Rahmaan iyo Shaydaan
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Noocyada
بعد انتهاء أهورا مزدا من صنع الكون، قام أنجرا ماينو لفوره بالانقضاض عليه، لأن حالة الوجود المتحقق جيتنغ أكثر عرضة للتخريب والبعثرة والإفساد من الحالة غير المتحققة مينوغ. اقتحم أنجرا ماينو الجزء الأسفل من قبة السماء فشوهها، ثم انتصب مثل الحية وقفز نحو تجمعات النجوم فشتتها وأحل الاضطراب في نظام السماء، ثم غطس في البحر فأفسد ماءه بالملح، وتوجه نحو الينابيع فجففها، وإلى السهول الخضراء فأذبل مزروعاتها، ونشر فيها الصحارى، وبث فيها الأفاعي والعقارب وكل دابة مؤذية، وانقض على النار فلوثها بالدخان وعلى الإنسان الأول فذبحه، وهكذا زرع الشيطان الموت والفساد في خلق الله. ورغم أن الأميشا سبينتا قد تصدت للهجوم وباشرت بإصلاح ما خربه الشيطان، إلا أن العالم لن يعود إلى سابق عهده من النقاء والطيبة لأن الفساد قد عشعش فيه. لقد أخذ الأميشا سبينتا نبات الأرض اليابس فطحنوه ثم نثروه فحملته الرياح إلى الجهات الأربع، ثم دفع الأميشا الرياح فحملت الغيوم وأنزلت المطر، فنبتت من بذور الزرع اليابس حياة جديدة، ثم أخذوا بذور الإنسان الأول القتيل فطهروها بضوء الشمس وزرعوها في التربة، فخرجت منها نبتة انطوت أوراقها على الزوجين البشريين الأولين ماشيا وماشيو، وعندما افترقت عنهما الأوراق كانا ملتصقين في وضعية العناق لا يتبين منهما الذكر من الأنثى، فنفخ فيهما الله روحا فانتصبا أمامه بشرا سويا، وقال لهما : أنتما الإنسان، وأنتما سلف العالم، خلقتما كاملين، فحافظا على الفكر الحسن والكلمة الحسنة والعمل الحسن، ولا تخضعا للشيطان، ثم جاء الملائكة وعلموهما إشعال النار واستخدامها وألبسوهما ثيابا من جلد، كما علموهما استخراج المعادن وصنع السكاكين والأدوات، وغير ذلك من التقنيات اللازمة لحياة الإنسان.
بعد ذلك التفت الأميشا سبينتا إلى بقية مظاهر الطبيعة التي زرعت فيها سموم الشر لترميمها، ولكن أنجرا ماينو لم يترك لهم فرصة لإتمام عملهم على أحسنه، فراح يهاجم العالم بكل قواه بمعونة بقية جند الظلام، فجلبوا الأمراض والآلام على الكائنات الحية وصنعوا كل نقيصة مادية، ثم دخلوا في عقل ماشيا وماشيو فزرعوا بذور كل نقيصة أخلاقية. تصدى لهم الأميشا وجندهم، واستمر الصراع بين الفريقين بلا هوادة وبلا توقف، وهذا الصراع لن يكون له نتائج إيجابية إلا بعون الإنسان الذي يتوجب عليه أن يعي مسئولياته الخلقية في هذه الحياة، ويدعم قوى الخير بفكره وقوله وفعله، وبدون عون الإنسان لن يتم حسم هذا الصراع الكوني ودفع التاريخ إلى مرحلته الأخيرة، عندما يتم تنقية الوجود المادي والروحاني مما داخلهما من خبث. (3-3) مراحل التاريخ وظهور المخلص
لقد عرف أهورا مزدا، الذي يطال علمه البدايات والنهايات، أن آخرة الشر قادمة لا ريب فيها، فوضع خطة للقضاء عليه تتدرج على ثلاث مراحل، يؤشر كل منها لطور من أطوار الزمن. فلقد خلق أهورا مزدا العالم في أكمل وأطيب صورة ممكنة، واستمر على هذه الحالة ردحا من الزمن كان الشيطان خلالها نائما، وهذه هي المرحلة الأولى، مرحلة الخلق الكامل. في المرحلة الثانية يهاجم الشيطان خلق الله ويبث فيه سمومه فيختلط الخير بالشر، وهذه هي مرحلة الامتزاج. في المرحلة الثالثة تبدأ عملية الفصل بين الخير والشر، والتي تنتهي بدحر الشيطان ورهطه ليعود الكون كاملا وطيبا إلى الأبد، ويأتي التاريخ إلى نهايته ليعقبه زمن سرمدي لا تتناوبه التناقضات والمتعارضات، وينتفي منه المرض والألم والحزن والموت . ولقد ابتدأت المرحلة الثالثة بميلاد زرادشت وتأتي إلى خاتمتها بميلاد المخلص المدعو ساوشنياط «أو شوشانز»، وهو الذي يقود المعركة الأخيرة الفاصلة بين قوى النور وقوى الظلام. سوف يولد المخلص من عذراء تحمل به عندما تنزل للاستحمام في بحيرة كانا سافا، فتتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظها الملائكة هناك إلى اليوم الموعود، وبذلك تفتتح فترة التاريخ الأخير بزرادشت وتختتم بمخلص أو مهدي من نسله تحمله أمه بشكل إعجازي، ورغم المعجزة الإلهية التي قادت إلى ولادة هذا المهدي، فإنه يبقى إنسانا مولودا من أبوين بشريين، لأن خلاص العالم في النهاية هو مسئولية الإنسان ويقوده ابن الإنسان الذي سيعلن عن نفسه في الوقت المناسب، فيلقي الرعب في قلوب جند الظلام ويطاردهم في كل مكان ويمحو عن الأرض أثرهم.
تعود فكرة المخلص إلى أناشيد زرادشت القديمة. فلقد بشر بقرب انتهاء مرحلة التمازج، وحلول مرحلة الفصل الأخيرة، وقرن ذلك بقدوم المخلص، وألمح في أكثر من موضع في مجموعة الغاثا إلى أنه سيأتي من بعده ليحل الحق ويدحر البهتان، ودخلت هذه الفكرة في صلب العقيدة الزرادشتية منذ بداياتها، ولكن الفكرة قد أخذت أشكالا جديدة خلال الفترات اللاحقة. ففي العصر الأخميني قال اللاهوتيون بظهور ثلاثة مخلصين، وذلك في نهاية كل ألفية من الألفيات الأخيرة من عمر الزمن الأرضي. في نهاية الألفية الأولى يظهر المخلص المدعو أوخشتاتريتا، وفي نهاية الألفية الثانية يظهر المدعو أو خشياتنيما، وفي نهاية الألفية الثالثة يظهر المخلص ساوشنياط نسل زرادشت من عذراء البحيرة، ولكن هذه التصورات اللاهوتية اللاحقة لم تتأصل في صميم المعتقد الشعبي، وبقي الناس مثبتين قلوبهم على المخلص الأخير منتظرين ظهوره. (3-4) التصورات الآخروية
يرتبط معتقد نهاية التاريخ ارتباطا وثيقا بمعتقد البعث والحساب والحياة الثانية، فبعد أن دخل الموت في نسيج الحياة خلال فترة التمازج بين الخير والشر، صار الموت نصيب كل كائن حي، وبوابة عبور من حالة الجيتنغ المادية إلى حالة المينوغ الروحانية الهلامية القاصرة. فالأرواح بعد مغادرة الأجساد عقب الموت، تبقى في برزخ المينوغ تنتظر يوم القيامة بشوق وترقب لكي تلتقي بأجسادها التي تبعث من التراب. يحدثنا زرادشت في أناشيد الغاثا عن مصير الروح بعد الموت وأحوالها إلى زمن البعث والنشور. فبعد مفارقتها للجسد تمثل الروح أمام ميترا قاضي العالم الآخر (وهو رئيس فريق الأهورا الذين يشكلون مع الأميشا سبينتا الرهط السماوي المقدس) الذي يحاسبها على ما قدمته في الحياة الدنيا من أجل خير البشرية وخير العالم، ويقف إلى يمين ويسار ميترا مساعداه سرواشا وراشنو اللذان يقومان بوزن أعمال الميت بميزان الحساب، فيضعان حسناته في إحدى الكفتين وسيئاته في الأخرى. وهنا لا تشفع للمرء قرابينه وطقوسه وعباداته الشكلانية، بل أفكاره وأقواله وأفعاله الطيبة، فمن رجحت كفة خيره كان مآله الفردوس، ومن رجحت كفة شره كان مثواه هاوية الجحيم. بعد ذلك تتجه الروح لتعبر صراط المصير، وهو عبارة عن جسر يتسع أمام الروح الطيبة فتسير الهوينى فوقه إلى الجهة الأخرى نحو بوابة الفردوس، ولكنه يضيق أمام الروح الخبيثة فتتعثر وتسقط لتتلقفها نار جهنم، وهناك أنجرا ماينو نفسه يسوم المذنبين سوء العذاب. أما من تساوت سيئاته وحسناته فيعبر الصراط إلى مكان وسط بين النعيم والجحيم، حيث يستمر في وجود باهت كظل شبحي بلا إحساس.
هذا وتقدم شروحات اللاهوتيين الزرادشتيين مزيدا من التفاصيل حول هذه القيامة الفردية. فبعد أن يودع الميت مثواه الأخير، تمكث روحه عند رأسه ثلاث ليال تتأمل في حسناتها وسيئاتها، وخلال ذلك يزورها ملائكة الرحمة إن كانت من الصالحين فيواسونها، أو شياطين العذاب إن كانت من الكافرين، فيسومونها سوء العذاب. وفي اليوم الرابع تساق الروح إلى جلسة الحساب، وبعد اجتياز الميزان الذي يقرر مكانها تتجه إلى الصراط، وهو عبارة عن جسر يشبه السيف، فإذا كان العابر روحا خبيثة فإن السيف يستدير بطرفه الحاد نحو الأعلى، فتخطو الروح عليه ثلاث خطوات هي الفكر السيئ والقول السيئ والعمل السيئ، وعندما تحاول الخطوة الرابعة تنزلق إلى مهاوي جهنم. أما إذا كان العابر روحا طيبة فإن السيف يستدير بطرفه العريض لتعبره الروح إلى الطرف الآخر بسلام. وفي رواية أخرى، نجد أن الصالح بعد خطوته الأولى على الصراط تهب عليه روائح عطرة آتية من الجنة، وعند منتصف الصراط تظهر له فتاة في ريعان الصبا لم تقع العين في الحياة الدنيا على أجمل منها. فيسألها: من أنت؟ فتقول: أنا عملك الطيب، ثم تأخذ بيده إلى الجنة، وأما الإنسان الطالح فبعد خطوته الأولى على الصراط تهب عليه ريح نتنة من أعماق الجحيم، وعند منتصف الصراط تظهر له عجوز شمطاء نتنة لم تقع العين على أقبح منها. فيسألها: من أنت؟ فتقول: أنا عملك السيئ، ثم تقبل عليه وتعانقه فيهويان معا إلى الجحيم.
يتألف الجحيم من عدة طبقات يقع أسفلها في مركز الأرض، حيث يتكاثف الظلام حتى يمكن إمساكه باليد، وحيث يتصاعد نتن لا تطيقه نفس بشرية أو شيطانية، فتستقبل كل طبقة أهلها حسب فداحة ذنوبهم، وتقدم لهم من صنوف العذاب ما يوازيها. أما السماء فتتصاعد على ثلاث درجات تقابل الفكر الحسن والقول الحسن والعمل الحسن. فالدرجة الأولى عند خط النجوم، والثانية عند خط القمر، والثالثة عند خط الشمس. فتصعد الروح هذه الدرجات تباعا وصولا إلى السماء العليا غارو-ديمانا، أو مسكن الغناء، وهناك تقيم في بركة وسلام إلى يوم الحساب الأخير.
مع ظهور المخلص ساوشنياط، تحل الأيام الأخيرة وتقترب الساعة. يوم تلفظ الأرض ما اتخمت به من عظام الموتى خلال مراحل التاريخ الثلاثة، ويفرغ الجحيم والفردوس من سكانهما ليعودوا إلى الحشر العظيم. هناك يلتقي من مات منذ آلاف السنين بمن بقي حيا إلى يوم الدينونة، ليأتي الجميع إلى الحساب الأخير. في ذلك اليوم، يسلط الملائكة نارا على الأرض تذيب معادن الجبال وتشكل نهرا من السائل الناري ما من أحد إلا وارده. فأما الأخيار فيعبرونه كمن يخوض في نهر حليب دافئ، وأما الأشرار فينجرفون في التيار الذي يفتيهم ويمحو عن الأرض أثرهم بعد عذاب أليم، ويكون جند الظلام قد اندحروا في المعركة الفاصلة مع جند النور، واستؤصلت شأفتهم، فيغوص نهر النار إلى أعماق الجحيم حيث لجأ أنجرا ماينو ومن بقي معه، فيلتهمهم جميعا ويتم التخلص من آخر بقايا الشر . كما أن الجحيم نفسه يتطهر مثلما تطهرت بقية أجزاء الكون، ويغدو إقليما من أقاليم الأرض الزاهرة، عند ذلك يعيش الذين عبروا نهر النار سالمين في أرض جديدة وتحت سماء، هي الأرض نفسها، والسماء نفسها وقد تطهرتا وصارتا نقيتين إلى الأبد، ثم يقوم أهورا مزدا بإسقاء هؤلاء الأخيار شراب الخلود الذي يجعل أرواحهم وأجسادهم في اتحاد أبدي، ويغدون خالدين في جنة وسعها السماوات والأرض كل بقعة فيها ربيع أخضر دائم، وتحتوي على كل شجر وثمر وزهر. (3-5) الأخلاق والعبادات
الواجب الخلقي
يقف الإنسان على قدم المساواة مع الأميشا سبينتا وبقية الكائنات القدسية في مسئوليته عن مكافحة الشر في العالم، وعليه بالدرجة الأولى أن يعنى بأخيه الإنسان وببقية مخلوقات الأرض، لأنهم جميعا صنعة الله الواحد. كما عليه أن يرعى جسده وروحه معا، وتتحقق رعاية الجسد من اتباع الفرد لقواعد النظافة والصحة العامة، والاعتدال في الأكل والمشرب وتجنب الإفراط في كل شيء. أما رعاية الروح فتتحقق من اتباع النظام الأخلاقي السليم الذي اختطه النبي، والذي رغم تشعبه يتلخص في ثلاثة عناصر، هي: الفكر الحسن، فلا يتداول الفرد في عقله إلا الأفكار الطيبة ويبعد عنه الأفكار الخبيثة. والقول الحسن، فلا يصدر عنه سوى الكلام الطيب. والعمل الحسن، الذي يفيد به نفسه وعائلته ومجتمعه، ولا يبادر إلى ما فيه أذية مخلوق قط. فالإنسان هو أنبل خلق الله، وعليه أن يستخدم ما وهبه الله من وعي وذكاء لأجل الارتقاء بالعالم نحو المستوى الماجد والجليل الذي ينتظره في آخر الزمان. كما أن الخلاص الذي يسعى إليه الإنسان ليس فقط خلاصا فرديا من ربقة المواد إلى دار الخلود، ولا حتى خلاصا جمعيا للإنسانية طرا، بل هو خلاص للعالم بأسره، لأن الإنسانية تتخذ مكان المركز في خلق الله، وعليها وحدها تقع مسئولية تحرير هذا الخلق بكامله من سلطة الشيطان.
Bog aan la aqoon