخ المتعصبين الذين ربما عدوه متطفلا على ميدانهم في دراسة الشريعة والفقه ...»
وهذه كلها تفسيرات احتمالية أو اجتهادية تفتقر إلى سند تاريخي مادي. وأصدق منها في نظري ما ذكره رفاعة نفسه من أنه سافر إلى السودان «بسعي بعض الأمراء بضمير مستتر بوسيلة نظارة مدرسة بالخرطوم.» وإن كان لم يذكر أسماء هؤلاء الأمراء أو ماهية الوشاية التي وشوا بها ضده.
غير أنه عاد فأشار إليهم وإليها في إيضاح مستتر في قصيدة نظمها وهو في السودان مستغيثا مما هو فيه بحسن باشا كتخدا مصر، قال فيها:
وما خلت العزيز يريد ذلي
ولا يصغي لأخصام لداد
لديه سعوا بألسنة حداد
فكيف صغى لألسنة حداد
مهازيل الفضائل خادعوني
وهل في حربهم يكبو جوادي
وزخرف قولهم إذ موهوه
على تزييفه نادى المنادي
فهل من صيرف المعنى بصير
صحيح الانتقاء والانتقاد
قياس مدارسي قالوا عقيم
بمصر فما النتيجة في بعادي؟
إلخ ...
ويقول الأستاذ أحمد أمين بك: «وكان الشيخ ماكرا فقد وضع القصيدة على وزن وقافية:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
ومهما تكن الأسباب الحقيقية، فإن عباسا قد أوعز في شهر رجب سنة 1266ه إلى المجلس المخصوص برغبته. واقترح هذا المجلس أن تؤسس مدرسة بالأقاليم السودانية إنقاذا لأولاد أهلها والمستوطنين بها من جحيم الجهل، وأن يقوم على تأسيسها ونظارتها رفاعة بك، وأن يشترك معه في التدريس علم من أعلام النهضة العلمية التعليمية في عصر محمد علي؛ وهو محمد أفندي بيومي أستاذ الرياضيات في المهندسخانة ورئيس أحد أقلام غرفة الترجمة. وإنه من الجميل حقا أن نسجل لحكومة عباس أنها أول من فكرت في إنشاء مدرسة مصرية في ربوع السودان، لو أنه كان خالص النية صادق الرغبة في خدمة السودان وأبنائه، ولكنه لم يكن كذلك، وإلا فإن إنشاء مدرسة ابتدائية في الخرطوم لم يكن يستلزم أن يشرف عليها ويقوم بالتدريس فيها كبيرا رجال النهضة العلمية في مصر: رفاعة وبيومي. ومع هذا فإن قرار المجلس المخصوص أخفى الأسباب الحقيقية وأظهر لنا الغرض من إنشاء المدرسة في صورة أخاذة براقة؛ فقد ذكر في هذا القرار أنه: «لما كانت الأقاليم السودانية من البلاد الجسيمة، ولما لم يكن قد أنشئت في تلك الديار المتسعة مدرسة يربى فيها أولاد مشايخها، وغيرهم من أهلها، وأولاد الأتراك الذين ذهبوا إلى تلك الديار وتوطنوا بها منذ أعوام خلت، وكذلك أحفادهم، ليتعلموا فيها الفنون والقراءة والكتابة فيزدادوا ثقافة وفطنة، ولما كان المجلس المخصوص قد تشاور في جلسته التي عقدها أخيرا، فقرر أمر إنشاء مدرسة بتلك البلاد بغية إنقاذ أولادها من ظلمات الجهل وتنويرهم بأنوار المعارف بمقتضى مراحم الذات الخديوية والمكارم السنية التي شملت جميع الرعايا والبرايا، فقد قر الرأي على أن تفتح هذه المدرسة في عاصمة الخرطوم، وأن يكون نظامها موافقا لأصول المدارس المصرية وعلى نمط ترتيب مدرستي المبتديان والتجهيزية، وأن يقبل ويسجل فيها نحو مائتين وخمسين غلاما من أولاد المشايخ، والأهلين القاطنين بدنقلة والخرطوم وسنار وتاكة وملحقاتها، وكذلك من أولاد الأتراك الذين توطنوا بتلك الديار وأحفادهم. هذا ويولى عليها ناظر ملم بأصول المدارس ليتمكن من ترتيبها كما ينبغي وتنظيمها على أحسن وجه، فاستحسن المجلس اختيار أمير الآلاي رفاعة بك الذي بديوان المدارس ناظرا للمدرسة المذكورة وإرساله إلى تلك الديار، وانتخاب المعلمين الذين تحتاج إليهم تلك المدرسة برأي البك المشار إليه ... إلخ».»
قضى رفاعة في السودان نحو ثلاث سنوات قاسى فيها الأمرين، لا كرها في السودان، فهو القائل على لسان مصر والسودان:
نحن غصنان ضمنا عاطف الوج
د جميعا في الحب ضم النطاق
في جبين الزمان منك ومني
غرة كوكبية الإنفلاق
إنما آلمه في السودان شعوره بأنه منفي، وتألمه لما أصاب معظم زملائه من مرض ووفاة، وخاصة بيومي أفندي صديقه في باريس ومصر، ووفيه في الجهاد العلمي، وصاحبه في السراء والضراء؛ يؤيد هذا قوله في قصيدته السابق الإشارة إليها:
وحسبي فتكها بنصيف صحبي
كأن وظيفتي لبس الحداد
ومع ذلك فقد تذرع هناك بالصبر والإيمان، وقام بواجبه في مدرسة الخرطوم خير قيام، وتخرج على يديه بعض أبناء مصر والسودان. وقد بث شكواه في قصائد كثيرة تعد من أجل ما قال من شعر. ولم ينس أخيرا عمله الذي أحبه وأخلص له، وهو الترجمة، فشغل وقت فراغه بترجمة قصة «تليماك» التي طبعها أحد تلاميذه فيما بعد في بيروت بعنوان «مواقع الأفلاك في وقائع تليماك»، وقد أشار في مقدمتها إلى ما كان يحس وهو في منفاه من ألم ممض وكيف استعان على تحمل هذا الألم باشتغاله بترجمة هذا الكتاب، قال: «وإنما فقط لما توجهت بالقضاء والقدر إلى بلاد السودان، وليس فيما قضاه الله مفر، أقمت برهة خامد الهمة، جامد القريحة في هذه الملمة، حتى كاد يتلفني سعير الإقليم الغائر بحره وسمومه، ويبلعني فيل السودان الكاسر بخرطومه ... فما تسليت إلا بتعريب «تليماك»، وتقريب الرجاء بدور الأفلاك ...»
أمير الآلاي رفاعة بك
ناظر المدرسة الحربية بالقلعة
في 20 شوال سنة 1270ه/يوليو 1854م تولى سعيد باشا عرش مصر، فأسرع رفاعة ورفاقه بالعودة إلى مصر. وسرعان ما تكررت الرواية القديمة؛ فكما أن عباسا عند توليه الحكم قد أبعد رفاعة إلى السودان وقرب إليه علي مبارك وعينه ناظرا لمدرسة المهندسخانة وعهد إليه بالإشراف على شئون التعليم، كذلك بدأ سعيد فأرسل علي مبارك ليكون قائدا من قواد الحملة المصرية إلى القرم وقرب إليه رفاعة وحباه بعطفه.
بدأ رفاعة يرسم لنفسه الخطط ويعقد الآمال العريضة. ونظم في هذه الفترة القصائد الكثيرة يمدح بها سعيدا ويشيد بصفاته وعهده. غير أن سعيدا لم يلبث أن أصدر أوامره في 10 ربيع الأول سنة 1271ه بإلغاء ديوان المدارس وتصفية حساباته.
ومع هذا لم ييأس رفاعة، فقد كان إلى جانبه عظيم من عظماء العهد المحمدي العلوي: هو إبراهيم أدهم بك ناظر ديوان المدارس (في عهد محمد علي). وكان هذا الرجل قد وضع في أواخر عهد محمد علي مشروعا لنشر التعليم بين عامة أفراد الشعب المصري، وهو مشروع «مكاتب الملة»، فلما تولى عباس الأول الحكم أبعد أدهما فيمن أبعد. وفي عهد سعيد بدأ أدهم يعيد النظر في مشروعه، وأشرك معه رفاعة في إعادة تنظيمه وتنقيحه، ثم تقدم به إلى الوالي الجديد سعيد باشا، واقترح كما يقول الدكتور عزت عبد الكريم «تعيين رفاعة بك ناظرا عاما على هذه المكاتب على أن يلحق به مترجمون لإتمام ترجمة كتاب ملطبرون الذي تمت ترجمة أجزاء منه في عهد محمد علي، وغيره من الكتب الصالحة ...»
1
ولكن يبدو أن سعيدا لم يكن يؤمن بفائدة هذا المشروع، كما أنه كان مشغولا في ذلك الحين بأمور يراها أكثر أهمية من مشروع مكاتب الملة كقناة السويس، وإصلاح الجيش، وبناء القلعة السعيدية ... إلخ.
ومرت الأيام والشهور ورفاعة ينتظر دون أن يعهد إليه بعمل ما، فبدأ يحس الضيق ماديا ومعنويا. وأخيرا تقدم إلى الحكومة بالتماس يرجو فيه أن يعين هو وتلميذه القديم خليفة أفندي محمود في أي مصلحة من المصالح وأن يعهد إليهما بترجمة الكتب النافعة. غير أن سعيدا كان كثير التنقل - ومعه فرق من جيشه - في أنحاء مصر المختلفة، فلم يجد الوقت الكافي للنظر في مثل هذا الاقتراح والبت فيه.
وكان سعيد شديد العناية بجيشه؛ ولهذا عهد في أوائل سنة 1272ه/1855م إلى سليمان باشا الفرنساوي بإنشاء مدرسة حربية جديدة لإعداد ضباط يكونون أركان حرب للجيش. وأنشأ سليمان المدرسة وألحق رفاعة وكيلا له، وبعد قليل التمس سليمان باشا إحالته على المعاش فعين رفاعة ناظرا للمدرسة.
قد يبدو هذا التعيين غريبا، ولكن مبرراته أن رفاعة كان يحمل لقب أمير آلاي، فقد كان الموظفون جميعا مدنيين وعسكريين يمنحون الألقاب العسكرية في عهد محمد علي. وبهذا أصبح رفاعة - الشيخ سابقا والأمير آلاي حاليا - ناظرا للمدرسة الحربية بالقلعة. فماذا هو فاعل وثقافته دينية مذ كان يطلب العلم في الأزهر، أو مدنية مذ كان يطلب العلم في باريس؟
لقد أتقن رفاعة اللغتين العربية والفرنسية، وتخصص في فن الترجمة واشتغل بها، وكون جيلا من المترجمين هم خريجو الألسن، وكان يرجو أن يوفق في عهد سعيد أن يعيد للألسن عهدها، وأن يجمع تلاميذه حواليه فيستأنف نشاطه القديم ويترجم إلى العربية كنوز المعرفة الغربية. وها هي الأقدار تنصبه ناظرا للمدرسة الحربية.
لم ييأس رفاعة، بل رحب بالمركز الجديد، فقد كانت له صلة قديمة بالمدارس الحربية منذ كان مترجما بمدرسة الطوبجية بعيد عودته من باريس، وبدأ يستعين بمن معه من رجال الجيش، ولكنه سعى حتى صبغ المدرسة الجديدة بصبغة مدنية واضحة، وأقحم الدراسات التي يتقنها ويميل إليها في المنهاج إقحاما، فجعل دراسة اللغة العربية واجبة على الجميع، وترك للتلاميذ حرية اختيار إحدى اللغتين الشرقيتين: الفارسية والتركية، وإحدى اللغات الأوربية: الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
ولقد كان رفاعة يقصد بهذه المحاولات أن يحيي عهد مدرسته القديمة الحبيبة إلى نفسه: الألسن؛ فإنه لم يلبث بعد هذه الخطوات الأولى أن أنشأ بالمدرسة الجديدة فرقة خاصة للمحاسبة، ثم ألحق بها بعد قليل قلما للترجمة اختار لرياسته تلميذه القديم الذي تخصص في ترجمة الكتب الرياضية والحربية: السيد صالح مجدي بك.
قنع رفاعة بمركزه الجديد، واحتال كما رأينا حتى أضاف لمناهج الدراسة ما يرضي ميوله ورغباته، ثم لم يلبث أن أقبل على العمل بنشاطه القديم الذي عرفناه، فعهد إليه بنظارة مدرستي الهندسة الملكية والعمارة وتفتيش مصلحة الأبنية. ثم رأى أن النهضة العلمية لا يجب أن تعتمد على الترجمة وحدها، بل يجب أن تعتمد أيضا على إحياء المؤلفات القديمة ونشرها، فسعى حتى حصل على موافقة سعيد باشا. وصدرت الأوامر كما يقول علي مبارك «بطبع جملة كتب عربية على طرف الحكومة وعم الانتفاع بها في الأزهر وغيره، منها: تفسير الفخر الرازي، ومعاهد التنصيص، وخزانة الأدب، والمقامات الحريرية، وغير ذلك من الكتب التي كانت عديمة الوجود في ذلك الوقت ...»
وبهذا يكون رفاعة أول واضع لعمادين من عمد النهضة الثقافية الحديثة، وهما الترجمة والنشر. وسنرى فيما بعد أنه سيشارك أيضا في وضع العماد الثالث وهو التأليف ولكن في عهد إسماعيل.
وفي أوائل سنة 1278ه/أغسطس 1861م ألغيت هذه المدرسة الحربية، أي بعد خمس سنوات من إنشائها، وبعد أن بدأت تثمر وتؤتي أكلها، وكانت قد ظهرت كما يقول علي مبارك «نجابة تلامذتها واستفادتهم استفادة جيدة في أقرب وقت.» وهكذا أمسى رفاعة بلا عمل مرة أخرى، وظل كذلك نحو السنتين إلى أن ولي إسماعيل العرش في سنة 1863ه.
رفاعة ناظر قلم الترجمة في عهد إسماعيل
في 7 مارس سنة 1861م فصل رفاعة من خدمة الحكومة بعد إلغاء المدرسة الحربية بالقلعة، وظل كذلك إلى أن ولي العرش إسماعيل، فبدأت تتجه إليه الأنظار من جديد.
كان إسماعيل يرمي من يوم أن تولى الحكم إلى إصلاح القضاء في مصر ليفل من حدة الأجانب؛ ولهذا بدأ يعد العدة لهذا الإصلاح بوضع المشروعات لترجمة القوانين الفرنسية، وإعداد المصريين الذين يصلحون لتولي مناصب القضاء الجديد. ولترجمة القوانين أنشئ قلم الترجمة الجديد. ولإعداد القضاة أنشئت مدرسة الألسن الجديدة.
أنشئ قلم الترجمة الجديد في أوائل عهد إسماعيل، وعين رفاعة بك ناظرا له، فاختار معاونيه في العمل جماعة من تلاميذه القدماء خريجي مدرسة الألسن القديمة، هم: عبد الله بك السيد، والسيد صالح مجدي أفندي، ومحمد قدري أفندي، ومحمد لاظ أفندي، وعبد الله أبو السعود أفندي. واستقر هذا القلم في غرفة من غرف ديوان المدارس، وبدأ أعضاؤه يتوفرون على العمل والإنتاج، وبدأوا بالقانون الفرنسي
Code . وبعد أشهر قليلة أتموا جهدهم الأول وهو «المقالة الأولى من القانون المدني» في خمسمائة وخمسة عشر بندا فرفعوها إلى الخديو إسماعيل باشا.
وزع هذا القانون الفرنسي على المترجمين بقلم الترجمة، فترجم القانون المدني السابق الذكر رفاعة بك بالاشتراك مع عبد الله السيد بك وأحمد حلمي أفندي وعبد السلام أفندي، ثم ظهرت أجزاء القانون الأخرى تباعا بعد إتمام ترجمتها على الترتيب الآتي:
قانون المحاكمات والمخاصمات في المعاملات الأهلية المعتادة، وترجمه عبد الله أبو السعود أفندي وحسن فهمي أفندي.
قانون الحدود والجنايات، ترجمه العلامة محمد قدري باشا.
قانون (المشيخة البلدية)، ترجمه محمد لاظ أفندي (في 3 مجلدات)، وقد طبعت هذه المجلدات جميعا في بولاق بين سنتي 1283ه و1285ه.
كان هذا هو العمل الأساسي لقلم الترجمة الجديد؛ ولهذا لا تجد له أثرا آخر غير هذا الأثر القانوني؛ ولهذا أيضا نلاحظ أن هذا القلم قد خضع لتطورات كثيرة فكانت الأوامر تصدر تباعا بنقل مترجميه إلى أعمال أخرى. وكان رفاعة يحس أثر هذه التصرفات الغريبة فيتألم ويشكو، ففي سنة 1864م نقل المترجمان محمد لاظ وسيد مجدي والمبيضان محمد بهائي ومحمد أمين إلى قلم الترجمة بالمعية. وبعد قليل ألحق بالقلم بدوي بك فتحي (نجل رفاعة بك) بعد أن تخرج في المدرسة الحربية ورقي إلى رتبة اليوزباشي.
ثم لم يلبث أن نقل عضو من أهم أعضاء القلم وهو عبد الله السيد بك إلى عضوية مجلس الأحكام، فازداد قلم الترجمة بذلك ضعفا على ضعف.
وفي هذا الحين اقترح «ميرشير بك» ناظر المدارس الحربية إنشاء قلم للترجمة ملحق بهذه المدارس لترجمة الكتب العسكرية. غير أن ديوان المدارس لم يوافق على اقتراحه بل أشار بتقوية قلم الترجمة الموجود وإمداده بالمترجمين، فعين محمد أفندي أنسي (نجل عبد الله أبي السعود أفندي) مترجما به؛ وذلك ليتمكن القلم من ترجمة ما يرسل إليه من الكتب الحربية.
وهكذا كان العمل يزداد بالقلم، فقد كان المترجمون يعملون على ترجمة القوانين الفرنسية، والدستور العثماني، والجريدة العسكرية، وحسابات البعثة المصرية بباريس. كما كان أحد مترجميه - وهو محمد رشدي أفندي - يقوم بترجمة كتاب رفاعة بك في تاريخ مصر إلى اللغة التركية.
1
كان يقوم بهذا الجهد الشاق خمسة من المترجمين غير رفاعة بك، ثم طلب إليه أن يعمل على إتمام الأجزاء التي لم تترجم من جغرافية ملطبرون. وكان من المنتظر أن يرحب رفاعة بهذا الطلب، ولكنه ضاق به وضج بالشكوى، وأرسل يعتذر لأن القلم لم يبق به غير ثلاثة مترجمين هم أبو السعود وصالح مجدي وحسن الجبيلي.
وهكذا كان القلم يزداد ضعفا يوما بعد يوم لقلة المترجمين؛ ولهذا كان كلما أحيل إلى القلم عمل جديد بادر رفاعة بالاعتذار عن أدائه. فقد حدث أن أحيلت إليه بعض اللوائح والإرشادات الصحية لترجمتها فردها رفاعة معتذرا بكثرة ما بها من المصطلحات الطبية مقترحا إحالتها إلى مدرسة الطب.
ومن الواجب هنا أن نناقش الأسباب التي أدت إلى إضعاف هذا القلم رغم ما كان يعقده عليه رفاعة من آمال. وأهم هذه الأسباب فيما نرى أن الغرض الأساسي الذي دفع الحكومة لإنشائه كان هو ترجمة القوانين الفرنسية فلما تمت ترجمة هذه القوانين قلت عناية الحكومة بالقلم.
أما السبب الثاني - ولعله أهم وأقوى من السبب الأول - فيتلخص في أن قلم الترجمة الجديد لم تقم إلى جانبه المدرسة التي تمده بالمترجمين الصالحين كما كان الحال في عهد محمد علي. حقيقة لقد أنشئت في عهد إسماعيل مدرسة للألسن ولكنها كانت تختلف اختلافا كبيرا عن سابقتها في عهد محمد علي.
أنشئ قلم الترجمة في عهد إسماعيل في سنة 1863م، ولم تنشأ مدرسة الألسن إلا في سنة 1868م. وقد سميت المدرسة الجديدة باسم مدرسة الإدارة والألسن، وكانت برامجها ترمي إلى العناية بدراسة القوانين وإعداد القضاة ورجال القانون لا إعداد المترجمين؛ ولهذا لم تلبث أن تطورت هذه المدرسة حتى أصبحت «مدرسة الحقوق»؛ ولهذا أيضا بدأت الحكومة تحس حاجتها إلى مدرسة خاصة لإخراج المترجمين، فأنشأت هذه المدرسة باسم «مدرسة الألسن» ولكن في سنة 1878م، أي في أواخر عهد إسماعيل وبعد وفاة رفاعة بنحو خمس سنوات. وهذه المدرسة هي التي ستتحول مع الزمان فتصبح مدرسة للمعلمين.
إصلاحات رفاعة في التعليم والمجتمع
يقول الأستاذ أحمد أمين بك في مقالاته عن رفاعة: «كان من العادات الظريفة التي اندثرت أن يجتمع الجم الغفير من العلماء والأمراء والأغنياء والتجار في ليلة من ليالي رمضان في بيت السادات في «بركة الفيل»، ويجلس الشريف الحسيب النسيب شيخ السادات مجلسه الفخم الوقور يمنح الرتب والألقاب لمن شاء من الزوار، ولكن ليست رتبة «بك» ولا «باشا» ولا نحو ذلك، إنما هي ألقاب وكنى يستمدها من الوحي الصوفي والإلهام اللدني؛ فهذا أبو الأنوار، وهذا أبو الوفاء، وهذا أبو البركات، وهذا أبو الخير. ففي ليلة من هذه الليالي الرمضانية كان من الزوار شيخنا الشيخ رفاعة، فتفرس فيه شيخ السادات، ونظر إليه بقلبه، ثم قال له: «اذهب فأنت أبو العزم»، وكذلك كان، وكانت كنية موفقة، فأبرز صفات الشيخ رفاعة عزمه.»
أجل، فقد كانت أبرز صفات رفاعة عزمه، وعزمه القوي الذي لا يكل ولا يفل. وقد لاحظنا كيف كان الرجل دائب العمل جم النشاط في كل أدوار حياته. وقد ظلت هذه الصفات تلازمه حتى آخر سني حياته، فنلاحظ أنه لم يقنع بعمله في قلم الترجمة رغم كثرته، فامتد نشاطه إلى ميادين أخرى كثيرة تتصل كلها بالتعليم وإصلاحه وبالتأليف والترجمة.
ففي هذا العهد عين رفاعة عضوا دائما «بقومسيون المدارس»، وهو المجلس الذي كان ينظر في السياسة العليا للتعليم ويضع النظم والقوانين والبرامج للمدارس، وكان رفاعة العضو الدائم الوحيد بهذا «القومسيون»، أما بقية الأعضاء فهم نظار المدارس العليا، وكانوا يتغيرون بين الحين والحين، كما أنهم كانوا يستدعون كلما اقتضت الضرورة استدعاءهم.
وقد كان لرفاعة جهد مشكور في تنظيم تدريس اللغة العربية ومحاولات طيبة لإصلاح هذا التدريس، فكان يمتحن الشيوخ والفقهاء كل عام ليتخير من بينهم الأكفاء الصالحين لوظائف التدريس.
وكان يزور المدارس للتفتيش على هؤلاء المدرسين واختبار كفايتهم، ثم يترك لهم قبل مغادرة المدرسة التقارير الصالحة وفيها بيان إرشادي لخير الوسائل الممكن اتباعها لتدريس اللغة العربية مع مراعاة الظروف المختلفة كنوع المدرسة وسن التلاميذ ومدة الدرس ... إلخ.
ولاحظ رفاعة بعد هذه الجولات التفتيشية أن الكتب التي بين أيدي التلاميذ كتب غير صالحة، فبدأ يضع بنفسه كتبا جديدة هي الخطوة الأولى بحق في سبيل النهضة بالكتب المدرسية في تاريخنا التعليمي. وكان رفاعة يسترشد في عمله الجديد بما رأى وما درس من كتب فرنسية أثناء تلقيه العلم في فرنسا.
بدأ رفاعة بكتب النحو فلاحظ أن الكتب الأزهرية القديمة التي يستعملها التلاميذ كتب عقيمة لم تعد تصلح للعصر الحديث، فوضع كتابا جديدا أسماه «التحفة المكتبية في القواعد والأحكام والأصول النحوية بطريقة مرضية»، حاول فيه تبسيط القواعد النحوية وجعله في شكل جداول مختلفة ليسهل على الطلبة فهمها وحفظها.
ولاحظ رفاعة أيضا أنه لا يوجد بين أيدي التلاميذ كتب للمطالعة مع فائدتها التي لا تنكر في تزويد الأولاد بالمعارف العامة، فوضع كتابه الطريف «مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية» ليسد به هذا النقص، وحاول فيه لأول مرة أن يبث في نفوس النشء معنى الوطن والوطنية، فهو يتحدث فيه حديثا مفصلا عن «المنافع العامة» وينقل في حديثه الشواهد من الشرق والغرب، تسعفه في ذلك ثقافته الإسلامية الفرنسية، ويختم الكتاب بفصل عما يجب «للوطن الشريف على أبنائه من الأمور المستحسنة.»
ويعتبر رفاعة بحق أول داعية لتعليم المرأة في مصر بل في الشرق كله؛ فقد ذكر يعقوب أرتين باشا في كتابه عن التعليم العام في مصر أن لجنة تنظيم التعليم في سنة 1836م (أي في عهد محمد علي باشا) اقترحت العمل لتعليم البنات في مصر، وقد كان رفاعة عضوا من أعضاء تلك اللجنة. غير أن هذا الاقتراح لم ينفذ لأن المجتمع المصري لم يكن على استعداد وقتذاك لقبول هذه الفكرة، واكتفي بإنشاء مدرسة المولدات والقابلات.
وفي عهد إسماعيل تجددت الفكرة، وكان رفاعة من أكبر الداعين لها، ففي سنة 1873م أنشئت أول مدرسة لتعليم البنات في مصر، أنشأتها «جشم آفت هانم» إحدى زوجات الخديو إسماعيل. وقبل إنشاء المدرسة بسنة واحدة أخرج رفاعة كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين»، وفيه يدعو للفكرة ويمهد لظهورها فيقول: «ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معا لحسن معاشرة الأزواج، فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك، فإن هذا مما يزيدهن أدبا وعقلا، ويجعلهن بالمعارف أهلا، ويصلحهن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، فيعظمن في قلوبهم، ويعظم مقامهن، لزوال ما فيهن من سخافة العقل والطيش مما ينتج من معاشرة المرأة الجاهلة لامرأة مثلها، وليمكن المرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل، وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق ويقربها من الفضيلة. وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء، فإن المرأة التي لا عمل لها، تقضي الزمن خائضة في حديث جيرانها، وفيما يأكلون ويشربون، ويلبسون ويفرشون، وفيما عندهم وعندها، وهكذا. أما القول بأنه لا ينبغي تعليم النساء الكتابة وأنها مكروهة في حقهن ارتكانا على بعض الآثار فينبغي ألا يكون ذلك على عمومه. ولا نظر إلى من قال إن من طبعهن المكر والدهاء والمداهنة فتعليم القراءة والكتابة ربما حملهن على الوسائل غير المرضية ... فمثل هذه الأقوال لا تفيد أن جميع النساء على هذه الصفات المذمومة. وكم من نهي وردت به الآثار كمقاربة السلاطين والتحذير من الغنى، وقد حمل كل ذلك على ما يعقبه شر وضرر محقق، وتعليم البنات لا يتحقق ضرره. وكيف ذلك وقد كان من أزواجه
صلى الله عليه وسلم
من يكتب ويقرأ كحفصة وعائشة ... إلخ.»
هذا ملخص الدعاية الجريئة التي دعاها رفاعة لتعليم البنت وذلك قبل قاسم أمين بنيف وثلاثين عاما.
ومن هذه الجهود السابقة نلمح كيف خطا رفاعة الخطوة الثانية، فبدأ إلى جانب الترجمة يؤلف ويصنف، بل إن جهوده في التأليف في عصر إسماعيل تفوق جهوده في الترجمة، ولم يقصر جهوده في هذا الميدان على الكتب المدرسية والتعليمية فحسب، بل وضع مشروعا لإخراج مؤلف كبير في تاريخ مصر من أقدم العصور إلى عهده، ولكنه لم يخرج منه إلا الجزء الأول وعنوانه: «أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل»، وقد تناول فيه الكلام عن تاريخ مصر القديم وتاريخ العرب قبل الإسلام. ويقول تلميذه ومؤرخ حياته صالح مجدي بك إنه أتم الجزء الثاني، ولكننا لم نعثر عليه.
وفي هذا العهد أيضا أخرج رفاعة مؤلفا تاريخيا آخر عن سيرة الرسول عليه السلام، وعنوانه: «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز»، وكان قد نشره فصولا في مجلة روضة المدارس.
وفي غمرة هذا النشاط فكر علي مبارك باشا في إصدار مجلة علمية تكتب فيها الأبحاث باللغة العربية، ولم يلبث أن أخرج فكرته إلى حيز التنفيذ، وعهد برئاسة تحرير المجلة إلى رفاعة بك يعاونه ابنه علي بك فهمي رفاعة مدرس الإنشاء بمدرسة الإدارة والألسن وقتذاك.
تلك هي روضة المدارس أول مجلة مصرية، وقد صدر العدد الأول منها في 15 المحرم سنة 1287ه/1870م أي قبل وفاة رفاعة بثلاث سنوات، وقد اشترك في تحرير أعدادها المختلفة نخبة طيبة من أعلام المصريين في القرن الماضي، أشهرهم: علي مبارك باشا، وعبد الله فكري باشا، والشيخ حسين المرصفي، ومحمد قدري باشا، ومحمود الفلكي باشا، وإسماعيل الفلكي باشا، والمسيو بروكش ناظر مدرسة اللسان المصري القديم، وأحمد ندا بك العالم النباتي الكبير، وصالح مجدي بك، وعبد الله أبو السعود أفندي، والشيخ حسونة النواوي، والشيخ عبد الهادي نجا الإبياري، والشيخ حمزة فتح الله، والشيخ عثمان مدوخ. وكانت موضوعاتها متنوعة تتناول النواحي والدراسات الأدبية والعلمية والفقهية والاجتماعية والتاريخية، كما كانت تنشر بها بعض المقطوعات الشعرية وخاصة «للشاب النجيب إسماعيل أفندي صبري أحد تلامذة مدرسة الإدارة».
وظل رفاعة يتولى رئاسة تحرير الروضة إلى أن مات فتولاها من بعده ابنه علي بك فهمي.
رفاعة ومونتسكيو
أحصينا فيما سلف جهود رفاعة في التأليف والترجمة والنشر، ولاحظنا أن جهوده في الترجمة تفوق جهوده في التأليف، فقد ترجم لمؤلفين مختلفين في الطب والمعادن والهندسة والاجتماع والجغرافيا. غير أننا عثرنا على بعض الأقوال التي تشير إلى أن رفاعة قد ترجم لمونتسكيو فأحببنا أن نناقشها لنرى وجه الحق فيها.
أشار رفاعة في بعض شعره الذي قاله في السودان إلى أنه ترجم عن «مونتسكيو»، فقال:
على عدد التواتر معرباتي
تفي بفنون سلم أو جهاد
وملطبرون يشهد وهو عدل
ومنتسكو يقر بلا تمادي
فهذه إشارة واضحة، أكدها بعد وفاته الشيخ محمود كشك الطهطاوي الذي أشرف على تصحيح الطبعة الثانية من كتاب «مناهج الألباب»، فقد أشاد في آخره بجهد محمد بك رفاعة (حفيد رفاعة بك) وسعيه لنشر هذا الكتاب، وأشار إلى أن همته لم تقف «عند إنجاز طبع هذا الأثر، بل عزم حضرته على إحياء باقي الكتب التي ترجمها جده عن الفرنساوية إلى العربية كرواية «تليماك» الشهيرة، وترجمة «ملطبرون»، وترجمة «مونتسكيو»، وغير ذلك ... إلخ.»
وأورد بعد ذلك صورة ما كتبه الشيخ عبد الكريم سليمان إلى حفيد رفاعة بتاريخ 16 جمادى الأولى سنة 1330ه، قال فيه: «فاجعل كتابي هذا غير قاصر على تقريظ عملك الجديد المفيد، ومده إلى إيجاد ذينك السفرين (ترجمة ملطبرون وترجمة مونتسكيو)، ولقد رويت عن عمك الأعز - رحمه الله - أن والده الأكرم - أكرم الله مثواه - ترجمهما، وأن نسختهما موجودة، وأسمعني ما بقيت حافظه إلى الآن مما يبرهن على أنه - طيب الله ثراه - ترجمهما، وهو:
وملطبرون يشهد وهو حبر
ومنتسكيو يقول ولا يماري.»
وعلق على هذا الخطاب بقوله: «ونحن نزف البشرى إلى الجمهور بوجود أصل هذين الكتابين في خزانة كتب المؤلف، وتعويل حضرة حفيده الأكرم على طبعهما إجابة لطلب فضيلة الأستاذ، وحبا في تعميم النفع لأبناء العصر ...»
وغاية ما نستطيع أن نقول إننا رجعنا إلى ثبت ما ترجم رفاعة من كتب في عهدي محمد علي وإسماعيل، فلم نجد من بينها كتابا لمونتسكيو، وكل ما نعرفه أنه قرأ كتبه وهو في باريس وتأثر بها كثيرا في بعض كتبه، وخاصة كتاب «مناهج الألباب المصرية» فهو متأثر فيه بكتاب «مونتسكيو»: «روح الشرائع». كذلك لم يترجم تلاميذه في مدرسة الألسن من كتب «مونتسكيو» إلا كتاب «برهان البيان وبيان البرهان في استكمال واختلال دولة الرومان»، فقد ترجمه حسن أفندي الجبيلي، وكانت الترجمة تحت إشراف أستاذه رفاعة، فقد قال المترجم في مقدمته: «ولم أغفل عن مراجعة الفاضل اللبيب، والكامل الأريب، الدقيق فهمه، الكثير علمه، سيدي رفاعة أفندي، في حل بعض مشكلاته، وفك ما عسر علي فهمه من معضلاته ...»
ولم ينته من ترجمته إلا في الثاني عشر من ربيع الآخر سنة 1290ه بعد وفاة أستاذه رفاعة. وتم طبع الكتاب بعد ثلاث سنوات في ذي القعدة سنة 1293ه.
لم يبق إذن إلا أن يكون رفاعة قد ترجم حقا بعض كتب «مونتسكيو»، وأجزاء أخرى من جغرافية «ملطبرون» - غير التي طبعت - وأن مسودات هذه الكتب ما تزال مخطوطة في مكتبته.
تلاميذ رفاعة من خريجي الألسن
كانت مدرسة الألسن منذ إنشائها ترمي إلى تحقيق غرضين اثنين: (1)
إعداد مترجمين في مختلف الفنون والعلوم. (2)
إعداد مدرسين للغة الفرنسية في المدارس التجهيزية والخصوصية.
وقد حققت المدرسة هذين الغرضين بهمة رفاعة التي لا تعرف الملل وجهده المتصل، وملأت مصر والمدارس بالمترجمين والمدرسين. وقد ذكر صالح مجدي بك في كتابه «حلية الزمن» أسماء النابهين الذين نبغوا من تلاميذ رفاعة في مدرسة الألسن، وعدة هؤلاء سبعة وستون. وذكر المستر «دن
Dunne » أن المدرسة خرجت في مدى عشر سنوات نحو سبعين مترجما. ويبدو لي أن خريجي الألسن منذ سنة 1255ه (وهي السنة التي تخرجت فيها الدفعة الأولى) إلى سنة 1265ه (وهي السنة التي توفي فيها محمد علي وألغيت فيها الألسن) كانوا يبلغون نحو المائة؛ فقد ذكر أبو السعود أفندي - أحد خريجي المدرسة وتلاميذ رفاعة - أن المدرسة «كان يخرج منها كل عام عشرة.»
وقد قدر خريج آخر من خريجي المدرسة - محمد قدري باشا - الكتب التي ترجمها خريجو الألسن - ما طبع منها وما لم يطبع - بنحو ألفي كتاب.
ومهما كان عدد الخريجين أو عدد الكتب التي ترجمت، فقد أشاع رفاعة في هذا الرعيل قبسا من روحه ونفحة من نشاطه، فكانوا أركان النهضة في عهد محمد علي، ثم كانوا القائمين على إحيائها والإشراف عليها في عهد إسماعيل، وقد أجمل رفاعة القول في جهده وجهودهم في مقدمته لقصة تليماك، قال: «لقد تقلدت بعناية الحكومة المصرية الفائقة على سائر الأمصار، في عصر المدة المحمدية العلوية السامي على سائر الأعصار، بوظيفة تربية التلاميذ مدة مديدة، وسنين عديدة، نظارة وتعليما، وتعديلا وتقويما، وترتيبا وتنظيما، وتخرج من نظارات تعليمي من المتفننين رجال لهم في مضمار السبق وميدان المعارف وسيع مجال، وفي صناعة النثر والنظم أبهر بديهة وأبهى روية وأزهى ارتجال، وحماة صفوف لا يبارون في نضال ولا سجال، وعربت لتعليمهم من الفرنساوية المؤلفات الجمة، وصححت لهم مترجمات الكتب المهمة، من كل كتاب عظيم المنافع، وتوفق حسن تمثيلها في مطبعة الحكومة وطبعها، ومالت طباع الجميع إلى مطبوع ذوقها وطبعها، وسارت بها الركبان في سائر البلدان، وحدا بها الحادي في كل واد وقصدها القصاد كأنها قصائد حسان، وكان زمني إلى ذلك مصروفا، وديدني بذلك معروفا، مجاراة لأمير الزمن (يقصد محمد علي)، على تحسين حال الوطن، الذي حبه من شعب الإيمان ... إلخ.»
ووصف علي مبارك خريجي الألسن بأنهم كانوا «جميعهم في الإنشاءات، نظما ونثرا، أطروفة مصرهم، وتحفة عصرهم ...»
وقد أخذ رفاعة تلاميذه في الألسن بما أخذ هو به نفسه وهو يتلقى العلم في باريس، أي أنه أخذهم:
أولا:
بالجد والنشاط في التحصيل منذ اللحظة الأولى، فكان «لا يقف في اليوم والليلة على وقت محدود ... وربما عقد الدرس للتلامذة بعد العشاء أو عند ثلث الليل الأخير، ومكث نحو ثلاث أو أربع ساعات على قدميه في درس اللغة أو فنون الإدارة والشرائع الإسلامية والقوانين الأجنبية ... إلخ.» وبهذا استطاع أن يعهد لبعض النابغين من تلاميذه بترجمة الكتب في السنوات الأولى من إنشاء المدرسة. ومن عجب أن نرى بعض الكتب قد ترجمت وطبعت قبل أن تخرج المدرسة دفعتها الأولى؛ ففي سنة 1252ه، أي بعد إنشاء المدرسة بسنة واحدة، ظهر كتاب تاريخ الفلاسفة اليونانيين مترجما بقلم عبد الله أفندي حسين الذي يقول في مقدمته: «وكنت وقت ترجمته بمدرسة الألسن بالأزبكية»، أي كان لا يزال تلميذا بها.
وبعد نحو 3 سنوات من إنشاء المدرسة (1254ه) أخرجت كتابين آخرين، وهما: «تنوير المشرق بعلم المنطق» ترجمة خليفة أفندي محمود، و«بداية القدماء وهداية الحكماء» وقد اشترك في ترجمته مصطفى الزرابي أفندي، ومحمد عبد الرازق أفندي، وأبو السعود أفندي، وهم جميعا من تلاميذ المدرسة.
ثانيا:
وأخذ رفاعة تلاميذه أيضا بما أخذ به نفسه من قبل، من إقبال على الترجمة في مختلف العلوم والفنون، فلم تعرف المدرسة ولم يعرف خريجوها التخصص في ترجمة علم بعينه، وإنما كان يفرغ أحدهم من ترجمة كتاب في التاريخ فيعهد إليه بترجمة آخر في الطب ثم ثالث في الكيمياء أو في الجغرافيا وهكذا. ولكننا نلاحظ أن ميول الخريجين الخاصة ووظائف الترجمة التي تولوها بعد تخرجهم قد وجهت كلا منهم إلى نوع من التخصص في الترجمة أو التأليف في علم من العلوم، فاتجه محمود خليفة وأبو السعود ومصطفى الزرابي ومحمد مصطفى البياع إلى ترجمة الكتب التاريخية، واتجه صالح مجدي وأحمد عبيد الطهطاوي إلى ترجمة الكتب الهندسية والحربية، ومحمد الشيمي والسيد عمارة وحسين علي الديك إلى ترجمة الكتب الرياضية، وعبد الله بك السيد ومحمد قدري باشا إلى ترجمة الكتب القانونية والتأليف فيها ... وهكذا.
ورغبة في ترجمة أكبر عدد ممكن من الكتب وإنجاز الترجمة في أسرع وقت، كانت الكتب توزع على المترجمين أجزاء إذا كان الكتاب يتكون من أجزاء كثيرة، أو فصولا إذا كان الكتاب جزءا واحدا. وكان يحدد لكل مترجم وقت معين لإنجاز الترجمة حسب كبر الجزء أو الفصل أو صغره، وكانت تتراوح هذه المدة بين أربعة عشر شهرا وخمسة أشهر.
وكان رفاعة يشرف بنفسه على مراجعة وتصحيح معظم الكتب، إن لم يكن كلها. يشهد بذلك المترجمون من تلاميذه جميعا في مقدمات كتبهم؛ فهذا عبد الله حسين يقول في مقدمة تاريخ الفلاسفة: «فاستعنت في مشكلات الكتاب وتحرير ترجمته بمدير تلك المدرسة البهية.» وهذا خليفة محمود يقول في مقدمة «إتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في بلاد أوروبا»: «وحيث إنها باللغة الفرنساوية من مستصعبات التآليف، ومختصرات التصانيف، استعنت في تذليل صعابها، وكشف نقابها، بمراجعة من لسان القلم في مدحه ووصفه قصير، ومن أتى في مدحه بأبدع مقال فإنما هو آت بيسير من كثير، حضرة رفاعة أفندي مدير مدرسة الألسن، حيث التوقف والحاجة إلى ذلك، وهو أيضا الذي صححها على أصلها وقابلها كل المقابلة. فبهذا كانت خير ترجمة، لا سيما من أمثالي؛ حيث إنه لم يكن لي في مدرسة الألسن غير سنتين، في اشتغالي بهاتين اللغتين ... إلخ.» وقال في مقدمة «إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الإمبراطور شارلكان»: «بذلت الهمة في تعريبه وتنقيحه وتهذيبه، وازداد تهذيبا بمقابلته مع رب البلاغة والتدقيق، من أوتي في هذا الفن مفاتيح كنوز الحقيقة والتحقيق، حضرة رفاعة أفندي ناظر قلم الترجمة ... إلخ.»
ولم يكن من المستطاع أن يقوم رفاعة بمراجعة وتصحيح كل الكتب المترجمة - على كثرتها واختلافها - بنفسه؛ ولهذا أخذ بعد حين يشرك معه في هذا العمل بعض مدرسي المدرسة ومصححيها، وخاصة الشيخ محمد قطة العدوي. قال أحمد عبيد الطهطاوي في خاتمة كتاب «الروض الأزهر في تاريخ بطرس الأكبر»: «يقول مترجمه: لقد صرفت في ترجمته - على صعوبته - الهمة، وسهرت في مطالعته وفهمه الليالي المدلهمة، واستعنت - فيما حواه من المشكلات، وما اشتمل عليه من المعضلات - بمراجعة صاحب الرفعة رفاعة بك ناظر قلم الترجمة، وتصحيح غالبه بمعرفة العلامة الشيخ محمد قطة العدوي.» وقال حسن قاسم في كتاب «تاريخ ملوك فرنسا»: «وكان تصحيح هذا الكتاب الفائق ... بمعرفة حضرة العلامة الأوحد، سعادة الميرالاي رفاعة بك الأمجد، وعلى يد المستنصر بربه القوي، محمد قطة العدوي، مصحح قلم الترجمة ...»
وممن شارك مشاركة جدية في مراجعة وتصحيح الكتب التي ترجمت في مدرسة الألسن وقلم الترجمة: الشيخ أحمد عبد الرحيم الطهطاوي كبير مصححي الألسن، فقد عين في المدرسة منذ إنشائها، ولم يطبع من كتبها كتاب «إلا طالعه وتصفحه، وقابله وصححه، وهو يشتغل ليلا ونهارا ...»
أما اختيار الكتب التي تترجم فقد كان موكولا لرفاعة بك. وقد بدأ كما ذكرنا فاختار لتلاميذه بعض الكتب التي قرأها ودرسها وهو في باريس ككتاب «تاريخ الفلاسفة اليونانيين»، وكتاب «بداية القدماء وهداية الحكماء»، وكتاب «دي مارسيه» في المنطق الذي ترجم بعنوان: «تنوير المشرق بعلم المنطق» ... إلخ ... إلخ.
غير أنه كان يحدث أحيانا أن يكتب ديوان المدارس إلى مدرسة الألسن مشيرا بترجمة كتب معينة. وإذا قلنا ديوان المدارس فإنما نعني في الواقع مديره أدهم بك، فقد كان رجلا مثقفا واسع الثقافة، وخاصة في اللغة الفرنسية والعلوم الرياضية والحربية؛ ولهذا نلاحظ أن معظم الكتب التي أشار ديوان المدارس بترجمتها كانت إما كتبا رياضية وإما كتبا في الرحلات. قال السيد أفندي عمارة في مقدمة كتاب «تهذيب العبارات في فن أخذ المساحات»: «فمذ حللت كغيري بتلك المدرسة (الألسن) اجتنيت من ثمر اللغة العربية والفرنساوية أنفسه، بإرشاد ناسج حلة بردها، وناظم جوهر عقدها ... العلامة السيد رفاعة أفندي بدوي رافع، فلما علم مني الرغبة في التحصيل ... حباني من فضله إمداده، إلى أن بلغت المأمول وزيادة، وأمرني - عملا بما صدر من ديوان المدارس المصرية - أن أترجم كتابا للمؤلف «لوكوه» يتضمن بيان المسافات وفن أخذ المساحات ... إلخ.» وقال سعد نعام في مقدمة «سياحة في أمريكا»: «قد صدر الأمر بتعريبه، وتفسير تراكيبه، من ديوان المدارس المصرية، التي هي بكسب العلوم حرية، بأنفاس مديرها حضرة البك المفخم، سعادة ميراللوا إبراهيم أدهم ... إلخ.»
وقال إبراهيم مصطفى البياع (الصغير) في مقدمة «سياحة في الهند»: «هذه خدمة يسيرة، وتعريب رحلة صغيرة، للمؤلف «أوبير ثرولد»، ألفها في سياحته إلى بلاد الهند، وجدت في كتبخانة حضرة البك المفخم مدير المدارس ... سعادة أمير اللواء أدهم بك ... فصدر الأمر بترجمتها من الديوان، إلى حضرة علامة الزمان، من رقي في مراقي الشرف أرفع محل وأعظمه، حضرة أمير الآلاي رفاعة بك ناظر قلم الترجمة، فعينني - حفظه الله - لترجمتها ... إلخ.»
ويبدو لي أن رفاعة كان يراعي رغبات وحاجات الوالي والحكومة والمدارس في اختيار الكتب التي تترجم، ولكنه كان يتخير الكتب التاريخية تبعا لخطة خاصة رسمها لنفسه؛ فإنه يتضح من مراجعة هذه الكتب أنه كان يريد أن يترجم كتبا مختلفة تغطي تاريخ العالم منذ أقدم العصور حتى أحدثها. وإن كان تاريخ فرنسا قد حظي منه بعناية خاصة، فقد ترجم فيه أكثر من كتاب، ولعل هذا راجع لثقافة رفاعة الفرنسية وميله إلى هذه الدولة، أو للعلاقات التي كانت تربط بين مصر وفرنسا منذ نزلت بأراضيها الحملة، أو لاستعانة محمد علي بالفرنسيين في إصلاحاته وإيثاره فرنسا بإيفاد معظم البعثات إليها.
وقد عني رفاعة بعلم التاريخ هذه العناية، وعهد إلى تلاميذه بترجمة الكتب الكثيرة فيه لأسباب كثيرة، أولها ميله الخاص، وثانيها وأهمها ما كان يحسه من شغف محمد علي باشا الشديد بدراسة حوادث الأمم وتراجم عظماء الرجال. ورفاعة حريص الحرص كله في كل ما يعمل على أن يرضي «ولي النعم».
بدأ رفاعة بتنفيذ هذه الخطة، فاختار كتابا في تاريخ الدول والشعوب القديمة: من مصريين، وسريانيين، وبابليين، وأكراد، وفرس، ويونانيين ... إلخ، وعهد إلى تلاميذه في مدرسة الألسن بترجمته، ولما كان هذا الكتاب في أصله الفرنسي «ناقصا تاريخ الخليقة والعرب، وكان في كتاب عماد الدين أبي الفداء سلطان حماة ما يفي بالأرب.» فقد أضاف رفاعة إليه فصولا من هذا الكتاب: «لكمال المطلوب وبلوغ المرغوب».
والمطلوب والمرغوب كما رجحنا هو تغطية تاريخ العالم بسلسلة من الكتب؛ ولهذا نراه لا يتقيد بنصوص المؤلفين عند الترجمة، بل يبيح لنفسه إضافة أجزاء من كتب عربية قديمة ليكمل بها ما في هذه الكتب من نقص وليحقق خطته التي رسمها لنفسه.
وقد كتب رفاعة مقدمة لهذا الكتاب - وهو أول كتاب تاريخي تترجمه مدرسة الألسن، فقد طبع في سنة 1254ه - فلسف فيها دعوته لدراسة التاريخ، وأوضح الأغراض من دراسته، وأشار إلى شغف محمد علي بهذا العلم، وهي مقدمة طيبة لا يشوبها - فيما نرى - إلا التزامه السجع في فقراتها، ولكنه كان مضطرا إلى هذا اضطرارا، فقد كان متأثرا بتقاليد العصر الأدبية. قال في هذه المقدمة: «من المعلوم أن الإنسان مدني بطبعه، مائل إلى التآنس والعمران بأصله وفرعه، مضطر إلى السياسة والرياسة، وحسن الاجتماع والكياسة، وما يكون به استجلاب كماله، ومعرفة أسباب حفظه أو تحوله وانتقاله، وما يكون عليه حال الملك في نفسه أو مع رعيته، وعمارة مدائن مملكته؛ حيث احتاج إلى ذلك تنظيم المصالح، وضبط المهمات على وجه راجح ناجح، لما أنه يستنبط من ذلك كمال فوائده، من كان تدريب التجارب نصب مصادره وموارده، ولا يشم ذلك إلا من للأخبار اختبر، وللسير وللتواريخ سبر، حتى تضلع من وقائع المشارق والمغارب، وتجرع من محيطها بأنواع الأذواق والمشارب، ورجع عن طروق الشبه إلى أهل الذكر، وهرع إلى طرق التاريخ بالهمة والفكر، لما أنه يجود بذكر ما جرى عليه النسيان، ويجيد حوادث الحدثان، ويخرجها من حيز الخفاء إلى حيز العيان. ولولا أن مصباح التاريخ به الاستصباح، لأصبح ما مضى هشيما تذروه الرياح، فمنفعته عامة، للخاصة والعامة، وهو مشير كل أمير، وأمير كل مشير، وسمير كل وزير، وظهير كل سمير، إذا سئل أجاب، وأبدى العجب العجاب، ترتاح به الأرواح الفاضلة، وتلتاح إليه النفوس الكاملة، من الحكماء والأساطين، والملوك والسلاطين؛ فلذا كانت مطمح نظر الخديو الأعظم، وملمح بصر الداوري الأفخم، نادرة الدهر، أنموذج الفخر، سيد مصر، وصاحب العصر، مغناطيس التعجب، صاحب اليد البيضاء التي لا توارى، والحسنات الجمة التي لا تجارى، من به اضمحل الظلم وتلاشى، أفندينا ولي الممالك محمد علي باشا، الذي سارت الركبان بذكره في كل ناد ... وتلقب بأعظم الألقاب، لا سيما عند ملوك أوروبا، أوليس أنه يلقب عندهم معيد تمدن الإسلام، ومبيد تمكن الأوهام ...» «ولما كان تولعه بالتواريخ شديدا، وتطلعه لأخبار الملوك الماضين مزيدا، وله في معرفة فحول رجال القرون الأولى، المادة الغزيرة واليد الطولى، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، وكان تاريخ تلك العصور، بالكتب العربية في غاية القصور، لا سيما تاريخ اليونان، المشتمل على فحول رجال تلك الأزمان ... وكان بمدرسة الألسن من يقوم بتعريب طرفه، ويخرج دره من صدفه، أعطيته لعدة أفراد، لتعريب المراد، في أقرب ميعاد ... إلخ.»
وقد اشترك في ترجمة هذا الكتاب مصطفى الزرابي أفندي، ومحمد عبد الرازق أفندي، وعبد الله أبو السعود أفندي.
وبعد الانتهاء من ترجمة هذا الكتاب في تاريخ العالم القديم، تخير رفاعة كتابا آخر في تاريخ العصور الوسطى، وعهد لمصطفى الزرابي أفندي بترجمته، فخرج كتابا كبيرا في جزءين، يقع الجزء الأول في 268 صفحة، والثاني في 359 صفحة، وقدم له رفاعة بما يؤكد خطته التي زعمناها، قال: «... يقول الفقير إلى الله تعالى رفاعة رافع ناظر مدرسة الألسنة: هذه رسالة في تاريخ القرون المتوسطة تكملة لتاريخ القدماء الذي طبعه ولي النعم، صاحب الجود والكرم ...» وقد سمي هذا الكتاب: «قرة النفوس والعيون بسير ما توسط من القرون».
تناول هذان الكتابان تاريخ العالم في العصور القديمة والمتوسطة. وقد انقسم العالم في العصور الحديثة إلى دول كثيرة مختلفة، ولكل دولة تاريخها، وقد عني رفاعة بتاريخ فرنسا خاصة للأسباب المتقدم ذكرها، فعهد إلى أحد النابغين من تلاميذه - أبي السعود أفندي - بترجمة كتاب «نظم اللآلئ في السلوك فيمن حكم فرنسا من الملوك»، فترجمه وطبع في بولاق سنة 1257ه.
وبعد سنوات قليلة من ترجمة هذا الكتاب أهدى المؤرخ الفرنسي «مونيقورس» كتابه في «تاريخ ملوك فرنسا» إلى شريف باشا «مدير عموم المالية»، «وبالمذاكرة مع حضرة البك المفخم، مدير عموم المدارس إبراهيم أدهم، استقر الرأي على طبعه، وأن يطبع على ذمة حضرة الباشا المشار إليه، مكافأة لمؤلفه في نظير الإهداء ...»
وقد قام بترجمته حسن قاسم أفندي أحد خريجي الألسن، وطبع في بولاق في سنة 1264ه.
وقد عرف رفاعة أن محمد علي يعنى عناية خاصة بدراسة سير أمثاله من الملوك المصلحين الذين نهضوا بأممهم نهضات يذكرها التاريخ؛ لهذا «اختار تاريخ ملك من ملوك الإفرنج، تعلو همته بينهم على المريخ، وهو تاريخ بطرس الأكبر، الذي فضله بين ممالك أوروبا أشهر من أن يذكر.» وعهد إلى نابغ آخر من تلاميذه ومواطنيه - وهو أحمد عبيد الطهطاوي أفندي - بترجمته. والكتاب من تأليف الفيلسوف الفرنسي المعروف «فولتير».
ومن كتب التراجم التي عربها خريجو الألسن كذلك: كتاب «مطالع شموس السير في وقائع كارلوس الثاني عشر»، ترجمه محمد مصطفى الزرابي أفندي، «وكانت ترجمته بأوامر مدير المدارس، لا زال مختارا لإبراز الدرر والنفائس.»
ولما كان الكتاب يؤرخ لمملكة «أسوج» - السويد - حتى عهد كارلوس الثاني عشر، فقد رأى المترجم أنه من المناسب أن يذيله «بتذييل لطيف يذكر فيه من حكمها بعده من الملوك إلى عهدنا هذا - طبع الكتاب في 1257ه - على طريق الإيجاز، لتعلم أحوال تلك البلاد الشمالية، وتتم بذلك فائدة الكتاب ...» وقد انتخب المترجم هذا التذييل من «كتاب المؤلف راغوان في أحوال القرن الثامن عشر».
ذكرنا قبل هذا أن خريجي الألسن في نحو عشر سنوات يتراوحون بين السبعين والمائة، وأنهم ترجموا ما يقرب من الألفي كتاب. ومن العسير أن نترجم هنا لجميع هؤلاء الخريجين أو أن نذكر بالتفصيل جهودهم العلمية، فاكتفينا بعرض التيارات العامة التي كانت توجه تلاميذ رفاعة في قلم الترجمة الملحق بالألسن. وتحدثنا حديثا موجزا عن بعض جهود هؤلاء التلاميذ تحت ضوء هذه التيارات، وسنتخير هنا علمين من أعلام هؤلاء التلاميذ فنتحدث عن حياتهما وجهودهما.
هذان العلمان هما: عبد الله أبو السعود أفندي، والسيد صالح مجدي أفندي (بك فيما بعد)، وقد دفعنا إلى اختيارهما أنهما كانا أكثر الخريجين اتصالا بأستاذهم رفاعة في عهد محمد علي ثم في عهد إسماعيل، وأنهما كانا أكثر الخريجين إنتاجا وترجمة بل وتأليفا فيما بعد.
أما أبو السعود أفندي فقد ولد في دهشور سنة 1236ه، وكان والده قاضيا، ثم اختير ناظرا لأحد المكاتب التي أنشأها محمد علي، وهو مكتب البدرشين، وذلك في سنة 1248ه، فألحق ابنه تلميذا بهذا المكتب، ومنه اختاره رفاعة بك في سنة 1250ه ليكون تلميذا بمدرسة الألسن. وفيها تفوق على أقرانه وخاصة في اللغة العربية، فاختير في سنة 1254ه مدرسا لهذه اللغة خلفا لأستاذه الشيخ حسنين الغمراوي، ومنح رتبة الملازم الثاني.
وبعد قليل رقي إلى رتبة الملازم الأول، ونقل إلى مدرسة المهندسخانة فكان يدرس بها اللغة الفرنسية، ويشترك في تصحيح الكتب الرياضية التي يترجمها مدرسوها. ولم يكتف في هذه السنوات بالثقافة التي تلقاها في الألسن، بل كان يحضر دروس الفقه في الجامع الأزهر، ومن أساتذته هناك: الشيخ خليل الرشيدي، والشيخ أحمد المرصفي، والشيخ المنصوري، والشيخ التميمي المغربي. وفي سنة 1259ه، عندما أعيد تنظيم قلم الترجمة الملحق بالألسن تحت رئاسة رفاعة بك ونظارة كاني بك، نقل إليه أبو السعود أفندي، ولم يترجم في تلك الفترة إلا كتاب «نظم اللآلئ في السلوك فيمن حكم فرنسا ومن قابلهم على مصر من الملوك». والثلثان الأولان من الكتاب مترجمان عن الفرنسية وموضوعهما تاريخ ملوك فرنسا من الدولة «الميروفنجية» إلى عهد الملك «لوي فيليب». أما الثلث الأخير فمن وضعه وقد ضمنه تاريخ حكام مصر وولاتها منذ عهد الخليفة أبي بكر الصديق إلى عهد السلطان عبد المجيد. وقد طبع هذا الكتاب في بولاق سنة 1257ه.
وفي عهد عباس الأول انزوى أبو السعود أفندي موظفا عاديا لا جهد له ولا نشاط. ولا عجب فهو تلميذ رفاعة، فلما تولى سعيد باشا الحكم عاد أبو السعود إلى الحياة، وسافر مع الوالي إلى السودان كاتبا لمعيته، وبعد عودته عين بقلم الترجمة بالخارجية. وفي أوائل عهد إسماعيل عاد إلى قلم الترجمة الملحق بديوان المدارس ليعمل من جديد بالاشتراك مع زميله صالح مجدي تحت رئاسة أستاذهما القديم رفاعة بك.
وفي هذا العهد بلغ نشاطه في الترجمة والتأليف أوجه، فترجم سبعة كتب، معظمها في التاريخ - وهو العلم الذي تخصص فيه - وبعضها في الزراعة أو الكيمياء أو القانون أو الجغرافيا.
وفي هذا العهد أيضا خطا أبو السعود خطوة جريئة، فأنشأ في مصر أول صحيفة وطنية شعبية، هي جريدة «وادي النيل». وقد كان لهذه الصحيفة شأن كبير في التمهيد للحركة الوطنية في عهد إسماعيل.
وقد ساهم أبو السعود في تحرير أول مجلة مصرية ظهرت في ذلك الوقت، وهي «روضة المدارس»، ثم اختير في أخريات أيامه ناظرا لقلم الترجمة خلفا لأستاذه رفاعة، ثم كان مدرسا للتاريخ بمدرسة دار العلوم ، وعضوا بمجلس الاستئناف إلى أن توفي في الثامن من صفر سنة 1259ه.
أما السيد صالح مجدي فهو من أسرة عربية الأصل، ولد في قرية أبي رجوان من أعمال مديرية الجيزة في سنة 1242ه أو سنة 1243ه، وتلقى علومه الأولى في مكتب حلوان الأميري، ومنه اختير - كما اختير زميله أبو السعود - ليكون تلميذا بمدرسة الألسن، فألحق بها في سنة 1252ه.
وفي عهد تلمذته بهذه المدرسة ظهر نبوغه في اللغتين العربية والفرنسية، فلما أنشئ قلم الترجمة في سنة 1258ه، وجعل من أقسامه قسم لترجمة الكتب الرياضية تحت رئاسة بيومي أفندي، جعل السيد صالح مجدي وكيلا لهذا القسم، وفيه ترجم كتابين: أحدهما جداول المهندسين، وثانيهما تطبيق الهندسة على الميكانيكا والفنون.
وفي سنة 1260ه نقل إلى مدرسة المهندسخانة، خلفا لزميله أبي السعود الذي نقل من المهندسخانة إلى قلم الترجمة في سنة 1259ه. وفي هذه المدرسة عين مجدي «لتدريس اللغتين الفرنساوية والعربية، وتعليم نجباء تلامذتها فن الترجمة، وتعريب فروع الرياضيات التي تدرس بها على القواعد العربية.» ويقول علي مبارك في خططه: «إني قد كنت من رجال هذه المدرسة، فعرفت المترجم فيها واتخذته لي صاحبا وصديقا، وكنت قد تعينت في سنة ستين التي التحق هو فيها بتلك المدرسة للسفر مع عدة من أمثالي إلى مملكة الفرنسيس لتكميل العلوم الرياضية وتحصيل الفنون العسكرية المتعلقة بالطوبجية والاستحكامات، فلما رجعت إلى مصر بعد خمس سنين وجدته قد وصل إلى رتبة يوزباشي وأخبرني أنه أحرزها في سنة 1262ه، وأنه عرب في هذه المدة عدة كتب في فروع الرياضيات، منها كتاب في الطبوغرافيا والچيودوزيه، وكتاب ميكانيكا نظرية، وكتاب ميكانيكا عملية، وكتاب أدروليكا، وكتاب حساب آلات، وكتاب طبيعة، وكتاب هندسة وصفية، وكتاب في حفر الآبار، ورسالة في الأرصاد الفلكية تأليف الشهير «أرجو». ولما أحيلت على عهدتي نظارة المهندسخانة وما معها سنة ست وستين بعد انتقالي من رتبة صاغقول أغاسي إلى رتبة أميرالاي كان لي المترجم رفيقا مع قيامه بوظائفه. وطالما استعنت بقلمه على تأليف كتب متنوعة في فنون شتى. وقد ترجم في تلك المدة عدة كتب في الرياضة، منها كتاب في الحساب، وكتاب في الجبر، وكتاب في تطبيق الجبر على الأعمال الهندسية، وكتاب في الظل والمنظور، وكتاب في حساب المثلثات، وكتاب في الهندسة الوصفية، وكتاب في قطع الأحجار والأخشاب، وهي كتب جار عليها العمل إلى الآن في المدارس. وله غير ذلك من الكتب التي تجل عن الحصر ...»
وهكذا كان صالح مجدي أسعد حظا من صديقه أبي السعود؛ فقد مهدت له معرفته بعلي مبارك السبيل إلى البقاء في مدرسة المهندسخانة في عهد عباس. وفي هذه المدرسة قضى نحو عشر سنوات أنتج فيها هذا الإنتاج الضخم.
وفي عهد سعيد باشا عاد أستاذه رفاعة من السودان. غير أنه ظل مدة عاطلا، فنقل مجدي في سنة 1272ه وكيلا لمأمورية أشغال الطوابي بالقلعة السعيدية، وعهد إليه بترجمة الكتب العسكرية ثم مباشرة طبعها في مطبعة بولاق. ثم لم يلبث أن جذبه رفاعة إليه، فنقل ناظرا لقلم الترجمة الملحق بالمدرسة الحربية بالقلعة التي كان يتولى نظارتها رفاعة.
وفي أوائل عهد إسماعيل أعيد إنشاء قلم الترجمة الملحق بديوان المدارس، وتولى الإشراف عليه رئيسه القديم رفاعة بك، وكان من مترجميه أبو السعود وصالح مجدي، بل لقد أتى على هذا القلم وقت لم يكن به من المترجمين غير صاحبينا وزميل ثالث لهما كان له شأن أي شأن في ترجمة الكتب التاريخية في عصر محمد علي وهو حسن أفندي الجبيلي.
وقد شارك مجدي في تلك الفترة - كأستاذه رفاعة وزميله أبي السعود - في التحرير في روضة المدارس، ثم في ترجمة «قانون نابليون
Code du Napoleon »، وفي ترجمة القوانين المختلفة الأخرى التي تم نقلها إلى اللغة العربية في عهد إسماعيل. وظل يتقلب في الوظائف حتى عين في سنة 1293ه/1875م قاضيا بمحكمة مصر، ولبث يشغل هذا المنصب حتى توفي في ذي الحجة سنة 1298ه.
وفي كل تلك العهود كان علي باشا مبارك يستعين به وبجهوده وعلمه في تأليف وتصنيف معظم كتبه؛ فقد قال في الخطط: «وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين بعد الألف أحيلت على عهدتي - وأنا إذ ذاك ناظر القناطر الخيرية - مأمورية تأليف كتاب الهجاء والتمرين، فطلبت المترجم من ديوان المدارس بأمر عال، فحضر عندي، واشتغل معي بالكتاب المذكور حتى تم على أحسن حال ... وتكرر طبعه حتى زادت نسخه على خمسة عشر ألفا ...» ثم قال: «ولما أحيلت على عهدتي نظارة عدة دواوين ومصالح في آن واحد استعنت بقلمه على تحرير عدة لوائح وترتيبات نافعة لإدارة هذه المصالح ...» وقال أيضا: «وباشر معي بعض التاريخ الذي عملته للديار المصرية في عدة مجلدات، وبعض رسائل جمعتها، وطبعت بمعرفته في جرنال روضة المدارس ...»
وقال محمد مجدي في ترجمة والده التي نشرها في مقدمة ديوانه أنهما - أي علي مبارك وصالح مجدي - أتما من هذا الكتاب: «ما يتعلق بالفراعنة والأكاسرة والبطالسة والرومانيين. ووصلا فيه في مدة الإسلام إلى سنة ستين ومائة بعد الألف من الهجرة، وبلغ ما جمع فيه من المجلدات نحو أربعمائة كراسة. وهو الآن لدى سعادة علي مبارك باشا ، والغالب أنه مهيأ للطبع ...» وقد ظن البعض أن المقصود بهذا الكتاب هو كتاب الخطط التوفيقية. غير أن الخطط تم طبعها في سنة 1304-1306ه/1886-1889م، وديوان صالح مجدي طبع في سنة 1911م، فكأن الكتاب الذي كان مهيأ للطبع في سنة 1911م هو غير الخطط قطعا، وخاصة أن موضوعه هو تاريخ مصر في مختلف العصور لا طوبغرافيتها. غير أني رجعت إلى قائمة المطبوعة التي ألفها كل من علي مبارك وصالح مجدي، فلم أجد من بينها كتابا في تاريخ مصر، فلعله لم يطبع.
هذا هو صالح مجدي، وهذا موجز عن جهوده، فقد قضى العمر كله يترجم ويؤلف حتى زادت ترجماته ومؤلفاته - كما يقول علي مبارك - «على خمسة وستين كتابا ورسالة».
أبو السعود وصالح مجدي علمان كما قلنا من أعلام خريجي الألسن، وهما خير نموذجين لهؤلاء الخريجين. وعلى مثالهما بذل إخوانهما الجهد في الترجمة والتأليف. ومن صنفهما: محمد عثمان جلال في ميدان الأدب، وقدري باشا في ميدان القانون.
وقد ربطت الحوادث بين هذين العلمين وبين أستاذهما رفاعة، فعملا معه في قلم الترجمة في عصري محمد علي وإسماعيل ، واشتركا معه في تحرير روضة المدارس وفي ترجمة قانون نابليون. غير أنهما رغم هذا اختلفا الواحد عن الآخر في ميادين أخرى، فقد كان صالح مجدي أقرب إلى علي مبارك في دراساته وثقافته الرياضية والعسكرية، ولهذا تعاون في إنتاجه العلمي مع علي مبارك أكثر من تعاونه مع أستاذه رفاعة. ومع هذا فقد كان فضل رفاعة عليه كبيرا، فإن ثقافته الفرنسية والعربية التي تلقاها في مدرسة الألسن هي التي رشحته للعمل في قلم الترجمة في عهدي محمد علي وإسماعيل، وهي التي رشحته للعمل في مدرسة المهندسخانة في عهدي محمد علي وعباس. وثقافته القانونية في الألسن أيضا هي التي رشحته للعمل في ترجمة القوانين ثم لتولي وظيفة القضاء في عصر إسماعيل؛ لهذا كان مجدي أبر التلاميذ بأستاذه، فهو الوحيد من بين تلاميذ رفاعة الذي أرخ له بعد وفاته، فكتب عنه كتابه القيم - رغم صغره - «حلية الزمن بذكر مناقب خادم الوطن».
أما أبو السعود فكان أكثر تأثرا بأستاذه، فقد تخرج من الألسن شغفا كأستاذه بعلمي التاريخ والجغرافيا؛ ولهذا كانت معظم مترجماته ومؤلفاته في هذين العلمين. وقد اعترف بفضل رفاعة عليه وتأثره به في هذا الميدان في مقدمة كتاب عربه في الجغرافية في عصر إسماعيل، ونشره بالتتابع في صحيفته وادي النيل، ثم طبعه على حدة تحت عنوان: «الدرس المختصر المفيد في علم الجغرافيا الجديد». قال: «وكان قد سبقني في انتهاج هذا المنهاج ... في منتصف هذا القرن الأخير (19) وأول عهد المرحوم محمد علي باشا الكبير، حضرة أستاذي رفاعة بك أفندي الشهير. وهو وإن كان لم يزل له فضل السبق، وكان بالاحترام والتبجيل أحق، ولربما جئت بالغث وجاء بالسمين، وتزييت بالرث وتزيى بالثمين، غير أنه لما كان هذا العلم عبارة عن استقصاء حقيقة أحوال هذا العالم السريع الانتقال من حال إلى حال، واستمرار تنقل الملل والنحل، وغير ذلك من التقلبات الموالية على ممر الأوقات واللحظات، احتاج هذا العلم لمن يقف له بالمرصاد، ويبذل في خدمته على الدوام - كالحاصل في البلاد المتمدنة - كل الاجتهاد؛ فلذلك قفوت من أستاذي الأثر، وحذوت حذوه في مشقة ذلك السفر ... وإذا كان أستاذي حفظه الله قد أتى من هذا الأكل بالباكورة فقد أتيت بوفرة الثمر، أو كان قد بدر بالبدر فقد جئت بالشمس والقمر. وإذا كان قد جاء بالتعريبات الشافية في علم الجغرافيا، فهذه الرسالة بحمد الله هي الخلاصة الكافية ...»
رفاعة الرجل
آمن محمد علي منذ قدم إلى مصر أن سر تفوق الغرب على الشرق إنما هو علوم الغرب ونظمه الجديدة؛ ولذلك اتجهت جهوده الإصلاحية كلها إلى نقل هذه العلوم وهذه النظم إلى مصر. ولقد كان محمد علي حكيما الحكمة كلها في هذا، لأنه نقل الغرب إلى مصر ولم ينقل مصر إلى الغرب، فاحتفظت مصر - وهي تنقل عن الغرب حضارته - بشرقيتها.
وكان رفاعة رافع الطهطاوي خير نموذج للرجل الذي أراد محمد علي أن يخرجه ويكونه للمشاركة في حكم مصر وتعليم المصريين العلوم الجديدة، فهو قد قبس قبسين: قبسا من علم الشرق وقبسا من علم الغرب.
وقد فهم رفاعة عن محمد علي سياسته فاتبعها مع تلاميذه في الألسن، وخرج تلاميذه - في جملتهم - صورا منه يتقنون اللغة العربية وعلومها واللغات الأجنبية وعلومها؛ وبهذا استطاع محمد علي واستطاع رفاعة أن يصبغا الثقافة المصرية في القرن التاسع عشر ويوجهاها حتى اليوم الوجهة الصالحة الطيبة.
كان أصحاب رفاعة يسمونه «الشيخ رفاعة»، فلما سافر إلى باريس كان أصدقاؤه من الفرنسيين والمستشرقين ينادونه ب «المسيو رفاعة». ولما عاد إلى مصر وعين في المدارس الجديدة سمته الحكومة «رفاعة أفندي»، ولكنه رقي بعد ذلك إلى رتبة القائمقام فأصبح لقبه «رفاعة بك». وقد رقي رفاعة - منذ عاد من باريس - في سلم الرتب العسكرية من الملازم الثاني إلى أمير الآلاي.
كان رفاعة دائم العمل، دائب النشاط، واسع العلم، وافر الذكاء، كثير الإنتاج، ومع هذا لم يمنح في حياته لقب «الباشوية» ولم يصل كغيره إلى مرتبة «النظارة»، وهذا أمر يبدو غريبا. وإن كان الأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك يعلله بما كان يمتاز به رفاعة من شمم وإباء وشهامة، فهو يقول: «ولا يمكن تعليل كل ذلك من ناحية الكفاءة والجدارة؛ فإن كفاءة رفاعة بك كانت منقطعة النظير، وجدارته معترف بها من الجميع، فبقاؤه في «نظارة قلم الترجمة» وعدم بلوغه مرتبة الوزارة - وهي النهاية التي يتطلع إليها من ينتظمون في سلك المناصب الحكومية - لا بد أن يكون ذلك راجعا إلى ما اتصف به رفاعة بك من الشمم والإباء؛ فإن هذه الصفات على كونها من أسمى الفضائل ليست محببة إلى الرؤساء وولاة الأمر، ولا ترغبهم كثيرا في أصحابها، ولا تميل بهم إلى إسناد المناصب الرفيعة إليهم.»
وصف صالح مجدي بك أستاذه رفاعة بأنه كان «قصير القامة، عظيما، واسع الجبين، متناسب الأعضاء، أسمر اللون، ثابت السكون. وكان فيه دهاء وحزم، وجرأة وثبات وعزم، وإقدام ورياسة، ووقوف تام على أحوال السياسة، وتفرس في الأمور. وكان حميد السيرة، حسن السريرة.» ثم قال: «وكان فيه زيادة كرم وسماحة، وفريد بلاغة وفصاحة، كثير التواضع جم الأدب، محبا للخير. وكان كلما ارتقى إلى أسنى المناصب ، وجلس على أسمى المراتب، ازداد تواضعه للرفيع والوضيع، وتضاعف سعيه في قضاء حوائج الجميع، ولم يغتر بزينة الدنيا وزخرفها. وكان قليل النوم كثير الانهماك في التأليف والتراجم حتى إنه ما كان يعتني بملابسه ...»
هذه صورة تقريبية لرفاعة هي أقرب الصور للحقيقة؛ فراسمها تلميذ رفاعة وأقرب الناس إليه وأكثرهم تعاونا معه. وهي إلى هذا صورة صادقة للعالم الحق الذي عاش ومات للعلم وفي سبيل العلم، والذي أكسبه العلم صفات العلماء الطيبة، وخاصة التواضع وحب الخير والبعد عن زخرف الدنيا وزينتها.
وقد قاسى رفاعة كثيرا في حياته وخاصة في السنوات التي قضاها في السودان. ومع هذا فقد احتمل الألم في قوة وصبر شأن العظماء من الرجال.
وهناك صفة هامة من صفات رفاعة تستحق الالتفات والتسجيل؛ فقد كان فيها الرائد الأول للمصريين جميعا في العصر الحديث، تلك هي عاطفته الوطنية القوية. كان رفاعة يحب مصر حبا قويا ملك عليه نفسه، وكان الدافع له إلى الإخلاص في عمله والتفاني في أداء واجبه. وقد تغنى بهذا الحب كثيرا في شعره، بل نحن لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن معظم شعره قصائد ومقطوعات وأناشيد وطنية لم يسبقه إليها أو إلى مثلها أحد من المصريين.
وفي كتبه المختلفة كان يعقد الفصول الطوال للتحدث عن الوطن والوطنية وتحليل هذا المعنى وضرب الأمثلة بمن عاشوا وضحوا في سبيل أوطانهم. أثار هذه العاطفة في نفسه طبيعته الخيرة، وقواها ثقافته الواسعة في باريس ودراسته للعلوم الفلسفية والاجتماعية والسياسة هناك، وأذكاها أيضا أنه شاهد ثورة الشعب الفرنسي في سنة 1830م فقد رأى بعينه كيف يبذل الفرنسيون أرواحهم في سبيل وطنهم وحريتهم.
وفي مصر لاحظ رفاعة الجهود الجبارة التي بذلها محمد علي الكبير في إحياء مصر والنهضة بها حربيا وثقافيا واقتصاديا، وأعجبه من هذا البطل حبه للخير والإصلاح، فقال الشعر الكثير في مدحه والإشادة بفضله. وشعر رفاعة لا يرفعه إلى مرتبة الشعراء الممتازين كشوقي ومدرسته، ولكنه يفضل كثيرا شعر معاصريه، فقد ارتفع به عن الأغراض المتداولة في أيامه - كالمديح والرثاء وتاريخ المنشآت والغزل الرخيص في المرأة أو الغلمان - إلى أغراضه السامية من التغني بحب مصر والإشادة بذكرها وذكر جيشها المجيد ومواقعه الحاسمة وأبطاله الصناديد ... إلخ ... إلخ. وشعر رفاعة مبعثر - حتى الآن - في كتبه المؤلفة والمترجمة، ويحتاج في رأيي إلى من يجمعه في ديوان خاص ويعنى بدراسته وتقديمه إلى القراء. وسننقل هنا بعض أبيات من مقطوعات رفاعة الوطنية كنماذج لشعره. قال في قصيدة عنوانها «وطنية»:
ومصر أبهى مولد
لنا وأزهى محتد
ومربع ومعهد
للروح أو للبدن ... ... ... ... ... ...
مصر لها أيادي
عليا على البلاد
وفخرها ينادي
ما المجد إلا ديدني
الكون من مصر اقتبس
نورا وما عنه احتبس
وما مختارها التبس
إلا على وغد دني ... ... ... ... ... ...
دار نعيم زاهية
ومعدن الرفاهية
آمرة وناهية
قدما لكل المدن •••
تحنو على القريب
تحلو لدى الغريب
ترنو إلى الرقيب
شزرا بسهم الأعين ... ... ... ... ... ...
وجندهم
1
صنديد
وقلبه حديد
وخصمه طريد
بل مدرج في كفن •••
كل فتى جليل
يعشق وادي النيل
كم فيه من نزيل
يقول مصر وطني
وقال يشيد بعظمة الجيش المصري:
ننظم جندنا نظما
عجيبا يعجز الفهما
بأسد ترعب الخصما
فمن يقوى يناضلنا
رجال ما لها عدد
كمال نظامها العدد
حلاها الدرع والزرد
سنان الرمح عاملنا •••
وهل لخيولنا شبه
كرائم ما بها شبه
إليها الكل منتبه
وهل تخفى أصائلنا •••
لنا في الجيش فرسان
لهم عند اللقا شان
وفي الهيجاء عنوان
تهيم به صواهلنا •••
مدافعنا القضا فيها
وحكم الحتف في فيها
وأهونها وجافيها
تجود به معاملنا •••
لنا الرؤساء أبطال
رجال أينما جالوا
بصولة عيلم صالوا
يفوق الحد صائلنا •••
لنا في المدن تحصين
وتنظيم وتحسين
وتأييد وتمكين
منيعات معاقلنا
واستمع أخيرا إلى هذه الأنشودة التي يخاطب بها المصريين:
يأيها الجنود
والقادة الأسود
إن أمكم حسود
يعود هامي المدمع
فكم لكم حروب
بنصركم تئوب
لم تثنكم خطوب
ولا اقتحام معمع
وكم شهدتم من وغى
وكم هزمتم من بغى
فمن تعدى وطغى
على حماكم يصرع
إلخ ... إلخ.
كلمة ختامية
وبعد، فهذا هو موجز عن رفاعة الرجل، بل البطل. قضى حياته في العمل، والعمل النافع، وظل على نشاطه ودأبه على الإنتاج حتى أوفى على الخامسة والسبعين فنالت منه الشيخوخة ونال منه المرض، فأصيب بالتهاب في المثانة ولبث يعالج منه مدة حتى حان الحين ووافى الأجل المحتوم، فأسلم الروح إلى بارئها، وكان ذلك في أول ربيع الثاني سنة 1290ه/29 مايو سنة 1873م فاهتزت مصر كلها لموته، ونشر ابنه علي بك فهمي رفاعة نعيه في العدد السابع من السنة الرابعة من مجلة روضة المدارس، قال: «إنه ليحزنني أن أنقل من عدد الوقائع المصرية الأخير ما كتبه حضرة محررها الأستاذ الشهير
1
إيذانا بوفاة والدي رفاعة بك رافع طاب ثراه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه. وحيث كانت دموع الأسف على فقده شاغلة لي عن القيام بحقوقه الواجبة علي من بعده، فليس في وسعي الآن إلا الدعاء له بالرحمة والرضوان.»
ولست أجد أخيرا وصفا لجنازته وما أصاب الناس من ألم لوفاته خيرا من قول أستاذنا الجليل أحمد أمين بك في خاتمة مقالاته عن رفاعة، قال: «... اهتزت مصر لموته (أي رفاعة)، واحتشد لتشييع جنازته الألوف المؤلفة من رجال المعارف والأمراء والنبلاء وتلاميذ المدارس ، وازدحمت الشوارع بالناس يردون بعض جميله: يذكره الأزهريون على أنه ابنهم، والمتعلمون المدنيون على أنه أبوهم، والجالية الفرنسية على أنه أخوهم، والمصريون كلهم على أنه مؤسس نهضتهم. وكلهم يتوجع لفقده ويشيد بذكره. وسار المشهد من منزله بالمهمشا حتى إذا قارب المدينة كان ينتظره شيخ الأزهر وعلماؤه وطلبته، فاشتركوا في تشييع الجنازة، ووضع النعش في القبلة الجديدة، ولا يكون ذلك إلا لعظيم، وأخذ الأفاضل في رثائه بالقصائد والخطب، ثم حمل إلى «بستان العلماء» حيث طويت صحيفته، وبقيت آثاره خالدة تعظم وتتزايد وتتوالد. رحمه الله فقد صنع لأمته كثيرا ...»
أجل، رحم الله رفاعة رحمة واسعة فقد صنع لأمته كثيرا ...
من مراجع البحث
ذكرنا في صفحات الكتاب المختلفة أسماء المراجع الكثيرة التي أفدنا منها، ثم رأينا أن نذكر هنا بيانات كاملة عن أهم هذه المراجع: (1) المراجع العربية (1-1) مخطوطات (1)
أبو السعود «عبد الله أفندي»: منحة أهل العصر بمنتقى تاريخ محيي مصر، مخطوط، مكتبة البلدية بإسكندرية، رقم 4640ج. (2)
برنار: ترجمة تاريخ الديار المصرية في عهد الدولة المحمدية العلوية، ترجمه إلى العربية أبو السعود أفندي، مخطوط بمكتبة البلدية بإسكندرية، رقم 3344ج. (3)
الشيال «جمال الدين»: تاريخ الترجمة في عهد الحملة الفرنسية. (4)
تاريخ الترجمة في عهد محمد علي. (نسختان على الآلة الكاتبة، وسيطبعان قريبا). (5)
عبد الكريم «الدكتور أحمد عزت»: تاريخ التعليم في عصر عباس وسعيد. (6)
تاريخ التعليم في عصر إسماعيل وأوائل حكم توفيق. (نسختان على الآلة الكاتبة، وهما الآن تحت الطبع). (7)
مجدي «السيد صالح بك»: حلية الزمن بمناقب خادم الوطن «رفاعة الطهطاوي»، مخطوط بدار الكتب الملكية بالقاهرة، رقم 1026 تاريخ. (1-2) وثائق مطبوعة (1)
رستم «الدكتور أسد»: بيان بوثائق الشام وما يساعد على فهمها ويوضح مقاصد محمد علي الكبير (عن المحفوظات الملكية المصرية بعابدين)، 4 مجلدات، بيروت 1940-1943م. (2)
سامي «المرحوم أمين باشا»: تقويم النيل وعصر محمد علي، مطبعة دار الكتب، القاهرة 1928م. (1-3) مراجع عامة مطبوعة (1)
الجبرتي «الشيخ عبد الرحمن»: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، 4 أجزاء، المطبعة الأهلية، القاهرة 1322ه. (2)
الرافعي «الأستاذ عبد الرحمن بك»: تاريخ الحركة القومية، الجزء الثالث، عصر محمد علي ، القاهرة 1930م. (3)
عصر إسماعيل، جزءان، القاهرة 1932م. (4)
زيدان «جورجي»: تاريخ آداب اللغة العربية، ج4، الطبعة الثانية، القاهرة 1937م. (5)
تراجم مشاهير الشرق في القرن 19، جزءان، القاهرة 1902-1903م. (6)
سامي «أمين باشا»: التعليم في مصر، مطبعة المعارف، القاهرة 1917م. (7)
شيخو «الأب لويس»: الآداب العربية في القرن التاسع عشر، جزءان، بيروت 1908-1910م. (8)
الطهطاوي «الشيخ رفاعة رافع بك»: تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز، القاهرة 1323ه (1905م). (9)
مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، القاهرة 1330ه (1912م). (10)
المرشد الأمين للبنات والبنين، مطبعة المدارس الملكية، 1289ه. (11)
طوسون «الأمير عمر باشا»: البعثات العلمية في عهد محمد علي ثم في عهدي عباس الأول وسعيد، الإسكندرية 1934م. (12)
عبد الكريم «الدكتور أحمد عزت»: تاريخ التعليم في عصر محمد علي، القاهرة 1938م. (13)
عبده «الدكتور إبراهيم»: تاريخ الوقائع المصرية، بولاق 1942م. (14)
غربال «الأستاذ محمد شفيق بك»: محمد علي الكبير، القاهرة 1944م. (15)
فنلون: مواقع الأفلاك في وقائع تليماك، ترجمه عن الفرنسية رفاعة رافع الطهطاوي، بيروت «بدون تاريخ». (16)
قورتنبير: الدرس المختصر المفيد في علم الجغرافيا الجديد، ترجمه إلى العربية أبو السعود أفندي، القاهرة 1286ه. (17)
مبارك «علي باشا»: الخطط التوفيقية الجديدة، 20 جزءا ، بولاق 1304-1306ه. (18)
مجدي «السيد صالح بك»: ديوان السيد صالح مجدي بك، بولاق 1311ه. (1-4) مقالات في صحف ومجلات (1)
أمين «الأستاذ أحمد بك»: الشيخ رفاعة الطهطاوي، الثقافة، الأعداد: 230-235. (2)
حسين «الأستاذ محمد الصادق بك»: رفاعة بك، السياسة الأسبوعية، العدد 64، 28 مايو 1927م. (3)
الشيال «جمال الدين»: الدكتور برون والشيخان محمد عياد الطنطاوي ومحمد عمر التونسي، مجلة كلية الآداب بجامعة فاروق الأول بإسكندرية، المجلد الثاني، 1944م. (4)
عبد المجيد «الأستاذ عبد العزيز»: أول مدرسة مصرية في السودان، الثقافة، العددان 224 و225. (5)
الوقائع المصرية، أعداد مختلفة منها. (2) المراجع الأجنبية (1)
Bowring: Report on Egypt and Candia, London, 1840. (2)
Artin “Yacoub Pacha”: I’ Instruction Publique en Egypte, Paris, 1890. (3)
Carra De Vaux “Baron”: Les Penseurs de I’ Islam, t. v. Paris, 1926. (4)
Hamont: I’ Egypte Sous Med Ali, 2ts, Paris 1843. (5)
Lane “ed. W.”: The Manners and Customs of Modern Egyptians, London, 1860. (6)
Dunne “J. Heyworth”: Printing and Translations under Med Ali of Egypt. (Journal of the Royal Asiatic Society July 1940).
Bog aan la aqoon