Rasaailka Al-Jahiz
رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
Noocyada
مقدمة
خلاصة كتاب العثمانية
خلاصة نقض كتاب العثمانية
من كتاب فضل هاشم على عبد شمس
من كتاب حجج النبوة
من كتاب الحجاب
كتاب التربيع والتدوير
من كتاب استحقاق الإمامة
من رسالته في صناعات القواد
من كتابه في النساء
Bog aan la aqoon
من رسالته في الشارب والمشروب
من رسالته في مدح النبيذ
من رسالته في بني أمية
من كتابه في العباسية
من رسائله الخاصة
مقدمة
خلاصة كتاب العثمانية
خلاصة نقض كتاب العثمانية
من كتاب فضل هاشم على عبد شمس
من كتاب حجج النبوة
Bog aan la aqoon
من كتاب الحجاب
كتاب التربيع والتدوير
من كتاب استحقاق الإمامة
من رسالته في صناعات القواد
من كتابه في النساء
من رسالته في الشارب والمشروب
من رسالته في مدح النبيذ
من رسالته في بني أمية
من كتابه في العباسية
من رسائله الخاصة
Bog aan la aqoon
رسائل الجاحظ
رسائل الجاحظ
وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
تأليف
الجاحظ
خلاصة كتاب العثمانية
قال أبو عثمان:
قالت العثمانية: أفضل الأمة وأولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة؛ لإسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد في عصره. وذلك أن الناس اختلفوا في أول الناس إسلاما، فقال قوم: أبو بكر، وقال قوم: زيد بن حارثة، وقال قوم: خباب بن الأرت ... وإذا تفقدنا أخبارهم وأحصينا أحاديثهم وعددنا رجالهم ونظرنا في صحة أسانيدهم، كان الخبر في تقدم إسلام أبي بكر أعم ورجاله أكثر وأسانيده أصح، وهو بذاك أشهر واللفظ فيه أظهر، مع الأشعار الصحيحة والأخبار المستفيضة في حياة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبعد وفاته. وليس بين الأشعار والأخبار فرق إذا امتنع في مجيئها وأصل مخرجها التباعد والاتفاق والتواطؤ ... ولكن ندع هذا المذهب جانبا ونضرب عنه صفحا، اقتدارا على الحجة ووثوقا بالفلج والقوة، ونقتصر على أدنى نازل في أبي بكر، وننزل على حكم الخصم فنقول:
Bog aan la aqoon
إنا وجدنا من يزعم أنه (يعني عليا) أسلم قبل زيد وخباب، ووجدنا من يزعم أنهما أسلما قبله. وأوسط الأمور أعدلها، وأقربها من محبة الجميع ورضا المخالف أن نجعل إسلامهم كان معا ؛ إذ الأخبار متكافئة والآثار متساوية على ما يزعمون، وليست إحدى القضيتين أولى في صحة العقل من الأخرى. ثم نستدل على إمامة أبي بكر بما ورد فيه من الحديث وبما أبانه به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من غيره.
قالوا: فمما روي من تقدم إسلامه ما حدث به أبو داود بسنده،
1
عن أبي هريرة قال: قال أبو بكر: أنا أحقكم بهذا الأمر - يعني الخلافة - ألست أول من صلى؟!
وروى عباد بن صهيب عن يحيى بن عمير عن محمد بن المنكدر، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: إن الله بعثني بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة، فقالوا: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت.
وروى يعلى بن عبيد قال: جاء رجل إلى ابن عباس فسأله: من كان أول الناس إسلاما؟ فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت:
Bog aan la aqoon
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
الثاني التالي المحمود مشهده
وأول الناس منهم صدق الرسلا
وقول أبي محجن:
سبقت إلى الإسلام والله شاهد
وكنت حبيبا بالعريش مشهرا
وقول كعب بن مالك:
سبقت أخا تيم إلى دين أحمد
وكنت لدى الغيران في الكهف صاحبا
Bog aan la aqoon
وروى ابن أبي شيبة بسنده عن النخعي قال: أبو بكر أول من أسلم.
وعن عمرو بن عنبسة قال: أتيت النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو بعكاظ، فقلت له: من بايعك على هذا الأمر؟ فقال: بايعني حر وعبد. فلقد رأيتني يومئذ وأنا رابع الإسلام.
قال بعض أصحاب الحديث: يعني بالحر أبا بكر، وبالعبد بلالا.
وروى الليث بن سعد بسنده عن أبي أمامة قال: حدثني عمرو بن عنبسة أنه سأل النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو بعكاظ فقال له: من تبعك؟ فقال: تبعني حر وعبد، أبو بكر وبلال.
وعن أسيد بن صفوان صاحب النبي
صلى الله عليه وسلم
Bog aan la aqoon
قال: لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب فقال: رحمك الله أبا بكر، كنت أول الناس إسلاما.
وعن عكرمة مولى ابن عباس قال: إذا لقيت الهاشميين قالوا : علي بن أبي طالب أول من أسلم، وإذا لقيت الذين يعلمون قالوا: أبو بكر أول من أسلم.
قال أبو عثمان: قال العثمانية: فإن قال قائل: فما بالكم لم تذكروا علي بن أبي طالب في هذه الطبقة، وقد تعلمون كثرة مقدميه والرواية فيه؟! قلنا: قد علمنا الرواية الصحيحة والشهادة القائمة أنه أسلم وهو حدث غرير وطفل صغير، فلم نكذب الناقلين، ولم نستطع أن نلحق إسلامه بإسلام البالغين؛ لأن المقلل زعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين، والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين! فالقياس أن يؤخذ الأوسط بين الروايتين وبالأمر بين الأمرين؟! وإنما يعرف حق ذلك من باطله بأن تحصي سنيه التي ولي فيها الخلافة وسني عثمان وسني عمر وسني أبي بكر ومقام النبي
صلى الله عليه وسلم
بالمدينة ومقامه بمكة عند إظهار الدعوة، فإن فعلنا ذلك صح أنه أسلم وهو ابن سبع سنين، فالتاريخ المجمع عليه أنه قتل في شهر رمضان سنة أربعين.
فإن قالوا: فلعله وهو ابن سبع سنين أو ثماني سنين قد بلغ من فطنته وذكائه وصحة لبه وصدق حدسه وانكشاف العواقب له - وإن لم يكن جرب الأمور ولا فاتح الرجال ولا نازع الخصوم - ما يعرف به جميع ما يجب على البالغ معرفته والإقرار به؟! قيل لهم: إنما نتكلم على ظواهر الأحوال وما شاهدنا عليه طبائع الأطفال! فإنا وجدنا حكم ابن سبع سنين أو ثمان - ما لم يعلم باطن أمره وخاصة طبعه - حكم الأطفال. وليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه، والذي نعرف من حال أبناء جنسه، بلعل وعسى؟! لأنا وإن كنا لا ندري لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة، فلعله قد كان ذا نقص فيها! هذا على تجويز أن يكون علي في الغيب قد أسلم وهو ابن سبع أو ثمان إسلام البالغ! غير أن الحكم على مجرى أمثاله وأشكاله الذين أسلموا وهم في مثل سنه! إذا كان إسلام هؤلاء عن تربية الحاضن وتلقين القيم ورياضة السائس. فأما عند التحقيق فإنه لا يجوز لمثل ذلك؛ لأنه لو كان أسلم وهو ابن سبع أو ثمان وعرف فضل ما بين الأنبياء والكهنة وفرق ما بين الرسل والسحرة وفرق ما بين خبر النبي والمنجم، وحتى عرف كيد الأريب وموضع الحجة ونقد التمييز، وكيف يلبس على العقلاء وتستمال عقول الدهماء، وعرف الممكن في الطبع من الممتنع، وما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب، وعرف قدر القوى وغاية الحيلة ومنتهى التمويه والخديعة، وما لا يحتمل أن يحدثه إلا الخالق سبحانه، وما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز، وكيف التحفظ من الهوى والاحتراس من الخداع، لكان كونه على هذه الحال - وهذا مع فرط الصبا والحداثة وقلة التجارب والممارسة - خروجا من العادة ومن المعروف مما عليه تركيب هذه الخلقة.
وليس يصل أحد إلى معرفة نبي وكذب متنبئ حتى تجتمع فيه هذه المعارف التي ذكرناها والأسباب التي وصفناها وفصلناها. ولو كان علي على هذه الصفة ومعه هذه الخاصية لكان حجة على العامة وآية تدل على النبوة! ولم يكن الله عز وجل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة إلا وهو يريد أن يحتج بها ويجعلها قاطعة لعذر الشاهد وحجة على الغائب. ولولا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبيا، وأنه أنطق عيسى في المهد، ما كانا في الحكم إلا كسائر الرسل وما عليه جميع البشر، فإذا لم ينطق لعلي بذلك قرآن ولا جاء الخبر به مجيء الحجة القاطعة والمشاهدة القائمة فالمعلوم عندنا في الحكم أن طباعه كطباع عميه حمزة والعباس، وهما أمس بمعدن جماع الخير منه! أو كطباع جعفر وعقيل من رجال قومه وسادة رهطه! ولو أن إنسانا ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو لعميه حمزة والعباس ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه.
ولو لم يعرف باطل هذه الدعوى من آثر التقوى وتحفظ من الهوى إلا بترك علي ذكر ذلك لنفسه والاحتجاج به على خصمه - وقد نازع الرجال وناوأ الأكفاء وجامع أهل الشورى وولى عليه - لكان كافيا. ومتى لم تصح هذه الدعوى في أيامه ولم يذكرها أهل عصره، فهي عن ولده أعجز ومنهم أضعف. ولم ينقل إلينا ناقل أن عليا احتج بذلك في موقف ولا ذكره في مجلس ولا قام به خطيبا ولا أدلى به واثقا، لا سيما وقد رضيه الرسول
صلى الله عليه وسلم
عندكم مفزعا ومعلما وجعله للناس إماما! ولا ادعى له أحد ذلك في عصره كما لم يدعه لنفسه حتى يقول إنسان واحد به: الدليل على إمامته أن النبي
Bog aan la aqoon
صلى الله عليه وسلم
دعاه إلى الإسلام أو كلفه التصديق قبل بلوغه ليكون ذلك آية للناس في عصره وحجة له ولولده من بعده! فهذا كان أشد على طلحة والزبير وعائشة في كل ما ادعاه من فضائله وسوابقه وذكر قرابته؟!
فلو أن عليا كان بالغا حيث أسلم لكان إسلام أبي بكر وزيد بن حارثة وخباب بن الأرت أفضل من إسلامه؛ لأن إسلام المقتضب الذي لم يعتد به ولم يعوده ولم يمرن عليه أفضل من الناشئ الذي ربي فيه ونشأ عليه وحبب إليه؛ وذلك لأن صاحب التربية يبلغ حيث بلغ وقد أسقط إلفه عنه مؤنة الروية والخاطر وكفاه علاج القلب واضطراب النفس، وزيد وخباب وأبو بكر يعانون من كلفة النظر ومؤنة التأمل ومشقة الانتقال من الدين الذي قد طال إلفهم له ما هو غير خاف!
ولو كان علي حيث أسلم بالغا مقتضبا كغيره ممن عددنا لكان إسلامهم أفضل من إسلامه؛ لأن من أسلم وهو يعلم أن له ظهرا كأبي طالب وردءا كبني هاشم وموضعا في بني عبد مناف، ليس كالحليف والمولى والتابع والعسيف
2
وكالرجل من عرض قريش؟! أولست تعلم أن قريشا خاصة وأهل مكة عامة لم يقدروا على أذى النبي
صلى الله عليه وسلم
ما كان أبو طالب حيا؟ وأيضا فإن أولئك اجتمع عليهم مع فراق الإلف مشقة الخاطر، وعلي كان بحضرة الرسول يشاهد الأعلام في كل وقت ويحضر منزل الوحي. فالبراهين له أشد انكشافا والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا، وعلى قدر الكلفة والمشقة يعظم الفضل ويكثر الأجر.
ولأبي بكر فضيلة في إسلامه، أنه كان قبل إسلامه كثير الصديق عريض الجاه ذا يسار وغنى، يعظم لماله ويستفاد من رأيه، فخرج من عز الغنى وكثرة الصديق إلى ذل الفاقة وعجز الوحدة. وهذا غير إسلام من لا حراك به ولا عز له، تابع غير متبوع؛ لأن من أشد ما يبتلى الكريم به السب بعد التحية والضرب بعد الهيبة والعسر بعد اليسر ...! ثم كان أبو بكر داعية من دعاة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وكان يتلوه في جميع أحواله، فكان الخوف إليه أشد والمكروه نحوه أسرع، وكان ممن تحسن مطالبته ولا يستحيا من إدراك الثأر عنده؛ لنباهته وبعد ذكره، والحدث صغير يزدرى ويحتقر لصغر سنه وخمول ذكره.
Bog aan la aqoon
وكان أبو بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة، فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين حتى أدماه، وشده مع طلحة بن عبيد الله في قرن وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة؛ ولذلك كانا يدعيان: القرينين. ولو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا وبلوغ منزلته شديدا، ولو كان يوما واحدا لكان عظيما ... وعلي بن أبي طالب رافه وادع، ليس بمطلوب ولا طالب ... وليس أنه لم يكن في طبعه الشهامة والنجدة وفي غريزته البسالة والشجاعة! ولكنه لم يكن قد تمت أداته ولا استكملت آلته، ورجال الطلب وأصحاب الثأر يغمضون ذا الحداثة ويزدرون بذي الصبا والغرارة إلى أن يلحق بالرجال ويخرج من طبع الأطفال.
ولأبي بكر مراتب لا يشركه فيها علي ولا غيره، وذلك قبل الهجرة. فقد علم الناس أن عليا إنما ظهر فضله وانتشر صيته وامتحن ولقي المشاق منذ يوم بدر، وأنه إنما قاتل في الزمان الذي استوى فيه أهل الإسلام وأهل الشركة وطمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا، وأعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين. وأبو بكر كان قبل الهجرة معذبا مطرودا مشردا في الزمان الذي ليس بالإسلام وأهله نهوض ولا حركة؛ ولذلك قال أبو بكر في خلافته: طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام. يقول: في ضعفه.
وإن بين المحنة في الدهر الذي صار فيه أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
مقرنين لأهل مكة ومشركي قريش ومعهم أهل يثرب أصحاب النخيل والآطام والشجاعة والصبر والمواساة والإيثار والمحاماة والعدد الدثر والفعل الجذل، وبين الدهر الذي كانوا فيه بمكة يفتنون ويشتمون ويضربون ويشردون ويجوعون ويعطشون، مقهورين لا حراك بهم وأذلاء لا عز لهم وفقراء لا مال عندهم، ومستخفين لا يمكنهم إظهار دعوتهم، لفرقا واضحا ... ولقد كانوا في حال أحوجت لوطا وهو نبي إلى أن قال:
لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «عجبت من أخي لوط كيف قال:
أو آوي إلى ركن شديد
وهو يأوي إلى الله تعالى!» ... ثم لم يكن ذلك يوما ولا يومين ولا شهرا ولا شهرين ولا عاما ولا عامين، ولكن السنين بعد السنين! وكان أغلظ القوم وأشدهم محنة بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أبو بكر؛ لأنه أقام بمكة ما أقام رسول الله
Bog aan la aqoon
صلى الله عليه وسلم ، ثلاث عشرة سنة، وهو أوسط ما قالوا في مقام النبي
صلى الله عليه وسلم .
فإن احتج محتج لعلي بالمبيت على الفراش، فبين الغار والفراش فرق واضح! لأن الغار وصحبة أبي بكر للنبي
صلى الله عليه وسلم
قد نطق به القرآن فصار كالصلاة والزكاة وغيرهما مما نطق به الكتاب، وأمر علي ونومه في الفراش، وإن كان ثابتا صحيحا، إلا أنه لم يذكر في القرآن، وإنما جاء مجيء الروايات والسير، وهذا لا يوازن هذا ولا يكايله.
وفرق آخر، وهو أنه لو كان مبيت علي على الفراش جاء مجيء كون أبي بكر في الغار، لم يكن له في ذلك كبير طاعة؛ لأن الناقلين نقلوا أنه
صلى الله عليه وسلم
قال له: نم؛ فلن يخلص إليك شيء تكرهه. ولم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في صحبته إياه وكونه معه في الغار مثل ذلك، ولا قال له: أنفق وأعتق؛ فإنك لن تفتقر ولن يصل إليك مكروه!
ومن جحد كون أبي بكر صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
Bog aan la aqoon
فقد كفر؛ لأنه جحد نص الكتاب. ثم انظر إلى قوله تعالى:
إن الله معنا
من الفضيلة لأبي بكر؛ لأنه شريك رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في كون الله تعالى معه! وإنزال السكينة. قال كثير من الناس إنه في الآية مخصوص بأبي بكر؛ لأنه كان محتاجا إلى السكينة لما تداخله من رقة الطبع البشري، والنبي
صلى الله عليه وسلم
كان غير محتاج إليها لأنه يعلم أنه محروس من الله تعالى فلا معنى لنزول السكينة عليه. وهذه فضيلة ثالثة لأبي بكر.
وإن كان المبيت على الفراش فضيلة، فأين هي من فضائل أبي بكر أيام مكة من عتق المعذبين وإنفاق المال وكثرة المستجيبين، مع فرق ما بين الطاعتين؛ لأن طاعة الشاب الغرير والحدث الصغير الذي في عز صاحبه عزه ليست كطاعة الحليم الكبير الذي لا يرجع تسويد صاحبه (إلا) إلى رهطه وعشيرته.
وعلى أنا لو نزلنا إلى ما يريدونه جعلنا الفراش كالغار، وخلصت فضائل أبي بكر في غير ذلك عن معارض.
ثم الذي لقي أبو بكر في مسجده الذي بناه على بابه في بني جمح، فقد كان بنى مسجدا يصلي فيه ويدعو الناس إلى الإسلام، وكان له صوت رقيق ووجه عتيق، وكان إذا قرأ بكى، فيقف عليه المارة من الرجال والنساء والصبيان والعبيد. فلما أوذي في الله ومنع من ذلك المسجد استأذن رسول الله
Bog aan la aqoon
صلى الله عليه وسلم
في الهجرة فأذن له، فأقبل يريد المدينة، (فاعترضه) الكناني فعقد له جوارا وقال: والله لا أدع مثلك يخرج من مكة. فرجع إليها وعاد لصنيعه في المسجد، فمشت قريش إلى جاره الكناني وأجلبوا عليه فقال له: دع المسجد وادخل بيتك واصنع فيه ما بدا لك!
وحين رد أبو بكر جوار الكناني وقال: لا أريد جارا سوى الله! لقي من الأذى والذل والاستخفاف والضرب ما بلغكم. وهذا موجود في جميع السير. وكان آخر ما لقي هو وأهله في أمر الغار وقد طلبته قريش وجعلت فيه مائة بعير كما جعلت في النبي
صلى الله عليه وسلم ، فلقي أبو جهل أسماء بنت أبي بكر فسألها فكتمته، فلطمها حتى رمت قرطا كان في أذنها.
ثم الذي كان من دعائه إلى الإسلام وحسن احتجاجه حتى أسلم على يديه طلحة والزبير وسعد وعثمان وعبد الرحمن؛ لأنه ساعة أسلم دعا إلى الله وإلى رسوله.
وقالت أسماء بنت أبي بكر: ما عرفت أبي إلا وهو يدين بالدين ولقد رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الإسلام، فما رمنا حتى أسلمنا وأسلم أكثر جلسائه. ولذلك قالوا: من أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف. ولم يذهبوا في ذلك إلى العدد بل عنوا الكثيرة في القدر؛ لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى كلهم يصلح للخلافة، وهم أكفاء علي ومنازعوه الرياسة والإمامة، فهؤلاء أكثر من جميع الناس.
ثم أعتق أبو بكر بعد ذلك جماعة من المعذبين في الله، وهم ست رقاب منهم: بلال وعامر بن فهيرة وزبيرة النهدية وابنتها، ومر بجارية يعذبها عمر بن الخطاب فابتاعها منه وأعتقها، وأعتق أبا عيسى، فأنزل الله فيه:
فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى
إلى آخر السورة.
وقد علمتم ما صنع أبو بكر في ماله، وكان ماله أربعين ألف درهم، فأنفقه في نوائب الإسلام وحقوقه. ولم يكن خفيف الظهر قليل العيال والنسل فيكون فاقد جميع اليسارين! بل كان ذا بنين وبنات وزوجة وخدم وحشم، ويعول والديه وما ولدا. ولم يكن النبي
Bog aan la aqoon
صلى الله عليه وسلم
قبل ذلك مشهورا فيخاف العار في ترك مواساته، فكان إنفاقه على الوجه الذي لا نجد في غاية الفضل مثله، ولقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر».
وقد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
ببطن مكة من المشركين، وحسن صنيع كثير منهم كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته! وأبو جهل يومئذ سيد البطحاء ورئيس الكفر وأمنع أهل مكة. ولقد علمتم أن الزبير سل سيفه واستقبل به المشركين لما أرجف أن محمدا قد قتل، وأن عمر بن الخطاب قال حين أسلم: لا يعبد الله سرا بعد اليوم، وأن سعدا ضرب بعض المشركين بلحي جمل فأراق دمه. فكل هذه الفضائل لم يكن لعلي بن أبي طالب فيها ناقة ولا جمل. وقد قال الله تعالى:
لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، فإذا كان الله تعالى قد فضل من أنفق قبل الفتح لأنه لا هجرة بعد الفتح على من أنفق بعد الفتح، فما ظنكم بمن أنفق من قبل الهجرة ومن لدن مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى الهجرة وإلى ما بعد الهجرة؟!
والحجة العظمى للقائلين بتفضيل علي قتله الأقران وخوضه الحروب. وليس له في ذلك كبير فضيلة؛ لأن كثرة القتل والمشي بالسيف إلى الأقران لو كان من أشد المحن وأعظم الفضائل وكان دليلا على الرياسة والتقدم، لوجب أن يكون للزبير وأبي دجانة ومحمد بن مسلمة وابن عفراء والبراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول الله
Bog aan la aqoon
صلى الله عليه وسلم ! لأنه لم يقتل بيده إلا رجلا واحدا، ولم يحضر الحرب يوم بدر ولا خالط الصفوف وإنما كان معتزلا عنهم في العريش ومعه أبو بكر. وأنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الأقران ويجندل الأبطال وفوقه من العسكر من لا يقتل ولا يبارز، وهو الرئيس أو ذو الرأي والمستشار في الحرب؛ لأن للرؤساء من الاكتراث والاهتمام وشغل البال والعناية والتفقد ما ليس لغيرهم؛ ولأن الرئيس هو المخصوص بالمطالبة وعليه مدار الأمور وبه يستبصر المقاتل ويستنصر وباسمه ينهزم العدو، ولو لم يكن له إلا أن الجيش لو ثبت وفر هو لم يغن ثبوت الجيش كله وكانت الدبرة عليه، ولو ضيع القوم جميعا وحفظ هو لانتصر وكانت الدولة له؛ ولهذا لا يضاف النصر والهزيمة إلا إليه. ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر أعظم من جهاد علي ذلك اليوم وقتله أبطال قريش!
على أن مشي الشجاع بالسيف إلى الأقران ليس على ما توهمه من لا يعلم باطن الأمر؛ لأن معه في حال مشيه إلى الأقران بالسيف أمورا أخرى لا يبصرها الناس وإنما يقضون على ظاهر ما يرون من إقدامه وشجاعته، فربما كان سبب ذلك الهوج، وربما كان الغرارة والحداثة، وربما كان الإحراج والحمية، وربما كان لمحبة النفج والأحدوثة، وربما كان طباعا كطباع القاسي والرحيم والسخي والبخيل!
فصاحب النفس المختارة المعتدلة يكون قتاله طاعة وفراره معصية؛ لأن نفسه معتدلة كالميزان في استقامة لسانه وكفتيه، فإذا لم يكن كذلك كان إقدامه طباعا وفراره طباعا.
ووجه آخر، أن عليا لو كان كما يزعم شيعته، ما كان له بقتل الأقران كبير فضل ولا عظيم طاعة؛ لأنه قد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين.» فإذا كان قد وعده بالبقاء بعده فقد وثق بالسلامة من الأقران وعلم أنه منصور عليهم وقاتلهم، فعلى هذا يكون جهاد طلحة والزبير أعظم طاعة منه! ...
ثم قصد الناصرون لعلي والقائلون بتفضيله إلى الأقران الذين قتلهم فأطروهم وغلوا فيهم، وليسوا هناك، فمنهم: عمرو بن عبد ود، زكوه أشجع من عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارس وبسطام بن قيس! وقد سمعنا بأحاديث الفجار وما كان بين قريش ودوس وحلف الفضول، فما سمعنا لعمرو بن عبد ود ذكرا في ذلك!
وقد أكثروا في الوليد بن عتبة بن ربيعة قتيله يوم بدر، وما علمنا الوليد حضر حربا قط قبلها ولا ذكر فيها!
وقد ثبت أبو بكر مع النبي
صلى الله عليه وسلم
Bog aan la aqoon
يوم أحد كما ثبت علي، فلا فخر لأحدهما على صاحبه في ذلك اليوم!
ولأبي بكر في ذلك اليوم مقام مشهود: خرج ابنه عبد الرحمن فارسا مكفرا في الحديد يسأل المبارزة ويقول: أنا عبد الرحمن بن عتيق! فنهض إليه أبو بكر يسعى بسيفه، فقال له النبي: شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك.
على أن أبا بكر وإن لم تكن آثاره في الحرب كآثار غيره، فقد بذل الجهد وفعل ما يستطيعه وتبلغه قوته، وإذا بذل المجهود فلا حال أشرف من حاله.
خلاصة نقض كتاب العثمانية
لأبي جعفر الإسكافي
قال أبو جعفر الإسكافي:
لولا ما غلب على الناس من الجهل وحب التقليد لم نحتج إلى نقد ما احتجت به العثمانية؛ فقد علم الناس كافة أن الدولة والسلطان لأرباب مقالتهم، وعرف كل أحد علو أقدار شيوخهم وعلمائهم وأمرائهم وظهور كلمتهم وقهر سلطانهم وارتفاع التقية عنهم، والكرامة والجائزة لمن روى الأخبار والأحاديث في فضل أبي بكر، وما كان من تأكيد بني أمية لذلك وما ولده المحدثون من الأحاديث طلبا لما في أيديهم، فكانوا لا يألون جهدا في طول ما ملكوا أن يخملوا ذكر علي عليه السلام وولده ويطفئوا نورهم ويكتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم ويحملوا على سبهم ولعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم مع قلة عددهم وكثرة عدوهم فكانوا بين قتيل وأسير وشريد وهارب ومستخف ذليل وخائف مترقب، حتى إن الفقيه والمحدث والقاص والمتكلم ليتقدم إليه ويتوعد بغاية الإيعاد وأشد العقوبة ألا يذكروا شيئا من فضائلهم ولا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم، وحتى بلغ من تقية المحدث أنه إذا ذكر حديثا عن علي عليه السلام كنى عن ذكره فقال: قال رجل من قريش، وفعل رجل من قريش، ولا يذكر عليا ولا يتفوه باسمه.
ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله ووجهوا الحيل والتأويلات نحوها، من خارجي مارق، وناصبي حنق، ونابت مستبهم، وناشئ معاند، ومنافق مكذب، وعثماني حسود يعترض فيها ويطعن، ومعتزلي قد نظر في الكلام وأبصر علم الاختلاف وعرف الشبه ومواضع الطعن وضروب التأويل، قد التمس الحيل في إبطال مناقبه وتأول مشهور فضائله، فمرة يتأولها بما لا يحتمل، ومرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض، ولا يزداد مع ذلك إلا قوة ورفعة ووضوحا واستنارة. وقد علمت أن معاوية ويزيد ومن كان بعدهما من بني مروان أيام ملكهم - وذلك نحو ثمانين سنة - لم يدعوا جهدا في حمل الناس على شتمه ولعنه وإخفاء فضائله وستر مناقبه وسوابقه. روي عن عبد الله بن ظالم
1
أنه قال: لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليا، فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ألا ترون إلى هذا الرجل الظالم يأمر بلعن رجل من أهل الجنة؟! وروي عن عبد الرحمن بن الأخنس أنه كان يقول: شهدت المغيرة بن شعبة خطب، فذكر عليا فنال منه. وعن رباح بن الحارث قال: بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأكبر وعنده ناس إذ جاءه رجل يقال له قيس بن علقمة، فاستقبل المغيرة فسب عليا. وعن علي بن الحسين قال: قال لي مروان: ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم! قلت: فما بالكم تسبونه على المنابر؟ قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك. وعن ابن أبي سيف قال: خطب مروان والحسن جالس، فنال من علي، فقال الحسن: ويلك يا مروان، أهذا الذي تشتم شر الناس؟ قال: لا، ولكنه خير الناس. وقال عمر بن عبد العزيز: كان أبي يخطب فلا يزال مستمرا في خطبته حتى إذا سار إلى ذكر علي وسبه تقطع لسانه واصفر وجهه وتغيرت حاله، فقلت له في ذلك فقال: أوقد فطنت لذلك! إن هؤلاء لو يعلمون من علي ما يعلمه أبوك ما تبعنا منهم رجل. وقام رجل من ولد عثمان إلى هشام بن عبد الملك يوم عرفة فقال: إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب. وعن أشعث بن سوار قال: سب عدي بن أرطأة عليا على المنبر، فبكى الحسن البصري وقال: لقد سب هذا اليوم رجل إنه لأخو رسول الله
Bog aan la aqoon
صلى الله عليه وسلم
في الدنيا والآخرة. وقال إسماعيل بن إبراهيم: كنت أنا وإبراهيم بن يزيد جالسين في الجمعة مما يلي أبواب كندة، فخرج المغيرة فخطب، فحمد الله ثم ذكر ما شاء أن يذكر، ثم وقع في علي، فضرب إبراهيم على فخذي وركبتي ثم قال: أقبل علي فحدثني فإنا لسنا في جمعة، ألا تسمع ما يقول هذا؟
وقال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبير لولده: يا بني، لا تذكر عليا إلا بخير؛ فإن بني أمية لعنوه على منابرهم ثمانين سنة فلم يزده الله بذلك إلا رفعة، إن الدنيا لم تبن شيئا قط إلا رجعت على ما بنت فهدمته، وإن الدين لم يبن شيئا قط وهدمه. وعن أبي بكر بن عبد الله الأصبهاني قال: كان لبني أمية دعي يقال له خالد بن عبد الله
2
لا يزال يشتم عليا، فلما كان يوم جمعة وهو يخطب الناس قال: والله إن كان رسول الله ليستعمله وإنه ليعلم ما هو ولكنه كان ختنه. وقد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه ثم قال: ويحكم! ما قال هذا الخبيث؟ رأيت القبر انصدع ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: كذبت يا عدو الله. وعن السدي قال: بينما أنا بالمدينة عند أحجار الزيت إذ أقبل راكب على بعير فوقف فسب عليا فحف به الناس ينظرون إليه، فبينا هو كذلك إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فقال: اللهم إن كان سب عبدا لك صالحا فأر المسلمين خزيه. فما لبث أن نفر به بعيره فسقط فاندقت عنقه. وعن أبي عبد الله الجدلي قال: دخلت على أم سلمة رحمها الله فقالت لي: أيسب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيكم وأنتم أحياء؟ قلت: وأنى يكون هذا؟ قالت: أليس يسب علي ومن يحبه؟! وعن الزهري قال: قال ابن عباس لمعاوية: ألا تكف عن شتم هذا الرجل؟ قال: ما كنت لأفعل حتى يربو عليه الصغير ويهرم فيه الكبير. فلما ولي عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه، فقال الناس: ترك السنة! قال: وقد روي عن ابن مسعود - إما موقوفا عليه وإما مرفوعا - كيف أنتم إذا شملتكم فتنة يربو عليها الصغير ويهرم فيها الكبير، يجري عليها الناس فيتخذونها سنة، فإذا غير منها شيء قيل: غيرت السنة؟
قال أبو جعفر: وقد تعلمون أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولا أو دينا لهوى فيحملون الناس على ذلك حتى لا يعرفون غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان وترك قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب، وتوعد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بني أمية وطغاة بني مروان بولد علي عليه السلام وشيعته، وإنما كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها لإمساك الآباء عنها وكف المعلمين عن تعليمها، حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله وأبي ما عرفوها ولظنوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان لإلف العادة وطول الجهالة؛ لأنه إذا استولت على الرعية الغلبة وطالت عليهم أيام التسلط وشاعت فيهم المخافة وشملتهم التقية اتفقوا على التخاذل والتساكت، فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم وتنقص في ضمائرهم وتنقض من مرائرهم حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنة التي كانوا يعرفونها. ولقد كان الحجاج ومن ولاه كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بني أمية على إخفاء محاسن علي - عليه السلام - وفضائله وفضائل ولده وشيعته وإسقاط أقدارهم أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله وأبي؛ لأن تلك القراءات لا تكون سببا لزوال ملكهم وفساد أمرهم وانكشاف حالهم، وفي اشتهار فضل علي وولده وإظهار محاسنهم بوارهم وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم، فحرصوا واجتهدوا في إخفاء فضائله، وحملوا الناس على كتمانها وسترها، وأبى الله أن يزيد أمره وأمر ولده إلا استنارة وإشراقا، وحبهم إلا شغفا، وشدة ذكرهم إلا انتشارا وكثرة، وحجتهم إلا وضوحا وقوة، وفضلهم إلا ظهورا، وشأنهم إلا علوا، وأقدارهم إلا إعظاما، حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء، وبإماتتهم ذكرهم أحياء، وما أرادوا به وبهم من الشر تحول خيرا، فانتهى إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدمه السابقون ولا ساواه فيه القاصدون ولا يلحقه الطالبون. ولولا أنها كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة، وكالسنن المحفوظة في الكثرة، لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد؛ إذ كان الأمر كما وصفناه.
Bog aan la aqoon
قال: فأما ما احتج به الجاحظ بإمامة أبي بكر بكونه أول الناس إسلاما، فلو كان هذا احتجاجا صحيحا لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة، وما رأيناه صنع ذلك؛ لأنه أخذ بيد عمر ويد أبي عبيدة بن الجراح وقال للناس: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا منهما من شئتم. ولو كان هذا احتجاجا صحيحا لما قال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها. ولو كان احتجاجا صحيحا لادعى واحد من الناس لأبي بكر الإمامة في عصره أو بعد عصره بكونه سبق إلى الإسلام، وما عرفنا أحدا ادعى له ذلك. على أن جمهور المحدثين لم يذكروا أن أبا بكر أسلم إلا بعد عدة من الرجال منهم علي بن أبي طالب وجعفر أخوه وزيد بن حارثة وأبو ذر الغفاري وعمرو بن عنبسة السلمي وخالد بن سعيد بن العاص وخباب بن الأرت. وإذا تأملنا الروايات الصحيحة والأسانيد القوية الوثيقة وجدناها كلها ناطقة بأن عليا عليه السلام أول من أسلم.
فأما الرواية عن ابن عباس أن أبا بكر أولهم إسلاما، فقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك بأكثر مما رووا وأشهر، فمن ذلك أنه قال: أول من صلى من الرجال علي عليه السلام.
وقال: فرض الله تعالى الاستغفار لعلي عليه السلام في القرآن على كل مسلم بقوله تعالى:
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، فكل من أسلم بعد علي فهو يستغفر لعلي.
وقال: السباق ثلاثة: سبق يوشع بن نون إلى موسى، وسبق صاحب يس إلى عيسى، وسبق علي بن أبي طالب إلى محمد
صلى الله عليه وسلم . فهذا قول ابن عباس في سبق علي إلى الإسلام، وهو أثبت من حديث الشعبي وأشهر. على أنه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لعلي: هذا أول من آمن بي وصدقني وصلى معي.
قال: فأما الأخبار الواردة بسبقه إلى الإسلام المذكورة في الكتب الصحاح والأسانيد الموثوق بها، فمنها ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أول شيء علمته من أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
Bog aan la aqoon
أني قدمت مكة مع عمومة لي وناس من قومي، وكان في أنفسنا شراء عطر فأرشدنا إلى العباس بن عبد المطلب، فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم، فبينا نحن عنده جلوس إذ أقبل رجل من باب الصفا وعليه ثوبان أبيضان وله وفرة إلى أنصاف أذنيه جعدة أشم أقنى أدعج العينين كث اللحية براق الثنايا أبيض تعلوه حمرة كأنه القمر ليلة البدر، وعلى يمينه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه، تقفوهما امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصدوا نحو الحجر فاستلمه واستلمه الغلام ثم استلمته المرأة، ثم طاف بالبيت سبعا والغلام والمرأة يطوفان معه، ثم استقبل الحجر فقام ورفع يديه وكبر، وقام الغلام إلى جانبه وقامت المرأة خلفهما فرفعت يديها وكبرت، فأطال القنوت ثم ركع وركع الغلام والمرأة ثم رفع رأسه فأطال ورفع الغلام والمرأة معه يصنعان مثل ما يصنع. فلما رأينا شيئا ننكره ولا نعرفه بمكة أقبلنا على العباس فقلنا: يا أبا الفضل، إن هذا الدين ما كنا نعرفه فيكم؟ قال: أجل والله. قلنا: فمن هذا؟ قال: هذا ابن أخي، هذا محمد بن عبد الله، وهذا الغلام ابن أخي أيضا، هذا علي بن أبي طالب، وهذه المرأة زوجة محمد، هذه خديجة بنت خويلد، والله ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة.
وعن عفيف بن قيس الكندي قال: كنت في الجاهلية عطارا، فقدمت مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فبينا أنا جالس عنده أنظر إلى الكعبة وقد تحلقت الشمس في السماء أقبل شاب كأن في وجهه القمر حتى رمى ببصره إلى السماء فنظر إلى الشمس ساعة، ثم أقبل حتى دنا من الكعبة فصف قدميه يصلي، فخرج على أثره فتى كأن وجهه صفيحة يمانية
3
فقام عن يمينه، فجاءت امرأة متلففة في ثيابها فقامت خلفهما، فأهوى الشاب راكعا فركعا معه، ثم أهوى إلى الأرض ساجدا فسجدا معه، فقلت للعباس: يا أبا الفضل، أمر عظيم! فقال: أمر والله عظيم! أتدري من هذا الشاب؟ قلت: لا. قال: هذا ابن أخي، هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، أتدري من هذا الفتى؟ قلت: لا. قال: هذا ابن أخي، هذا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، أتدري من المرأة؟ قلت: لا. قال: هذه ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى، هذه خديجة زوج محمد هذا، وإن محمدا هذا يذكر أن إلهه إله السماء والأرض أمره بهذا الدين، فهو عليه كما ترى، ويزعم أنه نبي وقد صدقه على قوله علي ابن عمه هذا الفتى وزوجته خديجة هذه المرأة، والله ما أعلم على وجه الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. قال عفيف: فقلت له: فما تقولون أنتم؟ قال: ننتظر الشيخ ما يصنع - يعني أبا طالب أخاه.
وعن معقل بن يسار قال: كنت أوصل النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال لي: هل لك أن تعود فاطمة؟ قلت: نعم يا رسول الله. فقام يمشي متوكئا (علي) وقال: أما إنه سيحمل ثقلها غيرك ويكون أجرها لك. قال: فوالله لكأنه لم يكن علي من ثقل النبي
صلى الله عليه وسلم
شيء، فدخلنا على فاطمة فقال لها عليه الصلاة والسلام: كيف تجدينك؟ قالت: لقد طال أسفي واشتد حزني، وقال لي النساء: زوجك أبوك فقيرا لا مال له! فقال لها: أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأفضلهم حلما؟ قالت: بلى، رضيت يا رسول الله.
وعن جعفر بن محمد عن آبائه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
Bog aan la aqoon
لما زوج فاطمة دخل النساء عليها فقلن: يا بنت رسول الله، خطبك فلان وفلان فردهم عنك وزوجك فقيرا لا مال له! فلما دخل عليها أبوها رأى ذلك في وجهها، فسألها فذكرت له ذلك، فقال: يا فاطمة، إن الله أمرني فأنكحتك أقدمهم سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما، وما زوجتك إلا بأمر من السماء، أما علمت أنه أخي في الدنيا والآخرة؟!
وعن السدي: أن أبا بكر وعمر خطبا فاطمة فردهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقال: لم أومر بذلك. فخطبها علي فزوجه إياها وقال لها: زوجتك أقدم الأمة إسلاما. وذكر تمام الحديث. قال: وقد روى هذا الخبر جماعة من الصحابة منهم: أسماء بنت عميس، وأم أيمن، وابن عباس، وجابر بن عبد الله.
وعن أبي رافع قال: أتيت أبا ذر بالربذة أودعه، فلما أردت الانصراف قال لي ولأناس معي: ستكون فتنة، فاتقوا الله، وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه، فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول له: أنت أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين، وأنت أخي ووزيري وخير من أترك بعدي تقضي ديني وتنجز موعودي.
وعن عباد بن عبد الله الأسدي قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها غيري إلا كذاب، وقد صليت قبل الناس سبع سنين.
وروت معاذة بنت عبد الله العدوية قالت: سمعت عليا يخطب على منبر البصرة ويقول: أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم.
وروى حبة بن جوين العرني أنه سمع عليا يقول: أنا أول رجل أسلم مع رسول الله
Bog aan la aqoon