[book 1: 1-2]
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الروابيع لأفلاطون شرح أحمد بن الحسين بن بختار لثابت 〈بن قرة〉
الرابوع الأول والثانى
قال ثابت بن قرة:
قلت لأبى العباس أحمد بن الحسين بن جهار بختار عند انقضاء كتاب «أنطوليقا»: إنك بإنجاز وعدك لخليق!
قال أحمد: فيماذا تعنى يا ثابت؟
قال ثابت: فيما تضمنت كشف غوامضه وتفسيره وتحقيق معناه من كتب الشيخ أفلاطون.
قال أحمد: إنى لأعجب من حرصك على ذلك كأنك لم تقف على عواقب الأمور فيما يصير إليه أمر الدهور!
قال ثابت: أشهد الواحد الحى ما حرصى حرص من يحب أن يلام عليه، لأنى لست أريد منه عاجل النفع ولا نزر الطمع، بل ما يفتح لى بابا إلى الحق ويرشدنى إلى سبل الرشاد. إذ قد وقفت من إشارتك أنه يحوى الكلام فى هذا النوع معانى فلسفية حقيقية.
قال أحمد: إن كان ذلك كذلك، فبالواجب حرصك أن يشتد. إلا أنه لو كان سؤالك عن عين الحق وما لا يخلط به سواه — لكان أولى.
Bogga 119
قال ثابت: قد علمت أيها الفيلسوف كون هذا العالم وأهله، وأنه لا يحتمل الحق بكليته. فأنا أريد أن أسمع من الكلام ما يؤدى بعضه إلى الحق، وأرضى ببعضه بالطبع، إذ كنت لنقصانى أعجز عن دفع قوى الطبيعة بأسرها.
قال أحمد: إنه ليسرنى أن أجد فى هذا العالم من يتكلم بمثل هذا الكلام أو يهتدى إلى هذا النوع من السياسة. إذ كان العلم مرفوعا والرأى معدوما، والعالم وأهله قد عادوا الحق وأهله ومعرفته حتى صاروا فيه معدومين ومما يضاده من الجهل والعمى مخصوصين.
قال ثابت: بعلمك أيها الفيلسوف اهتديت، ومن رأيك اقتبست، فحسنى لك إذ كنت بك فيه اقتديت، وقبيحى لى إذ كنت عن سيرتك تعديت. وأما العالم وأهله فكما وصفت، إلا أنك مصباحه المبين وشمسه المنير. وخليق لهذا الزمن أن يفتخر على سائر الأزمان بك، إذ برزت سبقا على من مضى، واستحال فى الوهم كون من بك يتساوى.
قال أحمد: دعنى من الملق، فإنما بغيتى عالم ولم أخالف فيه من بسيرة الحق عارف، إلا أنى مضطر إليه كتشبث الطبيعة بى، وأنا مبتهل إلى الله الحق أن يعيننى على نيتى ويوفقنى لمرادى العقلى، لا المراد الطبيعى.
قال ثابت: لست الذى أحتاج أن أقف على السبب الذى منه اعتذرت، وما تكره من نفسك فهو عند غيرك من الفلاسفة سيرة الحق؛ إلا أنك لما حويت الفضائل وأخذت بأزمة الرشاد تستعظم اليسير من الخلل يكون منك.
قال أحمد: أليس يعسر عملى بالعلم، فكيف أستحق لشىء من المدح؟!
قال ثابت: ذلك كما قلت. وكيف لا يكون كذلك وعلمك ما لا يتناهى، وعملك محدود بمحدود فى زمن محدود!
قال أحمد: إن فيما تطالب كشفه من العلم واسطة بين ما لا يتناهى وبين ما يتناهى.
Bogga 120
قال ثابت: أسألك أن تكشف لى عن هذا القول.
قال أحمد: لما كان فيه الإنباء عما لا يتناهى، وهو الأصل الذى كان من أجله البسيط القابل لتركيب الذى يستحق اسم المتناهى، ثم الكلام فى المركب اللطيف والمجسم — كان كل ذلك، أعنى علمه، ممكن فيه الارتقاء إلى العلو الذى هو محل الحق الذى لا يتناهى والرجوع فيه إلى المركب الذى هو الطبع المتناهى.
قال ثابت: فأنا الجدير بمطالبتك بذلك وإبرامك فيه حتى أصل إلى مرادى منه.
قال أحمد: لو لم يكن فى إخراجى ذلك إلا ما يمتاز به المهرة من أهل هذا العلم من الخداع المستأكلين بهذه الصناعة، لكان ذلك جليلا من الحظ.
قال ثابت: إن كان ذلك يخرج فيما تخرجه من هذه الكتب، كان لك المنة العظمى واليد العليا على هذا العالم وأهله.
قال أحمد: إنى عازم على الإخراج فى فحوى بعض كلامى فى هذه الكتب لأشياء نمتحن بها الممخرقين بهذه الصناعة.
قال ثابت: إن فعلت ذلك فما أولاك!
Bogga 121
قال أحمد: إن الخداع والمخرقة مجانسا الطبيعة لا يزالان معها وفيها. وقد كان الشيخ أفلاطون وضع فى كتابه المسمى «ديالغون» فى المقالة السابعة أشياء من هذا النوع. ويقول فى بعض فصوله فى هذه المقالة أن ليس شىء من الخداع بأنفذ عند العوام من ادعاء هذه الصناعة وأطماعهم فيها، إذ كان فى نيلها إدراك جميع لذات هذا العالم والمطلوبات فيه، فيبلغ من حرص الأنفس عليها ما يشغل ذوى الآراء العميقة عن التثبت والتفتيش عن صحة الشىء وباطله، فكيف الخلو من العلم والصفر من الرأى!
وقد كان للشيخ أفلاطون تلميذ يسمى أومانيطس قد ولع بطلب هذه الصناعة وتشاغل بها عن جميع العلوم؛ فكان أفلاطون يعظه ويدفعه عن مراده وما هو عليه. فكان لا تزيده العظة إلا حرصا والدفع إلا ولوعا. وكان مما يدعى أنه يصحح عنده هذا العلم والصناعة أنه قال: إنما رأيت الأشياء من الطبائع الأربع، ووجدت الحشائش والنبات منها، ووجدت البذر القليل يبذر فى الأرض فيستحيل من الأرض إليه ما كان ملائما له، حتى يصير من الشىء القليل الكثير. ووجدت الذهب والفضة وقد جانسا النبات فى الطبيعة، وجب أن تكون زيادتهما ونماؤهما إذا دبرا كالنبات.
فقال أفلاطون حينئذ: إنك قد ركبت يا أومانيطس بيداء مضلة وأنت أعمى عن مطلبك فليس يزيدك جولان الطلب إلا بعدا عن المراد. ولولا أنى قد رأيت من حرصك على هذا العمل ما لا أشك معه أنك إنما تريد به الاستمكان من الطبيعة لكنت أرشدك إليه، فيكون نيلك فى أقرب مدة. إلا أنك لما عدلت عن علم المخلص وسيرة الحق لم لم يسعنى أن أعاونك على ضلالك. غير أن مشاكلة جوهرية الإنس توفقنى لك بعطفى عليك، فأنا أبين لك فساد ما أنت عليه وإن لم أرشدك إلى صوابه.
Bogga 122
أما ما ذكرت أن الحشائش والنبات من جنس الطبيعة، وأن الذهب والفضة وسائر الجواهر أيضا كذلك، وأنه واجب أن يزدادا إذا دبرا كزيادة النبات — فيوجب قولك هذا أن تكون زيادة الذهب ونماؤه فى معدنه وجوهره الذى هو الأرض. وكما أنك لو ألقيت بذر النبات فى النار أو فى موضع غير مشاكل له لم يزد فيه ولم يستحل، بل تفرق وبطل — كذلك الجواهر إذا ألقيتها فى معدنها لم يكن بالمستحيل أن تستحيل إلى جوهرها. وإذا كانت من خلاف الموضع الذى يشاكلها بطل أن تنمو أو تزيد كما بطل ذلك فى النبات. — فقد بان لك — إن استيقظت من سنة الضلال — أن قولك هذا فاسد واستدلالك هذا باطل.
فلم تردعه وصية الشيخ وما بين له، ودار بينهما كلام كثير، أدى ذلك إلى مفارقته للشيخ وخرج إلى بلاد البابليين، ونزل على مصب الفرات يطلب وجود هذه الصنعة. وزاد فى حرصه عليه منع الشيخ له عنه، وأراد أن يكون انصرافه إلى بلاد اليونانيين. وقد أدرك ذلك لينفى عن نفسه ما نسب إليه من الاشتغال بالباطل والانهماك فى المحال. فلم تزده الأيام إلا حيرة، ولا التفتيش إلا عمى. فلما يئس وانقطع رجاؤه انصرف إلى بلاد اليونانيين خائبا خاسرا وقد نفذت أيامه وفاته الحظ الجليل من ملازمة أستاذه.
فلقيه أفلاطون فقال له كالهازئ به: هل أصبت مطلوبك يا أومانيطس؟ فقال: أصبت أن مطلوبى من مطلبه غير موجود.
فقال أفلاطون: قد أصبت الموجود.
قال ثابت: أيها الفيلسوف! قد فت هذا الكلام فى عضدى ونقص من غرامى، وأوهى من رأيى، إذ كنت أقدر قديما تقدير أومانيطس وأظن أنه الصواب. فأنا فى هذا الوقت متحير، قد بطل عندى — ببطلان هذا الرأى — وجود علم هذه الصنعة.
قال أحمد: إنه لا ينبغى أن يصح عندك وجودها حقيقيا حتى يبطل عندك رأيك الأول بطلانا لا تشك فيه.
قال ثابت: فأسألك بمن خصك بالفضائل إلا ما عجلت كشف غم هذه الحيرة عنى، وألبستنى سرور الإيضاح وفرحة المطلوب والموجود.
قال أحمد: مما ينبغى أن تعلم يا ثابت: أن الاختيار والطبع متنافران متضادان، وأن فعل الطبيعة مستحيل كونه بفعل الاختيار لتنافر الأصلين، أعنى الاختيار والطبع، فيكون الذهب فى هذا العالم بالاختيار ككون الطبع له مستحيل، إلا أنا نخالف ذلك فندبره تدبيرا يباعد الطبع وإن كان بعيدا قليلا. فإذا فعلنا ذلك دبرناه كتدبير الاختيار فى الأصل، ثم رد البسيط بالتركيب إلى ما يراد من الجوهر.
Bogga 123
قال ثابت: إن رأيت أن تزيدنى بيانا، فعلت.
قال أحمد: وإنما وضع الحكيم فى كتبه هذه التحليلات والتكليسات والتفريقات احتيالا منه للشىء أن يغيره عن تركيبه المطبوع عليه فيرده بسيطا كما كان فى البدء فينفذ فيه حينئذ تدبير الاختيار كما نفذ فى البدء.
قال ثابت: وكيف ينفذ تدبير الاختيار فى البسيط ولا ينفذ فى المطبوع؟ قال أحمد: لما أخبرتك من تنافرهما.
قال ثابت: ولم لا يتنافر البسيط أيضا؟ قال أحمد: لأنه أقرب مشاكلة منه.
قال ثابت: وكيف يتهيأ لنا أن نرد الشىء بسيطا فى هذا العالم المطبوع المركب؟
قال أحمد: قد قلت فى الفصل من كلامى المتقدم أنه يباعد عن الطبيعة وإن كان البعد قليلا. فإنما أردت بهذا القول أنه لا يمكن أن يرد بسيطا كما كان الأصل، إلا أنه يحتال فيه بلطيف التدبير وعلى أدق ما يمكن من الحيلة فى هذا العالم أن يقام الشىء الواحدى الذات خلوا من الشوائب، أعنى من أضداده، فيكون إذا أقرب إلى البسيط من المطبوع المركب — عمل الاختيار فيه، أقول إنه لا يمكن لأحد فى هذا العالم أن يقيم الشىء الواحدى الذات... ... ... فهو البسيط حتى يكون الذى يخالطه من الشوائب القليل الكمية الضعيف الأثر، فيكون أقساما — ينجح فيه الطالب لهذه الصناعة.
قال ثابت: قد فهمت هذا القول وقبلته قبول اضطرار. فخذ أيها الحكيم فى تمام كلامك.
قال أحمد: إن أول ما أتكلم به المشورة على طالبى الحكمة المخالفين لسيرة البهائم أن لا يقبلوا من أحد يدعى علم هذه الصناعة إلا من يرشد إلى ما أرشدت.
قال ثابت: فمثل لمن أشرت عليهم مثالا يقتدون به.
قال أحمد: هو قولى هذا الذى قلت إنه لا يمكن كون هذا الشىء إلا برده إلى البسيط.
Bogga 124
قال ثابت: قد صعبت هذه الصناعة وأوعرت الطريق إليها، هذا مع خساسة نتيجتها.
قال أحمد: وكيف ذلك يا ثابت؟
قال ثابت: لأنه لا يتهيأ أن يرد الشىء بسيطا، إذ الغالب فيه الشىء الواحد، إلا بعد مشقة النفس وكد الطلب. فإذا ركب أيضا كان الشىء القليل الذى يقل مقداره.
قال أحمد: بل يصح فى هذه الدرجة استدلال أومانيطس. فإنه إذا فعل قد مثلث فإنه يمكن بعد ذلك أن يستحيل إليه من الأركان الأربعة ما جانسه فى الهيئة والشكل، كما قد قلت مرارا إنه من الواجب أن يتصل الشكل بالشكل. وإنما أخطأ أومانيطس لما أراد أن يزيد فى الشىء وهو مركب بالاستحالة إليه مركبا مثله، فهذا يستحيل بفعل الاختيار. فأما البسيط فقابل شكله كما قدمت، ثم يدبر كتدبير البدء.
قال ثابت: فما ترى أن يكون الشىء المدبر؟
قال أحمد: إذا كان أى شىء كان، رددته بسيطا، فليكن ما كان، لأن أكثر اختلاف الأشياء إنما هو من أجل التركيب. وقول أفلاطون فى صدر هذا الرابوع الثانى الذى أنا مخرجه يشهد بصحة ما قلت. وإنما طول كلامه لينبئ عن طبائع الأشياء وأنها أسهل تدبيرا.
قال ثابت: وما قال أفلاطون؟
قال أحمد: قال أفلاطون: إذا كانت الأشياء من جنس واحد أصلها، فإن ردت ففى واحد.
قال أحمد: يريد الفيلسوف بهذا القول أن الأشياء الموجودة كلها من أصل واحد، وإنما تغايرها من أجل تفاوت أجزائها، وأن كل شىء فيه من اختلاط الطبائع ما ليس فى غيره، وأن تغايرها من أجل ذلك. فنقول: إنه إذا حل التركيب وفرق فإنه يرجع الشىء كما كان فى الأصل، وهو الشىء الذى هو أصل الأشياء وجنس الأجناس.
قال أفلاطون: والمعرفة بالأجسام وكيفياتها وبدئها مما يسهل العمل.
Bogga 125
قال أحمد: يقول: إذا عرف الجسم وكيفيته وبدؤه الأصلى فإنه يعين العامل على مراده، لأنه يكون بمعرفته أحرى على تدبيره وأعرف بالاحتيال فيه.
قال أفلاطون: الأجسام الصلبة صورة جاسية، واللطيفة ضعيفة إلا أنها غزيرة.
قال أحمد: يخبرك الفيلسوف أن الأجسام الصلبة، يعنى كالذهب وسائر الأجسام التى تقاوم النار وغيره من الأركان، لا تبلغ من غزارتها ونفاذها ما يبلغ اللطيف، أعنى الأعضاء وما شاكلها. ويقول إن اللطيف ضعيف يحتاج إلى التدبير اللطيف، لأنه لا يثبت ثبات الأجساد الصلبة، إلا أن اللطيفة غزيرة سريعة النفاذ.
قال أفلاطون: وتحتاج أن تعلم لم ذلك كذلك، وليس إلا أن اللطيف طالب لموضعه. قال أحد: أحسن الفيلسوف فى قوله هذا، فإنه يقول: تحتاج أن تعلم لم اللطيف أضعف وأغزر، والكثيف أجسى وأقوى؛ ثم تحكم أنه لطلب الموضع. وإنما يريد أن ما دبر من هذا العمل فإن المراد فيه أن يرد كما كان بدءا. فاللطيف أقرب إلى جنس البدء. فإذا كان كذلك فإن طالب المحل البدء الذى هو العلو. فالتدبير يجب أن يكون أوفق، والعامل يحتاج أن يكون أوفق ليضبط العمل لئلا يصل إلى الموضع الذى يطلبه فيفوت. فأما الجاسى فكثيف طالب للسفل والعامل مستغن عن ضبطه. ف «القوة» فى كلام الفيلسوف فى هذا الموضع: «الثبات» و«الضعف» «الفراق».
قال أفلاطون: وبعد أنواع من التدبير يكون الجاسى القوى كالغزير الضعيف.
Bogga 126
قال أحمد: صدق الفيلسوف فى قوله هذا، لأنه لا يتهيأ أن ينفذ تدبيره فى الشىء إلا بعد حله وتليينه. فالعضو مخصوص باللين وذلك معدوم فى الجسد إلا بعد المعالجة. وأرى قوله هذا يوجب أن مستعمل العضو قد كفى بعض العمل، لأنه إذا كان تدبير الجسد أول درجته كونه كالعضو، إلا أن أرسطاطاليس يذكر أن تدبير الجسد من أول العمل إلى آخره أهون وهو أصبر من غيره. فيرى أرسطاطاليس أن الشىء لا يخلو أمره من الشوائب كما قدمنا. فإذا كان كذلك فيكون أبدا معه، أعنى الجسد، من القوة الغريزية والتركيب الأصلى ما ليس مع العضو، فتكون هذه القوة والتركيب مقويا للجسد فى كل حالاته إلى أن يبلغ. وأراه يصدق فى ذلك، ويدعى أن الشيخ أفلاطون موافق له وأنه أخذه عنه.
قال أفلاطون: وقبل ذلك فأحوج ما كنت إليه معرفة كيفية التركيب.
قال أحمد: يقول إن الحاجة إلى معرفة التركيب وكيفيته شديدة. فذهب الفيلسوف فى ذلك أنه إذا عرف التركيب وكيف يركب، فإنه يهتدى إلى حله ونفاذ التدبير.
قال أفلاطون: وبعد البسيط فهو المثلث، إلى إن قال: فدع قول المخالفين فى ادعائهم المدور.
قال أحمد: إن أفلاطون وجد الأوائل يقولون إن أوائل الأشياء أوائل معقولة، وهو الذى كان من أجله المحسوس البسيط، وهو الشىء القابل للتركيب، فبعض الأوائل يقول إن البسيط شكله المدور لتشابه أجزائه؛ وأفلاطون يخالف هؤلاء ويقال: إن المدور يكون ذا تخلخل لأن أقطاره لا تتلاصق بكليتها. فإذا كان كذلك فإنه يقع فيه الخلاء، وذلك معدوم فى البسيط. ويقول إن البسيط الجزء الوهمى، ويحكم أن الجزء الوهمى الذى لا يقبل التجزئ هو البسيط. ويقول إنه لا يقبل التجزئ لا لصغره، بل لأنه واحدى الذات. فمحال أن يتجزأ إلا بدخيل يدخل عليه فيجزئه، فحينئذ 〈تقع〉 فيه التجزئة، فأما أن يكون واحدى الذات فهو الجزء الذى لا تستحيل فيه التجزئة، وأفلاطون يحيل فيه التجزئة فى هذا الشىء، لا لصغره وقلته، بل لأنه واحدى الذات. فتفهم ذلك وأنصت لما يأتى من قول الفيلسوف فى هذه الكتب، فإنه فيه بيان لهذا على أشد الاستقصاء إن شاء الله.
Bogga 127
قال أفلاطون: وكيف يكون المدور بسيطا وقد دل على بطلان ذلك الشكل؟! قال أحمد: إن أفلاطون وضع فى كتاب «ديالغون» شكلا مركبا من المدورات. يتبين من ذلك الشكل أنه لا يجتمع من المدورات إلا الجرم المتباعد الأجزاء، وله على إبرخس رد فى الكتاب فى دعواه إن القسى الصغار من الدوائر الكبار 〈تكون〉 خطوطا مستقيمة، وبين هناك أن الشىء المدور — وإن تجاوز فى القلة حد المحسوس إلى المعقول — فلا يخلو من التقويس. وقد أخرج بطلميوس القلوذى أيضا فى كتابه الذى سماه «المجسطى» رأى إبرخس فى القسى الصغار من الدوائر الكبار ووافقه على ذلك. ومن وقف على ما أخرجه أفلاطون من الرد فإنه يصح عنده فساد قول مخالفيه. — ووجدت اسطالينوس يحتج لبطلميوس: ذكر أنه ذهب فى قوله فى كتابه إلى ما يخالف إبرخس، لا الشيخ، ويخرج لكلام بطلميوس وجها إن حمل على ذلك التأويل فقد اتفق مع الفيلسوف. ولولا أن أكره الاشتغال به لأخرجته.
قال أفلاطون: والكتاب الموجود ب«إيليا» يدل على ما أمرنا بمعرفته.
Bogga 128
قال أحمد: الكتاب الموجود ب«إيليا» يعنى به كتاب إقليدس. وأما أمر معرفته فالتركيب. وهذا الكتاب، أعنى إقليدس، يوجد ب«إيليا» نحله إبلنيس النجار فنسب إليه. وتفسير «إقليدس» إنما هو باليونانية: المفتاح. وليس يدرى من الذى ابتدعه. غير أنه أخبرنى الذى أثق به أن ذلك من إلهام العلويين لمواليهم: وأما ما يدل عليه ذلك من التركيب فمبتدأ القول فيه هو أن تمام العلم بالمعلوم، يعنى أنه لا يوصل إلى علم الشىء إلا بمشاهدة الشىء. والقول الثانى أن النقطة هى التى لا جزء لها، فإنما ينبئ عن ذلك البسيط الذى تقدم القول فيه: ثم يقول فى الخلط المتشابه وهو الذى يحيط بالجرم السكرى، فنسبه إلى جنس النار الذى هو أقرب الأشياء إلى البسيط وأبعده من الطبيعة. ثم تكلم فى فى أول الشكل المثلث فنسبه إلى الهواء لقربه من النار. ثم تكلم فى ذوى الأقطار فنسبه إلى الماء الذى هو دون الهواء. ثم تكلم فى المجسم فنسبه إلى الأرض الذى هو قعر الطبيعة — وقد تكلم أسقولبيوس فى خطبته فقال إن النفس مربوطة فى الحيوان بالمثلثات، يعنى أنه أقرب إلى البسيط من غيره من ذوى الأقطار والمجسم، فيكون إذن أولى بأن يكون محلا للنفس. فكتابه كله ينبئ عن الشىء أنه من أصل واحد، وإنما يعتبره من أجل التركيب.
قال أفلاطون: والأقطار والزوايا من التركيب. فما قل فيه فهو أقرب إلى البسيط.
قال أحمد: لما كانت الأقطار من التركيب، كان كل جرم أقل أقطارا أقرب إلى البسيط. وتوجب هذه القضية أن المثلث أقرب إلى البسيط أيضا من المخمس والمسدس وذوى الأقطار الكثيرة. فتفهم ذلك.
قال أفلاطون: فأما المدور فبسيط الطبيعة.
قال أحمد: يقول إن الجرم المدور هو بسيط الطبيعة، لأنه أقل الأجرام تفاوتا وأكثره تشابها حتى لقد نسبه بعض الأوائل إلى البسيط الذى يقول أفلاطون إنه الشىء المعقول، لا المحسوس. فتفقد إشارات الفيلسوف وكلامه واعلم أنه إذا قال: المثلث والمربع فى الأجرام، فإنه ليس يعنى به المحسوس فقط، بل الذى لا يحس لقلته أو لطافته، لأن الهواء الذى خص بالشكل المثلث ليس يحس فيه ذلك للطافته ودقة تركيبه. وكذلك فى سائر الأجرام: منه ما ليس يتبين فيه ما قد خص به من الشكل الذى قد أخبر به الفيلسوف. وإنما يتفهم كلامى هذا من قد تدرب فى قوانين المنطقيين وعرف مذاهب الحكماء وألفاظ الفيلسوفين. فأما من كان خلوا من ذلك، فإنه لا ينبغى له الاشتغال بالنظر فيه، فإنه لا ينتج له إلا الضجر به لبعده عن معرفته.
قال أفلاطون: واجعل هذه الأشكال مثالا، فرد كل شىء إلى الذى يستحيل إليه حتى يرد الشىء بسيطا بالمراقى.
Bogga 129
قال أحمد: ما أحسن ما قاله الفيلسوف وأبين صواب قوله! لأنه يأمرك أن تجعل هذه الأشكال، يعنى به أشكال إقليدس، مثالا، فتنظر إلى ما يرد المثلث إذا أنت رددته إلى الطبيعة، لأنه إذا كان كذلك فأنت ترده إلى ما تزاد فيه الأقطار. وإذا أرددته إلى البسيط نقصت من أقطاره حتى يتشابه. فيريد الفيلسوف أن تدبر الشىء حتى يرد الكثيف إلى ما هو ألطف منه فلا يزال يزاد تدبيرا حتى يرتفع من حد الكثيف المطبوع إلى البسيط. وإنما قوله: «المراقى» فإنه يعلم أنه لا يمكن فى الشىء أن يرد بسيطا فى تدبير واحد، بل يدبر أبدا حتى يستحيل إلى ما هو ألطف منه. فشبه الفيلسوف هذا التدبير بالمراقى.
قال أفلاطون: وأنت مستغن بالنظر فى كتابى عن المعتاص.
قال أحمد: ما أكثر شفقة الفيلسوف على طالبى الحكمة! لأنه يقول فى هذا الفصل إنك تستغنى بالنظر فى كتابه — يعنى به الثالث والرابع الذى قد بين فيه التحليلات والتفريقات — عن الاستدلال بما يعتاص عليك، يعنى به: ما قد أخبر أنه يمكن أن يستدل من أشكال إقليدس.
قال أفلاطون: وإنما يخبر بالمعتاص لا لإدراك الشىء، بل لإخراج لطيف من العلم يكون به مسلك إلى الحق — إلى أن قال: أو الشواهد.
قال أحمد: يقول إنه ليس يخرج هذه الآراء العقلية لإدراك هذه الصنعة، بل ليظهر لطيفا من العلم يكون هو المنبئ عن علل الأشياء ويرشد إلى ما فيه الخروج من حد البهيمية. وقوله: «للشواهد» — يقول: إذا بينته ببعض الأشياء العقلية تكون شاهدة بصحة ما ذكره قبل الامتحان.
قال أفلاطون: ونرجع فى هذا الوقت إلى ما هو أولى بجنس هذا الكتاب المقصود فيه — إلى أن قال: وأقصد فى أول العمل إلى الجاسى لأن تدبيرك كذلك.
قال أحمد: لما تجاوز إلى الاستدلال بالأشياء العقلية والوهمية كان ذلك مرتفعا عن حد هذه الصنعة. فنقول: إنى أرجع فى الكلام إلى ما يستحق جنس الصنعة. وقوله: «وأقصد فى أول العمل إلى الجاسى فإن تدبيرك أيضا كذلك» — يعنى أن تدبيرك لا يكون له عهد بالعمل فلا يبلغ أن تدبر الشىء المحتاج إلى التدبير اللطيف.
Bogga 130
قال أفلاطون: وتعلم ما الجاسى، وقد أنبأتك به.
قال أحمد: صدق الفيلسوف فى هذا لأنه قال: «قد أنبأتك به»، وقد أنبأ قبل أن الجاسى من أجل قوة التركيب، وحكم أيضا أنه لا تتبين قوة لا تعرى منه مدة من أيام التدبير.
قال أفلاطون: وإن قصدت إلى النقى من الكدر، واعلم أنه لا يعرف ذلك من جهة ما يطفو أو يسفل.
قال أحمد: غرضه فى هذا القول أن يعرفنا النقى من الشىء الكدر، وبقول إنه ليس ذلك من الشىء الذى يتسافل، ولا من الشىء الذى يطفو أو يرتفع.
قال أفلاطون: وإنما أكثر ذلك من أجل الانضمام والتخلخل.
قال أحمد: يقول إنما تتسفل أكثر الأشياء من أجل انضمام أجزائها. ثم إن الهواء لا يداخله، وكل شىء كثر فيه الجزء الهوائى فإنه طالب للعلو لمجانسة الهواء، وكل جسم منضم فطالب للسفل لأن الهواء لا يعينه على الارتفاع.
قال أفلاطون: فى هذا الباب خليق أن يستعمل. فأما الأعمال الجوانية فلا بد لك من أن تحل ما تدبر.
قال أفلاطون: وإن استعملت فى العمل البرانى فلا تستعمل غير القحف وأنت تجده.
قال أحمد: إن عظم القحف عظم نقى. وهو أيضا مما يذكر جماعة من الأوائل أنه أول عظم حدث فى الإنسان، وهو وعاء مسكن الفكر والعقل؛ وفيه أيضا لسان يجب أن يستعان به خاصة فى البرانى.
قال أفلاطون: والدماغ محل للجزء الإلهى، إلا أنه سيال.
Bogga 131
قال أحمد: لولا أن الدماغ سيال رطب لما ارتبط به النفس مع طلبه لمحله.
قال أفلاطون: وهو أشبه الأعضاء تركيبا بما يراد.
قال أحمد: إن الأشياء التى تتجاور مدة من الزمان خليق أن تتشابه أجزاؤها فى التركيب والهيئة. فالدماغ، لطول مجاورته النفس العقلى واختلاطه، وجب أن يتشابه به. والنفس العقلى بسيط كما ذكرنا.
قال أفلاطون: وليس فى الأعضاء أسرع نموا وانفصالا منه.
قال أحمد: كما أن الشعر فى نهاية الغزارة، والدليل عليه طلبه لمفارقة الحيوان، كان الدماغ لقبول لطيف الغذاء ثم تأدية ذلك فى الأعصاب المتشعبة منه — وجب أن ينسب إلى ما نسبه.
قال أفلاطون: وكما أن الشعر الذى نسبته للغالب فيه اليبس، فالدماغ غالب، والرطوبة، حتى صار يمنع النفس من كثير من أفعالها.
Bogga 132
قال أحمد: قلت بدءا إن هذه الأشياء التى ينبغى أن تدبر لهذا العمل يجب أن تخرج منها العوارض الفاسدة التى تخرج للشىء عن حد الاعتدال فى كل شىء من هذه الأشياء. وكل شىء غلب عليه فهو يسهل جزءا من العمل ويصعب جزءا. ألا ترى أن الدماغ، لما غلب فيه الرطوبة، أيسر تحليلا وأصعب تنقية وتفريقا؟ والشعر لما كان الغالب فيه اليبس سهل تفريقه وتنقيته، وعسر تحليله. فكل هذه الأسباب العارضة نافعة فى نوع ضارة فى غيره. فأنا ممثل لك فى كتابى هذا وفى غيره جنس الشىء وما يكون منه؛ ثم أنت أعلم وما تختاره مما أنت أقدر على تدبيره؛ فقد يسهل على الرجل ما يعسر على غيره. وقد سألنى «ثابت» فقال: ما بال الفيلسوف اختار الشعر الأسود وهو أولى باليبس، من الأحمر الذى 〈هو〉 شعر أهل البلدان الشمالية؟ فقلت: إن الشعر الأحمر وإن كان أكثر رطوبة فهو يقصر فى غزارته ونضجه عن الشعر الأسود. فرأى الفيلسوف أن انتزاع الرطوبة منه أهون على العامل من تدبيره تدبير الطبيعة فى النضج والتبليغ به فى الغزارة ما تبلغه القوى الطبيعية. وأما قوله: «حتى صار يمنع النفس من كثير من أفعالها» — فقد تقدم القول فيه.
قال أفلاطون: وعضو العين كبير اللطف إلا أنه رسم — إلى أن قال: وهو مع ذلك متخوف منه الإعلال قبل أن يربط، إلا أنه مشارك للدماغ فى مجانسة النير.
قال أحمد: إنك تعرف بالحس صدق قول الفيلسوف فى العين: أما لطافته فلإدراكه للألوان، والدسومة ظاهرة فيه أيضا بمعرفة أصحاب التشريح. والفيلسوف حذر جدا من الأشياء الدهنة لأنها لا تكاد تقاوم النار، والجنس الدهنى كما قاله أرسطاليس واسطانيس الطبيعيان، أعنى اليبس والرطوبة أنك إذا أضفته إلى النار كان رطبا، وإذا أضفته إلى الماء كان يابسا، وقد أخرجت فى هذا النوع من القول ما يقنع فى كتابى «فى التركيب والإضافات». وأحوج ما يكون إليه المنتحل لهذه الصنعة معرفة هذا الجنس من العلم. واعلم أن هذه الطبائع اختلف تركيبها جدا حتى كادت كثرة أن لا يحاط بكليتها وماهيتها، وصار كل شىء مخصوص بشىء معدوم فى غيره مما هو منسوب إلى طبعه. المثال: أن من العقاقير ما يتفق فى الطبائع ويتفاوت فى كثير من العلم. فنحن مضطرون إذا أن نخبر عن جنس كل شىء وما يخصه ويظهر من أثره إذا كنا غير واثقين بمن يأتى من بعدنا أن يبلغ من رأيه أن يستدل من التركيب الأول على مجانسة الأشياء وكيفياتها والعلة فيما يخص ويعم. فلهذا وضع الفيلسوف الكتاب الثالث والرابع الذى مثل فيه العمل. ولولا ذلك لكان مستغنيا بما حكاه فى الفصل الأول من هذا الكتاب من الاستدلال بكتاب إقليدس وقوله أيضا إن الأشياء اختلفت من جهة التركيب، وقوله إنه متخوف منه الإعلال قبل أن يربط، فإن القوى المربوطة بهذا العضو لطيفة جدا، والعضو المربوط رخو والقوة تنحل عنه بسرعة.
Bogga 133
وقد وضع الفيلسوف أعمالا يمنع بها القوى الغريزية من مفارقة الشىء حتى يربطه بالذى يريد. فيخشى أن تكون هذه القوة التى فى هذا العضو للطافة القوة واسترخاء العضو مفارقة قبل أن تستمكن منه. وأما مشاركته للدماغ فى مجانسة النير، وهو من الآراء المتفق عليها جل الأوائل أن الذى يخص الشمس من الناس من الظاهر: العين، ومن الباطن: الدماغ.
قال أفلاطون: وأنت من غيره فى العمل أحوج إليه، لأنه يولد مثله وغير ذلك مما يستحيل عند الأكثر.
قال أحمد: إن هذا الكلام ليس من جنس هذا الكتاب، وقد تجاوزت أكثر ألفاظه إلى ما ينبغى أن أخبر به.
قال أفلاطون: فلا تستعمله لأنك واجد ما قد ارتفع ثلاث درجات.
قال أحمد: إن اللحم عكر الطبيعة، والغالب عليه الرطوبة والتركيب المجسم فلا تستعمله فإنك واجد ما قد ارتفع عنه ثلاث درجات، لأن اللحم استحالته إلى فوق عصب، والعصب استحالته إلى فوق شعر. فالذى يقول إنك تجده هو الشعر — فتفهمه.
قال أفلاطون: والعصب دون الشعر، إلا أنه أرطب.
قال أحمد: إنه قد طال كلامى فى أن الأشياء الرطبة أسرع تحليلا، إلا أنها أبطأ تنقية؛ فأنا مستغن عن إعادته.
قال أفلاطون: والأسنان تستحيل من العصب فى الجهتين: ففيه ما قد ارتفع عن الشعر، وفيه ما انخفض.
قال أحمد: يعنى بالجهتين: الفوق والأسفل. وقوله: «إن فيه ما قد ارتفع عن الشعر وفيه ما قد انخفض» — فإن الشعر مرتفع عن الأسنان فى اللطافة والنفاذ، متقاصر عنها فى قوة التركيب.
قال أفلاطون: فإن اضطررت إلى استعمالها فاستعمل الثنايا وما جاورها ودع الأضراس.
قال أحمد: لما صارت الأضراس أكثر تخلخلا صارت العوارض الفاسدة إليها أسرع وفيها أنفذ منها فى الثنايا وما جاورها. فخليق أن تقصد إلى الثنايا لقلة العوارض الفاسدة ثم لما هى مخصوصة به من ملاقاة الهواء الملطف لبعض الأجسام.
Bogga 134
قال أفلاطون: والثنايا خاصة لها بصيص يستدل منه على القوة المربوطة.
قال أحمد: إن البصيص غير المفارق دليل أن القوة المطلوبة فى هذا النوع قد ربطت بالشىء ومازجته ممازجة يعسر فراقه. ومن الأشياء ما تكون القوى فيها غير محكمة الوثاق فتنحل عن الشىء بسرعة. واعلم أن البصيص فى جميع الأشياء قوة طالبة لمفارقة الشىء قد عسر عليها، أعنى القوة، فراق ذلك الشىء المخالط لها.
قال أفلاطون: وسائر الأعضاء السفلية فقسه إلى العلوية وتدبر.
قال أحمد: لما كان الفيلسوف قد أخبر عن أعضاء الرأس ما قد تقدم، استغنى عن الكلام فى الجسد، إذ كان لا يخلو ما فى الجسد أن يكون له شبه ومشاكلة من أعضاء الرأس.
قال أفلاطون: ولا بد من الكلام فى المخ، إذ هو مثلث قابل للجنس البسيط.
قال أحمد: ما أحسن هذا القول وأبين صوابه وأحرى أن تشتغل النفس بتفهمه! ولولا أن الكلام فى تفسير هذا القول يطول طولا يمنع عن إخبار المقصود فى هذا الوقت، لكنت أصرف أكثر همى إلى الإخبار بما تتبين به صحة هذا القول ويكشف عن غامضه، وإن كنت قد أخرجت ذلك فى كثير من كتبى على غاية البيان والبرهان فلا أخلى هذا الفصل من قول مختصر يتبين للناظر فيه معنى لفظ الفيلسوف:
اعلم أن جل الأوائل اتفقوا أن مسكن النفس العقلية الدماغ، وأنه كجرم المصباح فى ذلك الموضع، فقد نفذ نوره فى الجسد؛ وأن العضو الغالب فيه النفاذ والمؤدى إلى سائر الأعضاء القوة هو المخ، لأنه مثلث التركيب، وهو أقرب أعضاء الجسد مشاكلة للبسيط.
قال أفلاطون: لولا أنه سريع القبول للفساد، لكان ينبغى أن يعتمد — إلى أن قال: فاستعمله إن أردت للمحمود وتحرز من المذموم.
Bogga 135
قال أحمد: إن المخ كثير الدسم، والنار تسرع فيه جدا، وهو أيضا قليل الثبات مع غير النار من الأجرام. فيقول الفيلسوف إن استعماله لقرب مشاكلة البسيط محمود، ولدسمه وسرعة تفرق أجزائه ضعيف، فيأمر أن نستعد لما يكف غائلة المذموم فيه لننتفع بالمحمود منه.
قال أفلاطون: وعضو القلب من الجسد كعضو الدماغ من الرأس.
قال أحمد: لما كان هذان العضوان متشابهين فى محل النفس، وجب أن يتشابها من حيث هما، لأن مسكن النفس العقلية الدماغ، ومسكن النفس الغضبية القلب.
قال أفلاطون: واجعل سائر الأعضاء الباطنة للآلة، فإنك محتاج إلى ذلك.
قال أحمد: يعنى بالأعضاء الباطنة أعضاء الجوف، ويأمر أن نجعل ذلك مما يصفى به أو يحلل أو يعقد سائر الأعضاء المستعملة لهذا النوع من العمل. — المثال: أنك إن أردت أن تحل عضوا من الأعضاء المتولدة من رطوبة أو برد: أن تجعل الرماد محيلا عليه ليكون هو الذى ينفى البرد واليبس ويثبت ما يريد.
قال أفلاطون: ومعرفة طبائع هذه الأعضاء سهل — إلى أن قال: فإذا عرفت فاستعملها لحاجتك.
قال أحمد: يقول إن أعضاء الجوف تسهل معرفة طبائعها ، إذ قد وضعت فيه الأطباء الكتب الكثيرة حتى استدل فى العلم بذلك العامة فضلا عن الفلاسفة. ويقول: إنك إذا عرفت طبائعها أمكنك عند ذلك أن تكف بها أضدادها أين كانت.
قال أفلاطون: والعروق أيضا مجانسة للعصب — إلى أن قال: والشريانات أنجعها.
قال أحمد: يقول إن العروق هى أعصاب وإن خالفت صيغتها صيغة العصب. والشريانات مخصوصة بمجاورة النفس الحيوانية، فلذلك حكم أنها أنجع.
قال أفلاطون: والأربع طبائع فهى أقرب، إلا أنها يداخل بعضها بعضا.
Bogga 136
قال أحمد: لولا أن الطبائع الغالب عليها اختلاط بعضها ببعض، لكان الواجب أن تستعمل، إذ هى أقرب إلى البسيط من المتولدة منها، أعنى بذلك الأعضاء.
قال أفلاطون: فاستعمل العضو الغالب، ودع المختلط.
قال أحمد: يقول إن استعمالنا العضو الذى قد ظهر لنا أنه قد غلب فيه وعليه نوع أحد الطبائع أحرى من استعمال ما لا يأمن فيه تفاوت الأخلاط.
قال أفلاطون: وإذا وجدت أحد هذه الأركان المركبة خلوة من أضدادها، فقد فرغت من نصف العمل — إلى أن قال: ولا تجد فلا تطمع.
قال أحمد: يعنى بالأركان: المرتين والدم والبلغم. ونقول: إنا لو قدرنا على أخذها مفردة من أضدادها، لكنا قد كفينا نصف العمل، وذلك لأن هذه الأعضاء المستعملة لها تولدها من هذه الأركان، فيحتاج أن يرد العضو فى أول التدبير إلى الذى تولد منه لنرده بالدرج إلى ما نريد، فوجدنا هذا الركن مفردا، فما يكفينا هذا التدبير الأول، فيوئسنا الشيخ أفلاطون من وجود ذلك، ويأمرنا باستعمال العضو لشيئين: أحدهما أنه إذا رددنا العضو إلى ما استحال منه فإنا قد مررنا على نوع من التدبير يكون الذى توقف على التدبير الثانى. والسبب الآخر أنا إذا رددناه إلى ما استحال منه الركن فهو أنقى مما تجده من الأركان الموجودة فى الإنسان.
قال أفلاطون: والرجيع والبول اختاره من اختاره للاستحالة، فدعه فإنه ثفل.
قال أحمد: غير أن البول والرجيع اختاره من اختاره لأنه قد غلب عليه الاستحالة. وهذا النوع من العمل أكثر ما فيه الاستحالة من جنس إلى جنس. ويشير الشيخ أن لا يستعمل، لأنه ثفل كثير العكر.
قال أفلاطون: وإن جعلته للغسل رجوت أن يكون منجعا.
Bogga 137
قال أحمد: إن بعض منتحلى هذا العلم يسمى الرجيع والبول الصابون؛ فيريد الفيلسوف أن يجعلا — أعنى الرجيع والبول — مما يغسل به الشىء المستعمل للعمل، وهو ينقى جدا لأسباب كثيرة منها: أنه وسخ يتعلق به جنسه، وأيضا فقد جرى فى أعضاء الحيوان فأخذ من كل عضو قوة، وغير ذلك من أسباب يطول الكلام فى شرحها وبيان ذلك فى الإبريز والفوش. — قال أحمد: لما كان الذهب مع صفائه ونقائه يتسافل، والفوش من الأجسام — وإن كان فى نهاية الكدر — يطفو، أبان من ذلك أن الصافى والكدر ليس من أجل السفل والطفو يعرف.
قال أفلاطون: وإنما يسهل علم ذلك من أجل ما يسرع إليه الفساد ومن أجل ما يبطئ فيه.
قال أحمد: إن كل شىء كان كدرا ليس بنقى فإنه يسرع الفساد فيه والعفونات وتفرق الأجزاء، من أجل أنه متفاوت متضاد فى نفسه؛ فيكون إذا القابل للفساد إذ كان من شكله والواحدى الذات فمتفق غير قابل لما يضاده؛ فيعلمنا الفيلسوف أن نعرف ذلك من هذا الباب.
قال أفلاطون: وهل النقى إلا الواحدى الذات، والكدر إلا المتفاوت؟!
قال أحمد: ما أحسن ما قاله الفيلسوف! لأن الجسم إنما استحق اسم الكدر إذا كان مجموعا من أجزاء متضادة، فيكون أحد الأجزاء قد كدر ما يضاده؛ والنقى هو الواحدى الذات الخلو من الشوائب.
قال أفلاطون: والنتن والقذارة أيضا من التفاوت.
قال أحمد: يريد الفيلسوف أن كل جسم ظهر فيه النتن أو كان مما يستقذر فإن ذلك أيضا من تفاوت الأجزاء.
قال أفلاطون: وقد يكون النتن أيضا من مقدمات التلطيف.
Bogga 138