قال: «ألم تعرف الذي تعهد بقتل الإمام علي».
قال: «كلا ولكنني علمت من عرض كلامه أنه من مصر ويغلب على ظني أنه من الخوارج».
فصمت الشيخ برهة كأنه يفكر في أمر هام ولحظ سعيد من شخوص عينيه وذبول أجفانه وتغير سحنته أنه تعب. وأما أبو رحاب فتجلد وقال وصوته يرتجف وقد أصبح لا يستطيع التلفظ بكل مقطع من مقاطع الكلام كأن لسانه أصيب بتلعثم قال: «ياليتني كنت بينهم لأقنعهم بالكف عن ذلك ... ولو استطعت استمهال أجلي لسعيت في البحث عنهم فإذا عرفت الساعي في قتل الإمام علي أرجعته عن غيه بالبرهان ... إنهم والله ظالموه» ... ثم سكت هنيهة ريثما يستريح وعاد إلى الكلام وهو يتلجلج ويقف عن الكلام عند كل شهيق من تنفسه. وكان تنفسه قد أسرع وظهر الاضطراب عليه فتحقق سعيد أن جده في حال النزع فارتعدت فرائصه تجشع قلبه وأسف لحاله ولكنه أصغى لتتمة حديثه فإذا هو يقول: «وأما أنت يا سعيد فأصغ لقولي واعمل بنصيحتي ... ولا أقبل منك السكوت عن هذا الأمر ... وإنما أنت.. مكلف بالبحث عنه ... إنك مكلف بالبحث عن هذا ... الرجل في مصر ... والشام ... والعراق حتى تعلم مقره .... فإما أن تقنعه.. بالعدول.. وإما أن تنبئ الإمام بأمره ... إني ... ألقى ... هذا الأمر ... على عاتقك ... فاحذر ... أن تتقاعد عنه. وإلا فاتك ... قاتل عليا بيدك .... هذه وصيتي لك اختفظ بها ولا تتماهل أو تتجاهل ... والله شاهد ... على ما أقول. هذه ... وصيتي الأخيرة بل ... هذه ... آخر كلمة أفوه بها في هذه ... الحياة الدنيا ... وكنت مستغربا استئخار أجلي ... إلى الساعة. وكنت أحسبني ... ميتا منذ أيام ولكن الله ... إنما أراد بذلك ... أن أكل إليك ... بهذا الأمر ... هذه آخر وصيتي لك ... ابحث ... عن هذا الرجل وارجعه ... عن غيه ... كما أرجعتك ولو أوتيت .... عمرا ثانيا لقمت في بني أمية ... وفي الخوارج ... خطيبا أصرح ببراءة ... الإمام علي على رؤوس الأشهاد. ولكن آه ... إن الساعة آتية لاريب ... فيها ... وها إني أستودعك ... الله وآخر ك ... لم ...ة.. أقو ...لها لك.. علي .... علي ... دا ....فع ... عن علي بيدك ... وقلبك ... ولسا ...نك ....»
ولم تخرج هذه الكلمات الأخيرة من فيه حتى اختنق صوته ثم شهق شهقة دوى صوتها في أطراف المنزل وارتخت مفاصله فأفلتت يد سعيد من يده. ونظر سعيد إلى جده فإذا هو قد أغمض جفناه ووقف تنفسه ... فجس يده فإذا هي باردة فلمس جبينه فإذا هو كالثلج وقد فتح فاه وأرسل نفسه الأخير وبطلت حركة الحياة فأصبح تمثالا من تراب. فاقشعر بدن سعيد ولطم يدا بيد وصاح «جداه يا جداه.. وا ويلاه كلمني زودني نصيحة أخرى ...» وما من مجيب فأيقن بوفاته وكان عبد الله قد خرج فعاد ولما رأى أبا رحاب قد مات أخبر أهل المنزل فاجتمعوا وعلا النحيب والبكاء.
ولم يكن الحزن على موت أبي رحاب شديدا لتوقعهم ذلك منذ أيام. ولكن سعيدا كان حزنه مضاعفا لامتزاجه بالهواجس والاضطرابات بما سمعه من جده مع ماهو مقيد به من العهود في الضد من ذلك.
الفصل الثاني والعشرون
رفيق جديد
وبعد الاحتفال بالدفن عاد سعيد إلى صحوه وفكر في حاله فرأى نفسه في مشكلة لا يدري كيف يتخلص منها. وبعد التأمل الطويل رأى المسألة مع إشكالها ليس أسهل من حلها إذا استطاع إقناع قطام ببراءة علي فتتنازل عن الانتقام. فلما فتح عليه بذلك توسم فيه خيرا وأحس بانفراج الأزمة فأعمل فكرته في الأسلوب الذي يستولي به على عواطفها ويغير اعتقادها بالإمام علي حتى تسكت عن الطلب بثأر والدها وأخيها منه. فخيل له عن بعد أن إقناعها ممكن فهدأ روعه نوعا.
وأسرع في تدبير شؤون أهله وكان في حملتهم شاب اسمه عبد الله رباه أبو رحاب كما ربى سعيدا وكان يتعزى به ويحبه وهو الذي أنفذه إلى الكوفة لاستقدام سعيد فلما مات أبو رحاب تقدم عبد الله إلى سعيد أن يأذن له بمصاحبته وبالغ في إلحاحه واستهلك في سبيل مرافقته. فتعجب سعيد لتلك الرغبة في السفر ولم يكن يعهد عبد الله ميالا إلى ذلك.
والسبب في تلك الرغبة أن أبا رحاب كان من الدراية والفراسة بحيث لم يخف عليه ضعف سعيد فأرسل أنفاسه الأخيرة وهو يخاف عليه غدر الناس وخداعهم ولكنه استدرك ذلك قبل موته فأوصى عبد الله هذا أن يكون له عونا فيصحبه حيثما سار فينجده ويرشده وإن يكن هو شابا مثله ولكنه كان أعرف منه بأحوال الدهر وأسوأ طنا في مجريات الأيام .
Bog aan la aqoon