Rasaa'ilul Ahzaan
رسائل الأحزان: في فلسفة الجمال والحب
Noocyada
الذكرى
بعد ما كنت وكنا؟1
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
الرسالة الثالثة
الرسالة الرابعة
الرسالة الخامسة
الرسالة السادسة
الرسالة السابعة
الرسالة الثامنة
Bog aan la aqoon
الرسالة التاسعة
الرسالة العاشرة
الرسالة الحادية عشرة
الرسالة الثانية عشرة
الرسالة الثالثة عشرة
الرسالة الرابعة عشرة
الرسالة الخامسة عشرة
خاتمة الكتاب
تنبيه
الذكرى
Bog aan la aqoon
بعد ما كنت وكنا؟1
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
الرسالة الثالثة
الرسالة الرابعة
الرسالة الخامسة
الرسالة السادسة
الرسالة السابعة
الرسالة الثامنة
الرسالة التاسعة
Bog aan la aqoon
الرسالة العاشرة
الرسالة الحادية عشرة
الرسالة الثانية عشرة
الرسالة الثالثة عشرة
الرسالة الرابعة عشرة
الرسالة الخامسة عشرة
خاتمة الكتاب
تنبيه
رسائل الأحزان
رسائل الأحزان
Bog aan la aqoon
في فلسفة الجمال والحب
تأليف
مصطفى صادق الرافعي
المقدمة
بقلم مصطفى صادق الرافعي
بسم الله الرحمن الرحيم
كان لي صديق خلطته بنفسي زمنا طويلا، وكنت أعرفه معرفة الرأي كأنه شيء في عقلي، ومعرفة القلب كأنه شيء في دمي، ثم وقع فيما شاء الله من أمور دنياه حتى نسيني، وطار على وجهه حتى غاب عن بصري، والتفت عليه مذاهبه فما يقع إلي من ناحيته خبر؛ وامتد بيني وبينه حول كامل خلا من شخصه وامتلأ من الفكر فيه، كأنه العام الأول من تاريخ حفرة بين القبور العزيزة التي لا تنسى.
وطلعت الشمس يوما في غيم يناير من سنة 1924 فأحسست قلبي من الذعر كالطائر ينفض ندى جناحيه في أشعتها، ولم تكد ترتفع وتتلألأ حتى وافى البريد يحمل إلي خطه وإذا فيه:
يا عزيزي الحبيب!
فقدتني زمنا إن يكن في قلبك منه وخزة ففي قلبي منه كحز السيف؛ لم أنسك نسيان الجحود وإن كنت لم أذكرك ذكرى الوفاء فأبعث إليك بخبر يترجم عني؛ إذ كنت في سجن وأنا الساعة منطلق منه، لا تجزع ولا تحسبنه سجن الحكومة ... إن هو إلا سجن عينين ذابلتين كان قلبي المسكين يتمزع في أشعة ألحاظهما كما يكون المقضي عليه إذا أحاطت به السيوف، وجعل بريقها يتخاطف معاني الحياة من روحه قبل أن يخطف هذه الروح، بل سجن فكري الذي ابتليت به وبخياله معا فلا يزال واحد منهما يبالغ في إدراك الجمال والآخر يبالغ في تقديره؛ حتى تكاد تطلع نفسي من نواحيها
Bog aan la aqoon
1
لكثرة ما يسرفان عليها كما يريد الأطفال أن يملأوا القدح ليستفيض لا ليمتلئ، وليرسل الماء لا ليمسكه؛ فلو أنهم صبوا فيه ملء بحر بأمواجه لجرى البحر من حافة قدح صغير.
ما أحسبني قط رأيت امرأة جميلة كما هي في نفسها وتركتها كما هي في نفسها، بل هناك نفسي، وآه من نفسي، وما أسرع ما يمتزج في هذه النفس بعض الإنسانية المحبة ببعض الإنسانية المحبوبة فإذا أنا بشيء إلهي قد خرج لي من الإنسانيتين، هو هذا الشعر؛ هو هذا البلاء؛ هو هذا الحب.
فررت منك ومن سواك يا عزيزي مصيف
2
إلى امرأة كالتي جعلت آدم يفر حتى من الجنة ومن الملائكة؛ وقد يكون اتصال رجل واحد بامرأة واحدة كافيا أحيانا لتكوين عالم كامل يسبح في فلك وحده، عالم مسحور، في فلك مسحور، لا يخضع إلا لجاذبية السحر، ولا يعرف إلا تهاويل السحر.
على أنك لم تفقد مني في هذه السنة إلا بضعة كتب وكلاما كنا نترسل به وليس فيه إلا الحبر؛ فسأرد عليك من ذلك كتب سنوات وأعوضك برسائلي كلاما فيه دمع العين ودم القلب، فقدتني صديقا يهز يديك بتحيته والآن أعود إليك شاعرا يهز قلبك بأنينه، فقدتني شخصا وسأرجع إليك كتابا.
أما أنت فاكتب لي رجع كل رسالة تأتيك من قبلي واذكر لي موقعها من نفسك، وكيف كان دبيبها أو طيرانها عندك؛ فإني راميك بأسهم لا قاصرات عن قلبك تنزل دونه ولا زائدات تمر عليه وتتجاوز، بل مسددات يقعن فيه.
وأرجو عافاك الله أن لا تتطلع في قلمي بنقد أو اعتراض أو تعقيب، بل دعني وما أكتبه كما أكتبه؛ فإن لكل شيء طرفين، وأن طرفي الجمال هما الحب والبغض؛ ورسائلي هذه ستأتيك بالجمال من طرفيه فلقد والله أحببت حتى أبغضت، ولقد والله يضجر العمل السامي إذا أصاب غير موضعه كما يضجر العمل السافل إذا نزل في موضعه.
ومتى انقطع هذا المدد المتلاحق من كتبي فاجمع الرسائل وقدم لها كلمة بقلمك، ثم اطبعها وسمها «رسائل الأحزان»؛ إنها كانت عواطف ثارت وقتا ما ليحدث منها تاريخ وسكنت بعد ذلك ليحدث منها شعر وكتابة.
Bog aan la aqoon
فإن نجتمع بعد نظرنا فيها معا وقرأتها عيناك لقلبي، وإن ارتاح الله لي برحمته
3
رفت عليها روحي فأسمع صوتك في الغيب يرسل إلى هذه الروح تحية من أنغام قلبها الميت.
صديقك (...)
21 يناير سنة 1924 •••
وجعلت رسائل الصديق تترادف إلي مسهبة ضافية تقطر فيها نفسه كما ترسل السحابة المنتشرة قطرات انعقدت وانحلت، ثم جعلت نفسه تنطوي على نأي حبيبته واشتد عليه أمرها ثم أسهل وانقاد، واعتادها هاجرة فراث قليلا
4
ثم كف؛ ومرت الظبية تطفو
5
ووهبها للبر الواسع ... وانقلب عنها بعد أن ملأت نفسه كما يقول في بعض رسائله «بمثل البحر ملحا ومرارة» ...
Bog aan la aqoon
أما هذا الصديق فأعرفه أسلوبا من الكبر ولكن على نفسه، ومن الشذوذ ولكن في نفسه، كأنما فتحت أفواه عروقه جنينا وملأتها الوراثة من دم ملك كان في أجداده، مستصعب شديد المراس فهو أبدا في حياته كالملك الذي حالت السيوف والأسنة والقوانين بينه وبين تاجه فجعلت له حياتين يفصل الموت بينهما، اجتمع من تاريخه إنسان بلغ الزمن تحت عينيه نيفا وأربعين سنة، فهو تاريخ أحزان قد استفاضت مسائله في فصول وأبواب جف القلم منها على نيف وأربعين جزءا كلماتها في حوادثها، وأن السطر منها ليرعد في صحيفته من الغيظ، وأن الكلمة لتبكي بكاء يرى، وأن الحرف ليئن أنينا يسمع، وأن تاريخه كله لينتفض؛ لأنه مصيبة ملكية مصورة في ملك. •••
لقد سبق الكتاب وجف القلم الأزلي على علم الله فما أتينا إلى هذه الدنيا إلا ليمثل كل واحد منا فصلا من معاني الشقاء الإنساني في تلك الثياب التي هي ملك لصاحب المسرح، لا نخلعها ونلبسها بل يخلعنا بعضها ليلبسنا بعضها الآخر، فلسنا نبتدع، ولكن يلقى علينا وما نحن بمخترعين ولكننا نحتذي، والرواية موضوعة تامة قبل ممثليها، وضعها ذلك القلم الأعلى الذي كتب مقادير كل شيء كان أو يكون حتى تمحى من صفحة الأرض هذه الأحرف السوداء المتحركة والساكنة
6 ...
والمشكلة الإنسانية الكبرى أن كل إنسان يريد أن يكون بطل الرواية ومثلها البكر حتى ذلك الشخص الذي جيء به لتنزل عليه اللعنة في سياقها، غير أن الرواية مفصلة من قبل، ويأتي فصل اللعنة كما هو بأطرافه وحواشيه وأسبابه ونتائجه فينصب على ممثله جملة واحدة على وجه لا يحس ولا يرى ولا يدفع كما يلبسه النوم فإذا هو يفتل فيه فتلا، وإذا رجل على أعين الناس باللعنة حال وباللعنة مرتحل.
النوم والقدر والموت كالشيء الواحد أو ثلاثتها أجزاء لشيء واحد؛ فالنوم غفلة تخرج الحي هنيئة من الحياة وهو فيها على حالة أخرى، والموت غفلة تخرجه من الحياة كلها إلى حالة أخرى، والقدر منزلة بين المنزلتين يقع هينا على أهل السعادة بأسلوب النوم، ويجيء لأهل الشقاء عنيفا في أسلوب الموت، ولن يجلب شيئا أو يدفع عن نفسه شيئا من هذه الثلاثة إلا الذي لم يخلق على الأرض، ذلك الذي يستطيع أن يفتح عينيه على الليل والنهار فلا ينام، أو يحفظ نفسه على الصغر والكبر فلا يموت، أو يضرب بيديه على مدار الفلك فيمسكه ما شاء أو يرسله. •••
جئنا إلى هذه الحياة غير مخيرين ونذهب غير مخيرين إن طوعا وإن كرها؛ فمد يدك بالرضا والمتابعة للأقدار أو انزعها إن شئت فإنك على الطاعة ما أنت على الكره، وعلى الرضا ما أنت على الغضب؛ ولن تعرف في مذاهب القدر إذا أنت أقبلت أو أدبرت أي وجهيك هو الوجه، فقد تكون مقبلا والمنفعة من ورائك أو مدبرا والمنفعة أمامك، والقدر مع ذلك يرمي بك في الجهتين أيهما شاء.
وحري بمن يوقن أنه لم يولد بذاته أن لا يشك في أنه لم يولد لذاته؛ وإنما هي الغاية المقدورة المتعينة فلا الخلق يتركونك لنفسك ولا الخالق تارك نفسك لك. •••
كذلك كان صديقي وما هو إلا إنسان من الناس، وقد بلغ من العمر أربعة عقود، ولكنه يحس منذ الصغر أنه رجل هرم أو كما يقول بعض الفلاسفة
7
في تعليل ذكاء الأذكياء أنهم يتذكرون ما يرونه ولا يتعلمونه؛ لأن فيهم نفوسا خرجت من الدنيا كاملة ثم رجعت لتزداد كمالا وتلك خرافة؛ ولكن من نقص هذا الإنسان أنه لا يستطيع التعبير عن أكبر الحقائق وأدقها إلا بأسلوب خرافي ...
Bog aan la aqoon
قال لي هذا الصديق يوما: إني بلغت أربعة عقود، ولكنها فيما عانيت كأنما تضاعفت إلى أربعين عقدا؛ وقد انتهيت من دهري إلى السن التي ينقلب فيها الآدمي من وفرة القوة ليثا، ويرجع من قوة الحكمة نبيا، ويعود من تمام العقل إنسانا، غير أن هذه الأربعين بما تعاورت علي قد هدم في بعضها بعضا؛ فإن أكن بناء فذلك صرح ممرد عمل فيه أربعون معولا فما أبقت حجرا على حجر؛ وإن أكن حومة فقد اعترك فيها للأقدار أربعون جيشا فما تؤرخ بنصر ولا هزيمة، يا ويلتا من هذه الدنيا، إن مصيبة كل رجل فيها حين يصير رجلا أنه كان فيها طفلا وما علم أنه كان طفلا.
تلك حياة الصديق وكانت ليلا طويلا انبسط عليه فنن من الظلام كأنه مورق بالسحب والغمائم السوداء لا ينقشع بعضها عن بعض حتى كأن صباحه مات فيها أربعين سنة، ثم انبعث آخرا من وجه فتاة أحبها فأشرق له من غرتها واستضاء عليه في وجهها، وطلعت شمس حبه من خديها حمراء في لون الورد؛ إذ امتزجت أشعتها بظلماته.
ويؤخذ من رسائله أن صاحبته كانت من قوة الجاذبية كأنها كوكب جذب منه كوكبا آخر، ومن فتنة الحسن كأنها رسالة إلهية إلى هذه الأرض، بل إليه وحده في هذه الأرض، أدارته هذه الحياة طويلا وأدارتها ليجيء موضعه إلى جانبها، فكأنما أدارت منه فلكا عاتيا لا يتزحزح إلا بعد دفعه أربعين سنة كاملة ...
رجل وامرأة كأنما كانا ذرتين متجاورتين في طينة الخلق الأزلية وخرجتا من يد الله معا، هي بروعتها ودلالها وسحرها وهو بأحزانه وقوته وفلسفته، فكان منهما شيء إلى شيء، كما توضع زجاجة الحبر الأسود إلى جانب يتيمة من الألماس أجيد نحتها وصقلها وتكسر على جوانبها شعاع الشمس؛ فإذا هي من كل جهة ثغر يتلألأ، وإذا بالزجاجة ولو على المجاز «ألماس أسود».
كانا في الحب جزأين من تاريخ واحد نشر منه ما نشر وطوى ما طواه، على أنها كانت له فيما أرى كملك الوحي للأنبياء، ورأى في وجهها من النور والصفاء ما جعلها بين عينيه وبين فلك المعاني السامية كمرآة المرصد السماوي؛ فكل ما في رسائله من البيان والإشراق هو نفسها، وكل ما فيها من ظلمات الحزن هو نفسه. •••
هدمت الأقدار هذا الصديق حتى انحط كل ما فيه من العزم والقوة فجاءت «هي» تبنيه وتشد منه وترمم بعض نواحيه المتداعية، وتقيمه بسحرها بناء جديدا وتحفت به عنايتها زمنا حتى صلح على ذلك شيئا فأيسرت روحه من فقرها إلى الجمال والحب، ويقول صديقي: «إنه ليس على الأرض من يشعر كيف ولدته أمه، ولكني رأيت بنفسي كيف ولدت تلك الحبيبة نفسي؛ مرت بيديها على أركاني المتهدمة وأعانتها الأقدار على إقامتي وبنائي، غير أن هذه الأقدار لم تدعها تبنيني إلا لتعود هي نفسها بعد ذلك فتهدمني مرة أخرى».
يصف حبيبته في هذه الرسائل كأنه مسحور بها فيجيء بكلام علوي مشرق كتسبيح الملائكة يمازجه أحيانا شيء يحار فيه الفهم؛ لأن أحدنا إنما يرسل فكره وراء قلمه، أما هو فيرسل نفسه وراء فكره ويستمد قلمه منهما، فمنزلته أن يكتب ثلاث كلمات ومنزلتنا أن نفهم كلمتين، والإنسان منا كاتب مفكر؛ أما هو فقد زاد بصاحبته فكان كاتبا مفكرا وملهما.
ومما لا أكاد أفهمه أنه يكتب كتابة محب أحياه الحب ومبغض قتله البغض؛ فإني لأعلم أن كل شيء حبيب ممن نحبه حتى البغض إذا كان يدل على حبه ولو دلالة خفية، بيد أن صاحبي يجفو جفاء شديدا فلعلها أنفة غلبت بها النفس على القلب فحولت الحب إلى جفاء والجفاء إلى غيظ والغيظ إلى مقت، وإنما المقت أول البغض وآخره. •••
يا صديقي المسكين لا يحزنك فإن آخر الحب آخر لأشياء كثيرة ... وإن من بين النساء نساء أولهن كالشباب وآخرهن من أشياء كالهرم والضجر والضعف والموت.
ويا جمال النساء إن كان في الأشياء ما هو أحسن وأجمل فإن في الأشياء ما هو أنفع وأجدى، وقد تكون الجدوى والمنفعة من الجمال في بغضه أحيانا أكثر مما تكون في حبه.
Bog aan la aqoon
ويا رحمة الله من فوق سبع سماواته لقد علمتنا بما نجده فيسرنا، وما ننساه فلا يضرنا، أن لا نيأس منك أبدا ولو كنا من الهم تحت سبع أراضيه.
الذكرى
ما أشد على قلبي المتألم أن لا يأخذ بصري من الناس إلا من يتدحرج في نفسي ليهوي منها أو يتقلب في أجفاني
1
ليثقل على عيني؛ وأحاول أن أرى تلك الطلعة الفاتنة التي انطوى عليها القلب فانبث نورها في حواشيه المظلمة، وأن أملأ عيني من قمر هذا الشعاع الذي جعل السماء في جانب من صدري؛ فإذا ما شئت من الوجوه إلا وجه الحب، وإذا في مطلع البدر من رقعة سوداء لا تبلغ مد ذراع، ويغشى الكون كله منها ما يغشى، فاللهم أوسع لقلبي سعة
2
يلوذ بها.
العالم لكل الناس، غير أن لكل إنسان عالما هو خالصة نفسه؛
3
وعلى أن هذه الدنيا مترامية إلى كل جهة تتدلى عليها السماء، فإن أراضيها الخمس بما رحبت لا تقوم عندي بتلك الجدران الأربعة التي رأيت فيها من أحببتها؛ رأيت من هذه صورة قلبي فلا عجب أن تكون تلك الجدران صورة ضلوعي، وما أدري أذلك سحر أم تلبيس أم تخييل؛
Bog aan la aqoon
4
أم هو الحب؟
إذا كنت شاعرا فأضللت نفسك فنشدتها طويلا، وقلبت عليها آفاق النفوس وأفلاك القلوب فإنك لن تصيبها إلا في نفس امرأة جميلة يجعلها مهندس الكون مركزا للدائرة التي تنفسح بأقطار نفسك ذاهبة بكل قطر إلى جهة من أماني الحياة.
وإذا كنت حكيما فسألت نفسك سؤال الفلاسفة: من أنا؟ ووجدت في نفسك ذلك السر الخفي يقول عنك: من هو؟ فإنه لن يظهر لك معنى «أنا وهو» إلا إذا وضع الحب بينهما «هي» ...
وإذا كنت رجلا من عامة الأرض اندمج في جلدة من الثرى
5
فإن نفسك لن تحس جوهرها الإلهي إلا في نفس حبيبة، وإن كانت من عامة السماء ... فالحب يجعل الناس أعلاهم وأسفلهم صاعدين أبدا من أسفل إلى أعلى. •••
إني أخط في هذه الصفحات صورة من الزمن الفاني تصور خطفة البرق التي خطرت في سماء العمر من ابتسامة ملتهبة كانت سيالة بكهربائها؛ وإن في القلم لشيئا إلهيا يدفع الموت والنسيان عن المعاني التي تكتب إلى أجل طويل، كأن القلم ينتزعها من الإنسان الذي هو قطعة من الفناء ليبعد الفناء عنها، هي «رسائل الأحزان» لا لأنها من الحزن جاءت، ولكن لأنها إلى الحزن انتهت، ثم لأنها من لسان كان سلما يترجم عن قلب كان حربا، ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة، وكان كالحياة ماضيا إلى قبره ليس بيني وبين الهوى شأن ولا عداوة، ولكنها تركت في ثلاثا: قلب أخلص لها وأوغرته
6
عليها، وبقايا آلام كأنها أشلاء
Bog aan la aqoon
7
من فريسة تشير إلى تاريخ من الموت والألم والتمزيق، وتركت مع هذين اسمها الذي أحفظها فيه بجملتها، وقد يحسم الداء
8
ولكن اسمه يبقى داء ما بقي، فهذه الأسماء أكثر ما أنت واجدها إما زيادة على أصحابها في الحب أو زيادة في البغض أو زيادة في الألم؛ إذ هي عند أشخاصها تطلق على أشخاصها، ولكنها في الناس تنبه إلى المعاني والحوادث والصفات المجسمة التي تنتشر عليها النفس أو تنقبض ويتحرك لها الدم حبا أو بغضا ورغبة أو رهبة وعطفا أو غلظة، وأحيانا ... إهمالا أو ازدراء.
والحبيب قد يتحول إلى كلمة أو قبلة أو معنى من المعاني إذا أراد محبه أن ينقله معه إلى أي مكان وهو باق في مكانه؛ الكلمة والقبلة والمعنى، هذه هي الجهات الثلاث التي تنفذ منها النفس إلى أحبابها حين يخفيهم الغمام الفاصل بين الحياة والحياة إذا ابتعدوا أو هجروا أو الغمام الضارب بين الحياة والموت إذا لحقوا بالأبد، أما الجهة الرابعة فحين تفتح للمحب يلقى جسمه ويصعد بروحه ويختفي هو فيها، ولعمري إني لأريد أن أنساها ثلاث مرات لا مرة واحدة، ولكنها في ذكراي كأنها ثلاث نساء؛ واحدة في الرضا وثانية في الغضب وثالثة بين ذلك؛ واحدة في كلمة وأخرى في قبلة وثالثة في معنى من المعاني ... •••
السعادة تنصرف عنا في أكثر الأحيان ليكون تلهفنا عليها واهتياجنا لها سعادة على وجه آخر، وكأنما أوشكت
9
لنا من هذه الجهة وهي ذاهبة؛ وإذا لم يكن الإنسان بأشد حاجة إلى الطعام في وقت منه إلى الجوع في وقت غيره فكذلك هو في غذاء روحه وعواطفه، يفقد السعادة وقتا كالجوع ووقتا كالصوم، وإن هذا لهو بعض أسرار الحكمة الإلهية في الشقاء الإنساني، ولكنه كذلك من أسباب سوء الفهم في الإنسان، ولقد ذهبت هي كالسعادة فلا أطمع أن يتنفس قلبها على قلبي أو يتنهد صدرها لصدري، غير أن الشاعر الروحاني الذي يسعد بالحب إذا أرضى الحب نفسه يكون أسعد بالهجر إذا أرضى نفسه كذلك، ومع الحب عالم كثيف ينشئ في كل يوم ألما، ومع الهجر عالم مجرد يحدث في كل يوم سلوة.
فلنترك المادة للمادة يتحطم البغض والغيظ فيهما، وتخلص الروح إلى الروح كنور في المشرق ينبعث إلى نور في المغرب؛ وإذا ابتعد نجم عن نجم استطاع كلاهما أن يلمح للآخر لمحة متبسمة من بعيد، يجعلها البعد شعاعا صافيا، وإن كانت في ذات نفسها شعلة من جحيم يتضرم.
إن هذه الذكرى حياة أبثها مني في نسيانها فما أهنأني أن يجيئني من نسيانها شيء تبثه هي في حياتي.
Bog aan la aqoon
بعد ما كنت وكنا؟1
يا رياض الغزال في سرجك الفي
نان يهفو بنا النحول غصونا
2
ما الذي يجعل المحب سعيدا
غير من غادر المحب حزينا
ليتني في ثراك نبع ويأتي
يتراءى الغزال في النبع حينا
ليتني في رباك ظل ظليل
ليلوذ الغزال بي ويلينا •••
Bog aan la aqoon
بعد ما كنت يا غزال وكنا
ما الذي تحسب الهوى أن يكونا؟
الرسالة الأولى
سأكتب هذه الكلمات المرتعشة، وسأبسط رعدة قلبي في ألفاظها ومعانيها؛ أكتب عن (...) ذلك الاسم الذي كان سنة كاملة من عمر هذا القلب، على حين أن السعادة قد تكون لحظات من هذا العمر الذي لا يعد بالسنين ولكن بالعواطف؛ فلا يسعني إلا أن أرد خواطري إلى القلب لتنصبغ في الدم قبل أن تنصبغ في الحبر، ثم تخرج إلى الدنيا من هناك بين ما يخفق وما يزفر وما يئن، «من هناك»! آه، من ترى في الناس يعرف معنى هذه الكلمة، ويتسع فكره لهذا الظرف المكاني
1
الذي أشير إليه؟ إن العقل ليمد أكنافه
2
على السموات فيسعها خيالا، كما ترى بعينيك في ماء الغدير شبكة السماء كلها محبوكة من خيوط الضوء، مفصلة بعقد النجوم، ولكن هناك؛ في القلب؛ عند ملتقى سر الحياة بسر محييها؛ وهناك؛ في القلب، عند النقطة التي يتقطع فيها الطرف
3
بينك وبين من تحب، حين تريد الجميلة أن تقول لك أول مرة أحبك؛ ولا تقولها، هناك؛ في القلب؛ وعند موضع الهوى الذي ينشعب فيه خيط من نظرك وخيط من نظرك فيلتبسان
Bog aan la aqoon
4
فتكون منهما عقدة من أصعب وأشد عقد الحياة، هناك؟ هذا معنى «هناك». •••
سأكتب أشياء وأضمر على أخرى لا أبوح بها، وما دام لكل امرئ باطن لا يشركه فيه إلا الغيب وحده ففي كل إنسان تعرفه إنسان لا تعرفه، وليست على المعاني والخواطر سمات
5
تميز بعضها من بعض كبياض الأبيض وسواد الأسود؛ فأنا وحدي أعرف سبب الزلزلة التي أصفها، والناس بعد كأولئك الخياليين القدماء الذين كانوا يقولون متى اهتزت أثقال الأرض:
6
إن إله المصارعة ينبض قلبه الآن ... وأعرف سبب البركان المنفجر، وكانت خرافة الأقدمين عندما تتمزع الأرض من الغيظ وتلعنهم بألفاظ من النار: أن إله الحدادة ينفخ في الكير ... أنا وحدي أعرف ما أندمج عليه،
7
وما يكنه قلبي المتألم الذي أصبح يضطرب اضطراب الورقة اليابسة في شجرتها نافرة تتململ إن عفت عنها نسمة لا تعفو النسمات كلها، فسآتيك في رسائلي بالكلام الصحيح والكلام المريض، ويتشعب عليك من خبري أمور وأمور فلا تحاول أن تهتك سر هذا القلب، وإذا صح أن الإنسان انطوى فيه العالم الأكبر فقد صح أن السماء انطوت في قلب الإنسان، ما أبعدك عن السماء! انظر انظر فإن السماء تقول لك أيضا إنها معنى «هناك». •••
لم تحيرني المتناقضات ولا المتشابهات ولا ضقت بأسباب الفكر فيها فإن ذلك الحب جعل في عقلين لا عقلا واحدا؛ أحدهما يقرني في هذه الدنيا والآخر ينقلني إلى ثانية؛ دنيا الناس جميعا ودنيا امرأة واحدة؛ دنيا السموات والأرض ودنيا قلبي.
Bog aan la aqoon
في العقل الأول تنحل كل المشكلات، وفي الثاني تتعقد كل «البسائط» ... أحدهما قوي فلو اجتمعت عقول أعدائه في عاصفة واحدة لكان وحدة عاصفة تلف بها لفا، والآخر ضعيف ضعيف تمرضه الابتسامة الواحدة مرضا طويلا، ذلك يكسر النفس كسرا ويرضها رض الهشيم
8
ويزعها من جمجاتها؛ وهذا؟ كان الله له لا يشبه إلا الفضاء ما نسب إلى شيء ولا حسب في شيء ... الأول جبار يلد المحنة ويميتها، فهو عقل ما ينقطع له من الحيلة مدد؛ والثاني خوار
9
يمتحن بالنظرة الفاترة المتهالكة دلالا فتحمل هذه المحنة وتلد في طريقها إليه فلا تصل حتى تكون محنتين ... وأنا بين هذين العقلين كأني عالم عجيب حقائقه هي خرافاته، وما مثلي إلا مثل النهر الطامي يتدفق إلى البحر وقد فار فائره؛ فلو سألت أحفى مسألة،
10
واستعنت بالفنون والأدوات جميعا لتعرف ما هو ذلك الموضع المعين الذي يصل بين منبعه ومصبه لكان الجهل والعلم في ذلك سواء؛ إذ الموضع في النهر هو كل موضع فيه على طول ما يجري ويمتد.
كذلك حيرة الحياة والحب يجاب عنهما بجواب واحد هو نفسه حيرة أخرى؛ ولكني اكتب الآن وقد تركت الحب وتركني، خرجت من المعركة فنشبت نفسي في معركة أخرى لا أدري أهي قائمة بين الحب والبغض أم بين الحب والحب؟
أرأيت قط ذئبا قد افترس شاة وجعل يفرفرها
11
Bog aan la aqoon
بأظافره وأنيابه، وهي تنتفض يائسة هالكة؟ إن تكن رأيته فذلك ذئب رحيم لو أنت كنت عاشقا فرجعت لك من تهواها مما تحب إلى ما تكره فرأيت البغض وما يصنع بقلبك، إنما الذئب ناب وظفر وسورة وحش
12
يعتري أكيلته فيسطو بها فيذهلها عن نفسها، ثم لا يزيد بعد ذلك على طبيب جاهل في «عملية جراحية» ... أما البغض فذئب الدم؛ يساورك سورة الحمى فإذا هو شعلة طائرة في عروقك لا تدع منك موضعا إلا مسته، ولا تمس منك موضعا إلا نقعت فيه
13
مثل ناب الأفعى من وهج الحب وسمه وغيظه وألمه، فما تدري في أي ناحية عذابك من هذا البغض ولا من أي الآلام هو؟
ولن تظهر قدرة الجمال وما فيه من القوة الأزلية إلا إذا حملك على بغضه بعد أن يحملك على حبه فيقتلك مرتين كل مرة بسلاح، وكل مرة على أسلوب، وكل مرة بنوع من الألم، وذلك ضرب من العذاب لا تملكه قوة في الأرض لا في الملوك ولا في الجبابرة، ولكن تملكه بعض النساء الضعيفات، ويعذبن به حتى الملوك والجبابرة.
مهما يبلغ الألم في عذاب إنسان فلن يجاوز حالة معينة، ثم يغمى على المتألم ويستريح ولو دقت في عظامه المسامير؛ كالماء مهما توقد عليه فلن يعدو درجة معروفة في غليانه ثم يثبت عندها ولو أضرمت عليه من النار التي وقودها الناس والحجارة، غير أن ألم الحب الشديد حين يكرهك على بغضه نوع منفرد في كل آلام بني آدم كانفراد «ذئب الدم» في جميع ما خلق الله من المعاني الوحشية. •••
لم أر وصفا كهذا أفظع ولا أبعث على الرعب؛ لأنه إنما هو موصوفه ... فسأخفف عليك فيما يلي هذه الرسالة، ولا أذكر لك ثمت إلا ما يكون كوصف الجنة تزخرفت له ما بين خوافق السموات والأرض،
14
ولكن دعني أقل لك إني أبغض من أحبها، على أنك لو رأيتها لرأيت نفسها تلوح في وجهها، جميلة كجماله رقيقة كرقته محبوبة كحبه، ولكني مع ذلك أبغضها والله بغض المحرور لما يتلذع
Bog aan la aqoon
15
من أشعة الشمس، وبغض العين الرمداء لما يتلألأ من إشراق الضحى؛ فلا يداخلك في ذلك ريب ولا شك، وسيبقى سبب هذا البغض من سر الحب الذي لا يعرف، إن بعض الأسرار فيه ضربة العنق
16
فلا يباح به وبعضها يكون فيه ألم النفس الكبيرة فلا يباح به كذلك: ولكن اعلم أنها هي هي وأنه أنا هو، هي الكبرياء كلها لا تستعذرها من شيء فتعذر، ولا تسمح بشيء إلا التوت به،
17
وأنا كبرياء الكبرياء ما خلقت ألا محكم المعاقد لا أتثلم ولا أتحطم، وتقلبني في يدك ما تقلب عضلة الحديد فلا تراها من كل جهة إلا حديدا، هي يمين حلف الدهر بها ليكذبن كذبة بيضاء مغشاة يغر بريقها ويلتمع ماؤها لمع السراب؛ فتبصر فيها الروح معنى الري لتلتهب منها بالظمأ القاتل يفيضها على رمل ذهبي صبغته الشمس ... وأنا؟ أنا كلمة قد استوى ظاهرها وباطنها فإما أن تصدق كلها، وإما أن تكذب كلها، كلمة ليس فيها جزء محبوب وجزء مكروه فلا تحتمل أبدا معنيين، هي كالسيل تنحل به السحب؛ وأنا قمة من الصخر الصلد تغسلها السيول ولا تشققها.
ثم هي من وراء ذلك كله فيها روح بلبل يفر بأغانيه من ظل إلى ظل في رياض الجمال؛ وأما أنا ففي روح نسر يترامى بصفيره من جبل إلى جبل في قفار الحب، حاول العصفور الصغير الظريف أن يطوي النسر في جناحيه وهو لا يبلغ فصبة في ريشة في جناح هذا النسر، ولكنه ... آه ولكنه طواه في غير جناحيه. •••
أين العقل في الحب والبغض وبخاصة إذا أفرطت عليك أسبابهما؟ أما إن كل طريق لينفد فيه الإنسان على بصيرة إلا هذين؛ فإن أحدهما إذا احتواك لم يفلتك وأصبحت فيه كالذي يطاف به الدنيا ويداه في قيد، فمهما سوغ
18
من الحركة والاضطراب ومهما انفسحت له الآفاق فإن قدر ذراع من وثاق حريته الذي يشد يديه هو قياس دنياه في طولها وعرضها ما بلغت، فأنا على ما كنت أشعر من أن لي عقلين كنت أراني في ذلك الحب كأني بلا عقل، بل كأني مجنون من ناحيتين ... ويسرف علي بغضها أحيانا، فأتلهب عليها في زفرات كمعمعة الحريق
Bog aan la aqoon
19
حين ينطبق مثل الفك من جهنم على مدينة قائمة فيمضغ جدرانها مضغ الخبز اليابس، ثم يسرف علي حبها أحيانا فينحط قلبي في مثل غمرات الموت وسكراته يتطوح من غمرة إلى غمرة، فأنا بين نقمة تفجأ وبين عافية تتحول، وكأنه لا عمل لي إلا أن أصعد مئة درجة لأهبط مئة درجة ... أما ماذا يرد علي الصعود والنزول فسل قصبة الزئبق
20
ولا تسلني، إنه سيال يترجرج في القلب بين شيء مني وشيء منها؛ وكانت عروقي كأنما ينصب فيها أحيانا دم قتيل فيهجم بالموت (الأحمر) على حياتي يريد أن يغولها.
إن تلك الفتاة لتغضب الملائكة الذين لا يغضبون؛ وقد خلق النساء لامتحان جنون الرجال وخلق الرجال لامتحان عقول النساء؛ وخلقت هي وحدها لجلب الجنون لا لامتحانه ... •••
أراني سأبتدئ أيامي من آخرها فإني لا أقصها عليك وهي تولد بل وهي تموت بعد أن تركتني كالقنبلة فرغ الحب من حشوها وتريد أن تنفجر، لم اكتب لك؛ إذ كان هواها ناشئا يرتع ويلعب، وإذ كان ينكسر انكسار فرخ الطائر حين يهدل جناحيه
21
لتمسحه أمه بجناحيها، ولا كتبت إذ كان هواها الجد أشد الجد، وإذ كان كالريح المرسلة لا تقف ولا تنكسر إلا إذا تدلى من السماء جدار يبلغ الأرض أو رفع من الأرض حائط يبلغ السماء، ولا حين كان الهوى يركض بي ركض المجنون الذي يجري وكأنه يجري وراء عقله الذاهب على غير طريق ولا جادة ولا علم،
22
فلا عقله يقف له ولا هو يدرك عقله، ولكني سأكتب وقد ركد الهوى؛ وقد ماسحت قلبي حتى الآن من غضبه؛ وقد اجتمع إلي رأيي الذاهب، ولا تحسبن أني سأخط لك قصة فيها اليوم والشهر والسنة، وفيها الزمان والمكان، وذلك السخف الذي يطولون ويعرضوه به إذ يستنهجون سبيل الحادثة من حيث تبتدئ إلى حيث تنحدر، فإن هذا مما يحسن في تاريخ صخرة تتدحرج، أما أنا فسأقدم إليك تاريخ لؤلؤة فريدة، هم يغطونك بقبة الليل تلمع في بعض جوانبها نور كوكب يظهر ويغيب، أما أنا أضعك في ساعة من السحر بين نسيمها وجمالها ورقتها ذيول الليل فيها، ثم ينشق لك الأبيض ذو الحواشي.
Bog aan la aqoon
23 •••
ودعني أذكر البغض مرة أخرى قبل أن أنساه إن اللين في القوة الرائعة أقوى من القوة نفسها؛ لأنه يظهر لك موضع الرحمة فيها، والتواضع في الجمال أحسن من الجمال؛ لأنه ينفي الغرور عنه؛ وكل شيء من القوة لا مكان فيه لشيء من الرحمة فهو مما وضع الله على الناس من قوانين الهلاك.
اجمع يا عزيزي إن استطعت سربا من الوحوش الضارية وصففها لونا إلى لون، وصنفها شيئا إلى شيء فإنك سترى في «جلودها» مكتبة ضخمة من هذه القوانين ... والوباء الذي يحلق الناس حلق الشعر فيتساقطون ألوفا ألوفا بجرة من يد الموت، والزلزال الذي يرجهم في سربال الأرض رج الحصى ينفيه من هنا وهنا، والمصائب التي تبسط العقوبة على النعم في سطوة كهدير الموجة العاتية حين تصارع العاصفة، والجميلة المغرورة التي تراها في أخلاقها من طراز كدماغ السكير الفارغ مزينا بخيالات الخمر وسورتها، كل تلك من «قوانين العقوبات» في العالم الذي خلق متهمين وقضاة ولا من يحامي ...
هذه التي سأقص عليك منها فلسفة الجمال والحب، قوة من القوى لم يجعل الله القسوة فيها إلا لعلمه بها؛ وما ابتساماتها الفاتنة إلا كسجن من البلور الصافي يختنق من يحبس فيه وهو يتلألأ ... وكنت أراها أحيانا في جمالها وتأثير جمالها كأنها طاووس من طواويس الجنة على ريشة فيه لون من ألوان النار.
نصيحتي لكل من أبغض من حب أن لا يحتفل بأن صاحبته غاظته، وأن يكبر نفسه عن أن يغيظ امرأة، إنه متى أرخى هذين الطرفين سقطت هي بعيدا عن قلبه فإنها معلقة إلى قلبه في هذين الخيطين من نفسه.
ما من قفل بلا مفتاح وإلا فما هو بقفل؛ والإهمال والازدراء وسمو النفس ثلاثة مفاتيح لقفل واحد هو قفل الغيظ.
الرسالة الثانية
لقد هولت علي في كتابك حتى أخرجتني عن غيظي إلى غيظ آخر، تقول: «ويحك أراك أخرجت القمر من دراته وجئت به على أعين الناس؛ وإلا فمن تلك التي لمست الفلك الأعلى حين لمست قلبها فكأنما اجترأت على القدر فيها حلف ليتيحنك فتنة
1
تدعك وما يلوي منك شيء على شيء، ومن عساها تكون هذه التي ليس فيها إلا ما في الطاووس الميت من ريشه الجميل، وهي مع ذلك رضاك
Bog aan la aqoon