Rahmaan iyo Shaydaan
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Noocyada
أما عن أصل الشيطان ونشأته، فإن الإشارات المقتضبة في الأسفار تنسج على منوال الفكر المنحول. فالشياطين هم ملائكة عصوا وأخطئوا، على ما نفهمه من رسالة بطرس الثانية : «لأنه إن كان الله لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا، بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء، ولم يشفق على العالم القديم ... إلخ» (2 بطرس، 2: 4-5). وفي رسالة يهوذا نقرأ: «والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام» 6. هؤلاء الملائكة الساقطون هم أتباع إبليس الذين تبعوه بعد عصيانه وصاروا ملائكة له بعد أن كانوا ملائكة العلي: «ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده ... ثم يقول للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي لترثوا الملكوت المعد لكم ... ثم يقول أيضا للذين عن اليسار اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته» (متى، 25: 31-41).
هذه هي أهم المعلومات التي يمكن استخلاصها من العهد الجديد عن الشيطان ومملكته ودوره ونهايته، وهي غير كافية من أجل إعادة بناء لاهوت واضح عن هذه الشخصية، رغم كل الأهمية التي أسبغت عليه باعتباره رئيس أو إله هذا العالم، والشخصية الثانية في دراما الخلق والحياة الإنسانية وصيرورة التاريخ. ذلك أن مؤلفي أسفار العهد الجديد كانوا يتوجهون إلى مؤمنين نشئوا في بيئة مطلعة تمام الاطلاع على أسفار التوراة وعلى الأسفار المنحولة، ولديهم فكرة عن لاهوت الشيطان الذي أسست له أدبيات ما بين العهدين. غير أنه مع انتشار المسيحية خارج بيئتها الأولى وبين جماعات ذات خلفيات دينية وثقافية مغايرة ومتباينة، صار لزاما على العقيدة المسيحية أن تتقدم بلاهوت متسق ومتكامل عن الشيطان، وذلك في السياق العام لعقيدة التكوين ومراحل التاريخ ونهاية الزمن. وهذا ما ابتدأت به المسيحية منذ أيام القديس أوغسطين، وساهم به تدريجيا عدد من كبار المفكرين المسيحيين، إلى أن صار للمسيحية معتقدها الناجز والمستقل عن لاهوت التوراة واللاهوت المنحول على حد سواء، رغم انطلاقها من هذين المصدرين. وهذا ما سنخصص له ما تبقى من هذا الفصل. (1-1) السرمدية، أو ما قبل التاريخ «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان» (إنجيل يوحنا، 1: 1-2).
منذ الأزل لم يكن سوى الله. وجود مكتمل قيوم بذاته غير مخلوق، جوهره النور، نور غير مخلوق مختلف عن النور المخلوق الذي ظهر فيما بعد، إنه نور المجد. وكان هذا الوجود بطريقة غامضة وسرية ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة، هم الآب والابن-الكلمة والروح القدس. منذ الأزل كان الابن يصدر عن الآب والروح القدس يصدر عنهما معا، فهم ثالوث مجيد وإله واحد. عندما يتأمل العقل هذه السرمدية السابقة للخليقة، يصعب عليه تكوين صورة صادقة عن الحقيقة الواحدة المثلثة، لأن الابن-الكلمة لم يكن قد تجسد في يسوع، ولم يكن الروح القدس قد هبط على شكل حمامة نارية معلنا بنوة يسوع للآب، ثم تابع حضوره الفعال في توجيه البشرية نحو الخلاص. ولأن الكلمة قبل تجليه على الأرض في لحظة معينة في التاريخ، كان اللوغوس أو صوفيا التي هي حكمة الله والتي بواسطتها سيتم خلق العالم فيما بعد. وكان له شبه إنسان، وعلى هذه الصورة المثلى للإنسان الكامل السماوي سيتم خلق الإنسان الأرضي.
منذ عصور لا بداية لها كان الابن موضع حب الآب ومسرته، وكان الروح القدس بمثابة الحب الذي يغلق الدارة بينهما، دارة حب مكتملة لم ينقصها شيء ولم تكن بحاجة لأن يصدر عنها شيء، لأن أي خلق آخر لن يرقى إلى حالة تمامها واكتمالها وغناها عما عداها. فهي وجود يملأ كل مكان قبل أن يظهر المكان، وتغطي الدهر قبل أن ينطلق الزمان، غير أن دارة الحب الإلهي قد فاضت حتى جاء وقت أراد الله فيه، بحرية مطلقة ودونما سبب ملزم، أن يخلق ما سواه ، فكان أول ما صدر عنه، وبأمر من كلمته الخالقة، عالم من الأرواح الصرفة هم الملائكة. (1-2) الزمن الكوزموغوني
أول خلق الله
كان الملائكة أول ما خلق الله، وقد صدروا عن مركز النور الأسمى، وتوضعوا في تسعة أفلاك نورانية تحيط بالمركز، وفي كل فلك طبقة مراتبية كان أقربها إلى الله طبقة الكروبيم، يليها السيرافيم، فحملة العرش ، فالسيادات، فالسلاطين، فالقوى، فالأمراء، فالرؤساء، فجمع الملائكة. وجميعهم أرواح لا أبدان لها ومن جوهر النار، خالدون منذ لحظة الميلاد، ينعمون بمجد الله ويسبحونه منذ أن استيقظ وعيهم على مرأى النور العظيم. فأما الكروبيم فهم أرواح المعرفة، لهم رأس فقط عليه جناحان، وهي صورة مناسبة لتلك الأرواح المشغولة على الدوام بمعرفة الله. وأما السيرافيم، فهم أرواح الحب، لهم جسد وستة أجنحة، اثنان على الرأس واثنان على الجذع واثنان على القدمين، وهذه الصورة مستمدة من رؤيا إشعيا: «ورأيت السيد جالسا على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل. السيرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة، باثنين يغطي وجهه وباثنين يغطي رجليه وباثنين يطير» 6: 1-2. وأما حملة العرش فهم عجلات عرش الرب، لهم أربعة أجنحة وأربعة وجوه، والصورة هنا مستمدة من رؤيا حزقيال: «فنظرت وإذا بريح عاصفة جاءت من الشمال، سحابة عظيمة ونار متوالية ... ومن وسطها شبه أربعة حيوانات لها شبه إنسان، ولكل واحد أربعة وجوه، ولكل واحد أربعة أجنحة، وأرجلها أرجل قائمة وأقدام أرجلها كقدم العجل، وبارقة كالنحاس المصقول، وأيدي إنسان تحت أجنحتها على جوانبها الأربعة» 1: 4-8.
المراتب الثلاث التي تلي هذه، وهي السيادات والسلاطين والقوى، تتوسط بين المراتب الثلاث الأولى القريبة إلى الخالق والمراتب الثلاث الأخيرة الموكلة بشئون العالم. وبينما لا يتوفر لدينا الكثير من المعلومات حول هذه الفئة الوسيطة، فإن المعلومات غزيرة نسبيا حول الفئة الدنيا وهي الأمراء والرؤساء وجمع الملائكة، وجميعها تشكل حلقة الوصل العملية بين الله والعالم. فالأمراء هم الأبعد عن الشئون التفصيلية وموكلون بحفظ النظام الكوني والطبيعاني وإدارة المجالات العليا منه. وأما الرؤساء فهم القيمون على شئون الشريحة الدنيا من الملائكة، والأقرب إلى الأرض والناس، ولهم شكل محاربين متزودين بحربات وسيوف وفئوس، إضافة إلى عدد من أدوات الحرف والفنون. فهم الموكلون بتصريف شئون العالم اليومية وحفظ الحياة والمجتمع الإنساني، ومرتبة هؤلاء الرؤساء هي الأكثر ظهورا وحضورا في أسفار العهد الجديد التي تذكر أربعة من أسمائهم؛ وهم: ميخائيل ورفائيل وأوريئيل وجبرائيل، رغم وجود عدد آخر من هؤلاء الرؤساء لا نعرفهم بالاسم . وكل منهم يرأس شريحة من فئة الملائكة التي تعد بآلاف الآلاف، ولكن الملاك ميخائيل هو رئيس جمع الملائكة طرا، أو الطبقة الأوسع منها والأكثر فعالية وتدخلا في شئون الناس. وإلى جانب ذلك فميخائيل هو رسول قضاء الله وأحكامه، وله مهمات حاسمة في يوم الدينونة، فهو الذي سيقهر الشيطان ثم يقيده ويرميه في هاوية الجحيم، وهو الذي يمسك بيده ميزان الحساب الأخير. أما جبرائيل فرسول الرحمة الإلهية والبشارة الطيبة، وهو الذي حمل بشارة الحبل المقدس إلى مريم العذراء. ورفائيل هو ملاك الصحة وحامل الشفاء للمرضى. وأوريئيل هو نار الله ورسول النبوءات ومفسر مشيئة الله في عقول المختارين من أنبيائه وملهميه. ولقد من الله على كل فرد من أفراد البشر بملاك حارس من ملائكة الفئة الواسعة الدنيا، مخصص لحراسته وحمايته من قوى الشر والظلام، وذلك منذ يوم مولده، وهو يمده بحكمة وحب الآب الأعلى، كما يحمل إلى السماء صلواته.
إن الأجنحة التي يحملها الملائكة بفئاتهم وطبقاتهم جميعها، هي رمز لطبيعتهم العلوية الروحانية، ودلالة على مقدرتهم على الانتقال بشكل آني من مكان إلى آخر لأداء المهام. فالملاك ينتقل إلى حيث يفكر في الانتقال دون فاصل زمني، ولذا يمكن لعدد غير محدد من الملائكة الوقوف على رأس دبوس طالما أن الجميع يفكر برأس الدبوس، فهم ينتقلون بسرعة الفكر ويقطعون الكون من أقصاه إلى أقصاه، وفيما بين السماء والأرض دون زمن.
تمرد في السماء
لقد جاء خلق الله هذا كاملا، وكأفضل ما يكون الكمال الذي يلي كمال الله نفسه، ثم إن الله لم يضن على الملائكة بإحدى خصائصه العليا، ألا وهي الحرية. والحرية تعني الاستقلال والتسيير الذاتي دونما جبر أو إكراه ، لأنه بدون الحرية لن يكون للملائكة القدرة على الحب الذي لا يمكن منحه إلا عن رغبة وطواعية، والحب هو جوهر وجود الله، وينبغي أن يكون أيضا جوهر وجود خلقه الكامل. ولكن الحرية ليست بدون محاذير، لأن من هو حر في أن يحب، حر أيضا في أن يكره، وما إن تمنح الحرية لا يمكن التحكم في كيفية استخدامها إلا بإلغائها. ولقد عرف الله محاذير هبته للملائكة، وعرف أيضا أن هبة الحرية سوف يساء استخدامها إلى أبعد حد ممكن، ومع ذلك فقد قبل المخاطرة، لأن ما كان يخطط له من خلق عظيم يجعل من مثل هذه المخاطرة أمرا مسوغا.
Bog aan la aqoon