تنكب فيما بينك وبين الوالي خلقا، قد عرفناه في بعض الأعوان والأصحاب في ادعاء الرجل عندما يظهر من صاحبه من حسن أثر أو صواب رأي، أنه هو عمل في ذلك، أو أشار به وإقراره بذلك إذا مدحه مادح، بل وإن استطعت أن يعرف صاحبك أنك تنحله صواب رأيك فضلا عن أنك تدعي صوابه، وتسند ذلك إليه وتزينه فافعل؛ فإن الذي أنت آخذ بذلك أكثر مما أنت معط بأضعاف.
إذا سأل الوالي غيرك، فلا تكونن أنت المجيب عنه؛ فإن استلابك الكلام خفة بك واستخفاف منك بالمسئول والسائل، وما أنت قائل إذا قال لك السائل: ما إياك سألت أو قال لك المسئول عند المسألة يعاد له بها دونك فأجب؟! وإذا لم ينصب السائل في المسألة لرجل واحد وعم بها جماعة من عنده، فلا تبادر بالجواب ولا تسابق الجلساء ولا تواثب الكلام مواثبة؛ فإن في ذلك مع شين التكلف والخفة، أنك إذا سبقت القوم إلى الكلام صاروا لكلامك خصماء فيتعقبونه بالعيب والطعن، وإذا أنت لم تعجل بالجواب وخليته للقوم اعترضت أقاويلهم على عينك ثم تدبرتها وفكرت فيما عندك، ثم هيأت من تفكيرك ومحاسن ما سمعت جوابا رضيا، واستدبرت به أقاويلهم حتى تصيخ إليك الأسماع ويهدأ عنك الخصوم، وإن لم يبلغك الكلام حتى يكتفى بغيرك، أو ينقطع الحديث قبل ذلك، فلا يكون من العيب عندك، ولا من الغبن في نفسك فوت ما فاتك من الجواب؛ فإن صيانة القول خير من سوء وضعه، وإن كلمة واحدة من الصواب تصيب موضعها خير من مائة كلمة أمثالها في غير فرصها ومواضعها، مع أن كلام العجلة والبدار موكل به الزلل وسوء التقدير، وإن ظن صاحبه أن قد أتقن وأحكم.
واعلم أن هذه الأمور لا تنال إلا برحب الذرع، عند ما قيل وما لم يقل، وقلة الإعظام لما ظهر من المروءة أو لم يظهر، وسخاوة النفس عن كثير من الصواب مخافة الخلاف والعجلة والحسد والمراء.
إذا كلمك الوالي فأصغ إلى كلامه، ولا تشغل طرفك عنه بنظر ولا أطرافك بعمل، ولا قلبك بحديث نفسك، واحذر هذا من نفسك، وتعهد ما فيه.
ارفق بنظرائك من وزراء السلطان ودخلائه، واتخذهم إخوانا ولا تتخذهم أعداء ولا تنافسهم في الكلمة يتقربون بها، والعمل يؤمرون به؛ فإنما أنت في ذلك أحد رجلين، إما أن يكون عندك فضل على ما عند غيرك فسوف يبدو ذلك، ويحتاج إليه ويلتمس منك وأنت مجمل، وإما أن يكون ذلك عندك فما أنت مصيب من حاجتك عندهم بمقاربتك وملاينتك، وما أنت واجد في موافقتك إياهم، ولينك لهم من موافقتهم إياك ولينهم لك، أفضل مما أنت مدركه بالمنافسة والمناظرة.
لا تجترئن على خلاف أصحابك عند الوالي ثقة باعترافهم لك ومعرفتهم بفضل رأيك؛ فإنا قد رأينا الناس يعرفون فضل الرجل وينقادون له ويتعلمون منه وهم أخلياء، فإذا حضروا ذا السلطان لم يرض أحد منهم أن يقر له، وأن يكون له عليه في الرأي والعلم فضل فاجترءوا عليه بالخلاف والنقض؛ فإن ناقضهم كان كأحدهم. وليس بواجد في كل حين سامعا فهما وقاضيا عدلا، وإن ترك مناقضتهم صار مغلوب الرأي مردود القول.
إذا أصبت عند الوالي لطف منزلة لغناء يجده عندك، أو هوى يكون له فيك، فلا تطمحن كل الطماح، ولا تزينن لك نفسك المزايلة له عن أليفه، وموضع ثقته وسره قبلك بأن تقتلعه وتدخل دونه؛ فإن هذه خلة من خلال السفه، قد يبتلى بها الحلماء عند الدنو من ذي السلطان، حتى يحدث الرجل منهم نفسه أن يكون دون الأهل والولد لفضل يظنه في نفسه أو نقص يظنه بغيره، ولكل رجل من الملوك، أو ذي هيئة من السوقة أليف وأنيس، قد عرف روحه واطلع على قلبه، فليست عليه مؤنة في تبذل يتبذل له عنده، أو رأي يستنزله منه أو سر يفشيه إليه، غير أن تلك الأنسة وذلك التبذل، يستخرج من كل واحد منهما ما لم يكن ليظهر منه عند الانقباض والتشدد. ولو التمس ملتمس مثل ذلك عند من يستأنف ملاطفته ومؤانسته، إن كان ذا فضل من الرأي والعلم، لم يجد عنده مثل ما هو منتفع به ممن هو دون ذلك في الرأي ممن قد كفي مؤانسته، ووقع على طباعه؛ لأن الأنسة روح القلب والوحشة روع عليه، ولا يلتاط القلوب إلا ما لان عليها، ومن استقبل تأسيس الوحشة استقبل أمرا ذا مؤنة، فإذا كلفتك نفسك السمو إلى منزلة من وصفت فاقدعها عن ذلك بمعرفة فضل الأليف والأنيس، وإذا حدثتك نفسك أو غيرك، ممن لعله يكون له فضل في المروءة: أنك أولى بالمنزلة عند الكبير من بعض دخلائه وثقاته؛ فاذكر الذي عليه من حق أليفه وثقته وأنيسه في التكرمة، والذي يعينه على ذلك من الرأي أنه يجد عنده من الإلف والأنس ما ليس واجدا عند غيره، فليكن هذا مما تتحفظ فيه على نفسك، وتعرف فيه عذر الرجل ورأيه، والرأي فيه لنفسك في مثل ذلك، إن أرادك مريد على الدخول دون أنيسك وأليفك وموضع ثقتك وجدك وهزلك.
اعلم أنه تكاد تكون لكل رجل غالبة حديث: إما عن بلد من البلدان، أو ضرب من ضروب العلم، أو صنف من صنوف الناس، أو وجه من وجوه الرأي وعندما يغرم به الرجل من ذلك يبدو منه السخف، ويعرف منه الهوى، فاجتنب ذلك في كل موطن، ثم عند أولي الأمر خاصة.
لا تشكون إلى وزراء السلطان ودخلائه ما اطلعت عليه من رأي تكرهه له؛ فإنك لا تزيد على أن تفطنهم لميله وتغريهم بتزيين ذلك له، والميل عليك معه.
اعلم أن الرجل ذا الجاه عند الوالي والخاصة، لا محالة أنه يرى من الوالي ما يخالفه من الرأي في الناس والأمور، فإذا آثر أن يكره كل ما يخالفه، أو يمتعض من الجفوة يراها في المجلس، أو النبوة في الحاجة، أو الرد للرأي، أو الإدناء لمن لا يهوى إدناءه، والإقصاء لمن يكره إقصاءه، فإذا وقعت في قلبه الكراهية تغير لذلك وجهه ورأيه وكلامه، حتى يبدو ذلك للوالي وغيره. وكان ذلك لفساد منزلته سببا، فذلل نفسك باحتمال ما خالفك من رأي الولاة وقررها بأنهم إنما كانوا أولياءك، لتتبعهم في آرائهم وأهوائهم، ولا تكلفهم اتباعك وتغضب من خلافهم إياك.
Bog aan la aqoon