Richard Feynman: Noloshiisa Cilmiga
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Noocyada
إذا نحينا جانبا آراء المحتالين من دعاة العلم الزائف، فسنجد أن مسألة الوعي ليست هي الأساس. بل على العكس، زعم فاينمان أنه لا بد من اعتبار النظام والراصد معا نظاما كميا واحدا (وهذا صحيح في أساسه على أي حال). فإذا كانت أداة الرصد «كبيرة» - بمعنى أن لها عدة درجات داخلية من الحرية - فبإمكاننا إذن أن نبين أن مثل هذا النظام الكبير يسلك سلوكا تقليديا؛ أي إن التداخل بين حالات الكم الممكنة المختلفة التي يمكن مشاهدتها بالعين المجردة لأداة القياس يصبح متناهي الصغر؛ إلى حد يكون معه غير ملائم على الإطلاق من الناحية العملية.
وعن طريق إجراء فعل القياس نفسه، فإننا بطريقة ما نصنع تداخلا بين نظام الرصد «الكبير» وبين نظام كمي «صغير»، فيصيران مرتبطين معا. هذا الارتباط يرغم في نهاية الأمر نظام ميكانيكا الكم الصغير على الوجود في حالة واحدة محددة بدقة، وهي الحالة التي «نقيس» بعد ذلك النظام فيها. وبهذا المعنى نقول إن الدالة الموجية للنظام الصغير قد «انهارت» (بمعنى أن نطاق احتمال كون النظام في أي حالة أخرى غير تلك التي نقيسها صار الآن صفرا). وليس للبشر أي علاقة بهذا الأمر؛ فنظام الرصد يجب ببساطة أن يكون كبيرا وتقليديا ومرتبطا بالنظام الكمي بواسطة عملية القياس.
غير أن كل هذا لم يحل المشكلة بعد، التي تأخذ حينئذ شكل السؤال: كيف يمكننا تحديد مكونات جزء الرصد التقليدي الكبير من النظام المجمع وتحديد مكونات جزء الكم والفصل بينها؟ لقد أمضى فاينمان وقتا لا يستهان به في مناقشة هذه المسألة مع فون نويمان. ولم يقتنع فاينمان بحجة فون نويمان بأنه يجب على شخص ما أن يحدد - اعتباطيا إلى حد ما - أين يقع الخط الفاصل بين الراصد التقليدي وبين ما يرصده. لقد بدت له تلك الحجة وكأنها مراوغة هروب فلسفية. لقد آمن فاينمان بأنه ما دامت ميكانيكا الكم هي الأساس الكامن وراء الحقيقة، فيجب دائما دمجها في كل شيء بدلا من إجراء عمليات فصل ظرفية ملفقة بين الراصد وما يرصده. في حقيقة الأمر، لقد عمل فاينمان جاهدا على تعريف القياسات في ضوء الارتباطات بين النظم الفرعية المختلفة وترك حجم أحدها يصل إلى ما لانهاية. إذا ظلت الارتباطات اللاصفرية والمحدودة بنهاية داخل هذا الحد، سمى فاينمان هذا «قياسا» للنظام الفرعي الأصغر، الذي يمكن جعله دقيقا اعتباطيا مع زيادة حجم الجزء «القائم بالقياس» من النظام أكثر وأكثر. وقد عبر فاينمان عن الأمر ببراعة في ملحوظة كتبها لنفسه بخصوص مثال لبقعة على لوح فوتوغرافيا سجلت بطريقة ما حدثا يتعلق بذرة واحدة فقال:
ما الذي يمكننا أن نتوقع الوصول إليه إذا قلنا إننا غير قادرين على أن نرى بدقة أشياء كثيرة تتعلق بذرة واحدة؟ ما الذي يمكننا في الواقع رؤيته؟ المقترح: خصائص الذرة الواحدة التي يمكن قياسها هي تلك التي يمكن ربطها (بنطاق احتمالات محدود) (بواسطة ترتيبات تجريبية متنوعة) بعدد غير محدود من الذرات (أي إن البقعة الفوتوغرافية «حقيقية» لأنه يمكن تكبيرها وعرضها على الشاشات، أو التأثير على أوعية ضخمة تحتوي على مواد كيميائية، أو على أمخاخ كبيرة ... إلخ إلخ: يمكن جعلها تؤثر على أشياء تتزايد أحجامها إلى ما لانهاية، ويمكنها تحديد هل سيتجه قطار ما من نيويورك إلى شيكاجو أم لا، أو إن كانت قنبلة ذرية ستنفجر أم لا ... إلخ).
لا تزال نظرية القياس تمثل «بعبع» ميكانيكا الكم. وعلى الرغم من تحقق تقدم عظيم، فلا يزال من الإنصاف أن نقول إن الوصف الكامل للكيفية التي ينشأ بها العالم التقليدي الذي نعيش فيه من واقع الكم الكامن الخفي لم يمكن الوصول إليه بعد، على الأقل بدرجة ترضي جميع علماء الفيزياء.
هذا المثال على بؤرة تركيز فاينمان أثناء مرحلة إنهاء أطروحته يتسم بالأهمية؛ لأنه يوضح القضايا المعقدة التي أصر ذلك الطالب بالدراسات العليا المتخصص في علم الفيزياء على التعامل معها خلال عمله. بالإضافة إلى ذلك فإن «صيغة تكامل المسار» التي وضعها فاينمان جعلت من الممكن تقسيم النظم إلى أجزاء منفصلة، وهو ما يبدو أمرا محوريا لفكرة القياس في ميكانيكا الكم؛ إذ يسمح لنا بعزل أجزاء نظام ما إما لأننا لا نقيسها أو لا نستطيع قياسها، وفصل تلك الأجزاء فصلا واضحا عن الأجزاء التي نريد التركيز عليها. وهذا الأمر بصفة عامة غير ممكن في الصيغ التقليدية لميكانيكا الكم.
الفكرة مباشرة وواضحة نسبيا في حقيقة الأمر. إننا نجمع كل تلك الأوزان المتوافقة مع الفعل المرتبط بالمسارات أو أجزاء المسارات التي نرغب في تجاهل تفاصيلها المحددة، مثل جمع تأثيرات حلقات دائرية صغيرة جدا - لدرجة لا يمكننا معها قياسها - تدور في دوامات حول المسار المستقيم الأقرب للطبيعي بين نقطتين. ربما تكون نتيجة عمليات الجمع تلك هي تغيير، بمقدار صغير يمكن حسابه، ما سيكون عليه «الفعل» المرتبط بالمسار المستقيم لو لم تكن تلك الحلقات موجودة. وبعد إجراء عملية الجمع (أو التكامل، في حالة وجود عدد غير محدود من تلك المسارات الإضافية)، يمكننا حينها تجاهل تلك المسارات الحلقية الزائدة والتركيز فقط على المسارات الأكثر استقامة، ما دمنا نستخدم في حساباتنا «الفعل» الجديد المعدل لذلك المسار. وتسمى هذه العملية «التكامل الاستبعادي» لأجزاء من النظام.
قد يبدو هذا، للوهلة الأولى، أشبه بتفاصيل تقنية غير جديرة بالذكر. غير أن هذا، كما سنرى فيما بعد، أتاح في نهاية المطاف التوصل لغالبية التطورات النظرية المهمة في علم الفيزياء الأساسي خلال القرن العشرين، وسمح لنا بتطوير كمي شامل لأفكار كانت غامضة وأصبحت بمنزلة الحقائق العلمية.
لكن في تلك اللحظة من الماضي؛ أي في عام 1942، وبينما كان فاينمان يكمل رسالته العلمية التي جاءت بعنوان «مبدأ الفعل الأقل في ميكانيكا الكم»، كانت هناك أشياء أخرى تشغل باله. كان يتأهب للتخرج في شهر يونيو من نفس العام، وكان قد تلقى وعدا بالانتقال إلى لوس ألاموس للتركيز على التصنيع الفعلي للقنبلة الذرية. وكان مشغولا أيضا بالتخطيط لزواجه الذي طالما حلم به بعد تخرجه. وهكذا كان مضطرا لمنح اهتماماته الفيزيائية المباشرة إجازة مؤقتة للتركيز على باقي جوانب حياته. ولعل كل تلك الانحرافات عن المسار تفسر لنا لماذا، على الرغم من امتنانه لبروفسور ويلر على نصيحته وتشجيعه إياه (وإنهاء فترة تعاونهما معا)، لم ينتهز الفرصة مطلقا كي يضيف ما كان سيصبح بلا شك تقديرا أكثر شاعرية وتأثيرا بكثير للارتباط القائم بين موضوع أطروحته (والعمل الذي كفل له الفوز بجائزة نوبل في نهاية الأمر) وبين ذلك اليوم المصيري أثناء أحد دروس الفيزياء بالمدرسة الثانوية عندما أيقظ الأستاذ بادر ذهنه على جوانب الجمال الكامنة في الفيزياء النظرية.
وبعد خمس سنوات بدت له دون شك فيما بعد وكأنها عمر كامل، وضعت الحرب أوزارها وتمكن أخيرا من كتابة رسالته وإعدادها للنشر. لم يكن قادرا على إدراك هذا الارتباط بعد. لكنه كان قادرا على التعبير بوضوح عما كان دون شك يمثل آماله نفسها التي حملها معه يوم رحل عن برينستون، وهي الآمال التي ظلت تمثل له طوق النجاة وسط خضم أشكال متباينة من جنون أحوال البشر التي لم يكن لديه سوى أقل القليل من القدرة على التحكم فيها، إلى أن جاء أخيرا ذلك اليوم الذي صار فيه حرا للتفرغ لاستكشاف جنون أشد هو جنون عالم الكم، الذي كان أكثر ثقة بكثير في قدرته على قهره. يقول فاينمان:
Bog aan la aqoon