Ray Fi Abi Cala
رأي في أبي العلاء: الرجل الذي وجد نفسه
Noocyada
كما أن من عرض لتناقضه من المحدثين نظر إليه في الأفق الديني، ورجع في تعليله إلى اعتبار ديني لا غير، فلاحظ أنه كثيرا ما يثبت البعث وكثيرا ما ينفيه، وكثيرا ما يثبت الجبر، ولا يكره أن يثبت الاختيار، وكثيرا ما يهزأ بالدين، ثم لا يكره أن يحث عليه، ويعلل ذلك بأنه كان تناقضا مقصودا من غير شك قد ذهب به مذهب اللبس والتعمية قصدا إلى التقية، وهي مذهب معروف.
4
ولكنا قد رأينا تناقضه في حب الدنيا وكراهيتها، ولو أحبها أبدا وكان من أنشط طلابها - كما كان كذلك حينا ما - ما أنكر عليه ذلك أحد، ولو كرهها أبدا ما كفره أحد. وقد تناقض في المرأة فعدها شرا وضرا، وعدها نعمة وجنة، ولو أخذ بأحد هذين الرأيين أبدا ما قاتله أحد. وتناقض حتى في اختيار الميتة التي يموتها؛ فقد عد موت الوغى بضربة السيف سعادة، ثم عد أحسن ميتة الرجل ما كان على فراشه تشتد به العلة ... إلخ. وليس لمثل هذا الرأي يغضب الناس ويحاكمون أحدا حتى يلجأ إلى التقية!
لقد تناقض في كل شيء مما للناس فيه اعتقاد وقول يحترمونه، أو ليس لهم فيه رأي يلتزمونه، فكيف تكون التقية تعليلا لتناقض أبي العلاء فيما لا موضع فيه لتقية أبدا؟ بل إني لأرى التقية لا تصلح أبدا علة لاختلاف أقوال أبي العلاء حتى في الأمور الدينية؛ لأن التقية - كما يصفها المعللون بها - إنما هي اختلاف ظاهر وباطن، طاعة ظاهرة وقلب مخالف، وتوافق ظاهر، وإضمار خلاف، وهذا من التقية مفهوم؛ لأنه إخفاء ما يكره الناس ويغضبون من أجله، أما حين يقول الرجل قولين متخالفين ويعلنهما على السواء، ويجهر بهما معا فإن الناس سيأخذونه بالقول السوء ولا بد، ولن يشفع له عندهم أنه قال قولا حسنا، وبخاصة إذا كانت المسألة مسألة العامة والجماهير، أو مسألة المتعصبين من الفقهاء المرتزقين بفقههم، وهل ترى الناسك الزاهد المعتقد المتبرك به حين يظهر منه الكفر الصراح، ويجهر به سيغفر له الناس هذا ويعتذرون له بخيره الأول؟ كلا. ولعلنا نذكر أنه في محاكمات الزنادقة قد كانت توجه أقوالهم غير الصريحة، وتفسر إشاراتهم غير الواضحة تفسيرا متهما يؤخذون به ويقضي عليهم، فكيف يكون صنيع أبي العلاء من التقية، وقد ظهر منه القول الصريح الكافر الهازئ؟!
وفي كل حال، فسواء أكانت التقية لا تعلل مطلقا تقابل آراء أبي العلاء الدينية أم كانت تصلح لأن تعلل التقابل في الدينيات فحسب، فستظل وراء ذلك تناقضات أخرى وتقابلات كثيرة تحتاج إلى التعليل. وهذا موضع الرأي الذي رمناه في أبي العلاء.
وإني لأحسب أن أبا العلاء نفسه قد شعر بهذا التناقض حين قال:
جهل مرامي أن تكون موافقي
وشكوك نفسي بينهن تعادي
1: 237
وكأنما أراد الاعتذار لهذا التناقض منه أكثر من مرة؛ كقوله:
Bog aan la aqoon