215

إن بردن نقود ماني البخيل صريت،

وإن حرن بكار ما هن صفايح زيت.

إن الغنيمة إذا أصبحت باردة في شكل نقود فإنه لا يصرها ويبخل بها، أما إذا تطلب الموقف القتال فهو يقاتل من أجل بكرات تستحق الموت وليس من أجل صفايح زيت.

الكجور والكجورية:

الكجور كلمة كجور تعني الكثير بالنسبة للشعوب الأفريقية، وعلى وجه الخصوص شعوب الحضارات القديمة، وهي ترادف كلمة حكيم من حيث المعنى والتوصيف. والمعلوم أن الحكماء هم قادة أقوامهم في التوجيه والنصح ويتقاضى إليه الناس للمشورة وقضاء وحل العقد.

والكجور نوع من الممارسات الروحية التي يمارسها الإنسان البدائي في أفريقيا عامة ويشتهر بها فى السودان بعض القبائل الأفريقية الأصيلة مثل الدينكا والنوير والشلك في جنوب السودان، وقبائل النوبة في مناطق جبال النوبة. ولا شك أن النوبة هم أشهر شعب عرف عنه ممارسة الكجور على نطاق واسع في أرجاء السودان كله. الكجور عادة تتسم بالغموض، فيها سحر بين واضح يستخدم في شتي ضروب الحياة عند ذلك الإنسان البدائي في سعده وشقائه، في عافيته ومرضه.

الكجور صفة سحرية يكتسبها الإنسان العادي وذلك عندما يكون الإنسان منتميا إلى سلالة تحمل سحر الكجور وتتعامل به. تعود ممارسة الكجور في مناطق جبال النوبة لعوامل أهمها العوامل الوراثية التي يقلدها الإنسان النوباوي على حسب مكانته الإجتماعية ومقام أسرته بين الناس في البلدة. الكجور ليس إنسانا بل هي الصفة السحرية التي يكتسبها نفر من الناس وعليه يدعى كجورا؛ فالكجور ليست كالمهن الحرفية، الطب، وغيره من المهن التي تكتسب بالتعلم والموهبة إنما هي شيء ينمو داخل الإنسان منذ ولادته شيئا فشيئا حتى تظهر أماراته واضحة. • أنواع الكجور: ينقسم الكجور إلى ثلاثة أنواع حسب اعتقاد بعض الناس في مناطق جبال النوبة. - الكجور الأبيض، كما يحلو لبعض الناس أن يسموه؛ وهو الكجور الصالح، ويستخدم لمصلحة الإنسان في علاج الأمراض، وحراسة المزروعات وحمايتها من الأرواح الشريرة والآفات الضارة وبواعث التلف؛ وذلك في ظل المحافظة على تأدية المراسم والأسبار حسب المواسم والموضوعات في البلدة. - الكجور الأحمر وفى بعض المناطق الأسود فهو كجور الأنفس الشريرة، لا يحبه الناس، حقود هدام يعمل أعمالا شريرة في سحر الناس، وإذا قصد حامله حسدا أصاب بسحره من يشاء من الناس. إن حامل الكجور من هذا النوع يصعب على الإنسان العادي النظر إلى عينيه الحادتين؛ إذ إنها تتوهج شرا لونها محمر ضوءها خافت لا يستطيع المرء التمعن فيه. الشخص الذي يحمل هذا النوع من الكجور غير موثوق فيه، مكروه لا يقربه الناس حتى أهله. ويعتقد أن هؤلاء الناس الذين فيهم هذا النوع من الكجور الأحمر يستخدمون سحرهم في نزع قلوب الأطفال من صدورهم أو مص دماء الناس بالسحر، إما أن يسحر الشخص المقصود ويجعله تائها غائب الوعي ثم ينقض عليه ويمص دم ضحيته في هدوء، أو يعمل تنويما سحريا للإنسان فيكون الإنسان في حالة شخص مخدر وكأنه نائم ولكنه صاح جزئيا يشاهد أفعال الساحر وهو يفعل فعلته، ولكن المفعول به لا يستطيع أن يحرك ساكنا أو يمنع عن نفسه الأذى، وإذا لم يتواجد كجور صالح يتدخل ليبطل سحر الكجور الشرير يتأذى منه الناس كثيرا. وعلى الرغم من أن وجود هذا النوع من الكجرة قليل جدا بين أفراد المجتمع إلا أنهم أخطر الناس إذا لم يتم محاصرتهم بواسطة الكجرة الصالحين ومنعهم من ممارسة سحرهم ضد الناس العاديين. - الكجور الثالث نوع خاص يحمله أشخاص مميزون لهم صفات غير عادية تظهر تلك الصفات لدي الإنسان منذ مراحل نموه الأولى حيث يقوم الشخص بتصرفات غريبة وأعمال مخالفة للعادة البشرية، كثير التمثيل والمحاكاة، مضحك، وعندما تظهر تلك الأمارات في الإنسان وهو كجور التهريج أو كما يسمى في بعض المناطق «تدكا»، وهو نفس المعنى الذي يحمله هذا النوع من الكجور عادة، وقتئذ يشهد الكجور الكبير أن ذلك الشخص اكتسب التدكا أي الكجور المهرج، فلا بد من الشروع في تنصيب الشخص الذي يحمل هذا النوع من الكجورية عمل طقوس معينة لتسليمه القصبة، وهي أداة العمل لدى هؤلاء الكجرة المهرجين، وهي قصبة عادية تقطع من أي مزرعة في أي وقت ويسمي عليها الكجور الكبير حين يعمل عليها بعض الطلاسم فتكون بعد ذلك قصبة سحرية يستخدمها الكجور المهرج لأداء أعماله، وفي علاج الأمراض التي تتصل بكجوريته لدى الأشخاص الذين يصابون بأمراض التدكا على وجه الخصوص وأمراض أخرى يصاب بها العامة من الناس. وهؤلاء الناس الذين يحملون هذا النوع من الكجور هم أطيب الناس وأرقهم مشاعر يسعون بين الناس بالفرح وهم كوميديون بالفطرة يمضون حياتهم في غناء ورقص وفكاهة، وهم بالضبط يفعلون ما يفعله مهرجو السيرك، الواحد منهم كجور مساعد يقوم بعلاج بعض الأمراض التي تتعلق بنفس عادات تدكا أو أمراض ذات الصلة، وهو يعمل بجانب الكجور الأبيض في حراسة الناس ومكافحة الغش والخداع عن طريق التمثيل والمحاكاة، وبهذا المنهج يستطيع هذا الكجور فضح المخادعين وكشف ألاعيب الناس. هذا الكجور الثالث هو بهجة المناسبات؛ إذ إنهم يخطفون الأضواء لمنع الحسد وحماية الناس من شر الإصابة بالعين.

هذا باختصار عن أنواع الكجور. • أما اختصاصات الكجور السحرية في مختلف مناطق جبال النوبة فهي عمود العمل المنشط لنمو الحياة الاجتماعية في كافة أوجه الحياة. - كجور المطر: يعتقد في سحره إثارة الرياح وتحريك السحب وبعمل طقوس كجورية معينة يعتقد أنها تعمل على هطول المطر في المكان المراد، وقد يكون المكان الذي يطلب إليه المطر زرعا أو كامل البلدة، وغالبا يكون ذلك الفعل في فصل الخريف وقت هطول الأمطار في مناطق جبال النوبة، وهذا الكجور يختص به في كل بلدة جماعة معينة أو أسرة يعرف عنهم اختصاصهم بعمل سبر المطر، وعندما يحتاج الناس للمطر يسرع المسئولون في البلدة إلى ملاك سحر كجور المطر لكي يقوموا باللازم، وتلك الأسر التي لها أهلية امتلاك كجور المطر تتمتع بحق السيطرة على معظم منابع المياه التي على أرض البلدة؛ إذ يوجد في معظم مناطق جبال النوبة آبار صخرية ينبع منها الماء تسمى «سلو»، وتلك الآبار غالبا ما تكون مسكونة بعالم الجن، ذلك العالم الذي يتمثل في بعض الدواب والحيوانات مثل القطط السوداء، ولكن في معظم الأوقات يسكنها نوع معين من الثعابين ويسمى «ثعبان السلو» انتسابا لذلك الينبوع، ومهمة ذلك الثعبان هو الحراسة ومنع الناس العاديين من الاستفادة من الماء إلا بإذن من الكجور أو أصحاب السلو، ما عدا ذلك لا يمكن لزيد من الناس أن يدخل إلى السلو لغرض غرف الماء، وإلا تعرض لعقاب شديد من قبل الثعبان قد يصل إلى درجة الموت إذا لم يتدخل الكجور في الوقت المناسب لإنقاذه. - كجور الرياح: هذا النوع من السحر يختص به كجور يجيد التعامل مع الرياح والعواصف ويعتقد أنه يعمل على توجيهها وتسييرها حسب الغرض، ويستفاد من ذلك في منع الكوارث الطبيعية، مثلا يقوم بعمل سبر يسلط به الرياح ضد الأعداء، أو يحول به خط سير الجراد والآفات الذي قد يقتحم المزروعات وإتلافها. ويقوم كجور الرياح بالتعاون مع كجور المطر لتقليل هطول الأمطار بغزارة إذا شعر الناس بخطورة المياه التي قد تغمر المحاصيل الزراعية مما يتسبب في إتلافها، ويمكن أن يؤدي إلى حدوث مجاعة في البلد، فيقوم كجور الرياح بعمل طقوس تحويل السحب الممطرة من مناطق مغمورة بالمياه وإبعادها. - كجور النار: هذا النوع من الكجور يحارب الظلام، يأمر الناس في البلد بأن يقوموا بإشعال النار والصعود بها إلى أماكن عالية أو مرتفعة أو على الصخور الكبيرة عندما يحل الظلام الحالك في الليلة المشئومة. والليلة المشئومة، ويسميها الناس في بعض المناطق إندولك، هي ذلك الحدث المثير الذي يقع في مناطق جبال النوبة في فصل الخريف عندما تكون السماء ملبدة بالسحب السوداء، وعلى أثرها يعم الظلام في أرجاء البلدة، وتقوم كل أسرة بتوزيع حزم من أعشاب أو أعواد على أفرادها مشعلة بالنار، فيصعدون مجتمعين إلى أعلى موقع أمام بيتهم ويتوجهون بالدعاء وبصوت عال متضرعين إلى لله سبحانه وتعالى سائلين المولى أن يدفع عنهم البلاء ويبعد عنهم الشر ويعافي مرضاهم ويبارك لهم فيما أعطاهم، ويدفع أعداءهم، وتتم تلك العملية في جميع أركان البلدة في وقت واحد تتعالى الأصوات بالدعاء ابتهالا من شر تلك الليلة الظلماء.

وضوء تلك الحزم المشتعلة يقهر الظلام في البلدة ويبعث الراحة والطمأنينة في نفوس النساء والأطفال، وهو حدث يقع بين فترة وأخرى في أزمان متباعدة. وفى اليوم التالي يأمر كجور النار أهل البلدة بعمل الكرامة أو كما يسمونها، وهي عبارة عن أي شي يمكن أن يتوفر لدى الأسرة مثل الذرة أو أي حبوب يتم طبخها في الخلاء وتوزيعها للناس على شكل صدقة، أي يجتمع كل أهالي البلدة في مكان معين يكون فسيحا وتقوم كل أسرة بطبخ ما لديها من طعام، ويكون ذلك في الفترة الصباحية عند بداية طلوع الشمس، وبعد أن ينتهي كل الناس من عملية الطبخ تقف الأسر في صفوف منتظمة متوجهين إلى الله بالدعاء والتضرع؛ استكمالا لما كان في الليلة الماضية، ثم يرمي كل واحد منهم قليلا من الطعام في اتجاه الشمس وبعدها يتناول الناس ما بقي من الطعام مبتهجين بما تم من عمل يرجون الله أن يتقبل الكرامة.

كما يوجد العديد من الكجور البسيط في شئون الصيد (الداري) وعمل أسبار الرقصات الشعبية، وكجور المحاصيل الزراعية إذ يوجد كجور خاص يمنع الناس عن تناول بعض المزروعات مثل القرع والذرة الحلوة وأغلب مزروعات الجباريك إلا بعد إذنه، وإذا تصرف أي شخص من تلقاء نفسه ودخل مزرعته ثم قطع من ثمارها وأكله تظهر عليه أعراض مرضية خطيرة قد تودي بحياته. وهذا الحكم يسري على جميع الناس في البلدة. نعم كل شخص يمتلك أراضي مزروعة وفيها خيرات كثيرة حقه وأسرته، ولكن محرم عليه الأكل منها حتى ولو نضج كل ما فيها تماما، وعليه أن ينتظر حتى يأذن الكجور بذلك ويبدأ الناس في تناول أطعمة مزروعات السنة الجديدة في وقت واحد، وذلك لكي تعم الفرحة كل بيوت البلدة. • الأسبار: هناك مجموعة من الأعمال والطقوس يقوم بها مختلف جماعة الكجرة وهي تسمى الأسبار، وبلغة بعض النوبة تسمى «تمزيء» تلك الطقوس والطلاسم هي الأداة التنفيذية لعمل الكجورية، وهي المحور الأساسي الذي يورد السحر في عمل الكجور، والأسبار هي: - سبر العيش ينفذ بعض نضوج المحصول وبدء الحصاد. - سبر الجبراكة يمكن أن ينفذه أي شخص في الأسرة بشرط أن يكون ملما بأعمال الكجور الخاص وهو عبارة عن دعوات وشكر، لإنجاح المزروعات وحفظها. - سبر القرع (كرجنقل). - سبر التبش نوع من الخيار بيضاوي الشكل يوجد بأنواع كثيرة في مناطق جبال النوبة. - سبر اللوبة أو اللوبيا وهو حدث مشهور يعرفه كل الناس في جميع مناطق جبال النوبة. - سبر الصيد ويقام في فصل الصيف بعد الانتهاء من أعمال الحصاد وتخزين المزروعات.

Bog aan la aqoon