Richard Feynman: Noloshiisa Cilmiga
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Noocyada
غير أن خرقه للأعراف والتقاليد لم يقتصر فقط على الأمور الجنسية؛ ففي كل مكان وجد فيه ما يعتبره من قبيل الهراء، كان يتمرد، وعلى نحو يخالف الأعراف الرسمية في أغلب الأحيان. وهناك واقعة حدثت مع عدة أطباء نفسانيين كانوا يجرون فحصا ثانيا له في صيف عام 1947 جديرة بأن تكون موضوع إحدى حلقات مسلسل الكوميديا الشهير «أبوت وكوستيللو»، وقد صارت واقعة شهيرة فيما بعد. فنتيجة للهياج الذي أبداه خلال المقابلة، أعلن الأطباء أنه غير لائق للخدمة من الناحية العقلية، وهي النتيجة التي جعلته وهانز بيته ينفجران في ضحك متصل بلا توقف لمدة نصف ساعة بعد عودته إلى العمل.
طور فاينمان لاحقا مثل هذه الحكايات لتكون جزءا من أسطورة فاينمان التي كان يحب الترويج لها. غير أنه في عام 1947 لم يكن قد حقق شهرة بعد، وكان تراكم سلوكياته ومواقفه غير التقليدية متزامنا مع ما صار يمثل أكثر عامين في حياته قوة من حيث النشاط الإبداعي، وهي فترة اكتشافاته التجريبية التي جعلت من حل مسألة رياضية غامضة أمرا أكثر إلحاحا من أجل تحقيق تقدم فيزيائي.
كان الاكتشاف التجريبي للبوزيترون عام 1932 بمنزلة إثبات مهم لنظرية الديناميكا الكهربائية الكمية المتفقة مع النسبية التي توصل إليها ديراك، إذ مثل سابقة أولى في التاريخ لاكتشاف جسيم أولي لم يكن مكتشفا من قبل عن طريق الحدس وعلى أساس تفكير نظري محض. غير أنه أضاف، حرفيا، مستوى لانهائيا جديدا ومحبطا من الارتباك في أوساط علماء الفيزياء الذين كانوا يسعون لفهم منطق تنبؤات النظرية. ففور تأكيد وجود البوزيترونات، واجه علماء الفيزياء وجها لوجه التعقيدات المرعبة التي طرحها احتمال وجود «بحر» ديراك والتفاعلات بين الإلكترونات وتلك الجسيمات المكتشفة حديثا - البوزيترونات - من ناحية وبين الإشعاع من ناحية أخرى، وهي ذات التفاعلات التي كان فاينمان في البداية يأمل في محوها من النظرية الكمية للكهرومغناطيسية.
وفي حين كانت التفاعلات المتوقعة للإلكترونات المفردة مع الفوتونات المفردة أو حتى مع موجات الضوء أو الراديو الكهرومغناطيسية التقليدية تتفق على نحو مدهش مع المشاهدات، فإنه كلما حاول علماء الفيزياء الذهاب لما هو أبعد من هذا التقدير التقريبي الأبسط - بإضافة تفاعلات كمية متعددة أو حتى بمحاولة تناول المشكلة طويلة الأمد المتعلقة بتفاعل إلكترون مع نفسه، وهي ذات المشكلة التي حاول فاينمان في البداية حلها أثناء دراسته الجامعية - ظلت حلولهم تحمل قيم ما لانهاية، ومن ثم كانت حلولا واهية. كان من الممكن في ذلك الحين تجاهل هذا العجز عن فهم نظرية من الواضح أنها صحيحة عند مستوى عميق معين دون خوف في الغالبية العظمى من التطبيقات العملية، غير أنه أقض مضجع مجموعة معينة من علماء الفيزياء الطموحين وكان أشبه بعصب مؤلم مكشوف. ويمكن استجلاء شعور اليأس الذي هيمن على المشهد من خلال تصريحات العديد من أعظم علماء الفيزياء النظرية في ذلك الوقت. كتب هايزنبرج مثلا عام 1929 يقول إنه أصيب بالإحباط خلال محاولته فهم أفكار ديراك وأنه قلق من أن يظل «للأبد حانقا على ديراك». وعبر فولفجانج باولي عام 1929 عن مخاوفه (التي عكست بشكل تنبئي مخاوف أفصح عنها فيما بعد العديد من علماء الفيزياء، ومن بينهم فاينمان، بشأن تطورات أحداث وقعت في علم الفيزياء) بقوله: «لست راضيا تمام الرضا ... وتحديدا فإن الطاقة الذاتية للإلكترون تخلق صعوبات أكبر بكثير مما ظن هايزنبرج في البداية. أيضا فإن النتائج الجديدة التي تؤدي إليها نظريتنا مشكوك فيها تماما، والخطر عظيم بحق؛ أن يفقد الأمر برمته الاتصال بعلم الفيزياء ويتحول إلى رياضة بحتة.»
كتب هايزنبرج بدوره إلى باولي عام 1935 يقول: «فيما يخص الديناميكا الكهربائية الكمية ... نحن نعلم أن كل شيء خطأ. ولكن حتى نعثر على الاتجاه الصحيح الذي ينبغي علينا السير فيه ... علينا أن نعرف عواقب الصياغة الرسمية الحالية على نحو أفضل كثيرا من معرفتنا الحالية.» ثم أضاف لاحقا في بحث تال: «النظرية الحالية للبوزيترون والديناميكا الكهربائية الكمية يجب اعتبارها مؤقتة.» وحتى ديراك قال عن الديناميكا الكهربائية الكمية عام 1937: «نظرا لتعقيدها البالغ، فإن معظم علماء الفيزياء سوف يسعدهم أن يشهدوا نهاية لها.»
كانت المخاوف من الشدة بحيث إن هؤلاء الفيزيائيين - وبخاصة عالم الفيزياء الدنماركي العظيم نيلز بور - أبدوا قلقهم من أن ميكانيكا الكم ذاتها ربما تكون هي أصل المشكلة، وربما كان من الواجب استبدال فيزياء مختلفة بها. كتب بور إلى ديراك عام 1930 يقول: «كنت أفكر مليا في الآونة الأخيرة في مشكلات نظرية النسبية، وأعتقد يقينا أن حل المشكلات الحالية لن يتحقق دون مراجعة أفكارنا الفيزيائية العامة الأكثر عمقا من تلك التي نتباحث بشأنها في ميكانيكا الكم الحالية.»
حتى باولي اقترح، عام 1936، أنه ربما كان من الضروري مراجعة ميكانيكا الكم عند التعامل مع منظومات - مثل نظرية فجوة ديراك - تسمح بوجود عدد لانهائي من الجسيمات داخل حيز خاو؛ لأنه وراء قيمة ما لانهاية الشهيرة المرتبطة بالطاقة الذاتية للإلكترون نتيجة لتفاعله مع مجاله الكهرومغناطيسي، جاء تقديم ديراك للجسيمات المضادة ليخلق فئة جديدة من التفاعلات اللانهائية التي زادت الأمور غموضا وتعقيدا في عالم الكم. لم تتضمن تلك التفاعلات الجديدة الفوتونات الوسيطة التي عمل فاينمان وويلر جاهدين من أجل التخلص منها، وإنما تضمنت أزواجا «افتراضية» من الإلكترونات والبوزيترونات.
ولما كان علماء الفيزياء قد صاروا يعلمون الآن أن الجسيمات والجسيمات المضادة يمكن أن تفنى متحولة إلى إشعاع صاف، فإن العملية العكسية، أي التحول الكامل للطاقة إلى كتلة، من الممكن أيضا - من حيث المبدأ - أن تحدث. إلا أنه يوجد قيود على هذا التحول. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للإلكترون وجسيمه المضاد، البوزيترون، أن يتحولا إلى جسيم إشعاعي واحد، أي الفوتون، لنفس السبب الذي يجعل القنبلة عندما تنفجر، لا تتطاير شظاياها في اتجاه واحد. فإذا التقى إلكترون مع بوزيترون وهما يسيران في اتجاهين متضادين وبنفس السرعة فإن زخمهما الإجمالي يكون صفرا. وإذا نتج عن فنائهما فوتون واحد، فإنه سيتطاير بنفس سرعة الضوء في اتجاه ما، حاملا زخما قيمته غير صفرية. وهكذا نرى أنه لا بد أن ينتج فوتونان على الأقل عند فناء إلكترون وبوزيترون، بحيث يمكن للجسيمين المنبعثين أن ينطلقا في اتجاهين متقابلين ومتساويين أيضا. وبالمثل، لا يمكن لفوتون واحد أن يتحول فجأة إلى زوج مكون من بوزيترون وإلكترون؛ إذ ينبغي أن يجتمع فوتونان حتى ينتجا ذلك الزوج النهائي.
لكن علينا أن نتذكر أنه في حالة الجسيمات الافتراضية، تكون كل الاحتمالات مستبعدة، فلا حاجة للاحتفاظ بالطاقة والزخم ما دام الجسيم الافتراضي يتلاشى في وقت قصير للغاية بحيث لا يمكن قياسه مباشرة. ومن ثم، فإن الفوتون الافتراضي يمكنه التحول تلقائيا إلى زوج مكون من إلكترون وبوزيترون، ما دام هذا الزوج يمكنه الانحلال والتحول مرة أخرى إلى فوتون افتراضي واحد خلال فترة زمنية قصيرة.
يطلق على هذه العملية التي ينشطر فيها فوتون لحظيا إلى زوج مكون من إلكترون وبوزيترون اسم «استقطاب الفراغ». وقد أطلق عليها هذا الاسم لأنه في وسط حقيقي كأي جسم صلب مكون من ذرات - تحتوي على شحنات موجبة وسالبة - إذا صنعنا مجالا كهربيا خارجيا كبيرا، فإنه يمكننا «استقطاب» الوسط بفصل الشحنات مختلفة النوع؛ فتندفع الشحنات السالبة في اتجاه بفعل المجال، في حين تنجذب الشحنات الموجبة في الاتجاه الآخر. ومن ثم تظل المادة المتعادلة متعادلة، غير أن الشحنات ذات العلامة المختلفة تنفصل مكانيا. هذا ما يحدث لحظيا في الفراغ عندما ينقسم الفوتون مؤقتا إلى إلكترون سالب الشحنة وجسيم مضاد، أو بوزيترون، موجب الشحنة. وهكذا يستقطب الفراغ لحظيا.
Bog aan la aqoon