ثم قال: «جميل ما فعلت. ولكنك لست مقيما على الجميل من فعلك وليس في طاقتك احتمال نتائج الخمول ونكران الذات. أنت ابن عصرك مثل سائر الناس. وفي قلبك مرض هو مرض هذا الزمان. تقرأ في كتب القديسين فتضحك أحيانا مما تظنه وهما وخرافة. وتحاول الاقتداء بالأبرار فتشوه بالإجهار أعمالك. على أن هذا مما لا يدعو إلى اليأس في مثل حالك. إذا خلت الأرض من أناس يأتون بعجيب الآيات فيلينون أطباع الذئاب ويهدونهم سواء السبيل - وفي مدينتكم اليوم كثير منها في صورة البشر - فذلك لأن الإنسان قد فقد نعمة الإيمان وأعماله كلها - كما قلت في بدء مقالك الذي هممت بتمزيقه - منحصرة في نفسه، مملوءة من أنانيته. ولكن كبار النفوس والأخلاق يقومون بأعمال قد يفيض من منافعها على الناس. فيغتفر إذ ذاك ما فيها من حب الذات والغرور بالنفس. قلت: إني رافقتك أمس ولكني لم أشاركك سرورك بفوزك، فإن الذين سألتهم ريالا للجياع في بلادك فسبقت منهم الروح اليد والبشاشة العطاء؛ لخير منك. بارك الله فيهم وأصلحك.»
قال هذا ونهض مودعا، فقلت وفي نفسي اضطراب يمازجه شيء من الغيظ: ولكنك يا سيدي لم تتفضل علي باسمك.
فنظر إلي مبتسما مطمئنا ومد يده إلى جيبه وأخرجها فإذا هي نور يضيء كأنه مصباح من الكهرباء كبير أشعل في غرفة صغيرة مظلمة. ملأ النور منزلي فأخفى الضياء الباهر كل ما فيه من فرش وصور وكتب إلا كتابا. هو كتاب القديس إفرنسيس الأسيسي. فدهشت، ذهلت، ارتعبت، وفركت بعد هنيهة عيني محملقا، فإذا أنا وحدي في الغرفة والباب مقفل، والنور مضيء كالعادة، والأوراق التي كنت قد هممت بتمزيقها لم تزل في يدي.
تبارك الله وتباركت آياته! فإني وإن صغرت دونها لمن الناظرين إليها في الفترات الروحانية بعين الإجلال. وإني وإن كنت ممن لا يستحقون أن يلمسوا أردان أصحاب المبرات والكرامات لمن الذين يجلون أعمالهم ويحبذون في مثل هذه الأيام العصيبة الاقتداء بالقليل السهل منها.
احمل عصاك إذا وامش إلى الشحاذة، باسم المنكوبين ومن أجل الجياع في وطنك. وإذا كان لا بد من الكتابة أيضا فللتذكير فقط. عل أفرادا من إخوانك يتنبهون إلى ما فيهم من الإيمان الحي فيكبرونك برا ويفوقونك عطفا وإحسانا.
وما أجمل المباراة في المبرات !
التعميم والتخصيص
التعميم والتخصيص، كلمتان شغلتانا شهرين عن نكبة الوطن. كلمتان زرعتا في قلوبنا بذور الشقاق، أبعدتانا - كسوريين - بعضنا عن بعض، بعثتا في جاليتنا النيويوركية نزعات ونعرات كاد يتلاشى ذكرها. كلمتان ألقتا بيننا الأحن والفتن، أضحكتا منا السوريين داخل البلاد، وستحملان السوريين في مصر والأميركيين في هذه البلاد على ازدرائنا واحتقارنا.
التعميم والتخصيص، كلمتان لا يعرفهما الموت، ولا تكترث بهما المجاعة. ولعمري إن من واجبات السوري الأولى بل من واجباته المقدسة في هذه البلاد بالأخص أن ينسى أو يتناسى اليوم كل ما يفسد جوهر الأمور، كل ما يحول دون المشروع لإغاثة المنكوبين.
منذ باشرنا العمل وأنا وبعض الإخوان نحبذ الاتحاد وننشد الوفاق. قلت - ولا أزال أقول: إن مشروعنا هذا لا ينجح نجاحا تاما دون أن نوحد كلمتنا، ونوحد غايتنا، ونوحد عملنا. وأشهد بالله أني وإخوانا لي في اللجنة وخارج اللجنة مجردون عن كل غاية سوى الغاية الجوهرية الكبرى من المشروع. وإني لأرفع هذه الغاية على كل قانون، وكل نظام، وكل فلسفة، وكل حزب، وكل عظيم فينا.
Bog aan la aqoon