هؤلاء نساك الروح، رهبان الشرق، براهمة ومتصوفون، يهربون من الحياة ويزدرونها، أما نساك العقل فإليكم خبرهم. في المغرب اليوم عصبة الفلاسفة المتفردين الذين يعرفون الأحكام ولا يقرونها، ولا يتعرضون لها مباشرة، يعيشون في حقولهم بعيدين عن ضجيج المدن والناس، مستقلين مطمئنين، لا يتطلبون شهرة ولا مجدا. يعيشون على الفطرة الأولى من الوجهة الجسدية، وعلى أرفع ما اتصلت إليه العلوم والحكمة من الوجهة العقلية والروحية والمعنوية.
ترى أحدهم بدويا في غرائزه وطباعه، حضريا في مزاجه وأخلاقه، أميرا وفلاحا في وقت واحد، وكثيرون من هؤلاء في الولايات المتحدة في البر لا في المدن يعيشون في عزلة عن الناس، كل في دائرته كالنجوم في حبكها، وتشع أنفسهم أشعة الألفة الحقيقية التي تربط كل دائرة بأختها، ولكل منهم مهنتان سماوية نسكية قوامها الآية: «على الأرض السلام وبالناس المسرة» ومهنة دنيوية زراعية قوامها الفكر والعمل، فيحرث أحدهم الأرض، ويربي المواشي، «ويقطر عربة أفكاره بالكواكب السيارة» كما قال «إمرسون» وقد زرت أحد هؤلاء الكبار مرة في بيته فلقيته عند وصولي قدام باب الإسطبل حاملا جراب قمح يطعم منه الدجاج، وبعد أيام دعيت إلى مأدبة في المدينة جمعت من رجال العلم والأدب أشهرهم هناك وكان صديقي هذا رئيسها وقطب دائرتها.
فتأملوا هؤلاء النساك نساك العقل، نساك الفلسفة، لا ينكفون عن العمل المفيد، مهما كان زريا، ولا تأخذهم أوهام الأبهة وخزعبلات الوقار والجلالة، وقد لا تعجبكم أخلاقهم أو بالحري سلوكهم، فهم لا يحفلون بما تلقناه في الشرق من المجاملة والمصانعة في الضيافة، ولا يحسنون من اللطف الشرقي الألف باء، ولكن صدقا في أقوالهم، وحرية في أعمالهم، وجرأة في حريتهم؛ تقربهم إلى الفطرة البشرية الأولى التي لا تعرف القهر والضغط، فيسترسلون مع الطباع، ولكنهم يستعملون في ذلك الفكرة والتمييز. والفطرة الأولى أقرب إلى الخير، على ما فيها من غلاظة وسماجة، لبعدها عما ينطبع في نفوس أهل المدن من سوء الملكات، وقبيح العادات، وفاسد الاصطلاحات، وهذا ما يحمل ذوي الألباب والحصافة اليوم إلى السكنى في القرى أو التنسك في البرية.
ذلك مبلغ نساك العلم والأدب، وتلكم طريقتهم النسكية الفلسفية ، ناسك الروح يعطل الحواس منه لوهم فيه أن ذلك يقربه من ربه، وناسك العقل يهذبها ويرعاها أبدا بالتربية ليقترب من نفسه فيعرفها، شعاره بساطة العيش مع سمو الأدب، فيقرن لذة الحراثة بلذة التأمل، ولذة التأمل بلذة العمل. ناسك الروح يبعد عن الناس ليقترب من الله، وناسك العقل يعتزل الناس ليقترب حقا من الناس، فيعيش طبق فلسفته وبموجب علمه فيصير أهلا لأن يخدم الناس وينفعهم. فما قولكم بالناسكين ناسكنا وناسكهم، وأي منهما أقرب إلى الله؟
وهاكم مثالا آخر من أخلاقنا الكريمة التي قلما تفيد. في لبنان يكثر الشحاذون ومنهم نساء من العرب يستعطين ليعيشن أولادهن ورجالهن! ومن هؤلاء البائسات بدويتان استوقفتاني يوما فأدهشني أمرهما، بعد أن جاءتهما الخادمة بشيء من الدقيق جلستا على الدرج قدام الباب وفتحت كل| جرابها، فأخذت البدوية الصغيرة واسمها حسنى تفرغ من جرابها الملآن في جراب رفيقتها الفارغ، فسألتها السبب في ذلك، فقالت: هي ضرتي ورجلنا يؤثرني عليها ويضربها ضربا أليما إذا عادت المساء وجرابها فارغ، فأشاطرها ما معي لأرد عنها الضرب.
فعجبت لكرم أخلاقها ولكني أسفت لما ربيت عليه من الذلة والاستكانة والاستسلام، فهي لا تستطيع ردع زوجها المتوحش إلا بهذه الحيلة الجميلة، ولو حاولت ردعه ساعة غيظه لضربها أيضا، حبذا شهامة مقرونة بالقوة والعصيان، لحم الضبع يلزم له أسنان الكلب، وإنه ليحق لمثل هذه المرأة أن تهجر زوجها، ولباركها الله لو فعلت، ولكن زوجها ممن يدينون بدين يأمر بضرب النساء.
وهاكم قصة أخرى تمثل ما أريده بالأخلاق اللازمة المتعدية، مر أعرابي بعجوز فطلب منها طعاما، فجاءته ببضع حيات مشوية وبكوز من الماء المالح، فاستغرب ذلك وسألها السبب، فقالت: هذا كل ما عندنا في هذا الوادي، فتعجب الأعرابي وسأل العجوز كيف تقيم هناك تأكل الحياة وتشرب الماء المالح؟! فقالت: وكيف تكون بلادكم؟ فوصف لها بلادا فيها دور رحبة واسعة، وثمار يانعة لذيذة، ومياه غزيرة عذبة فقالت العجوز: وهل يكون لكم من سلطان يحكم عليكم ويجور في حكمه؟ فقال الأعرابي: قد يكون ذلك، فقالت آكلة الحيات: إذا - والله - يكون ذلك الطعام اللطيف، والعيش الظريف، مع الجور والظلم؛ سما ناقعا، وتعود أطعمتنا مع الأمن ترياقا نافعا. حكمة العجوز بليغة، وجميل إباء نفسها، ولكن ذلك لا يردع السلطان عن غيه ، ولا يكبحه عن جوره وظلمه.
أجل إن قناعة الحاج عبد الله وشهامة البدوية حسنى وعزة نفس العجوز آكلة الحيات لفضائل كلها جميلة ولكنها سلبية ملازمة، شريفة أخلاقهم روحية، ولكن شيئا كهربائيا لينقصها، مثل هذه الأخلاق في الشرق لا تؤهله لمناهضة الظلم والظالمين؛ لأنها غير مقرونة بإدراك النفس ما لها من الحقوق وما عليها، وقد يصح أن نقول: إن في مثل هذه الأخلاق الشريفة نورا وليس فيها دم. الشرقي يهرب من الظلم معتصما بالله «لا تجعل سلاحك على من ظلمك الدعاء عليه ولكن الثقة بالله»، فالهرب إلى البرية من الظالم جبانة، والهرب إلى الله من الحياة كفران بالحياة وبباريها، نفس الحاج عبد الله جميلة ولكنها ضالة، ونفس العجوز أبية ولكنها مستسلمة، ونفس حسنى البدوية كريمة ولكنها خامدة خاملة، فحيلتها لا تزيل شراسة الخلق في زوجها، وكان ينبغي لها أن تتفق وضرتها لتهجرا مثل هذا البربري، فإن خفاشا في كهف لخير منه.
أقول - وحقا ما أقول - إن الشرقي يظل شرقيا قاعد الهمة، عاجز الرأي، خامد الطباع متخاذلا مستسلما، قانعا من زمانه بالضعة والذل، إذا كان لا ينفض عن نفسه غبار السنين من الكسل والخمول، ولا يكسر قيودا من التقاليد والخرافات والعادات، قيدت منه العقل والنفس والجسد.
الإنسان الذي خلقه الله على صورته تعالى ومثاله، إذا تقيد في كل أعماله وأقواله وأفكاره، لا يبقى فيه شيء من صنعة الله حر جميل، الفكر! انهضوا به من قبور التقاليد، النفس! حرروها من خزعبلات الأوهام، الجامعة! ارفعوها على الحكومة والحكام، الأخلاق! روضوها للعمل المفيد. إن أخلاقنا الروحية لرأس مال كبير في حياتنا الجديدة، علينا إذا أن نستخدمه لخيرنا وخير الشرق بل لخير الناس أجمعين. وإن من لا يرجو من هذه الحياة خيرا لهو غالبا ممن لا يستأهلون الخير ولا ينالونه.
Bog aan la aqoon