مدينة المدن السورية بيروت، منبت الياسمين والقلام، مغرس الورد والشوكران، القراص فيها يرفع رأسه عزة تحت أزاهر الليمون، والعليق يسرح ويمرح في ظل النخيل، مدينة الدماء مدينة المدن، مدينة الخلسة والرجاسة، أخت أورشليم، روحها تئن في الأزقة، نفسها تحشرج في المجاري، قلبها يغرد في البساتين، عينها تدمع في دوائر الحكومة، جسمها يذوب في الموبقات، وعقلها يدق على سندان التفريق في المدارس.
بيروت إحدى وصيفات باريس، هي قمر ينعكس فيه نور المغرب فيضيء المشرق وتنعكس فيه أيضا ظلمة الغرب فتزيد الشرق ظلاما. بيروت منبت العلوم ومغرس الخرافات، هي حقل خصبة التربة تزرع فيها أوروبا قمحها وزؤانها ووردها وقلامها ومع ذلك نراها سائرة إلى الأمام ساهرة صابرة. إذا أقبلت سوريا بيروت أمامها وإن أدبرت بيروت وراءها، إذا كانت اليوم كآذار من السنة تتراوح في رعدها وبرقها بين الظلمة والنور غدا تصير كأيار بل كتموز، كأيار بأزهارها، كتموز بثمارها، إذا كانت اليوم أسيرة شياطين التفريق غدا تصبح ربة الألفة والإخاء، إذا كانت اليوم عرش التعصب الديني فهي غدا قبره.
مدينة المدن السورية بيروت وإثمها مثل مجدها كلاهما عظيم، إذا بكت هاج بكاؤها بكاء الأمة، إذا غردت رددت أنغامها بلابل حلب وشحارير الشام وحساسين لبنان وحمام الجليل، إذا وردت بحيرة الإصلاح «ورد الفرات زئيرها والنيلا»، وإذا أفسدت أفسدت بناتها في السواحل وعلى شواطئ العاصي والأولى والأردن وبردي، كلمة باطل تنطق بها بيروت تمسي حجة في دمشق كلمة حق تصدع بها بيروت تروي غليل القرى الظمآنة وتبعث في مدن السواحل والسهول روح الجهاد.
أم المدن السورية هي وعجوز المدن السورية، تعلم بناتها الفضيلة يوما ويوما تعلمهن الرذيلة، تحمل إليهن نورا وتحمل إليهن سما، إثمها مثل مجدها كلاهما عظيم وأعظم من الاثنين واجب فرضه الله على الأمهات، أحسني القدوة يا بيروت يحسن بناتك الاقتداء. في المروج والجبال وفي السواحل والسهول بناتك يستقين من ينابيع علمك وأدبك، من مدارسك من صحافتك من منابرك من مطابعك، فصفي مياها تسقينها بناتك. اخفري السبل، صوني المناهل، تعهدي المسارب، اقطعي يد كل أثيم يشتغل اليوم في تعكيرها أو تخريبها أو تسميمها، اقطعي الأيادي التي تحمل إليها سرا فضول الأديان وأوحال التعصب وأوساخ سخافات الأدب والسياسة، طهري ينابيعك، ارحمي بنيك وبناتك.
أشهد أن لا نور ولا دخان ولا وحول في سوريا اليوم غير ما كان مصدره بيروت، وأشهد أن بيروت وجه سوريا وأن الهوتنتوتي في هذا الزمان يغسل وجهه، بيروت قلب سوريا، والعلم يقضي بأن يكون العقل كالقلب والجسم نظيفا نقيا، ولكن المدينة التي تدعى درة تاج آل عثمان هي درة في أوحال وغبار تئن فوقها وتحتها الكهرباء. وتبض حولها حباحب الأدباء.
أوحال وأقذار وغبار في أسواق المدينة، وفي آدابها وفي سياستها وفي أديانها، ودرة العلم ودرة الدين ودرة تاج آل عثمان في هذه الأوحال والأقذار غائصات ضائعات، وماذا يزيل الأوحال والأقذار والغبار، لا الصحافة ولا قرض البلدية ولا قصائد الشعراء ولا كلماتي تزيلها، هذه الأقذار من فضول الأعصر والأجيال ولا يزيلها أبدا سرمدا غير التربية الحقة والتهذيب الصحيح، تربية أساسها الشجاعة والحمية والصدق والنظافة وتهذيب أساسه النزاهة والأمانة والإقدام وحب العدل والوطن متى تأصلت هذه الفضائل في الرعاة وفي الرعية وفي السائدين والمسودين تصلح جادات المدينة وتستقيم جادات الأدب والدين والسياسة. أصلحوا الحياة تصلحوا الحكومة، أصلحوا الحياة تصلحوا المدينة. (11) في لبنان
42
إخواني، أبناء وطني
إذا كان في حضوري حفلة هذه الجمعية ما يسركم وفي كلماتي ما يفيدكم فأنتم مدينون بذلك لرسول الجمعية إلي، جاءني هذا الرسول الأسبوع الماضي فذكرني بعد أن قص قصته بمخبري الجرائد الأميركية ، بأولئك الشبان الأقوياء الذين يتسقطون حتى من السماء الأخبار، وينالون بغياتهم بالجد والثبات، طلبني في محلات عديدة بالمدينة فما وجدني، سأل عني بعض الأصحاب فثبطوا من همته، علم أني سأخطب في بيروت خطبتي الأخيرة وأتأهب للسفر وما كان ذلك ليوقفه عن سعيه، عض على نواجزه وراح وجاء باحثا طالبا حتى لقيني فحاصرني واستولى علي.
أعجبني من الشاب نشاطه وجده وثباته، فأحببت أن أنوه بها في هذا المقام، وحبذا هذه المزايا الحميدة في شبابنا بل في كهولنا وفي نسائنا، حبذا العزم في الأعمال والثبات في الأعمال والإخلاص في الأعمال، فلا التربية في بيوتنا نحن السوريين ولا التهذيب في مدارسنا يغرس فينا مثل هذه الأخلاق الطيبة، مثل هذا العزم والجد والإقدام، الشاب الذي نوهت به من متخرجي الكلية والمزايا التي أعجب بها إنما هي من محاسن الأخلاق الأميركية، وحبذا لو تخلقنا بمثل هذه الأخلاق فنأخذ عن أصحابنا الأميركان والإنكليز أماثيل العزم والجد والإقدام ونترك لهم عبادة المال والتكالب في سبيل الإثراء.
Bog aan la aqoon