366

Rayhaniyyat

الريحانيات

Noocyada

أدهشني أمر هؤلاء الجنود وحيرني، ولكني تيقنت حقا صدق الآية «المرء بأصغريه» بل بأحد أصغريه في مثل هذه الحال، بقلبه فقط، تباركت هذه القلوب الكبيرة من أبنائك أيتها الأمة المجيدة.

على أنني حزنت لما شاهدتهم يوما يركبون القطار في عربات الدرجة الثالثة منه، الدرجة الثالثة لمجد فرنسا! الدرجة الثالثة لأبطال العالم! إنه لحيف - والله - ولكنها الضرورة تقضي بمثل ذا الحيف. وددت مرارا أن أشاهد هذا الجندي البسيط في الدرجة الأولى، يزينها ويشرفها بغباره وأوحاله، وما الرياش تفترشه السيادة أو الوجاهة في هذه الأيام العصيبة غير ترف ذميم، ولعمري إن ما يفترشه الجندي ليليق بالملوك، والدرجة الثالثة في القطار أصبحت الدرجة الممتازة.

لذلك سافرت يوم تركت باريس في الدرجة الثالثة علني أقترب من هؤلاء الأبطال فأشاركهم ولو يوما واحدا في مشقة السفر، وهناك أمر آخر حبب إلي الدرجة الثالثة، لما كنت أشاهد الجنود في ال «غاردي لست» كنت أتشوق إلى استطلاع أخبارهم، إلى معرفة حقيقة أمرهم، إلى الدخول إلى مكنونات صدورهم، إلى كشف أعماق سرهم، رأيت الضابط يمرح في أسواق باريس فراقني أناقة المظهر، وبهاء الطلعة، وجمال الثوب، وسيماء العزم والحزم والنشاط. ولكني قلت إن ذلك من نتائج التدريب والتنظيم أما داخلهم فقد يكون مضطربا متزعزعا، ورأيت الجنود المشاة ال «بوالو» الذين تدور عليهم رحى الحرب، أبناء الخنادق والنار، رائحين جائين من ساحات القتال إلى بيوتهم ومن بيوتهم إلى ساحات القتال، كأنهم من عمال المدينة، لا تهزهم بهجة العطلة ولا يستفزهم الشوق إلى مشاهدة الآل والخلان. ويدخلون المحطة عائدين إلى جحيم الحرب كأنهم عائدون إلى أشغالهم العادية أو إلى بيوتهم، ومع ذلك فقد خامرني بعض الريب مما كنت أشاهد، فقلت: قد يكون ظاهرهم الهادئ الصامت نتيجة ما دوخت الحرب من داخل أنفسهم.

حدثت بعضهم فكادت تكون لغتهم منحصرة بنعم ولا، كأن أصوات المدافع وأمطار القنابل علمتهم السكوت وأفقدتهم عادة الحديث. فقلت في نفسي: علهم يخشون التبسط والإفصاح بل تيقنت أن المرء في المدينة أيام الحرب - جنديا كان أو مدنيا - يجمجم الكلام ويطليه، فيخالط آراءه شيء مما توجبه الحكمة والأحكام من التحفظ. أجل، إن لطفنا مثلا لا يخلو في المدن من المصانعة وآراءنا لا تسلم من الضغط، وطالما تاقت نفسي إلى مجالسة الجندي في زاوية بعيدة من دوائر الأحكام، من مراكز السياسة، من ضوضاء الأسواق، من همس المقاهي، من ظل الجواسيس! وهذه فرصة اغتنمتها، فرصة في الدرجة الثالثة نادرة.

فضلا عما كان يهزني من الشوق إلى الاقتراب من هؤلاء الأباسل الأشاوس؛ وددت الاقتراب من أوحالهم، من غبارهم، من روائحهم، من أوساخهم، بل من روحهم الحقيقية الخالدة الواقفة اليوم مجردة من أباطيل المجد وخزعبلاته، الممتشقة سيف الحق والحرية، تلك الروح طي ذاك الثوب الأزرق الكمد البالي إنما هي التي ألبست فرنسا اليوم حلة من المجد لا يبليها الزمان.

ركبت القطار من ال «غاردورساي» قاصدا إسبانيا، وقد أدهش قصدي بعض الأصحاب، فتفننوا في التذكير والمداعبة، السفر في هذه الأيام جنون، كأنك لا تطالع الجرائد، كأنك جاهل حقيقة الحال، لا فحم ولا عمال، لا بخار ولا كهرباء، قد يقف القطار بك في بادية لا ظل فيها ولا ماء، ومحجتك إسبانيا! قد تصل سالما يا صاح لو كان لك هجين تمتطيه. فلم أكترث بمثل ذا التثبيط والمداعبة، يممت المحطة باسم الله ووزير الشحن والنقل، وعددت وأنا على الرصيف عربات القطار فإذا هي أربع عربات من الدرجتين الأولى والثانية وعشر عربات من الدرجة الثالثة، فأعجبني من الشركة هذا النظام والاحتياط، وسررت أن أكون من الأكثرية في صف المسافرين، والأكثرية هذه الأيام ممن وصفت، من الجنود.

ستة منهم رفاقي في العربة، أحدهم جزائري أو إفرنسي في الزي التونسي الذي ذكرني بجيش لبنان المنكوب التاعس، والبقية في الثوب البسيط الأزرق، الأغبر، الأسحم، أو بالحري الملون بلون الخنادق، وبين هؤلاء كهل تجاوز الأربعين سنا، عمليق كبير الهامة، شديد البنية، كث اللحية وجهه كالجلد إذا بل في الماء ونشر ساعة في الشمس، وعيناه تحت حاجبين رهيبين جمرتان متقدتان، أما صوته فيا لله منه، لا يزال يرن صداه في أذني، ولكن الرجل وضاء المحيا تنسخ ابتسامته غضبا تمثل في جفنيه، وتزيل ما قد يعتريك من الاشمئزاز إذا سمعت صوته الخشن الجهوري، تمثله يصيح بال «بوش» فيرجفون خوفا ورعبا، وما فتئت الألفاظ من فمه كجدول من الماء بين الصخور ، لها ضجة، وللضجة في صدره صدى غريب.

جلس هذا العمليق تجاهي وجلس إلى جانبه شاب أمرد، أشقر اللون، أزرق العين، دقيق البنية، لطيف الصوت فكه النفس، وأخذ يداعبه كأن له عليه دالة الصحبة فوق دالة السلاح. - لم يتغير عليك شيء حتى الآن، هذه العربات مثل الخنادق، تكتف واطو رجليك وقل الشكر للوزراء. - ولكنها خنادق متزعزعة يا بني، فها إنها بدأت تتحرك. - كما يتحرك ال «بوش» أو الفيل. - لا بأس يا بني، عطلة يقضيها مثلك في القطار خير من عطلة في المدينة. - أو في باريس اليوم وقد خلت من أمثالك. - ومن الفحم والحطب.

فقاطع حديثهما الجزائري قائلا: وما أحلى شمس إفريقيا اليوم!

فأجابه أبو اللحية: أما أنا فقد نسيت الشمس وأكاد أنكر وجهها إذا أطل.

Bog aan la aqoon