ومما نذكر به أمير المؤمنين جزيرة العرب من الحجاز واليمن واليمامة، وما سوى ذلك، أن يكون من رأي أمير المؤمنين إذا سخت نفسه عن أموالها من الصدقات، وغيرها أن يختار لولايتها الخيار من أهل بيته وغيرهم؛ لأن ذلك من تمام السيرة العادلة والكلمة الحسنة التي قد رزق الله أمير المؤمنين وأكرمه بها من الرأي الذي هو - بإذن الله - حمى ونظام لهذه الأمور كلها، في الأمصار والأجناد والثغور والكور.
إن بالناس من الاستخراج والفساد ما قد علم أمير المؤمنين، وبهم من الحاجة إلى تقويم آدابهم وطرائقهم، ما هو أشد من حاجتهم إلى أقواتهم التي يعيشون بها، وأهل كل مصر وجند أو ثغر فقراء إلى أن يكون لهم من أهل الفقه والسنة والسير والنصيحة مؤدبون مقومون يذكرون ويبصرون المخطئ، ويعظون عن الجهل ويمنعون عن البدع، ويحذرون الفتن ويتفقدون أمور عامة من هو بين أظهرهم، حتى لا يخفى عليهم منها مهم ثم يستصلحون ذلك، ويعالجون على ما استنكروا منه بالرأي والرفق والنصح، ويرفعون ما أعياهم إلى ما يرجون قوته عليهم مأمونين على سير ذلك وتحصينه، بصراء بالرأي حين يبدو، وأطباء باستئصاله قبل أن يتمكن.
وفي كل قوم خواص رجال عندهم على هذا معونة إذا صنعوا لذلك وتلطف لهم، وأعينوا على رأيهم وقووا على معاشهم ببعض ما يفرغهم لذلك ويبسطهم له، وخطر هذا جسيم في أمرين: أحدهما برجوع أهل الفساد إلى الصلاح، وأهل الفرقة إلى الألفة، والأمر الآخر ألا يتحرك متحرك في أمر من أمور العامة، إلا وعين ناصحة ترمقه، ولا يهمس هامس إلا وأذن شفيقة تصيخ نحوه، وإذا كان ذلك لم يقدر أهل الفساد على تربيص الأمور وتلقيحها، وإذا لم تلقح كان نتاجها - بإذن الله - مأمونا.
وقد علمنا علما لا يخالطه شك، أن عامة قط لم تصلح من قبل أنفسها ولم يأتها الصلاح إلا من قبل خاصتها، وأن خاصة قط لم تصلح من قبل أنفسها، وأنها لم يأتها الصلاح إلا من قبل إمامها؛ وذلك لأن عدد الناس في ضعفتهم وجهالهم الذين لا يستغنون برأي أنفسهم، ولا يحملون العلم ولا يتقدمون في الأمور، فإذا جعل الله فيهم خواص من أهل الدين والعقول ينظرون إليهم ويسمعون منهم؛ اهتمت خواصهم بأمور عوامهم، وأقبلوا عليه بجد ونصح ومثابرة وقوة جعل الله ذلك صلاحا لجماعتهم، وسببا لأهل الصلاح من خواصهم وزيادة، فيما أنعم الله به عليهم وبلاغا إلى الخير كله.
وحاجة الخواص إلى الإمام الذي يصلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك، فبالإمام يجمع الله أمرهم ويكبت أهل الطعن عليهم ويجمع رأيهم وكلمتهم، ويبين لهم عند العامة منزلتهم، ويجعل لهم الحجة والأيد والمقال على من نكب عن سبيل حقهم، فلما رأينا هذه الأمور ينتظم بعضها ببعض، وعرفنا من أمر أمير المؤمنين ما بمثله جمع الله خواص المسلمين على الرغبة في حسن المعاونة والمؤازرة، والسعي في صلاح عامتهم، طمعنا لهم في ذلك يا أمير المؤمنين، وطمعنا فيه لعامتهم ورجونا ألا يعمل بهذا الأمر أحد إلا رزقه الله المتابعة فيه والقوة عليه؛ فإن الآمر إذا أعان على نفسه جعل للقائل مقالا وهيأ للساعي نجاحا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو رب الخلق وولي الأمر يقضي في أمورهم، يدبر أمره بقدرة عزيزة وعلم سابق، فنسأله أن يعزم لأمير المؤمنين على المراشد ويحصنه بالحفظ والثبات والسلام، ولله الحمد والشكر.
تحميد لابن المقفع
الحمد لله ذي العظمة القاهرة والآلاء الظاهرة، الذي لا يعجزه شيء، ولا يمتنع منه ولا يدفع قضاؤه ولا أمره، وإنما قوله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، والحمد لله الذي خلق الخلق بعلمه، ودبر الأمور بحكمه، وأنفذ فيما اختار واصطفى منها عزمه بقدرة منه عليها، وملكة منه لها، لا معقب لحكمه، ولا شريك له في شيء من الأمور، يخلق ما يشاء ويختار ما كان للناس الخيرة في شيء من أمورهم سبحان الله وتعالى عما يشركون.
والحمد لله الذي جعل صفو ما اختار من الأمور دينه الذي ارتضى لنفسه، ولمن أراد كرامته من عباده، فقام به ملائكته المقربون يعظمون جلاله ويقدسون أسماءه، ويذكرون آلاءه لا يستحسرون عن عبادته ولا يستكبرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وقام به من اختار من أنبيائه وخلفائه وأوليائه في أرضه، يطيعون أمره ويذبون عن محارمه، ويصدقون بوعده، ويوفون بعهده، ويأخذون بحقه، ويجاهدون عدوه. وكان لهم عندما وعدهم من تصديقه قولهم وإفلاجه حجتهم، وإعزازه دينهم، وإظهاره حقهم، وتمكينه لهم، وكان لعدوه وعدوهم عندما أوعدهم من خزيه وإخلاله بأسهم، وانتقامه منهم، وغضبه عليهم، مضى على ذلك أمره، ونفذ فيه قضاؤه فيما مضى، وهو ممضيه ومنفذه على ذلك فيما بقي ليتم نوره. ولو كره الكافرون ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
والحمد لله الذي لا يقضي في الأمور، ولا يدبرها غيره ابتدأها بعلمه وأمضاها بقدرته، وهو وليها ومنتهاها وولي الخيرة فيها، والإمضاء لما أحب أن يمضي منها، يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون، والحمد لله الفتاح العليم العزيز الحكيم ذي المن والطول والقدرة والحول، الذي لا ممسك لما فتح لأوليائه من رحمته، ولا دافع لما أنزل بأعدائه من نقمته، ولا راد لأمره في ذلك وقضائه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، والحمد لله المثيب بحمده ومنه ابتداؤه والمنعم بشكره، وعليه جزاؤه، والمثني بالإيمان، وهو عطاؤه.
كتب ابن المقفع إلى صديق ولدت له جارية:
Bog aan la aqoon