تراهم يتزلفون إلى ذوي السيادة ويصانعون صونا لمصلحة أو جرا لمغنم، أما الإيمان فميت في صدورهم. فالأديب الذي يفادي بسعادته في سبيل أدبه، والسياسي الذي يفادي بمنصبه في سبيل وطنه، والعالم الذي يفادي بحياته في سبيل عمله؛ إن هؤلاء وإن عدوا من الكافرين لمن أجمل الناس ورعا وأصحهم اعتقادا وأصدقهم دينا؛ ذلك لأن إيمانهم بالله. وبالحري بما في النفس البشرية من القوة الإلهية الكامنة، لحي صادق مجيد، أتمجد الله يا هذا؟ كن عادلا محبا منصفا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر عاملا في تحقيق أمل واحد من آمال النفس السامية، فإن في اقتدائك بالمقربين منه تعالى تمجيدا كافيا لاسمه.
6
عقائد في الشرق وأضاليل تفسد العقول والأخلاق فما الذي يصلحها؟ لا أقول قول «منتسكيو» إن على الحاكم أن يستخدم القانون لينبه من أنامهم الدين، أو بالحري الاعتقادات الدينية الباطلة، فالعقائد الفاسدة لا تزيلها غير العقائد السليمة، والقانون لا يجرأ على اقتلاع شجرة الخرافة من أصولها؛ لأن ذوي المصلحة الذين يتاجرون بسمها وثمارها كثيرون.
فالعلم الصحيح وحده ينبه من خدرته التقاليد والخرافات، وينعش منه النفس والجسد أما القوانين والأحكام فتعجز عن إصلاح ما أفسدته من الأخلاق. إن عصرنا لهو عصر البحث والنقد والتمحيص، وإذا كانت لا تسود هذه الروح روح الزمان الراقية في آدابنا وأدياننا وسياساتنا واجتماعاتنا، فلا تصطلح أخلاقنا أبدا ولا تفك فينا قيود العقل والروح.
في كل الفلسفات الأدبية القديمة والحديثة ما وجدت أصلح من فلسفة الرواقيين وأسمى. منشئها «زينون» اليوناني، فإن فيها من المنبهات العقلية، والمقويات الروحية، ما لا نجده صافيا في الحقائق التي نلقنها اليوم. فلسفة الرواقيين تعلمنا الواجب الذي لا يتعدى العمل به اللازم المفيد، وتعلمنا الصبر على الشدائد وعظم الهمة، وتعلمنا أن ننظر إلى السرور والحزن بعين هادئة وقلب مطمئن. وتشدد العزيمة فينا فتحصن النفس من طوارئ الدهر وتعدها لنوائب الزمان، وتحبب إلينا الفضيلة حبا بها لا حبا بجنات تجري من تحتها الأنهار.
لمذهب الفيلسوف «زينون» الفضل الأكبر في عظمة رومية وبأس أبنائها، بل هو مهد رجالها العظام من قادة وسياسيين وفلاسفة وقياصرة، لو حكم علي بالتمذهب لما اخترت غير الرواقية مذهبا.
لا أنكر أن ماضي الشرق غني بالنوابغ العظام، بالذين تفردوا ذكاء وروحا وأخلاقا، فنظموا الشعر، واشترعوا الشرائع ووضعوا التعاليم، فكانوا أعلاما يهتدي الناس بها، ولكن المعلمين منبهون مرشدون، والأنبياء إلى الطريقة القويمة هادون، على أن «الإنسان لم يخلق ليقاد بالزمام» بل فطر على أن يهتدي بمصابيح العلم والحرية، فالعلم ينير الحوادث ودلائلها، والحرية تمكنه من الاستفادة بها فكرا وعملا.
إن في كل قوم حكمة، ولكل زمان سياسة، وفي كل حالة تدبيرا يبطل الأخير منها السابق لها، إن تعاليم «كنفوشيوس» السياسية تغاير الشرائع الدستورية التي تأسست عليها اليوم جمهورية الصين، وفلسفة بوذا الاجتماعية والدينية تتقوض في ظل الأحكام الإنكليزية، وإن ما أنزل على نبي العرب لإصلاح حال العرب ورفع شأنهم أكثره لا يصلح اليوم لإصلاح شئون أمم كبيرة لا يستطيعون أن يعيشوا كالبدو في بيوت من الشعر.
وفي الشرقيين من أدركوا هذا، ممن عظم خلقهم وكبر قصدهم وبعدت همتهم، وإننا لنرى شيئا من هذا الإدراك السامي حتى في المتفردين بالتوحش من الفاتحين، رجل رجلاه في الدم وفي رأسه شيء من السماء نظر إلى السماء وقال: إذا كان الله في كل مكان لم لا نعبده في أي مكان كان، ففي أشواك نفس «جنكزخان» الذي هدم الجوامع واعتنق الإسلام وردة جميلة من وردات الحقيقة السامية، وإن كلمته لتذكرني بما رواه لنا «القديس أوغسطينوس» عن «فكتورينوس» العالم الوثني الشهير في زمانه، فإنه أخبر أحد أصحابه يوما أنه اهتدى إلى الدين المسيحي فقال صاحبه: لا أصدق حتى أراك في الكنيسة، فقال «فكتورينوس»: وهل الجدران تجعل المرء مسيحيا، الحقيقة تتجلى في الأحايين للبربري تجليها للفيلسوف.
وإننا لنجد في الشرق اليوم في أي مدينة كانت أناسا تساموا عقلا وخلقا، ولكن خاصة أخلاقهم لازمة غير متعدية بين أن الغربيين إذا سمت أخلاقهم صحت منهم العزيمة وبعد القصد، فيعملون بما أوتوا من المواهب لخير الناس. وإننا لنرى هذا الفرق في حكمتنا وحكمتهم - كما قلت - وأزيدكم من ذلك مثالا، جاء في بعض الكتب: إن الرجل الفاضل الرشيد لا ينبغي أن يرى إلا في مكانين، إما مع الملوك مكرما، وإما مع النساك متعبدا، هذه حكمة الشرق. إنما الفاضل الرشيد من لا يرى لا مع الملوك مكرما ولا مع النساك متعبدا، بل في معمعان الحياة عاملا، هذه حكمة الغرب. فالزهد والانقطاع عن الدنيا كالإخلاد إلى نعيم العيش كلاهما يورث الخمول والخبال، وإذا سلمت عواقبه فلا يربي في صاحبه غير الفضائل اللازمة أو السلبية. وهاكم قصة تمثل ما أريد: التقيت مرة في الطريق على شاطئ البحر بدرويش اسمه الشيخ عبد الله، وهو من السالكين، طريقته مولوية، فأخبرني أنه وصل إلى سوريا منذ خمسة عشر يوما قادما من الحجاز ماشيا، وقضى في الطريق خمس عشرة سنة، وأخبرني أنه جاء سوريا ليزور فيها قبر أحد الأولياء في نواحي طرابلس.
Bog aan la aqoon