192

Rayhaniyyat

الريحانيات

Noocyada

ويدنو لها بدر السماء مناجيا

ومن حظي أني كنت من الحاجين، زرت تلك البلاد المباركة في موسم ظننته - أولا - موسم الأعياد، ولكني بعد أن طفت في شوارع سفيليا (إشبيليا العرب) وتنشقت هواء برها، وشممت نفح طيبها، وسمعت حمارها وفلاحها وشريفها يتغنون ب «أندلثيا» - وهم يلفظون السين ثاء - ويناجون ربة السرور جودهم ليل نهار، بعيونهم وبأرواحهم الخفيفة ساعة الأشغال، وبالعود والقانون ساعة اللهو والطرب؛ علمت أن عام تلك البلاد موسم، ومواسمها أعوام يتلو الواحد الآخر دون انقطاع.

فالأندلس بلاد الرقص والقمار، بلاد الكنائس أيضا وحرب الثيران. إنما هي قطب السرور في فلك الإسبان بل هي في نظر الأندلسيين بلاد الله وحدها، لا شريك لها في ذا الشرف الفريد، وقد قال أحد ظرفائها: «خلق الله العالم في ستة أيام ثم جلس في اليوم السابع في الأندلس ليستريح.»

على أن الزائر لا يرى حتى للخالق تعالى فرصة للسكون أو مجالا للارتياح، فالكنائس مثل القهاوي والمسارح وبيوت الميسر كلها أبدا مفتوحة، تمثل فيها الحركة الدائمة، والناس قائمون قاعدون يودعون عيدا ويستقبلون آخر، ومن غريب الأمور ولطيفها أن حيث تكثر الأعياد تقل الصلاة، فالأندلسيون قلما يصلون رغم مواكبهم الدينية العظيمة وموسيقى كنائسهم الرهيبة الفخيمة، وقد يحول ذا الجمال الظاهر في الاحتفالات، دون الصلوات، ولكن هذا بحث آخر ما لنا وله الآن، إلا أني أقول قد يستغني المرء أحيانا في الحركة عن البركة؛ إذ لا وقت لمن عيده دائم أن يحاسب نفسه، أو يحسد جاره، ولا وقت يضيعه بالتذمر والشكوى.

والذي يخيل لي أن الله بعد أن جلس في الأندلس يستريح باركها ثم هجرها، وأبناء البلاد حتى الآن يعيدون كتلاميذ المدرسة عند تغيب المعلم، وما أجمل ما فاح من تلك البركة، وما تجلى وما تجسد في تلك البقعة من الأرض، ففي سمائها وفي شمسها عرش للعيد وهاج، وفي بساتينها وفي مروجها حلة للعيد لا تبلى، وفي هوائها جرثومة سحر تدخل قلبك فتشرع ترقص فيه حتى تستهويك وتستغويك فتخف الروح منك إلى نقطة الدائرة في مدينة الطرب والسرور، بل تستوقفك بهجا، دهشا، نشوانا، فتسترسل مثل ابن البلاد، إلى كل من رقص وكل من شاد. وتسير معهم من عيد صغير إلى عيد كبير إلى عيد أكبر إلى عيد الأعياد في الربيع. ولكنك إذا جئت الأندلس من لندرة مثلا لا من مصر، تتعب من الأعياد وتملها وهم لا يتعبون ولا يملون.

ثلاثة أبواب ينبغي أن تظل مفتوحة في وجه الأندلسي: باب القهوة، وباب ال «كاسينو» وباب الكنيسة، فهو إذا خسر في المقامرة يؤم الكنيسة أو القهوة حسب ذوقه وإلهامه، ليغير من حظه، ولم أر ما سوى ذلك في تلك البلاد للهرب من الأعياد؛ بابا مفتوحا. إلا إذا لجأ السئوم إلى الجبال، أو طفق يركض جنوبا حتى قادش أو مالقة فيعتصم هناك بالبحر، أو لبس قبع الخفاء الذي يجده في خزانة الغابر من الزمان، فإن فيه باب فرج للمتفرج الغريب. أجل إن في قلب الأندلس ملجأ قلما يلجأ الأندلسيون إليه، هناك مقام لا تسمع فيه ضجة العيد، ولا تصل إليه أصداء الأغاريد.

مقام بل مقامات هي أجمل ما في الأندلس أثرا وذكرا، وقد كان لها من السرور أيام زاهرة، ومن الطرب ليال باهرة عاطرة، ومن المجد أعلام وقباب، ومعاهد وأنصاب، ما تبقى منها اليوم غير قصور متهدمة نبتت في جدرانها الأعشاب، ونظم العنكبوت مرثاته فوق النوافذ منها والأبواب. وجلس في عروشها العالية السكون، ودفن في جناتها المهجورة الشعر والأدب والفنون. وإنك لتسمع؛ لسكونها المهيب وخلوها من الأنس الرهيب همس الشمس وهي تتمشى في عرصاتها ووقع نقط الندى من أغصان الليمون والرمان، على ورق الورد والبيلسان.

طلول كانت بالأمس معاهد وقصورا، وقصور كانت يوما دائرة المجد، وقطب الحبور، في قناطرها وقبابها وأبوابها صناعة دقيقة نادرة، وفي كل رسم من رسومها آية جمال تدهش اليوم أرباب الفن، وفي كل بيت من الشعر على جدرانها درة من المعنى، أو زهرة من التقوى منقوشة في بلاط منقطع النظير لونا وتذهيبا.

وصنائع الزليج في حيطانها

والأرض مثل بدائع الديباج

Bog aan la aqoon