ولنفرض أنني مخطئ في ظني وأن الحرب بين الروس واليابان حقيقة ثابتة، فماذا أفعل إذا؟ أيجب أن أهمل أشغالي وأضني نفسي في متابعة أخبارها والتحزب لأحد الفريقين، ماذا يهمني من حرب جارية بين دولتين مستبدتين ظالمتين أساسهما الآية القديمة الفاسدة «الحكم من الله» ماذا يهمني من حرب لا روح للشعب في نارها ولا أثر للحق في غبارها ولا صدى للحرية في صلصلة حرابها وفي دوي مدافعها؟
إمبراطور اليابان رجل يحكم حسب اعتقاده على أربعين مليونا من عباد الله بحق هبط عليه من السماء، ويبعث الألوف منهم إلى الحرب ليموتوا من أجله، هو رجل ظالم مستبد خال من الشفقة والمحبة، ولا شك هو قبيح النفس كما هو قبيح السحنة، وقيصر روسيا: صه صه أو اخفض صوتك على الأقل، إن جيراننا من الروم الأرثوذكس، نعم ولكن لنا أيضا من اليهود جيران وخلان، وإكراما للقارئ الأرثوذكسي الغيور ألطف ما كنت أنوي كتابته ولكن لا بد من القول إن قيصر الروس ليس أحسن من إمبراطور اليابان.
وبعد هذا وذاك ما هي الغاية من هذه الحرب؟ هل أشهرت للمحافظة على حقوق عادلة - هل فيها تعزيز مبدأ سام أو تأسيس تعليم شريف - هل يلحق الشعب المظلوم منها أقل فائدة - هل تخفف الشقاء والبؤس عن الفلاحين في الأمتين والفقراء - هل تحسن تجارة الغرب مع الشرق - ما هي الغاية منها - قل لي أدامك الله غيورا فاهتم عندئذ واتحزب، ما هو مدخل اليابان في كوريا وما هو مدخل الروس في منشوريا؟ ما الحرب هذه إلا غارة تشنها دولة سراقة على دولة متطفلة، دولة ظالمة على دولة مستبدة، لا أكثر ولا أقل، ولذلك لا أريد أن أعرف عنها شيئا، الجرائد الأميركية في هذه الأيام تقلق الراحة وتبلبل الأفكار والعاقل العاقل الذي لا يلتفت إليها.
اسمع يا صديقي، فهأنذا أحدثك عن حرب أخرى تهمني وتهمك أيضا مراقبتها واستطلاع أخبارها ودرس حركاتها قوادها وتدوين حوادثها وانتصاراتها، حرب لا تستخدم فيها المدرعات ولا المدافع ولا تهرق بسببها دماء الألوف من العباد، حرب ساكنة ولكنها هائلة، حرب خفية ولكنها واضحة، حرب دائمة ولكنها محيية، حرب سرية داخلية يحارب فيها قائد النفس قائد الجسد، ويجيش الأول جيوشه من الأفكار والنظريات الكمالية والثاني من الحواس واللذات الحيوانية، هي حرب بين الروحيات والماديات، هي حرب جارية أبدا في كل امرئ حي الضمير سامي الفكر شديد العاطفة كثير المطامع. هي حرب تشهرها علي نفسي كل يوم، ولا أستطيع الانتصار عليها دون أن أسيء إلى أحد بالقول أو بالفكر أو بالفعل، ولا يمكنني التسليم دون أن أحتقر ذاتي الروحية القائمة أبدا فوق ذاتي المادية وهذي هي الورطة الخبيثة.
لتنظم الشعراء قصائدهم إذن عن حرب الروس واليابان، لتكتب الكتاب مقالاتهم عن سياسة القيصر ودهاء الميكادو، لينشئ العارفون فصولا عن داخلية الدولتين ووطنية الشعبين، ليهرول المراسلون إلى ساحة القتال في الشرق الأقصى، لتملأ الجرائد صفحاتها بأخبار الحرب الجديدة ورسوم المعارك العديدة، وأما أنا فالحرب التي تهمني مراقبتها ويفيدني درسها وتلذ لي متابعة أخبارها إنما هي حرب النفس والجسد حرب الروح والمادة.
في نفسي شعلة نار يتصل لهيبها بالمشتري والفرقدين، وفي غريزة حيوانية تغريني أحيانا وتجرني إلى قعر الهاوية ولكنني أنهض منها قويا نشيطا وبينما أنا أفرك جلدي صباحا في الحمام أسمع صوتا يناديني قائلا: عش كما تكتب، حافظ على ما تحوزه من الكمال وطالب أبدا بالباقي، فأجتهد أن أفعل عشر ذلك في النهار وأستلقي على فراشي في الليل فأحلم بجمال الحياة الممتزج بالعار والفضيحة، بالمحبة التي نسمها الغيرة، بالمجد الذي يكلله العار، بالمطامع التي تقتلها السلطة، بالشهرة التي تفسدها الأنانية والتصنع، بالنفوذ الذي تشوهه الكبرياء والاستبداد بالنجاح الذي يعيبه الطمع والاستئثار بال ... كفى كفى! أي طريق أقرب إلى الصحراء؟
الخيانة وإبليس
ها قد دخلنا القرن العشرين ولم يزل في الأمم المتمدنة من يقول إن للشيطان دخلا في شئون الناس. قد نقحت التعاليم الدينية ولم يزل للشيطان أثر فيها، تغيرت الشرائع المدنية وتبدلت عملا بسنة الترقي الدائم، ولكن الشيطان لم يزل باقيا في مجلات الأحكام ودساتير الأمم، رقينا في الحضارة بعض الرقي وتقدمنا في العلوم والاختراعات، ولكن العقيدة المفزعة التي ترعب الإنسان وتخيفه باقية على قوتها في معاقل تلك الحضارة وثنيات تلك العلوم. هي العقيدة التي تشوه شرائع أرقى دولة أوروبية حتى الآن، هي العقيدة التي تشوب جمال الدين المسيحي وتفسد ما فيه من التعاليم الأدبية والروحية السامية، هي العقيدة التي «نبعبع» بها الأطفال ونزرع باسمها في جنانهم الصغير بذور الخوف والجبن وضعف الإرادة.
متى يا ترى ترمد نيران الجحيم؟ متى يموت الخناس الموهوم؟ متى يزول الخوف والرعب من قلوب البشر؟ متى نقلع عن تعليم الأطفال الأكاذيب؟ متى تنقح شرائع الدول المتمدنة ليكون بينها وبين تقدم العلم شيء من النسبة؟ هذي هي إنكلترا تلك البلاد التي نبغ فيها دورين وهكسلي وسبنسر، البلاد التي تفاخر العالم بشكسبير وبيرن وبرنس لم تزل رائحة الكهف والصحراء تشتم حتى اليوم من شرائعها المدنية، لم تزل هذه الحكومة تشبه في بعض أحكامها الشعوب البربرية التي تؤدي الجزية صاغرة للعرش البريطاني.
حكم يوما في لندرا بالموت على رجل يدعى لنش؛ لأنه حارب مع البوير الحكومة البريطانية وهو بريطاني التبعة، وفي عرف الشريعة المدنية المكتوبة قد خان هذا الرجل ملكته وحكومته وشعبه، ولم يزل الموت عقاب الخائن في كل الأمم، والدول المتمدنة وغير المتمدنة سواء من هذا القبيل، ولكن ألا يوجد شريعة أرفع من الشريعة المسنونة؟ هل تخلصنا - أيها القارئ الحر - من عبودية الأفراد لنقع تحت نير عبودية الحكومة؟ هل وجدت الدولة للإنسان أو هل وجد الإنسان للدولة؟ الحكومة نفس وقلب وضمير ليدافع عنها كل فرد من أفراد الأمة أولا يحق للمرء أن يرفض التطوع في جند الحكومة إذا كان ذاك الجند يحارب حربا ظالمة، أولا يحق لمحب العدل والحق والحرية أن يستل سيفه على حكومته إذا رآها تحارب ظلما وعدوانا لتقتل استقلال شعب ضعيف وتسلبه حريته؟
Bog aan la aqoon