المؤلف عثمان بن علي بن مراد العمري
مستخرج من موقع: (مكتبة العرب) مؤسسة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم
http://www.maktabatalarab.com/Pages/default.aspx
ترقيم الكتاب غير موافق للمطبوع
أعده للشاملة: سيد بن محمد السناري
Bogga 1
[1_2]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزه العيون في محاسن المعارف، وسرح الجفون في رياض الأدب. رياض تحاكى الروض النضر، وأزاهير تشاكل حسان العصر، قد البت أصناف اللطائف، وجمعت ضروب الأدب. فكم حديقة قد حدقت بصنوف شقائقه فرقت وراقت، وكم جنة تزخرفت بنور أنوار أزهاره فتاقت وفاقت. فيا لله ما ارفع منار الأدب قدرا. وما أوسع أمة الكمال صدرا. يعطي المتعاطي به على أقرانه امتيازا، ويرفعه على أبناء عصره وأوانه حقيقة ومجازا. فيكسب من ورود مناهله العذبة فضلا وكمالا، ويحوز في ارتضاع ثديه الشهدي المذاق مجدا وجلالا. فمورده الصافي الشهي أعذب الموارد، والوصول إلى كنه ذاته الضافي البهي غاية المآرب والمقاصد.
أحمده حمدا على نعم لا تفنى من معادن المعارف دررها، ولا تأفل من جباه وجوه العوارف غررها. واشكره على ما خصنا به من الخوض في بحور بديع البيان والمعاني، وإرسال العنان في حلبة ميدان المكارم ومعجز الألفاظ من غير توقف وتواني. حتى جعل ضوامر صافناته العتاق تحت طوعنا فنغير بها على حصون المعال، ونطلق أزمة أعنتها من غير توقف على بطون اليراعة ومتون الكمال. فانقاد أصعبه إلينا انقياد العبد الطايع، واستطعنا له نقبا بعد أن كان كالسد المانع. فكل روضة من رياضه بإنبات شقائقنا أنيقة، وكل جريدة من صحف معجزاته بإثبات دقائقنا وثيقة. فما من صك إلا وقد تصدر بختمنا، وما من سجل إلا وقد افتخر برسمنا. فهو الآن بدوننا بلا واسطة، ريشة بمهب الريح ساقطة.
ونهدي من الصلاة ما راق، ومن السلام ما فاق، ومن التحية ما علا، ومن الاثنية ما غلا. إلى السيد الذي رفع رتبة الأدب إلى هام الجوزاء، وشيد بروج حصونه فشاكلت الثريا وشاكهت السماء. أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب، فغرفنا على قدر الطاقة البشرية من ذلك البحر العباب. فهو العلة الغائية في ظهور الوجود
Bogga 1
[2_2]
وإيجاد الكمالات في عالم الشهادة، وهو الذي حصلت بشرف ذاته إلى أرباب الأدب أنواع المكارم وأصناف السعادة. نور العالم. مادة حياة أبينا آدم، محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى آله الذين تفتحت لهم كمائم زهره الوضاح، وتحلت عقود عهودهم النيرة في كل مصباح. وصحبه الذين اكتسبت منهم أيدي المنى بشاشة الأرواح. ولا زال وبل الرحمة متقاطرا عليهم، ولا برحت ديمة اللطف منساقة إليهم، ما لفظت الأقلام بدائع الحكم، وظهر الأدب ظهور النار على علم.
وبعد، فيقول العبد الفقير إلى لطف ربه الغني، عثمان الملقب بعصام الدين بن علي بن مراد بن عثمان العمري الموصلي: أني منذ رتعت وعلمت نفسي، وبرعت وميزت بين يومي وأمسي. يعني منذ لفظني المهد وكنت صبيا، إلى أن صرت في مدائن الأدب هاديا والى معالمها مهديا، ارضع من ثديه ما در وحلا، وساغ مذاقه لكل الملأ. فاركب من متونه كل صعب وذلول، وأطرق من مسالكه الوعرة شعاب الأطواد والتلول. حتى اهتديت إلى ناهج طريقه الأقوم، وعبرت إلى معارج تدقيقه الأجسم. فما عبرت طريقا من طرقه إلا وأنا العابث في وهاده، ولا اجتمع اثنان إلا وأنا الثالث في عقد عداده. فكل روض له بنا ازهر، وكل ليل له بضيائنا أقمر. أنسر بمعطاة أقداحه كل حين، والتقط من فرائد نثاره النفيس والثمين. فأنا نسيم روضها العاطر العليل، وسلسبيل حوضها الماطر البليا. وديمتها الهاطلة الماطرة، وسحابتها المتقاطرة الزاخرة متولعا باكتساب فوائدها التي لا تحصى، ومعتنيا بانتخاب عوائدها التي لا تستقصي. ففي ذلك الوجد الوافر، والشغف الذي ما له آخر. كنت أتضوع بنفيس طيبه، وأتغزل برقيق النظم وتشبيبه. وانظم فيه عقدا وجمانا، واستخرج من قعر بحاره لؤلؤا ومرجانا. فكل يوم بواد، وكل حين بناد.
لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... ولو تسلت أسلناها على الأسل
Bogga 2
[3_2]
لا ينزل المجد إلا في منازلها ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل
انظم فيها، واستخرج خوافيها، وافتح مقفلاتها، وافض الختم عن معضلاتها. فمضت على ذلك أيام، وانقطع عني ذلك الشوق اللهام، لعوائق وحوادث عاقت، وموانع ظهرت وظهورات تلاقت. اعتزلت عنه حينا من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، فظن أرباب هذه الصناعة أني لم أجد إلى هذا الباب مدخلا ولا إلى هذا البحر عبورا.
عجب الناس في اعتزالي وفي ال ... أطراف تلقى منازل الأشراف
وقعودي عن التقلب في الأر ... ض لمثلي رحيبة الاكناف
ليس عن فايت بلغت مداها ... غير أني امرؤ كفاني كفافي
وقد كنت ادخرت لمثل هذا اليوم، ما هو في العمل المثاب كالصوم. من نفائس المكنوز والمدخر، حتى يكون لأولى النهى كالمنتظر. من مسودات مناظرات ورسائل، ومحاورات ومفاخرات ووسائل. شاملة لتلك الفوائد، نفيسة بتلك الخرائد لذيذة بتلك الموائد. من كل رسالة فايقة، ومحاورة رايقة. ومجالس أنيسة، ومباحث نفيسة. أرق من السحر الحلال، وأعذب من الماء العذب الزلال. ولما غلب عليهم الوهم، وظن بي وإن بعض الظن إثم، أني قد رفضت الأدب، وانتحيت عن سنة فصحاء العرب، أحببت أن أنسخ تلك الأوراق، وأضم أصول تلك الأعراق. وأرتبها ترتيبا يحسن بها الجمع، وتكون للأديب موضع النطق والسمع. لتحصل في الفوائد مطبوعة، وكالفرائد مصبوغة مصنوعة، وكالشهب متفرقة مجموعة. مضيفا إليها ترجمة المعاصرين، الذين هم لعناقيد كروم الأدب عاصرين، ولأثمار غصون البلاغة هاصرين. معتصما فيها من الخطأ والزلل، والله المعين على القضاء إذا نزل. وقد حذوت فيها حذو الريحانة وصاحب القلائد، وجمعت فيها النادر من النظم والرائق من الفرائد. وإن شط المزار، ولم تتناسب الآثار. لكن
Bogga 3
[4_2]
الشاعر مشغوف بشعره، والجميل بذوائبه وشعره. فمن عذر انصف، ومن عذل أسرف، فالجواد قد يكبو، والزناد قد يخبو، والصارم قد ينبو، وقد سميتها الروض النضر في ترجمة أدباء العصر.
وقد خدمت به الساحة العلياء، والدوحة العظماء، والراحة الرحباء. ساحة الحضرة العظمى، والسدة الأسمى، شمس سماء الوزارة، قمر أفلاك الإمارة، أوحد الوزراء، أسعد الوكلاء. المشير الأكرم، والدستور الأعظم، قامع الجبابرة قاصم القياصرة. آدب الأدباء، أعظم الملوك الفضلاء. غيث سماء الجلالة، ليث غاية البسالة. المفضال لمواليه، المغوار على أعاديه. نامي الوجود، سامي السعود. القرم القمقام، الصنديد الصمصام. حامي الغزاة، ماحي الطغاة. قاهر الأعادي، قاسم الأيادي. مجد الإسلام، ملجأ الأنام. غرة أيام الملوك الأعالي، طراز أكمام المكارم والمعالي.
هو الملك الجعد الذي في ظلاله ... تكف صروف النائبات وتصرف
طلاقة وجه في مضاء كمثلها ... يروق فرند السيف والحد مرهف
على السيف من تلك الشهامة مبسم ... وفي الروض من تلك الطلاقة زخرف
صاحب المجد الاثير، والسحاب المطير. والمحامد والميامن، والمآرب والمحاسن. والأنواء والأنوار، والمبار والمسار. والصباح والصلاح، والسخاء والسماح. والبذل والنوال، والنجح والآمال. والظبا والبواتر، والعلي والمآثر. والسيف المصقول، والنصل المسلول. والشهم الكبير، والعادل النحرير والمشار الذي ماله نظير.
وزير لم يزل للمجد باني ... يؤسس للمكارم في الزمان
الغيث الهاطل، والهمام الباسل، والواحد الذي ماله مماثل. العظيم الشان، البليغ العنوان، والكثير الإحسان، زبدة وزراء آل عثمان، ونخبة أمراء هذا الزمان.
Bogga 4
[5_2]
الفريد الكامل، والأسد الباسل. إمامة سبحة الفرسان، حضرة الحاج حسين باشا أبقاهما الله ويسرهما لما يحب ويشا. أنار الله بمصباح آرائه ليل الخطوب وأزهرها، ومحا بنور عزمه ظلم الكروب ونورها. بمحمد وآله وأصحابه، السالكين لطرقه وشعابه. ما لاح فجر وضاء صباح، وغرد قمري الأنامل على أيك الأقلام وناح. وهو ولي الإجابة فيما دعوت، وهو العون القوي لي فيما نحوت. فعليه اتكالي، ويه عزيمتي واحتفالي. ومما قلت فيه.
وما زلت سهما للمصائب كلها ... رمتني يد الأقدار من كل جانب
بغيضا لهذا الدهر حتى تعلقت ... يميني بمن حاز العلا بالقواضب
متين العرى رحب القرى ضيغم الشرى ... أبو المجد والجود الذي كالسحائب
فلما رآني الدهر إن قد تعلقت ... يداي بطود في المكارم راسب
رأى جبلا لا يرتقي ومعالما ... تجود على رفادها بالجنائب
لديها الثريا كالثراء وهامها ... إلى القطب زهوا بين تلك الكواكب
فتى جبلا في المكرمات وأبحرا ... إلى البذل بدرا في ظلام الغياهب
فقال إذا دم بالمسرة والهنا ... وكن في أمان من سهام المصائب
بيت العمرية
ومن البيوت العامرة في بلدتنا الحدباء بيتنا العمرية.
نسب كان عليه من شمس الضحى ... نورا ومن فلق الصباح عمودا
وإذا سرحت الطرف حول فنائه ... لم تلق إلا نعمة وحسودا
بيت غرست نبعته في ساحة المجد والكرم، وانتشت شباته في ذرى الفضل والنعم. تسابقوا في ميدان الكمال فالأهم مقدم. توارثوا الفضائل عن أب وجد وكل نالها، واستمسكوا بهذه العروة التي لا انفصام لها.
أما الجد المشهور، ذو الفضل المأثور، الحاج قاسم ونجله علي، ففضلهم معروف.
Bogga 5
[6_2]
وجدهم علي، وعمر وأبو بكر ويحيى وفتح الله وأحمد ففضلهم لا ينكر، ورداء مجدهم في ربيع المكارم أخضر. معلومو المحل والمقام، وطرة كما لهم منسلدة على طلعة الليالي والأيام.
Bogga 6
[7_2]
مراد العمري
وأما الجد القريب مراد، صاحب الحيثية والاستعداد. فهو البحر الزاخر، والغمام الهموع المتقاطر. ربيع الحكم وصاحب المجد والكرم. روض الإفادة وغصن ساحة الكمال والسعادة. أمام فن العربية وترجمان لسانها، وعين أعيان البلاغة وإنسان إنسانها.
لا ترجون له المثيل فإنه ... شمس الهدى وعناية الآداب
أحيا أموات العلوم، وعمر ربع المنثور والمنظوم. ملأ بآدابه جنبات الأرض، ونشر لواء فضله في طولها والعرض. جال في ميدانها، واسترق أدباء عصرها وأوانها، صارم العزم، حاضر الحزم، ساري الفكر ثبت المقام، صلب العود، تهادت أهل العلوم، بفضله المرسوم. فتحقيقاته كثيرة حقيقة، وتدقيقاته غزيرة أنيقة. وتعاليمه رائقة، وتصانيفه فائقة. فضله ظاهر، وقد تعاطت سلافة أدبه الأكابر والأصاغر.
ومما أخبرني الوالد عن أبيه هذا الكريم الماجد قال: كان في علوم العربية فريد الزمن، وآثاره الآن دالة على توغله في كل فن. أمة بالحديث وعلامة بالتفسير، مرجع في كليهما للقليل والكثير. كأنه روض هذه العلوم الذي اعتدلت اسطاره، وابتسمت في حدائقه من أكمامها أنواره. قد منع الشمس من فضله ان ترمق ثراه، وعن أن تدرك خيال كماله في مروره ومسراه. وقد شهدت له بذلك الفضل ليالي وأيام، وتلت محاسن مواهبه الزاهية محابر وأقلام، وتعليقاته على المشارق نعم الأثر، وهو الذي يرشدك إلى صحة هذا البيان وثبوت هذا الخبر. وقد اثبت من نظمه الساطع، ما هو لكماله برهان قاطع. فمن شعره قوله:
بح بالغرام فما عليك ملام ... إن التستر بالغرام حرام
واترك ملامة لائم في حبه ... إن الملامة في هواه هيام
كيف التعرض للسلو وصده ... برء ووصل سواه لي أسقام
Bogga 7
[8_2]
ذكر العلامة إبراهيم بن حيدر في كتابه الملهمات، فيما نقل من أن ملاحظة الخيال، ألطف من مشاهدة الوصال، بل الوصال إذا لم يكن مراد المحبوب، فهو عندهم على الحقيقة غير مطلوب، والفراق ألذ من الوصل لأنه مراد المعشوق، والوصال مراد العاشق المشوق، وحصول مراد المعشوق على كل حال، هو عند العاشق غاية الطلب ونهاية الآمال. وقد قيل في هذا المعنى:
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
وفي البيت المذكور ما يفيد ذلك.
ومن القصيدة المذكورة:
كيف التخلص من محاسنه التي ... فيها لأرواح الكماة حمام
فالطرف يرمي بالنبال ولحظه ... قد سل للعشاق منه حسام
وبقده الخطي أوهن مهجتي ... وحشاشتي فكلاهما أوهام
بالروح أفدي من إذا أبصرته ... لم أستطع ولها عليه سلام
ما لابن مقلة صاد مقلته ولا ... مثل العذار بما تحفظ لام
بين السيوف المرهفات وجفنه ... عهد على سفك الدماء دوام
أأروم من كلفي عليه تخلصا ... هيهات ذاك جرت به الأقلام
أو كيف تخل من الصبابة مهجتي ... ولنارها في الخد منه ضرام
هذا البيت لطيف جدا في بابه زائد على بيت ابن النبيه في قوله من قصيدة مدح بها الملك الأشرف موسى ومطلعها:
صن ناظرا مترقبا لك ان ترى ... فلقد كفى من دمعه ما قد جرى
يا من حكى في الحسن صورة يوسف ... واها لو انك مثل يوسف تشتري
والبيت المطلوب منها:
تعشو العيون لخده فيردها ... ويقول ليست هذه نار القرى
Bogga 8
[9_2]
فإنه زاد على هذا نكتة لطيفة لا تخفي على المتأمل، إذ ما على خده من النار المضرمة إنما هي مستعارة من قلبه الذي هو منزله ومكانه. وأما بيت ابن النبيه فخلاصة ما فيه النار فقط.
ومثله للشيخ تقي الدين قوله:
وطال علينا السير في ليل شعرها ... فهنا كانا قط لم نعرف الفجرا
ولكن بأعلى خدها رفعت لنا ... من النار في الظلماء ألوية حمرا
ومن القصيدة المذكورة:
فاقت بدور التم طلعة وجهه ... فله عليها للطلوع ذمام
فإذا تبدى أو ترنح شاديا ... فالليل صبح والغصون حمام
وإذا رنا أسباك من ألحاظه ... سحر له هاروت فيه غلام
لله أي سويعة قضيتها ... فكأنها من طيبها أحلام
نادمته والعيش برد نعيمه ... صاف وما للحادثات نظام
أبرا بلذة أنسه وكلامه ... قلبا برته من الصدود كلام
في روضة عبق النسيم بطيبها ... وتفتحت عن نورها الأكمام
صدحت بلابلها على أغصانها ... فنمت لطيب سماعها الأجسام
كأنه أشار بهذا البيت إلى ما قاله مروان بن أبي حفصة إن الغناء غذاء الأرواح، كما إن الشراب غذاء الأشباح، وذلك لأن أصوات البلابل والحمائم ونحوها يختلف باختلاف السامع، فمنهم من جعله غناء، ومنهم من جعله عناء. إذ الإيقاعات المطربة لها في النفوس منزلة وتأثير عجيب، وموقع لطيف في تصفية الذهن، وتفريج القلب، وجلب السرور حتى قال بعضهم: أن أمهات لذات النفوس أربعة: لذة المطعم والمشرب والنكاح والسماع. فالثلاثة الأولى لذات جسمانية، ولا يتوصل إلى واحدة منها إلا بحركة تكلف. ولذة السماع نفسانية، ونشوة روحانية،
Bogga 9
[10_2]
تدب في البدن، وتسري في الروح من غير تكلف فتنمي الأرواح كما تنمي الأشجار. وأصوات الحمائم من هذا القبيل وفي تسميتها غناء قال ابن عبد الظاهر:
نسب الناس للحمامة حزنا ... وأرى في الشجي ليست كذلك
خضبت كفها وطوقت الجيد ... وغنت وما الحزين كذلك
ومثله كثير. ومنها:
في ساعة سمح الزمان بطيبها ... وتفضلت بصفائها الأيام
والكأس في يده تدار وبيننا ... تب به لصدا القلوب رهام
من خمرة مثل الشموس وكأسها ... بدر إذا ما زال عنه غمام
ومثل هذا التشبيه كثير كقول بعضهم:
رأيت الحميا في الزجاج بكفه ... فشبهتها بالشمس في البر والبحر
ومنها:
وبمزجها تبدو نجوم سمائها ... من فوقها أنى يكون ظلام
حلت لنا وجلت فليس بشربها ... إثم ولا عنها يقال حرام
هذا لعمري للمحب هو المنى ... وهو الحياة وغيره أوهام
Bogga 10
[11_2]
علي العمري أبو الفضائل
نجله الوالد علي صاحب الفضل العلي:
نشأ في حجر الشرف والافتاء، فبلغ من الكمال مالا بلغته الفضلاء، تفرد في كل فن وفاق أبناء العصر والزمن. فهو مركز قطب فلك المعال، وشمس سماء الفصاحة والكمال. له فضائل ومآثر، لا تحيط بها الكتب والدفاتر. لسانه فصيح، وميدان كماله فسيح. قضى عمره بتعاطي كؤوس الفضائل، فتسامرت بحديث فضله وفضل حديثه الأندية والمحافل. ورد مناهل الكرم، فكان سحاب الفضل وديمة النعم. فالأدب مدينة وعلي بابها، وما في زمانه فضيلة إلا وإليه انتسابها. شرح الفقه الأكبر، في مذهب الإمام الأعظم الأفخر، عمان العرفان، أبو حنيفة النعمان.
كتاب في سرائره سرور ... مناجيه من الأحزان ناجي
فكم معنى بديع تحت لفظ ... هناك تزاوجا أي ازدواج
وله من الآثار، شرح الآثار.
بكلام لو أن للدهر سمعا مال من حسنه إلى الإصغاء هذا وكان حفه الله بغفرانه، وأسكنه بحبوحة جنانه، ميالا للأدب وأربابه، متمسكا في الغاية بتحصيل أسبابه. يهتز لأبياته طريا، ويدفع بتلميحاته أحزانا وكربا. يقتطف لأزهاره وينتعش بأنواع نثاره. فناديه على الصباح مجمع العلماء، ومعدن الفضلاء، ومرتع الأدباء. يقري لكل فن، ويطوق بدر تقريره جيد الزمن. فتفسير القاضي أنيسه، والكشاف جليسه. وسعدي في لسانه، والبخاري من جملة بيانه.
ثم أثر ذلك يفكه بنوادر الأدب، ودواوين دهاة العرب. وبعض أشعار البلغاء، وطبقات الأدباء. كالتحفة والأطباق والمفاكهة، والأطواق. وتنتشر الرجال، كأقمار الليال. ويبقى وحده، وليس غيري عنده. وأنا إذ ذاك في العشرة الأولى وهو في العشرة الثامنة، ولم يكن عندي من نفائس الأدب ولا كامنه. فيناديني يا عصام،
Bogga 11
[12_2]
شنف أسماعنا بديوان البحتري وأبي تمام. فأجثو بيد يديه، وأقرأ ما تيسر منهم عليه. وكنت أرى منه ما يبهر العقول، ويوقف الفحول، في تقرير الأدب، وتعريف أيام العرب. يحرضني على تحصيل المعارف، واقتناء اللطائف. ومطالعة الكتب والدواوين، لكون ذلك سيرة آبائه الغر الميامين.
هذا وأيامه كلها أعياد ومواسم، وأوقاته بأجمعها ثغور بواسم. قد انقادت الدنيا لديه، وأقبلت بكليها عليه. مع كثرة خدم، وتضاعف حشم. وتعدد أولاد وذراري، ووفرة غلمان وجواري. ولم تشغله عن مجده، او تؤخره عن رشده. قد اتخذ الفضل صناعة، وصحبة الكمل خير بضاعة. فله على بهذا حقوق، لم تقبل العقوق. جزاه الله عنا خير الجزاء الجسيم، في جنان الخلد والنعيم.
فمن جملة آثاره، والسكر المكرر من نثاره، قوله يمدح شيخ الإسلام فيض الله:
خد تورد بارتشاف الأكؤس ... فرنت لواحظه بطرف أنعس
أم ذا احمرار بان في وجناته ... وأظن أورثه لهيب تنفسي
أم ذا شقيق الحسن أحمر ساطع ... أوراقه آس العذار المغرس
أم غادة حسرت قناع جمالها ... فبدت بواتر لحظها المتنكس
قد زادها عجبا رحيق شبابها ... فغدت تقابلنا بثغر ألعس
هيفاء قد لعب الجمال بعطفها ... وكساها تاج الحسن أفخر ملبس
لاشك طرتها الأصيل وفرقها ... صبح تبلج عن ظلام مغلس
أو روضة عبث النسيم بزهرها ... وكساها وقع الطل حلة سندس
فبدت بها الأشجار شبه عرائس ... تحكي ببهجتها الجواري الكنس
رقصت بلابلها على أغصانها ... طربا لبهجة وردها المتورس
فالياسمين معانق قضبانها ... قد قلدته حمائلا من سندس
أما الشقيق فشققت أطواقه ... والخال في فيه كمسك أنفس
Bogga 12
[13_2]
والأقحوان الثغر منه باسم ... وكذلك الغض العيون النرجس
يختال في قضب الزبر جد مارحا ... والرأس منه مائلا بتنكس
وبنفسج آس وورس أخضر ... ومضاعف المنثور نزهة مجلس
والورق تشدو والغصون رواقص ... والسحب تبدي القطر عند تنفس
فاشرب معتقة الدنان شمولة ... تذر الهموم صحيفة المتلمس
وأسطو على خطب الزمان ببأسها ... إن المدام أنيسة المستأنس
هذا هو العيش الهني ففز به ... والجأ بخطبك للمحل الأقدس
فهو المحل المستنير بمن غدت ... آراؤه عونا على الزمن المسي
الفاضل الحبر الهزبر ومن غدا ... أمن المروع ورأس مال المفلس
ركب الفضائل وارتقى حتى غدت ... من دون رتبته مجاري الأطلس
لاشك أن الدهر طوع يمينه ... فيرى التصرف لا بشق الأنفس
عرضت عواقبه الأمور عليه ان ... قادت تخاطبه بقلب أوجس
فأمدها عزما وبرثن سطوها ... فمضت محتمة بغير تهجس
تلقى سهام مصابها عن قوسه ... فتصيب نحرا للحسود الأتعس
مولاي فضل الله أنت مؤملي ... من جودك الطامي بكأس أحتسي
رضت الفضائل والمكارم والعلى ... ولأنت أجدع كل قرم أشوس
ورفعت عن بكر العلوم براقعا ... وخطبت منها عوانسا لم تمسس
لازلت راق في العلا مترديا ... في حلة المجد الأتم الأنفس
قوله تذر الهموم صحيفة المتلمس هذا مبني على حكاية لطيفة لا بأس بذكرها.
كان من خبر المتلمس فيما أورده الميداني إن عمرو بن المنذر بن امرئ القيس كان يرشح أخاه قابوس ليملك بعده، فقدم عليه المتلمس وطرفة، فجعلهما في صحبة قابوس، وأمرهما بلزومه. وكان قابوس شابا يعجبه اللهو، وكان يركب إلى
Bogga 13
[14_2]
الصيد، فيركض ويتصيد. وهما يركضان حتى يرجعا عشية وقد تعبا. ويكون قابوس مولعا بالأكل والشراب فيقفان بباب سرادقه إلى العشي. وكان قابوس يوما على الشراب فوقفا النهار كله ببابه ولم يصلا إليه، فضجر طرفة وقال:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حوب قبتنا تخور
من الزمرات أسبل قادماها ... وجرتها مركبة تدور
يشاركنا لنا خلان فيها ... وتعلوها الكباش فما تنور
لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير
قسمت الدهر في زمن رخي ... كذاك الحكم يقصد أو يجور
فأما يومهن فيوم سوء ... يطاردهن بالحرب الصقور
وأما يومنا فنظل ركبا ... وقوفا ما نحل وما نسير
فبلغ عمرا هذه المقالة فمكث غير كثير، ثم دعا المتلمس وطرفة، فقال: لعلكما قد اشتقتما إلى أهلكما ويسركما أن تنصرفا. فقالا: نعم. فكتب لهما إلى أبي كرب عامله على هجر أن يقتلهما، واخبرهما أنه قد كتب لهما بحباء ومعروف، وأعطى كل واحد منها شيئا فخرجا. وكان المتلمس قد أسن فمر بنهر الحيرة على غلمان يلعبون. فقال المتلمس لطرفة: أعط الكتب لهؤلاء الغلمان يقرؤوهما لنا، إن فيهما خير مضينا، وإن فيهما شر اتقينا. فأبى طرفة عليه. فأعطى المتلمس كتابه بعض الغلمان فقرأه عليه، فإذا فيه السوء، فطرحه في الماء. فقال لطرفة أطعني وأطرح كتابك. . فأبى طرفة ومضى بكتابه. وكان من شأنه أن قتله عمرو، ونجا المتلمس بنفسه فسارت مثلا. وهذا خلاصة ما ذكر الميداني في كتابه مجمع الأمثال.
Bogga 14
[15_2]
عبد الباقي بن مراد العمري
عمي عبد الباقي.
فاضل كامل، وكامل فاضل. جبلت طينته بماء الرئاسة، وسارت فواضله بأنواع المكارم والنفاسة. ففضله آية النهار، ومجده هلال جميع الأمصار. ملك زمام الفوائد، فحسن المبادئ والمقاصد. وصاغ قلائد المجد لجيد العلا، ونظم عقود اللآلي لكل الملا.
البسه الله ثياب العلا ... فلم تطل عنه ولم تقصر
نظم ونثر، وهطل فقطر. فكان في الشعر أبلغ من أبي نواس، وفي الذكاء أفرط من إياس. حتى اخبرني الوالد الماجد رحمه الله عن فرط ذكائه إنه قال: كان مصطفى البصير، في المعارف خبير، وكان في الحفظ لا يقبل النظير. وكان يلازم المومى اليه، ويجعل معوله دون الناس عليه. ويلازم ناديه، متوقعا لنثار أياديه. وقد أرجت منه نوافج الند، وماست معاطف الرند. وهو في مجلسه، متشرف بتأنسه. فيتناشد الأشعار ويتذاكر عن مواقع النثار، في تلك النضار. ويتفكهون بالنشيد ويتسامرون بالقصيد. فينتعش البصير ويتمايل، ويهتز طربا بكل ما يتناول. ويحفظ قصائد من نشيد واحد، ويدعي سماعه في الزمان المتباعد. وينشدها فإذا هو كما قال، من غير ضميمة نقص واختلال. فيهتز عمي به طربا، ويستخرج من معادن فكره جواهر وذهبا.
وكان في الغاية سريع النظم، قوي الفهم، منظوم الكلم. غريب النباهة، عجيب البداهة. رائق النشيد، فائق النظم والقصيد. فنظم مرة قصيدة، كاللآلئ نضيدة. وهي في بابها عجيبة، وحشية الألفاظ غريبة. متقاربة الألفاظ، مشكلة على الحفاظ. من قبيل ما ذكره صاحب المستطرف نقلا عن الأصمعي قوله:
صوت صفير البلبل ... هيج قلب الثمل
امتحانا للبصير، وتجربة لحفظه الغزير. فلم يسعه حفظها. وسلم له بالذكاء والفهم
Bogga 15
[16_2]
بالحال، وجرت مداعباتهم على هذا القبيل والمنوال. فكان يتأسف الوالد على فقده إذ مات شاب وفات هباب، وغابت شمس فضله في التراب.
فمن منظوم نظمه قوله يمدح قاضي العسكر يحيى بقصيدة وهي:
كيف حال امرئ يبات شجيا ... ساهر الطرف لا يزال بكيا
مولع القلب ليس ينفك يملي ... صحف البين بكرة وعشيا
كلما هبت الصبا من أقاصي ... شعب حدبائه تزايد غيا
وتردى برد السقام وأضحى ... شوقه في طوى الضلوع وريا
وتلافى بعد الديار فنادى ... ربه في الدجى نداء خفيا
كيف أنسى من أرضعتني أفا ... ويق اغتباط وكان بالي رخيا
وطني موئلي قرارة صفوي ... دار أنسي ما بت فيها شقيا
كل يوم لي اجتلاء جديد ... في رباها وناظري يتحيا
بين ورد ونرجس وأقاح ... وصحاب بيض الوفا والمحيا
فسقى الله ساحة الجوسق ال ... فرد من الديمة المسحة ريا
كم ليال مرت بها ذات أنس ... حادث الدهر كان عنه غبيا
زمن قد سحبنا فيه فضول ال ... عيش بالأنس لا نخاف غويا
تركتنا أيدي النوى بعده اليو ... م بقلب بالهم أمسى مليا
نتلقى الخطوب يوما فيوما ... ونوافي من المكاره غيا
أأعاني من الهوى ما أعاني ... وملاذ الورى غدا لي وليا
ذاك قاضي عساكر الروم من قد ... أصبح الفضل بين برديه طيا
ذاك يحيى بن صالح في المعالي ... والموالي من لا يزال صفيا
ألف العلم والمروءة والسؤ ... دد والجود منذ كان صبيا
قلدته جدوده صارم المجد ... علاء فحاز كف الثريا
Bogga 16
[17_2]
وغدا يجتني ثمار المزايا ... حيث ما كان يابسا وطريا
ورقى ذروة الفضائل حتى ... جعلته أولو العلاء وصيا
تترامى صرعى لديه الأماني ... فتلاقي كنز الرخاء جليا
ما أتاه المقل إلا وأمسى ... بعد إقلاله المهيض غنيا
يا عزيز الوجود يا كعبة الجو ... د ويا من غدا عزيزا سنيا
إن لي حاجة إليك فحقق ... بك ظني فلا برحت رضيا
بسلام حيث اتجهت وتمسي ... اين ما كنت بالسعود نجيا
فاقض لي حاجة وفز بدعائي ... بانفصال ففيه أغدو سميا
لا برحت الرشيد في كل أمر ... سندا مسندا سعيدا عليا
وله وقد مدح بها الصدر الشهيد علي باشا:
بشرى لقد جاء نصر الله منذولي ... سعد الصدارة مولانا الوزير علي
بدر الوزارة شمس الدين من فخرت ... به الليالي على أيامها الأول
نتيجة الدهر فرد العصر من طبعت ... أخلاقه بصحيح القول والعمل
مغني الألوف ووهاب الألوف ومن ... بعد له زال قبح الجور والخلل
مولى لو استامه الراجي لصيره ... بجوده يصحب الدنيا بلا أمل
لد يد لو يباهيها السحاب لما ... شام الورى غير صوب العارض الهطل
معاشر الكفر زال الضر وانفرجت ... طرق الفتوح بهذا الضيغم البطل
هذا الذي خافه الدهر الخؤون وقد ... أطاعه بزوال الحادث الجلل
فلا يغرنكم تكثير جمعكم ... فسيفه الموت فيه سابق الاجل
هبوا قبيل استداد السبل ويحكم ... إلى الفرار وملء السهل والجبل
أوفى السلامة في التسليم لو سلمت ... عقولكم لا بجم الجمع والحيل
بشراك يا أيها الصدر الخطير ومن ... شاعت مناقبه في معظم الملل
Bogga 17
[18_2]
فالسعد والنصر مقرون كما رقموا ... في الكتب في يمنك المضروب بالمثل
فسر لنصرة دين الله معتصما ... بالله انك محفوظ من العلل
يا من غدا بسخاء الكف مشتهرا ... ومن له كل أمر في الأمور جلي
طال اغترابي حتى حن راحلتي ... ورحلها وقرى العسالة الذبل
فارحم فديتك من جلت نوائبه ... واشتاق للأهل والأصحاب والطلل
عبدا غريبا بعيد الدار صيره ... هذا الزمان بلا خل ولا خول
مستلقيا ببلاد الروم ليس له ... خل يوازره في دهره العطل
لازلت مفتاح باب البشر متزرا ... بالفتح والنصر مقرونا وأنت علي
والشيء بالشيء يذكر، وتلك قاعدة عند أهل الأدب لا تنكر. في سنة أربع وستين ومائة وألف، من هجرة من له المجد والشرف اتفق لي سفرة إلى بلاد الروم، ونهضة إلى تلك المعالم والرسوم. وامتدت الغربة إلى أربع سنين وأيام، وقد عاركت فيها الأمور الجسيمة العظام. وأقمت في تلك المدة أتدرج في مسارحها، وأتصرف في منازهها ومسايحها. وكانت لي تلك البلاد نزهة أربت على نزه الحدباء والرصافة، وأنافت عليها أي انافة. وفي أثناء ذلك المقام، وفي خلال اتساق الأنس والانتظام، صادفت ما أزعجني وإلى حب الوطن هيجني. وتبدلت انعامات الدهر بوسا، وانقلب ابتسامه عبوسا. وأنحفني البعد وميلني، وأنهلني القلق وعلني. وحنيت إلى الوطن حنين العاشق إلى الخدود النواضر، فأنشأت قصيدة على هذا الوزن والروي فوقع الحافر على الحافر. وهي:
ما فاح نشر صبا تلك المعالم لي ... إلا وأذريت دمع العين في وجل
ولا شدا الورق في أيك على فنن ... إلا وصرت لشوقي عادم المقل
ولا تذكرت أوطاني ومنزلتي ... إلا وأيقنت إن العز بالنقل
أين العراق وتلك الدار أين سنا ... تلك الجنان ففيها قد حلا غزلي
Bogga 18
[19_2]
أين الأهيل أصيحابي بنو أدبي ... يا حسرتي لفراق الأهل والخول
ففي تذكرها زاد الغرام وكم ... قد زدت وجدا بذكرى عيشها الخضل
لله إذ كنت فيها في صفا وهنا ... وطيب عيش مضى أحلى من العسل
إذ كنت من حادث الأيام في دعة ... مصان من كل سوء حائز الأمل
مبلغا من لدن دنياي كل هنا ... مؤملا كل صفو غير منتقل
العيش فيها لذيذ قد حلا وغلا ... ونلت فيها منى خال من الزلل
والدهر قد ضمنت أيامه جللا ... وأكمنت لي ليالي السود للجلل
فما شعرت بغدر الدهر من سفه ... وما انتبهت له حتى تنبه لي
فصار يلفظني أيدي سبا حنقا ... على معاملتي إياه في الأزل
يوما بحزوى ويوما بالعقيق وبال ... حزون يوما ويوما ذروة الجبل
والعز يوما ويوما رفعة وعلا ... والذل يوما ويوما رتبة السفل
فانحل عقد اصطباري لوعة وغدا ... صحيح حالي محل الفكر والعلل
فصرت لا أهتدي من عظم غائلتي ... إلى طريق الهدى للختل والغيل
أبيت حلف السها والعجز يبعدني ... عن السهاد ملي القلب من وجل
كيف الوصول وهذا الدهر يقعدني ... عن النهوض إلى لذاتنا الأول
بذلت جهدي ولم تنفع مجاهدتي ... واحتلت فيه فلم تنفع به حيلي
ظللت في الروم حيرانا وذا كمد ... وذا أسى وجوى أرعى مع الهمل
فلا صديق يرجى يوم حادثة ... ولا أخل ثقة ينفعك في جلل
فالشهم ذو المجد من يعرف حقيقته ... ولم يكل أمره للعجز والكسل
(وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل)
فالدهر ذو الغدر لا يصفو إلى أحد ... فدع مكائده للغدر واعتزل
فكم صفا قبلنا للطالبين له ... أيام حتى أخذهم غير محتفل
Bogga 19