وما الصلاة في أرفع درجاتها وأنقى مظاهرها إلا تأملات روحية ترفع الخاطئ (وليس فينا - والحمد لله - من يستطيع أن يرجم تلك الامرأة) إلى سماء المحبة والسكينة والسلام. كانت الصلاة في الأصل نوعا من التأمل الروحي، فالبربري الذي ينظر إلى الشمس التي يعبدها يهتف قائلا: سبحانك ما أجمل نورك وما أبهاه، ثم يتضرع إليها مستجيرا مستغيثا. ففي الأول تأخذه الدهشة والابتهال، وفي الثاني تنبه المآرب الدنيوية جنانه فيتحرك بالتضرع لسانه. فالصلاة في أبسط حالاتها إذا هي عبارة عن إعجاب الإنسان المحدود بذلك الكيان الإلهي غير المحدود.
ولكن عشاق النظام والتنسيق ورسل التأليف والتأسيس والسيادة - أولئك الذين يرفعون التدين وطرقه على الدين الحقيقي وتعاليمه الأصلية؛ جعلوا الصلاة وسيلة روحية للتوصل إلى شيء مادي دنيوي، وقد أكثروا منها حتى جعلوها مبتذلة بل قد حولوها إلى سبح وصور وتمائم وأيقونات، يتاجرون بها، ويوجبون على العباد ابتياعها. فأصبحت ممقوتة من سواد المتثقفين المستنيرين، ومهملة من كثير من المتدينين الذين يذهبون إلى المعابد لمجرد العادة. والمثل يقول: الصلاة عادة والصوم جلادة. «صلوا كثيرا وتضرعوا إلى القديسين والأولياء فيمنحوكم البركة ويدروا عليكم الخيرات»، هذا هو تعليم أرباب الطقوس ومشايخ الطرق، وأما تعليمنا الذي نقدمه مع اعتبار شعائر إخواننا المتمذهبين بالمذاهب المختلفة فهو هذا: صلوا قليلا بتأمل وتبحر فتنفتح عين النفس فيكم وتتأكدوا - إذ ذاك - صغركم وعدم أهميتكم، فما هو الفرق بين هذا التعليم الذي يجعل الصلاة واسطة إلى غاية دنيوية والتعليم الذي يجعلها الواسطة والنتيجة معا.
إن الفضيلة لجزاء نفسها، والتأملات الروحية هي بذاتها ثواب كاف للمتأمل، وأما لذتها فلا تظهر لكل إنسان، فالتاجر الذي لا يتفرغ للأكل مثلا لا يقدر أن يتأمل ويتفكر، وإذا صلى مساء وصباحا فتلك عادة تستعبده فيخدمها على عماية دون أن يدرك أسبابها ونتائجها، وعندي أن البومة التي تنعق في الليل على غصن يابس لخير من المرء الذي يردد الصلوات كالببغاء ويبتاع القداديس من ذاك المحترم مثلما يبتاع الزيت والسمن من البقال.
من يضرع إلى القديسين لينصروه على أعدائه ويأخذوا بيده وينقذوه من نار الجحيم يحتقر النفس ويكفر بالخالق، الصلاة واسطة يعرف بها المخلوق خالقه وليست نقودا يرشي بها الإنسان ربه.
يوم كانت إسبانيا تحارب الولايات المتحدة وقف قسس البرتسطان على منابرهم يتضرعون إلى الرب أن ينصر أعلامهم ويثبت أقدامهم ويعلي على أعدائهم حسامهم، وقفوا على منابرهم ورفعوا نحو السماء أيديهم قائلين: ربنا امحق أعداء العدل محقا، ربنا انصر جنود الحق والحرية، ووقف الآباء الكاثوليك في كنائس إسبانيا يتوسلون إلى ذات الإله بلسان الخشوع مبتهلين قائلين: يا رب انصر كنيستك وعزز شعبك. أو شيئا من هذا، فهل هذه هي الغاية يا ترى من الصلاة والقنوت والعبادة؟
وماذا يقول ذاك الجالس على عرشه - عز وجل - في أبنائه هؤلاء الصغار؟ ماذا يقول لدن ترفع إليه الجنود المسيحية صلاتها الربانية في ساحة الحرب قبل مباشرة القتال، فهل يتأمل الجندي معنى هذه الصلاة الجميلة، هل يفكر بما ينوي عمله بعد أن ينتهي من: «نجنا من الشرير آمين»؟ مثل لعينك جنديا روسيا يتلو الصلاة الربانية قبل أن يمتشق حسامه على الياباني اسمعه أيها القارئ - اسمعه يقول: «أبانا الذي في السموات» وكيف تدعو الرب أبانا أيها الشقي على حين أنت آت لتقتل أخاك؟ «تقدس اسمك» وكيف تقدس اسم الله - عز ذكره - وأولاده آخذون بسفك دماء بعضهم بعضا. «يأتي ملكوتك» هل تطلب ملكوته في حين تحاول تأسيس ملكوت دنيوي استبدادي، مشيد على جثث العباد وملطخ بدمائهم؟ «لتكن معنا مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض» إن في مشيئته السماوية المحبة والسلام وأنت الآن في ساحة الحرب تمتشق الحسام على أخيك. «أعطنا خبزنا كفاف يومنا» بأي قحة تطلب من أبيك السماوي خبزك بينا حصانك يدوس تحت قدميه الزرع الذي تفضل أن تراه نارا من أن تراه خبزا. «اغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر لمن أساء إلينا» كيف تتلفظ بهذه العبارة وأنت الآن تحارب إخوانك حبا بمن كبر عليك الأمر وعظمه، فإذا كان الياباني أساء إليك أو إلى حكومتك لماذا لا تغفر له إذا، لماذا في الأقل لا تنسى أو تتناسى إساءته. «لا تدخلنا في التجارب» وهل أنت تخاف من التجارب التي تخوض عبابها الآن، أي محنة أشد من هذه التي رميت نفسك فيها. «نجنا من الشرير آمين» أنت أيها المجرم تمثال الشر اليوم فكيف تطلب من ربك أن ينجيك من الشرير ؟
هذي هي الصلاة الربانية التي يتلوها الجندي المسيحي في ساحة القتال، وإليك الآن صلاة أخرى ترفعها النفس البشرية المحررة، النفس الحائرة القلقة إلى ذات الجلال، فقابل بين الاثنين وحكم العقل في كل حال.
أبانا الذي في السماوات كن معي في الحياة وفي الممات، وإذا زدتني قوة فزدني يا رب تواضعا، وإذا زدتني علما فزدني حلما، لا تمت في فضيلة لتحيي في أخرى، أنت يا رب خلقتني لأعيش حرا كالطير، خلقتني لأعيش أولا لنفسي وثانيا لأخي في الإنسانية ولم تطلب من أبنائك أن يقدموا إلى العظيم منهم ضحية بشرية، أنت منحتني عقلا لأفكر فإذا فكرت قليلا لا تلعني، خذني بحلمك الواسع يا رب وإذا صرخت من سويداء الفؤاد طالبا منك الرحمة لعبادك في أرضك فاستجب يا رب طلبتي.
يقول لي اللاهوتي: إنك تقدس اسمك حاضر ناظر في كل مكان، ويقول لي الفكر الذي هو قسم صغير من الروح الأزلية التي اشتقت منك بأن الأمراض والأعاصير والعواصف والزوابع والطوفان والحريق والحروب لا تحدث وأنت بجانبها تتفرج عليها، فأي هو أصدق يا رب؟ هل أنت في الصين حيث المجاعة تحمل الآباء على بيع أبنائهم بشيء زهيد من القوت، هل أنت على مقربة من أولئك الذين يموتون جوعا؟
هل أنت في بلاد الروس حيث أبناؤك المسيحيون يذبحون المئات من شعبك الخاص؟ هل أنت في قلب الأسقف الذي مر في عربته بين القتلة الأشرار وباركهم باسمك؟ هل أنت في ساحات القتال المصبوغة بدماء الرجال؟ هل أنت في ولايات أميركا الوسطى حيث العواصف والزوابع تكتسح البلاد فتدمر المساكن وتفني الألوف من العباد؟ هل أنت في الحريق الهائل الذي يبتلع لهيبه الأمصار ويتركها وراءه ساحة مخيفة مرهبة فيها من الجثث والأشلاء المحترقة والأشجار المفحمة والأبنية المتهدمة ما يقشعر له البدن وتنقبض منه النفس - ما يجمد منه الدم في العروق؟ هل أنت في الفيلبين حيث الأعاصير تبتلع المراكب والبوارج وتمتد بأمواجها إلى السواحل والقرى فتغرقها بلمحة عين؟
Bog aan la aqoon