ولم تقم سعادته العظيمة على ولادته في بلد حر فقط، بل قامت أيضا على ظهوره في زمن أقصيت فيه وقاحات الفلسفة الكلامية، وصار العقل وحده محل مراعاة، فما كان العالم ليبدو غير تلميذه لا عدوه.
وهنالك اختلاف غريب بينه وبين ديكارت قائل بخلوه من الضعف والهوى في أثناء عمره الطويل، فهو لم يلامس امرأة قط، وهذا ما وكده لي الطبيب والجراح الذي مات بين ذراعيه، أجل، يمكن الإعجاب بنيوتن في هذا، ولكن لا ينبغي لوم ديكارت.
ويقوم الرأي العام في إنكلترة حول هذين الفيلسوفين على كون الأول حالما وكون الثاني حكيما.
وقليل من الناس في لندن من يقرءون ديكارت الذي صارت كتبه غير نافعة في الحقيقة، وقليل من الناس من يقرءون نيوتن أيضا؛ وذلك لأن على الإنسان أن يكون عالما حتى يفهمه، ومع ذلك فإن جميع الناس يتحدثون عنهما فلا يسلمون بشيء للفرنسي، ويسلم للإنكليزي بكل شيء، ويعتقد بعض الناس أن الناس إذا عادوا لا يقتصرون على هول الفضاء، وإذا ما صاروا يعرفون أن الهواء ثقيل، وإذا استعملوا النظارات، كانوا في هذا كله مدينين لنيوتن، ويعد هنا هركول الأسطورة الذي يعزو الجاهلون إليه جميع أعمال الأبطال الآخرين.
وفي لندن وجه انتقاد إلى خطبة مسيو دو فونتنل، فكان كاتبه من الجرأة ما ادعى معه أن ديكارت لم يكن مهندسا كبيرا، ومن يتكلمون هكذا يمكنهم أن يلوموا أنفسهم على ضرب مرضعهم، وذلك أن ديكارت سار بعلم الهندسة من النقطة التي وجده عليها إلى النقطة التي دفعه إليها كما صنع نيوتن بعده، وهو أول من وجد طريقة إدخال المنحنيات إلى المعادلات الجبرية، وكانت هندسته التي غدت شائعة اليوم، بالغة من العمق في زمانه ما لم يقدم أحد من الأساتذة معه على محاولة شرحها، وما لم يوجد معه غير شوتن في هولندة، وفرما في فرنسة من أدركها.
وقد حمل روح الهندسة والاختراع هذه إلى مبحث انكسار النور الذي أصبح بين يديه فنا تام الجدة، وإذا حدث أن أخطأ في شيء من ذلك كان كمن يكتشف أرضين جديدة، فلا يستطيع أن يعرف جميع خواصها دفعة واحدة، فالذين يأتون بعده والذين يجعلون هذه الأرضين خصيبة يكونون مدينين له باكتشافها على الأقل. ولا أنكر أن جميع كتب مسيو ديكارت الأخرى زاخرة بالأغاليط.
وكان علم الهندسة دليلا وضعه بنفسه من بعض الوجوه، فكان من الممكن أن يسوقه إلى فزيائه، ومع ذلك فقد ترك هذا الدليل في نهاية الأمر وأكب على روح المنهاج، وهنالك عادت فلسفته لا تكون غير رواية بارعة قريبة من الصحة لدى الجاهلين، فقد تطرق إليه الوهم حول طبيعة الروح وحول الأدلة على وجود الله، وحول المادة، وحول سنن الحركة، وحول طبيعة الضياء، وقد قال بالأفكار الفطرية، واخترع عناصر جديدة، وخلق عالما، وصنع الإنسان على شاكلته، فقيل بحق؛ إن إنسان ديكارت ليس بالحقيقة سوى إنسان ديكارت الكثير البعد من الإنسان الحقيقي.
وقد بلغ من خطئه فيما بعد الطبيعة ما صار يزعم معه أن اثنين واثنين لا يكونان أربعة إلا لأن الله أراد هذا، ولكن ليس من المبالغة أن يقال: إنه كان مقدرا حتى في أغاليطه، أجل، لقد تطرق الوهم إليه، ولكن هذا وقع وفق منهاج على الأقل، وبروح برهاني، وهو قد قضى على الأخيلة المحالة التي كانت الشبيبة تفتن بها منذ ألفي سنة، وهو قد علم الناس في زمانه أن يبرهنوا وأن يوجهوا أسلحته إليه، وهو إذا لم يؤد نقودا جيدة فلكثرة ما استخف بالزائف.
ولا أعتقد أنه يجرأ على المقارنة بين فلسفته وفلسفة نيوتن، فالأولى من تجارب القلم، والثانية من الروائع، ولكن الذي وضعنا على سبيل الحقيقة يعدل على ما يحتمل، ذاك الذي بلغ غاية هذا السلك بعد ذلك.
وأنعم ديكارت بالبصر على العمي، فرأوا أغاليط القرون القديمة وأغاليطه، وصارت الطريق التي فتحها كبيرة بعده، وعد كتاب رولت الصغير في الفزياء كاملا لزمن طويل، واليوم لا تعد جميع مجموعات الأكاديمات في أوروبة حتى بدء منهاج، وإذا ما عمقت هذه الهوة وجدت بلا نهاية، والآن يدور الأمر حول ما حفر نيوتن في هذه الهوة.
Bog aan la aqoon