Richard Feynman: Noloshiisa Cilmiga
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Noocyada
لكن فاينمان كان أكثر جرأة. فماذا لو كان ما نسميه بالمجال الكهرومغناطيسي - الناشئ عن تبادل الفوتونات الافتراضية - بين الجسيمات، ضربا من الخيال أيضا؟ ماذا لو كانت الكهرومغناطيسية بأسرها ناتجة عن تفاعل مباشر بين الجسيمات المشحونة دون وجود أي مجال على الإطلاق؟ على نحو تقليدي، تتحدد المجالات الكهربائية والمغناطيسية كليا بواسطة حركة الجسيمات المشحونة التي تنتجها، لذا - من وجهة نظر فاينمان - لم تكن هناك حاجة إلى وجود المجال نفسه. وبعبارة أخرى، ما إن يتحدد الشكل الأولي للشحنات وحركتها، حتى يمكن تحديد جميع حركاتها اللاحقة من حيث المبدأ ببساطة عن طريق دراسة الأثر المباشر للشحنات بعضها على بعض.
علاوة على ذلك، فكر فاينمان أننا إذا استطعنا الاستغناء عن المجال الكهرومغناطيسي في النظرية الكلاسيكية، فإن هذا قد يحل مشكلات الكم أيضا؛ لأننا إذا استطعنا التخلص من جميع الأعداد التي لا حصر لها من الفوتونات التي تربك العمليات الحسابية لنظرية الكم والتعامل فقط مع الجسيمات المشحونة، فلربما أمكننا التوصل إلى حلول معقولة. وقد عبر عن المسألة في خطاب تسلمه جائزة نوبل بقوله: «حسنا، بدا واضحا لي تماما أن فكرة أن الجسيم يؤثر على نفسه ليست بالفكرة الضرورية؛ إنها فكرة سخيفة نوعا ما في واقع الأمر. وهكذا أوحيت لنفسي أن الإلكترونات لا يمكنها التفاعل مع نفسها، وإنما يمكنها فقط التأثير على إلكترونات أخرى. وهذا يعني أنه ما من مجال على الإطلاق. كان هناك فقط تفاعل مباشر بين الشحنات، وإن كان يحدث بقدر من التأخر.»
كانت تلك أفكارا جريئة، وقد حملها فاينمان إلى كلية الدراسات العليا في برينستون، وإلى جون أرشيبالد ويلر، الذي كان هو الرجل المناسب تماما لتفنيدها ودحضها. لقد عرفت جون ويلر إنسانا شديد الدماثة والمودة، مهذبا ومراعيا للآخرين إلى أبعد الحدود، وكأنه سيد نبيل مثالي من الجنوب (وإن كان منحدرا من ولاية أوهايو). لكنه عندما كان يتحدث عن الفيزياء، يصبح فجأة جريئا مقداما. وقد وصفه أحد زملائه في برينستون خلال تلك الفترة بقوله: «في مكان ما وسط تلك الوجوه المهذبة التي يظهر بها، يوجد نمر طليق ... لديه الشجاعة الكافية لمواجهة أي مشكلة مجنونة.» وكان هذا النوع من الشجاعة ملائما تماما لميول فاينمان الفكرية. أذكر أنني تسببت في نوبات من الضحك عندما اقتبست عبارة كتبها فاينمان ذات مرة في رسالة بعث بها إلى فيزيائي شاب واعد تقول: «تبا للطوربيدات. لنندفع بأقصى سرعة إلى الأمام.» بالطبع كان فاينمان يقلد الأدميرال ديفيد فاراجت (صاحب المقولة الشهيرة أثناء إحدى العمليات البحرية الجسورة التي نفذها خلال الحرب الأهلية الأمريكية)، ولكن تلك الحقيقة التاريخية بدت غير ذات صلة بالموضوع. وقد كانت هذه العبارة تنطبق بنفس القدر على كل من فاينمان وويلر.
كان التوافق بينهما مثاليا ورائعا. وتلا ذلك في برينستون ثلاث سنوات مكثفة من التبادل الفكري بين هذين العقلين الفذين، وكانت تلك هي الفيزياء كما ينبغي أن تكون. لم يكن أي منهما يتجاهل على الفور الأفكار المجنونة التي يطرحها الآخر. وقد كتب ويلر في وقت لاحق يقول: «سأظل ممتنا إلى الأبد للحظ السعيد الذي جمعنا معا في أكثر من مشروع عمل رائع ... كانت مناقشاتنا تتحول إلى ضحكات، والضحكات تتحول إلى نكات، والنكات تتحول إلى المزيد من الأفكار ... وقد عرف من خلال أكثر من مقرر من مقرراتي التعليمية أنني أؤمن بأن أي شيء مهم هو شيء بسيط تماما في جوهره.»
عندما عرض فاينمان فكرته المجنونة لأول مرة على ويلر، لم يتلقها هذا الأخير بالسخرية. وإنما بدأ على الفور يوضح مواطن الخلل فيها، مؤكدا على الحقيقة القائلة: «الحظ الطيب منحة لا يتلقاها إلا صاحب العقل المتأهب.» حيث كان ويلر أيضا يفكر بأسلوب يشبه جدا أسلوب فاينمان.
كان فاينمان قد أدرك مسبقا وجود خطأ فادح في فكرته. فمن المعروف جيدا أن تعجيل جسيم مشحون يتطلب شغلا أكبر من الذي يتطلبه تعجيل جسيم متعادل؛ لأن الجسيم المشحون يطلق إشعاعا ويبدد طاقة أثناء عملية التعجيل. وهكذا فإن الجسيم المشحون يبدو أنه يؤثر على نفسه عن طريق توليد مقاومة إضافية لعملية التعجيل (تسمى «مقاومة الإشعاع»). وكان فاينمان يأمل في أن يتمكن من حل هذه المشكلة بطريقة ما عن طريق دراسة رد الفعل على الجسيم، ليس من ذاته، وإنما من الحركة المستحثة لجميع الشحنات الأخرى في الطبيعة التي ستتأثر بتفاعلاتها مع الجسيم الأول. أعني أن القوة التي يمارسها الجسيم الأول على الجسيمات الأخرى ستجعل تلك الجسيمات تتحرك، وسوف تولد حركتها تيارات كهربائية يمكن أن يكون لها حينئذ رد فعل على الجسيم الأول.
عندما سمع ويلر هذه الأفكار لأول مرة، أوضح أنه إذا كان هذا ما يحدث، فإن مقاومة الإشعاع المتولدة من الجسيم الأول سوف تعتمد على مواضع تلك الشحنات الأخرى، وهي لا تعتمد على ذلك في واقع الأمر، علاوة على أنها سوف تتأخر زمنيا؛ لأنه ما من إشارة يمكنها الانتقال بسرعة تتجاوز سرعة الضوء. ومن ثم سوف يتطلب الأمر بعض الوقت كي يتفاعل الجسيم الأول مع الجسيم الثاني، الموجود على بعد مسافة منه، ثم يتطلب وقتا أطول كي يستجيب الجسيم الثاني بالتفاعل مع الجسيم الأول، وهو ما سيتسبب في تأخر رد الفعل زمنيا إلى حد بعيد مقارنة بالحركة الأولية للجسيم الأول.
لكن حينها اقترح ويلر فكرة أشد جنونا: ماذا لو أن رد فعل تلك الشحنات الأخرى كان يحدث، بشكل ما، عكس مسار الزمن؟ عندئذ بدلا من أن يحدث رد فعل تلك الجسيمات على الجسيم الأول بعد أن يبدأ الجسيم الأول في الحركة بفترة طويلة، فإنه قد يحدث في الوقت نفسه بالضبط الذي يتحرك فيه الجسيم الأول! وعند هذه النقطة قد يقول مبتدئ حصيف: «مهلا، أليس هذا جنونا؟ إذا كان يمكن للجسيمات أن يكون لها رد فعل في عكس اتجاه الزمن، ألا يعني هذا انتهاك مبادئ فيزيائية مقدسة مثل مبدأ السببية، الذي يقضي بضرورة حدوث الأسباب قبل حدوث النتائج؟»
لكن على الرغم من أن القبول بفكرة حدوث رد الفعل في عكس اتجاه الزمن يفتح الباب أمام مثل هذا الاعتراض من حيث المبدأ، فلكي يعرف الفيزيائيون هل هذا يسبب مشكلات حقا، يجب عليهم أن يكونوا أكثر دقة وأن يجروا الحسابات فعليا أولا. وكان هذا ما فعله فاينمان وويلر. لقد كانا يجربان ليريا هل بمقدورهما حل مشكلاتهما دون خلق مشكلات جديدة، وكانا مستعدين لإرجاء شكهما إلى أن تحتم نتائجهما الرجوع إليه.
في المقام الأول، وبناء على تفكيره المسبق في تلك المسائل، استطاع ويلر أن يدرك مع فاينمان على الفور أنه يمكن استنتاج أن رد فعل الإشعاع في هذه الحالة يكون مستقلا عن مواضع الشحنات الأخرى، ويمكن أيضا من حيث المبدأ جعله يحدث في الوقت المناسب، وليس في وقت لاحق متأخر.
Bog aan la aqoon