263

Rayhaniyyat

الريحانيات

Noocyada

3

ها قد عدنا إلى أصول الأخلاق بعد أن انتقلنا قليلا إلى بعض نتائجها، أجل إن أصول الأخلاق لفي هذه النفس الخالدة القلقة السامية المتيقظة، النازعة إلى استطلاع أنباء ما وراء الطبيعة؛ لإصلاح شئون المجتمع، ولرفع شأن الأفراد فيه والجماعات.

والأخلاق في نشوئها ونموها وتنوعها خاضعة مثل مظاهر الكون لعوامل خارجية طبيعية واجتماعية، ولكن طيب شذاها لا يتغير على تنوع عوامل الرقي فيها. غصن ورد تزرع نصفه في تربة حارة في إقليم حار ونصفه الآخر في تربة باردة في إقليم بارد، فلا يتغير في وردهما غير الحجم واللون، أما شذا الوردتين، بل نفسهما، بل خلقهما؛ فهو واحد في الحالين.

هذا في النبات، وفي السياسة إذا تغيرت الأحوال تتغير مبادئ السياسيين، وأما فضائل النفس فهي واحدة في كل مكان وزمان، والنفس الكبيرة السامية لا تعمل فيها الحوادث ولا تفقدها الأحوال فضيلة واحدة من فضائلها، على أن مسلكها قد يتغير في الناس ويتنوع فتكسبه الأحوال شيئا من روحها وطبيعتها. قال ابن خلدون: «الإنسان ابن عاداته ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه.» والأصح أنه ابن الاثنين.

من الباحثين في طبائع البشر والعمران أناس يقولون: إن عوامل الهواء والشمس تغير في جوهرها تغييرا بينا. ومن هؤلاء العلماء «منتسكيو» وابن خلدون، أما ظاهر تأثير الهواء والشمس ففي الأجسام كما نشاهده مثلا في ألوان البشر وريش الطيور.

رأيت في أحد متاحف لندرا نوعا من الطير من فصيلة واحدة بعضه من إقليم بارد وبعضه من إقليم حار ولا يختلف سوى لون الريش في الطيرين، أما تأثير الإقليم في الأخلاق البشرية ففيه نظر، يقول «منتسكيو»: إن الجبن خلق في سكان البلاد الحارة، وإن الشجاعة من أخلاق سكان البلاد الباردة، ولكن الرومانيين قديما «سكان إيطاليا الحارة» غلبوا السكسونيين «سكان إيطاليا الباردة» فتأملوا.

وعندنا في العرب شاهد آخر، كان عرب البادية أحسن خلقا وأرقى نفسا من أهل البلدان المتمدنة التي احتلوها وسادوها. ناهيك بشدة بأسهم وشجاعتهم. فإذا كان صحيحا ما يقول ابن خلدون و«منتسكيو» إن الحر يذهب بالبأس والمنعة، وهما من الأخلاق المجيدة في الناس، لم لم يؤثر قديما في الرومانيين ولم لم يؤثر في العرب؟ أوليست شجاعة الأمم المعنوية الروحية فوق شجاعتها المادية؟ قد فات ابن خلدون هذا.

وما قولنا في الحبش وهم جيران العرب يسكنون في منطقة واحدة ولا يفصل بين الأمتين غير البحر، فأين منهم بأس العرب ومنعتهم؟ وأين آدابهم وأين شعرهم وأين نبيهم؟ فهل تشقي الشمس قوما وتسعد قوما؟ وهل كان الإقليم محابيا في أمة متحاملا في أخرى؟

وهاكم مثالا آخر من بحث ابن خلدون في تأثير الإقليم في الأخلاق، وصف السودانيين بالخفة والطيش وشدة الطرب ونسب ذلك كما فعل «منتسكيو» بعده إلى هواء بلادهم وشمس الإقليم الحارة. وقد كتب «تسيتوس» المؤرخ الروماني فصلا في الشعوب الألمانية القديمة الذين استوطنوا البلاد الشمالية الباردة فوق نهر الدانوب فوصفهم كما وصف ابن خلدون السودانيين بالميل الشديد إلى اللهو والطرب، فقال: «إنهم في أيام السلم لفي هرج ومرج دائما قائمون.»

ولم ينسب المؤرخ الروماني ميلهم هذا إلى العوامل الطبيعية. إن أخلاق القبائل في أمور كثيرة هي واحدة - كما قلت - ولا تختلف باختلاف الإقليم - كما يظهر مما تقدم - أما إذا كانت طبيعة الفرح والسرور انتشار الروح الحيواني - كما يقول ابن خلدون - وطبيعة الحزن انقباضه وتكاثفه، فتكون الحرارة سبب الأولى ويكون البرد سبب الثانية. ولكن هذا نظر سطحي، فالألمانيون القدماء كانت تغلب فيهم - كما قال المؤرخ الروماني - طبيعة الفرح والسرور، وأهل أوربا الشمالية اليوم وهم من سليلة أولئك الأقوام تغلب فيهم طبيعة الحزن والكآبة، وهواء تلك الأصقاع اليوم هواؤها منذ ألفي سنة، وإقليمها واحد لم تتغير فيه شمسه وسماؤه، فما السبب في تغير طباعهم يا ترى؟

Bog aan la aqoon