مقدمة
سلام الترجمان
ابن وهب القرشي
سليمان السيرافي
ابن فضلان
أبو دلف
جغرافيو القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة (9-10م)
قصة الفتية المغررين
محمد بن قو سلطان مالي
البيروني
ناصر خسرو
الإدريسي
السمعاني
ابن جبير
الهروي السائح
أسامة بن منقذ
ياقوت الحموي
عبد اللطيف البغدادي
ابن سعيد وابن فاطمة
القزويني
العبدري
البلوي
ابن بطوطة
عبد الباسط بن خليل بن شاهين الظاهري
الخاتمة
مراجع
مقدمة
سلام الترجمان
ابن وهب القرشي
سليمان السيرافي
ابن فضلان
أبو دلف
جغرافيو القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة (9-10م)
قصة الفتية المغررين
محمد بن قو سلطان مالي
البيروني
ناصر خسرو
الإدريسي
السمعاني
ابن جبير
الهروي السائح
أسامة بن منقذ
ياقوت الحموي
عبد اللطيف البغدادي
ابن سعيد وابن فاطمة
القزويني
العبدري
البلوي
ابن بطوطة
عبد الباسط بن خليل بن شاهين الظاهري
الخاتمة
مراجع
الرحالة المسلمون في العصور الوسطى
الرحالة المسلمون في العصور الوسطى
تأليف
زكي محمد حسن
فنحن الناس كل النا
س في البر وفي البحر
أخذنا جزية الخلق
من الصين إلى مصر
إلى طنجة، بل في ك
ل أرض خيلنا تسري
إذا ضاق بنا قطر
نزل عنه إلى قطر
لنا الدنيا بما فيها
من الإسلام والكفر
فنصطاف على الثلج
ونشتو بلد التمر
أبو دلف مسعد بن المهلهل
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
لما بدأ القرن الثامن الميلادي كان العرب قد امتدت فتوحاتهم وأصبح لهم ملك واسع الأرجاء. وفي بداءة هذا القرن فتحوا بلاد ما وراء النهر وبلاد الأندلس؛ فانبسطت إمبراطوريتهم من حدود الهند شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن آسيا الوسطى وجبال القوقاز شمالا إلى صحاري إفريقية جنوبا.
وكان لاختلاط العرب بالشعوب الأخرى أثر كبير في نشأة المدينة الإسلامية وتطورها، فملك العرب ناصية العلم والمعرفة، وحفظوا لأوروبا تراث اليونان، وتقدمت على يدهم العلوم المختلفة.
وأتيح للمسلمين في العصور الوسطى أن يحوزوا قصب السبق في ميدان الرحلات والاكتشافات والدراسات الجغرافية. وأفادت أوروبا مما كان عند المسلمين من علم بأجزاء العالم المعروفة في القرون الوسطى.
والحق أن ازدهار الحضارة الإسلامية ، وسيادة المسلمين في البر والبحر، وطبيعة الدين الإسلامي، كل ذلك كان من شأنه أن يشجع على الأسفار والرحلات. •••
فالجزء الأكبر من العالم المعروف في فجر الإسلام كانت تزدهر فيه مدنية الإسلام وتدير دفته حكومة إسلامية. ثم فقدت الإمبراطورية الإسلامية وحدتها السياسية منذ منتصف القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، ولكن روابط الدين واللغة والثقافة ظلت تجمع بين سكان الدول الإسلامية، فكانوا يشعرون بأنهم أبناء إمبراطورية إسلامية بعيدة الأطراف. وقد كانت تلك الروابط قوية في العصور الوسطى. ولم تكن القوميات الإقليمية قد عظم شأنها بعد. وكانت أنحاء هذا الملك الواسع الذي أسسه المسلمون تتطلب الدراسة والوصف، تمهيدا لتطبيق أحكام الشريعة، وتسهيلا لمهمة الولاة. فسافر القوم، لدراسة البلاد وطرقها وحاصلاتها وخراجها وما إلى ذلك، مما لا بد منه للتأليف في علم تقويم البلدان. وطبيعي أن تكون الرحلات والأسفار من أول السبل لطلب العلم في تلك العصور؛ فقد كانت الكتب نادرة، وكانت الدراسة العملية تقوم مقام ما نصنعه اليوم من تتبع المراجع والمؤلفات، التي تزدحم بها خزانات الكتب الخاصة والعامة. وفضلا عن ذلك فقد تعددت مراكز الثقافة في ديار الإسلام، وكان رجال العلم ينتقلون في طلبه من إقليم إلى آخر، يدرسون على مشاهير الأساتذة ويلقون أعلام الفقهاء والمحدثين واللغويين ثم الأطباء والفلاسفة والرياضيين. •••
وكذلك كان الحج من أعظم بواعث الرحلات، فإن ألوف المسلمين يتجهون كل عام من شتى أنحاء العالم الإسلامي إلى الحجاز، لتأدية فريضة الحج وزيارة قبر النبي. وكان الحجاج عند عودتهم إلى بلادهم يخبرون عن الطرق التي سلكوها والأحداث التي صادفوها. وقد كان النابهون منهم يدونون مشاهداتهم، ويعملون على أن ينفعوا المؤمنين بتجاربهم؛ فيصفون رحلاتهم، تسجيلا لفضلهم، وهداية لغيرهم، ولفتا لنظر أولي الأمر إلى ما يجب إصلاحه، كما كان أهل الخير والتقوى في شتى البلاد الإسلامية يرحبون بإخوانهم المسلمين الميممين شطر الأراضي المقدسة، ويعنون بإقامة الرباطات وحبس الأوقاف للإنفاق في سبيل راحتهم. •••
واتسع نطاق التجارة عند المسلمين اتساعا لم يبلغه عند شعب آخر قبل كشف أمريكا؛ فانتشرت قوافل التجار المسلمين في القسم الأعظم من العالم المعروف في ذلك العهد، وخاضت سفنهم عباب البحار والمحيطات، وازدهرت على أيديهم الطرق التجارية بين بحار الصين وآسيا الوسطى وسواحل بحر البلطيق والأندلس وشواطئ المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط وساحل أفريقيا الشرقي وجزر المحيط الهندي وصحاري السودان. وكان التجار يحملون السلع بين الأسواق المختلفة في العالم الممدن حينئذ، ويقومون بالرحلات الطويلة في هذا السبيل. وحسبنا أن نشير إلى الكنوز الوافرة من النقود الإسلامية التي عثر عليها في الروسيا وفنلندة والسويد والنرويج، بل في سويسرا وجزيرة أيسلندة والجزائر البريطانية. وترجع قطع العملة المذكورة إلى الفترة الواقعة بين نهاية القرن الأول وبداية الخامس بعد الهجرة (السابع وبداية الحادي عشر الميلادي). ولسنا نجزم بأن كثيرا من التجار المسلمين أنفسهم وصلوا إلى أيسلندة أو النرويج أو الجزر البريطانية، ولكن كتب الرحلات وتقويم البلدان عندهم تشير إلى ترددهم على جنوبي الروسيا، وإلى وصولهم أوروبا الوسطى. ويشهد ذلك كله بما كان للمسلمين من سيادة تجارية في تلك البقاع.
وقد كتب المقدسي بيانا بالسلع التي كان المسلمون يحصلون عليها من جنوبي الروسيا والبلاد الأوروبية الشمالية، وقوامها أنواع الفراء والجلود والشمع والنشاب والقلانس والغرا والعسل والسيوف والدروع والأغنام والبقر، كل ذلك فضلا عن الرقيق من الصقالبة. والمعروف أن المسلمين استعملوا لفظ «الصقالبة» بمعنى أوسع، فكان لا يشمل عندهم السلافيين حسب، بل امتد إلى الجرمان وسائر سكان أوروبا. أما أهم ما كان يحمله التجار المسلمون إلى تلك الأقاليم فالمنسوجات بأنواعها وبعض التحف المعدنية ثم الفاكهة. وسوف نرى عند الكلام على الرحالة أنفسهم عظم تجارة المسلمين في شرقي أفريقيا ووسطها وإقليم غانة وفي بحار الصين وجزر الهند الشرقية. وحسبنا ما ذكره ابن جبير وابن بطوطة من أن التجار في عدن كانت لهم ثروات طائلة، وكان بعضهم يملك المراكب العظيمة لنقل سلعهم. أما التجارة بين الشرق الأدنى والأمم المسيحية في البحر الأبيض المتوسط، فقد كان معظمها في يد اليهود،
1
ولكن الرحالة والتجار المسلمين كانوا يزورون القسطنطينية والمدن التجارية في شبه جزيرة إيطاليا، وكان للمنسوجات الشرقية والسجاد سوق رائجة في أوروبا .
ومن الطريف أن بعض المسلمين كانوا يجمعون بين التجارة وطلب العلم، من ذلك أن أحد رفقاء المقدسي في السفينة إلى عدن صارحه بأنه يخشى عليه إذا دخل هذا الثغر «فسمع أن رجلا ذهب بألف درهم فرجع بألف دينار وآخر دخل بمائة فرجع بخمسمائة، طلبت نفسه التكاثر»، وانصرف عن جمع العلوم إلى التجارة. فدعا المقدسي أن يعصمه الله، ولكنه لما دخل عدن وسمع عن إثراء التجار أكثر مما قال رفيقه في السفينة، غره ذلك وعقد العزم على السفر بتجارة إلى ساحل إفريقية الشرقي، واشترى مع شريك له ما يلزم للتجارة مع تلك الأقاليم، ولم يثنه عن هذا العزم ويبقه لطلب العلم إلا موت هذا الشريك. وسيمر بنا في الصفحات التالية أن ياقوت صاحب «معجم البلدان» كان ممن رحلوا للتجارة وطلب العلم. •••
وكان بعض أمراء المسلمين يوفدون الرسل والسفراء إلى غيرهم من أمراء المسلمين، فدعا ذلك أحيانا إلى القيام برحلات طريفة إلى أصقاع لا يألفها المسلمون. من ذلك رحلة ابن فضلان إلى جنوبي الروسيا. ومن ذلك أيضا السفارة الأندلسية نحو سنة (362ه/973م) إلى أوتو الأكبر إمبراطور الجرمان. والمحتمل أن بعض أعضاء تلك السفارة كانوا مصدر ما كتبه القزويني عن بعض البلاد الألمانية.
وطبيعي أن كثيرين من المسلمين كانوا يرحلون سعيا في طلب الرزق. وحسبنا أن نشير إلى الخياط البغدادي الذي قابله الرحالة ابن فضلان في إقليم الفولجا. ثم كان أعلام الفنانين ومهرة الصناع ينتقلون من إقليم إلى آخر لينتفع الأمراء بجهودهم؛ أو كانوا يؤمرون بالسفر إلى بعض الأطراف النائبة، للاشتراك في المنشآت الجديدة، أو المساهمة في تجديد بناء أو زخرفة عمارة أو إنتاج التحف الفنية النفيسة.
ولسنا ننسى في هذه المناسبة أن إكرام الضيف عند الشرقيين، وبساطة العيش في القرون الوسطى، وحث الإسلام على السفر بتخفيف بعض الواجبات الدينية على المسافرين، كل ذلك سهل الرحلات وشجع على القيام بها. •••
ومن المحتمل أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام كانت تخفف بعض متاعب الأسفار، ولا تجعل الرحالة المسلمين محل شكوك أو مصدر متاعب اجتماعية. فكان بعضهم يتزوج في البلاد التي ينزل فيها فترة من الزمن. ومن الطريف في هذا الصدد أن الرحالة ابن بطوطة تزوج في مصر مرتين على الأقل، وكانت له في جزائر الملديف أربع زوجات. وقد كتب عن هذه الجزائر: «والتزوج بهذه الجزائر سهل، لندارة الصداق، وحسن معاشرة النساء ... وإذا قدمت المراكب تزوج أهلها النساء. فإذا أرادوا السفر طلقوهن. وهن لا يخرجن عن بلادهن أبدا ... ولم أر في الدنيا أحسن معاشرة منهن. ولا تكل المرأة عندهم خدمة زوجها إلى سواها؛ بل هي تأتيه بالطعام، وترفعه من بين يديه، وتغسل يده، وتأتيه بالماء للوضوء، وتغم رجليه عند النوم. ومن عوائدهن ألا تأكل المرأة مع زوجها. ولا يعلم الرجل ما تأكله المرأة. ولقد تزوجت بها نسوة؛ فأكل معي بعضهن بعد محاولة، وبعضهن لم تأكل معي، ولا استطعت أن أراها تأكل.» وكذلك أعجبه من نساء مدينة زبيد باليمن «أن للغريب عندهن مزية؛ ولا يمتنعن من تزوجه، كما يفعله نساء بلادنا (أي: المغرب). فإذا أراد السفر خرجت معه وودعته. وإن كان بينهما ولد فهي تكفله، وتقوم بما يجب له، إلى أن يرجع أبوه. ولا تطالبه في أيام الغيبة بنفقة ولا كسوة ولا سواها. وإذا كان مقيما، فهي تقنع منه بقليل النفقة والكسوة. لكنهن لا يخرجن عن بلدهن أبدا. ولو أعطيت إحداهن ما عسى أن تعطاه، على أن تخرج من بلدها لم تفعل». •••
ومن القصص الطريفة التي تشهد باتساع الأسفار الإسلامية قصة رواها الرحالة ابن بطوطة الذي سيلي ذكره في هذا الكتاب. وتشير هذه القصة إلى أن الرحالة المسلم كان يعثر أحيانا في أبعد آفاق المعمورة عن بلاده على مواطن له من التجار أو السياح. قال ابن بطوطة في كلامه على إقامته بمدينة قنجنفو بالصين: «وبينما أنا يوما في دار ظهير الدين القرلاني، إذا بمركب عظيم لبعض الفقهاء المعظمين عندهم، فاستؤذن له علي. وقالوا: مولانا قوام الدين السبتي؛ فعجبت من اسمه. ودخل إلي. فلما حصلت المؤانسة بعد السلام، سنح لي أني أعرفه. فأطلت النظر إليه. فقال: أراك تنظر إلي نظر من يعرفني! فقلت له: من أي البلاد أنت؟ فقال: من سبته (على شاطئ مراكش في مواجهة جبل طارق). فقلت له: وأنا من طنجة. فجدد السلام علي، وبكى حتى بكيت لبكائه. فقلت له: هل دخلت بلاد الهند؟ فقال لي: نعم، دخلت حضرة دهلي. فلما قال لي ذلك تذكرت له. وقلت: أأنت البشري؟ قال: نعم. وكان وصل إلى دهلي مع خاله أبي القاسم المرسي، وهو يومئذ شاب لا نبات بعارضيه من حذاق الطلبة يحتفظ الموطأ. وكنت أعلمت سلطان الهند بأمره، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار، وطلب منه الإقامة عنده فأبى. وكان قصده في بلاد الصين. فعظم شأنه بها واكتسب الأموال الطائلة. أخبرني أن له نحو خمسين غلاما ومثلهم من الجواري. وأهدى إلي منهم غلامين وجاريتين وتحفا كثيرة. ولقيت أخاه بعد ذلك ببلاد السودان. فيا بعد ما بينهما!» •••
وهكذا نرى أن المسلمين في العصور الوسطى أتيح لهم القيام بكثير من الرحلات والأسفار. والحق أن ما كتبه المؤلفون المسلمون فيما بين القرنين الثالث والتاسع بعد الهجرة (التاسع والخامس عشر بعد الميلاد) عن الرحلات كثير جدا، ولكن المعروف أن الرحالة لم يكتبوا أخبار رحلاتهم في مؤلفات قائمة بذاتها إلا نادرا. أما معظمهم فقد أدمجوا حديث تلك الرحلات فيما ألفوه من كتب التاريخ أو تقويم البلدان. كما أشار بعض المؤلفين إلى رحلات قام بها غيرهم ولم يصل إلينا شيء عنها من تأليف أصحابها أنفسهم. وفضلا عن هذا كله فثمة رحلات قام بها الملاحون التجار ضاعت أخبارها أو لم يدونها أصحابها، وإن كانوا من المصادر التي نقل عنها المؤرخون والجغرافيون الكثير من وصف البلاد النائبة، والتي يرجع إليها ما نراه من قصص البحر في الأدب العربي مثل قصة السندباد البحري.
سلام الترجمان
إن رحلة سلام الترجمان إلى سور الصين الشمالي قد تكون حقيقة تاريخية، وإن كان سببها الذي يذكره الجغرافيون العرب - كالقزويني وياقوت - على لسان الرحالة نفسه، أشبه بأسطورة خيالية. والظاهر أن حديثها كان مشهورا في العصور الوسطى. وقصة هذه الرحلة أن سلاما الترجمان يزعم أن الخليفة العباسي الواثق بالله (227-232ه/842-847م) رأى في المنام أن السد الذي بناه الإسكندر ذو القرنين (والذي يقع بين ديار المسلمين وديار يأجوج ومأجوج) مفتوح؛ فأرعبه هذا المنام، وأمر سلاما بأن يرحل ليتفقد السد. فسار الترجمان من مدينة سر من رأى، ومعه خمسون رجلا ومائتا بغل تحمل الزاد والماء، وكان الخليفة قد أعطاه كتابا إلى حاكم أرمينية ليقضي حوائجهم ويسهل مهمتهم. فعني هذا الحاكم بالرحالة ورجاله، وزودهم بكتاب توصية إلى حاكم إقليم السرير. وكتب لهم هذا الحاكم إلى أمير إقليم اللان. وكتب هذا الأمير إلى فيلانشاه. وكتب لهم فيلانشاه إلى ملك الخزر في إقليم بحر قزوين؛ فوجه معهم خمسة من الأدلاء وسار الجميع ستة وعشرين يوما؛ فوصلوا إلى أرض سوداء كريهة الرائحة وكانوا قد حملوا معهم بإشارة الأدلاء خلا لتخفيف هذه الرائحة. وسار الركب في تلك الأرض عشرة أيام ثم وصلوا إلى إقليم فيه مدن خراب، وساروا فيها سبعة وعشرين يوما. وقال الأدلاء: إن شعب يأجوج ومأجوج هو الذي خرب تلك المدن. وانتهوا إلى جبل فيه السور المنشود. وعلى مقربة منه حصون تسكنها أمة مسلمة تتكلم العربية والفارسية؛ ولكنها لم تسمع بخليفة المسلمين قط. وتقدم الركب إلى جبل لا نبات عليه يقطعه واد عرضه مائة وخمسون ذراعا. وفي الوادي باب ضخم جدا من الحديد والنحاس، عليه قفل طوله سبعة أذرع وارتفاعه خمسة، وفوق الباب بناء متين يرتفع إلى رأس الجبل. وكان رئيس تلك الحصون الإسلامية يركب في كل جمعة ومعه عشرة فرسان، مع كل منهم مرزبة من حديد، فيجيئون إلى الباب ويضربون القفل ضربات كثيرة؛ ليسمع من يسكنون خلفه، فيعلموا أن للباب حفظة، وليتأكد الرئيس وأعوانه الفرسان من أن أولئك السكان لم يحدثوا في الباب حدثا.
ولما فرغ سلام الترجمان ورفقاؤه من مشاهدة السور رجعوا إلى سر من رأى مارين بخراسان. وكان غيابهم في هذه الرحلة ثمانية عشر شهرا.
وقد ذكر المستشرق الفرنسي كرادي فو
Carra de Vaux
أن من المحتمل أن هذه الرحلة كانت إلى الحصون الواقعة في جبال القوقاز، وعلى مقربة من دربند (أو باب الأبواب)، في إقليم داغستان غربي بحر قزوين. ومهما يكن من الأمر فإننا لا نعرف عنها إلا بعض المقتطفات في كتب التاريخ والجغرافية، ولا سيما «نزهة المشتاق» للإدريسي و«معجم البلدان» لياقوت. •••
ومن غريب ما نقله أبو حامد الأندلسي في كتاب «العجائب» عن سلام الترجمان أنه قال:
وأقمت عند ملك الخزر أياما، ورأيت أنهم اصطادوا سمكة عظيمة جدا وجذبوها الجبال، فانفتح أذن السمكة وخرجت منها جارية بيضاء حمراء طويلة الشعر حسنة الصورة، فأخرجوها إلى البر وهي تضرب وجهها وتنتف شعرها وتصيح، وقد خلق الله تعالى في وسطها غشاء كالثوب الصفيق من سرتها إلى ركبتها كأنه إزار مشدود على وسطها، فأمسكوها حتى ماتت.
وقد تساءل الدكتور حسين فوزي في كتابه «حديث السندباد القديم» (ص135) عن تفسير ما رأى سلام الترجمان عند ملك الخزر، وكتب في ذلك: «أيكون الملك قد عرض على خليفة المسلمين منظرا تمثيليا من نوع «البانتوميم» احتفاء به واحتفالا بقدومه، وفهمه هذا الساذج على أنه حقيقة؟ أو أن ملك الخزر كان ماجنا مهزارا لا يرى عيبا أن يسخر من ضيفه فيدخل عليه منظر الغانية التي تخرج من أذن سمكة عظيمة جدا، فيبتلع (أي: فيصدق) سلام المنظر والغانية والسمكة الكبيرة؟» وعندنا أن من المحتمل أيضا أن يكون سلام الترجمان سمع من بعض العامة في بلاد الخزر حديث تلك السمكة، فعلقت بذهنه ونسبها إلى مشاهداته الخاصة.
ابن وهب القرشي
كان ابن وهب من ذوي الثروة والجاه في العراق ومن ولد هبار بن الأسود. وتذكر بعض المصادر التاريخية أنه قام برحلة إلى الصين نحو سنة (256ه/870م)، فترك مدينة البصرة عندما خربها الزنج وخرج من ميناء سيراف على بعض مراكب هندية. وساح طويلا في ممالك الهند، إلى أن انتهى إلى مدينة خانفو (كنتون) بمملكة الصين. ثم تقدم إلى مدينة خمدان عاصمة تلك المملكة، وتقع هذه المدينة على مقدار شهرين من خانفو. والتمس ابن وهب مواجهة الإمبراطور؛ ولكنه لم يفلح إلا بعد انتظار طويل، وبعد أن أرسل الإمبراطور إلى حاكم خانفو يأمره بالبحث عن حقيقة ابن وهب، والاستفسار من التجار العرب عما يدعيه من قرابته لنبي المسلمين. فلما كتب الحاكم بصحة نسبه أكرم الإمبراطور مثواه وأذن له في الوصول إليه وناقشه في الدين والسياسة؛ ثم عرض عليه صور بعض الأنبياء، مثل نوح في السفينة، وموسى وبني إسرائيل، وعيسى على حماره والحواريون معه، ثم محمد على جمل وأصحابه محدقون به.
1
وأمر له بعد ذلك بالهدايا النفيسة. وأوصى به حاكم خانفو.
ولا نعرف أن ابن وهب دون ما شاهده في رحلته، ولكن لا شك في أنه تحدث عنها. وقد أفاد من هذا الحديث مؤلف اسمه أبو زيد حسن، سوف يأتي الكلام عليه. كما أشار المسعودي إلى هذه الرحلة في كتابه «مروج الذهب»، في الفصل الذي عقده للحديث عن ملوك الصين. وقد رجح المستشرق رينو
Reinaud
أن أبا زيد حسن لقي المسعودي وتبادلا ما كانا يعرفانه عن الهند والصين والبحار الشرقية.
سليمان السيرافي
تشير المصادر التاريخية في اللغتين العربية والصينية إلى وجود جموع من المسلمين في الصين في عهد أسرة تنج التي حكمت الصين بين عامي 618 و906م وكان معظمهم من التجار الذين نزلوا الثغور.
وكان التجار المسلمون المنصرفون إلى الشرق الأقصى يبحرون من البصرة ومن سيراف على الخليج الفارسي أو «الخليج الصيني»، كما كانوا يسمونه أحيانا في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي). وكانت السفن الصينية الكبيرة تصل إلى ثغر سيراف، وتشحن بالبضائع الواردة من البصرة؛ ثم تتجه إلى ساحل عمان وتعبر المحيط الهندي مارة بسرنديب وجزائر البحار الجنوبية، حتى تصل إلى مدينة خانفو، حيث كانت تعيش جالية إسلامية وافرة العدد عظيمة الشأن. وفي كتاب المسالك والممالك لابن خرداذبه عبارة تفيد أن بعض تجار المسلمين وصلوا إلى شبه جزيرة كوريا.
والمعروف أن قدوم التجار الصينيين أنفسهم إلى الخليج الفارسي، أخذ يهبط تدريجيا منذ بداية القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)؛ على حين زاد سفر العرب إلى البحار الجنوبية. ثم حدث أن خرج ثغر خانفو نحو سنة (264ه/878م)؛ بسبب بعض الاضطرابات في بلاد الصين؛ فقتل كثير من المسلمين، ولم تعد المواصلات البحرية تامة الانتظام بين الصين والشرق الأدنى في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي). وأصبحت السفن من الجانبين لا تبحر إلا إلى مدينة في منتصف الطريق بين البلدين تسمى «كلاه»، اشتهرت بمناجم القصدير. وأكبر الظن أنها كانت من ثغور الشاطئ الغربي في ملقا.
وقد أشار أبو زيد حسن والمسعودي إلى هذه الحالة في حديثهما عن رجل من أهل مدينة سمرقند: «خرج من بلاده ومعه متاع كثير حتى انتهى إلى العراق، فحمل من جهازه وانحدر إلى البصرة، وركب البحر حتى وصل إلى بلاد عمان، وركب إلى بلاد «كلاه» وهي النصف من طريق الصين أو نحو ذلك، وإليها تنتهي مراكب الإسلام من السيرافيين والعمانيين في هذا الوقت، فيجتمعون مع من يرد من أرض الصين في مراكبهم. وقد كانوا في بدء الزمان بخلاف ذلك، وذلك أن مراكب الصين كانت تأتي بلاد عمان وسيراف من ساحل فارس وساحل البحرين والأبلة والبصرة ... ولما عدم العدل وفسدت النيات ... التقى الفريقان جميعا في هذا النصف. ثم ركب هذا التاجر من مدينة كلاه في مراكب الصين إلى مدينة خانفو.» •••
ومن المسلمين الذين زاروا الهند والصين عدة مرات رحالة عربي اسمه سليمان، لا نكاد نعرف شيئا عن ترجمة حيات، ولكن وصف سياحته في الهند والصين انتهى إلينا. فقد كتبه سنة (237ه/851م) ولهذا الوصف ذيل وضعه في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) مؤلف من سيراف اسمه أبو زيد حسن، واعتمد فيه على ما سمعه من قصص الرحالة والتجار في بحار الصين، ولا سيما ابن وهب الذي مر ذكره. وقد طبعت هذه الرحلة سنة (1811) على يد المستشرق لانجلس
Langlès
ثم نشرها المستشرق رينو
Reinaud
مع ترجمة فرنسية سنة (1845). كما أحاط بها المستشرق فران
Ferrand
في مجموعة الرحلات والنصوص الجغرافية العربية والفارسية والتركية الخاصة بالشرق الأقصى، والتي ترجمها إلى الفرنسية وعلق عليها ونشرها في مؤلف من مجلدين.
وتحدث الدكتور حسين فوزي عن هذه الرحلة في كتابه «حديث السندباد القديم» (ص21-32)، وقال: إنها «تعد من أهم الآثار العربية عن الرحلات البحرية في المحيط الهندي وبحر الصين في القرن التاسع. وربما كانت الأثر العربي الوحيد الذي يتحدث عن سواحل البحر الشرقي الكبير والطريق الملاحي إليها على أساس الخبرة الشخصية مع التزام الموضوع، وعدم الخروج عنه إلى أحاديث تاريخية وغيرها مما عودنا الجغرافيون والمؤرخون العرب؛ وإذا رأينا فيما بعد ابن خرداذبة وابن الفقيه والإصطخري وابن حوقل والمسعودي يتكلمون على أساس من المعرفة الشخصية لبعض المواضع التي يذكرونها، فإنهم أيضا ينقلون الكثير عن ذلك الأثر العربي الأول بلفظه ومعناه في بعض الأحيان، وبما يكاد يكون لفظه ومعناه في البعض الآخر.
وتمتاز رحلة سليمان والذيل الذي وضعه أبو زيد بما فيهما من وصف صادق للطرق التجارية، ولبعض العادات والنظم الاجتماعية والاقتصادية، ولأهم المنتجات في الهند وسرنديب وجاوه والصين، مع قلة الخرافات والأساطير التي تكثر في أحاديث البحارة. وتمتازان أيضا بالأخبار الوافية عن علاقة المسلمين بالصين في القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة (التاسع والعاشر بعد الميلاد). من ذلك أن مدينة خانفو، أكبر أسواق الصين حينئذ، كان فيها رجل مسلم «يوليه صاحب الصين الحكم بين المسلمين الذين يقصدون إلى تلك الناحية ... وإذا كان في العيد صلى بالمسلمين وخطب ودعا لسلطان المسلمين»، والواقع أن المصادر الصينية تشهد بوجود هذا النوع من الامتيازات، وبأنه امتد إلى الجاليات الإسلامية الأخرى في سائر مدن الصين؛ فكان لكل منها قاضيها وشيوخها ومساجدها وأسواقها، وإن كانت الحكومة الصينية احتفظت لنفسها بحق النظر في الجرائم التي قد يترتب عليها النفي أو الإعدام. والحق أن الاختصاصيين في الدراسات الصينية من المستشرقين ثبت عندهم صدق كثير مما جاء في حديث سليمان عن أحوال الصين الاجتماعية.
ومن الطريف أن سليمان السيرافي أول مؤلف غير صيني يشير إلى الشاي. وذلك حين يذكر أن ملك الصين يحتفظ لنفسه بالدخل الناتج من محاجر الملح ومن نوع من العشب، يشربه الصينيون في الماء الساخن ويباع منه الشيء الكثير في جميع مدنهم ويسمونه «ساخ».
وقال سليمان في وصف بعض جزائر المحيط الهندي أن لأهلها ذهابا كثيرا «وأكلهم النارجيل وبه يتأدمون ويدهنون، وإذا أراد واحد منهم أن يتزوج. لم يزوج إلا بقحف رأس رجل من أعدائهم، فإذا قتل اثنين زوج اثنين، وكذلك إن قتل خمسين زوج خمسين امرأة بخمسين قحفا، وسبب ذلك أن أعداءهم كثير، فمن أقدم على القتل أكثر كانت رغبتهم فيه أوفر».
ومما ذكره أبو زيد حسن، في الذيل الذي وضعه لرحلة سليمان، أن السفن القادمة من سيراف متجهة إلى البحر الأحمر كانت إذا وصلت جدة أقامت بها، ونقل ما فيها من السلع إلى مراكب خاصة تحمله إلى مصر، وتسمى مراكب القلزم؛ وذلك لأن المراكب الأخرى كانت لا تستطيع الملاحة في شمالي البحر الأحمر.
وأتى أبو زيد بكثير من أخبار الهند وسائر الأقاليم المطلة على المحيطين الهندي والهادي، وتحدث عن العنبر واللؤلؤ والمسك ومصادرها. وأشار إلى قلة الاتصال بالصين بعد رحلات سليمان وذلك بسبب قيام ثورات فيها.
ابن فضلان
هو أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد. كان مولى لأحد الخلفاء العباسيين وللقائد محمد بن سليمان، الذي أفلح في هزم الدولة الطولونية وإعادة مصر إلى حظيرة الخلافة سنة (292ه/905م). ولسنا نعرف من سيرة ابن فضلان شيئا كثيرا. والذي لا نشك فيه أنه قام سنة (309ه/921م) برحلة إلى بلاد البلغار. وهم الشعب الذي أسس في بداءة العصور الوسطى دولتين: أقدمهما في حوض الفولجا الأوسط (أو نهر أتل كما تسميه المصادر العربية)، والأخرى في حوض الطونة. والأولى هي التي زارها ابن فضلان وانتشر فيها الإسلام. وتطلق كلمة بلغار على الشعب وعلى البلاد، وعلى عاصمتها، التي كانت تقع شرقي نهر الفولجا، والتي لا يزال بعض أطلالها قائما على مقربة من مدينة قازان الحالية وعلى نحو ستة كيلومترات من شاطئ الفولجا الأيسر، وحيث الدرجة خمس وخمسون من العرض الشمالي وست وستون من الطول الشرقي. ولسنا نعرف على وجه التحقيق متى اعتنق البلغار الإسلام. فابن رسته الذي ألف كتابه «الأعلاق النفسية» حول سنة (291ه/903م) ذكر فيه أن «أكثرهم ينتحلون دين الإسلام، وفي محالهم مساجد ومكاتب ولهم مؤذنون وأئمة ... وملابسهم شبيهة بملابس المسلمين، ولهم مقابر مثل مقابر المسلمين». أما رحلة ابن فضلان فيبدو منها أنهم لم يدخلوا في الإسلام إلا قبيل زيارة هذا الرحالة.
والحق أن لهذه الرحلة شأنا خاصا؛ لأن ابن فضلان كان في بعثة أرسلها الخليفة العباسي المقتدر بالله إلى ملك البلغار، بعد أن أسلم وكتب إلى الخليفة يسأله «أن يبعث إليه من يفقهه في الدين، ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجدا، وينصب له منبرا ليقيم عليه الدعوة في جميع بلده وأقطار ملكته، ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له». وقد أجابه الخليفة إلى طلبه. وأرسل إليه هذه السفارة، التي كان ابن فضلان الخبير الديني فيها، والتي كان على رأسها مندوب من الخليفة لبحث الأمور السياسية والحربية. وغادر المندوبون بغداد في (11 من صفر سنة 309ه/21 من يونية سنة 921م)، متجهين إلى بخارى فخوارزم فبلاد البلغار، حيث وصلوا في (12 من محرم سنة 310ه/12 من مايو سنة 922م).
ورسالة ابن فضلان في وصف هذه الرحلة نقل عنها المؤلفون المسلمون، منذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) كالإصطخري والمسعودي. ثم نقل ياقوت الحموي أجزاء كبيرة منها فيما كتبه عن مادة «أتل» و«باشغرد» و«بلغار» و«خزر» و«خوارزم». وقد نشرت هذه الرسالة لأول مرة بعناية المستشرق فرهن
Fraehn
في سنت بطرسبورج سنة (1823) ومعها مقتطفات أخرى مما كتبه المسلمون عن الروس.
1
وحديثا أفاد منها المستشرق الروسي برتولد في المقال الذي كتبه عن «البلغار» في دائرة المعارف الإسلامية، ثم الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام في مقالين حديثين عن البلغار المسلمين. وقد عثر العالم التركي أحمد زكي الوليدي منذ عشرة أعوام على مخطوط من رحلة ابن فضلان أو في مادته من المقتبسات المعروفة وله مقدمة وصف فيها رحلته عبر فارس وبخارى وخوارزم في طريقه إلى بلاد البلغار، كما أنه يحتوي على كثير من الزيادات والتفصيلات.
والحق أن ابن فضلان ترك لنا في وصف رحلته صورة واضحة للبلغار وحضارتهم وعادتهم وتجارتهم. ويشهد ما كتبه في هذا الصدد بأنهم كانوا لا يزالون دون ما وصل إليه المسلمون في مدينتهم، وإن بدت بعض عاداتهم طريفة، كأن يأكل كل واحد من مائدته لا يشاركه فيها أحد ولا يتناول من مائدة غيره شيئا ، وكلبسهم القلانس يرفعونها عن الرأس ويجعلونها تحت الإبط للتحية وإظهار الاحترام.
ويلوح أن علاقة ملك البلغار بشعبه كانت علاقة أبوية وديمقراطية؛ فقد دون ابن فضلان أن «كل من زرع شيئا أخذه لنفسه، ليس للملك فيه حق؛ غير أنهم يؤدون إليه من كل بيت جلد ثور. وإذا أمر سرية بالغارة على بعض البلدان كان له معهم حصة ... وكلهم يلبسون القلانس فإذا ركب الملك ركب وحده بغير غلام ولا أحد معه. فإذا اجتاز في السوق لم يبق أحد إلا قام، وأخذ قلنسوته عن رأسه وجعلها تحت إبطه، فإذا جاوزهم ردوا قلانسهم فوق رؤوسهم، وكذلك كل من يدخل على الملك من صغير وكبير حتى أولاده وإخوته، ساعة يقع نظرهم عليه، يأخذون قلانسهم فيجعلونها تحت آباطهم ثم يومئون إليه برؤوسهم ويجلسون، ثم يقومون حتى يأمرهم بالجلوس؛ وكل من جلس بين يديه يجلس باركا ولا يلبس قلنسوته ولا يظهرها حتى يخرج من بين يديه فيلبسها عند ذلك.
والظاهر أن السمن كان محبوبا عند البلغار؛ وقد كان ملكهم بدينا. ورأى ابن فضلان عندهم تفاحا «أخضر شديدة الحموضة جدا تأكله الجواري فيسمن»، ومما أتعب ابن فضلان في مهمته الدينية أن الرجال والنساء كانوا ينزلون النهر فيغتسلون جميعا عراة لا يستتر بعضهم من بعض. وقد اجتهد في منع ذلك فلم يوفق، وكان مركز المرأة بينهم عاليا، وكانت الملكة تجلس إلى جانب الملك في المناسبات الرسمية.
وطبيعي أن هذا الرحالة عرض في رسالته لطول الليل شتاء وطول النهار صيفا، وتعذر تحديد ساعات الصلاة فكتب في هذا الصدد: «ودخلت أنا وخياط كان للملك من أهل بغداد قبتي لنتحدث؛ فتحدثنا بمقدار نصف ساعة ونحن ننتظر أذان العشاء؛ فإذا بالأذان، فخرجنا من القبة، وقد طلع الفجر. فقلت للمؤذن: أي شيء أذنت؟ قال: الفجر. قلت: فعشاء الأخيرة. قال: نصليها مع المغرب. قلت: فالليل؟ قال: كما ترى، وقد كان أقصر من هذا وقد آخذ الآن في الطول ... إلخ.» ونقل ابن فضلان عن ملك البلغار «أن وراء بلده بمسيرة ثلاثة أشهر قوما يقال لهم: ويسو ؛ الليل عندهم أقل من ساعة».
والغريب أن ابن فضلان لم يكتب في رسالته شيئا عن نتائج هذه الرحالة من الوجهتين السياسية والحربية؛ فلسنا ندري هل ساعد المسلمون البلغار في تشييد الحصون المطلوبة أم لا. وأكبر الظن أن ملك البلغار كان يريد بناء تلك الحصون ليحتمي فيها من ملك الخزر بوجه خاص. وكان ملوك الخزر من أصل يشبه البلغار، وكانت مملكتهم عند مصب نهر الفولجا ولكنهم كانوا من أتباع الديانة اليهودية وكانوا يعدون ملوك البلغار تبعا لهم. وعلى كل حال فإن رحلة ابن فضلان من أقدم ما وصل إلينا عن بلاد الروسيا. بل إننا لا نعرف عن رسالة سبقوه في هذه الجولة ما خلا أوتير
Ohther
النرويجي الذي زار الإقليم الواقع شمالي الروسيا حول البحر الأبيض الروسي، وذلك قبل رحلة ابن فضلان إلى بلاد البلغار بنحو ستين سنة.
وقد وصف ابن فضلان بعض قدماء الروس الذين شاهدهم في مكان على نهر الفولجا حين قدموا للتجارة مع البلغار. وكتب المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي
V. Minorsky
في هذا الصدد أن ابن فضلان كان دقيق الملاحظة فوصف حفلة دفن زعيم روسي وصفا مفصلا دقيقا حتى لقد استطاع أحد رسامي الروسي منذ خمسين عاما أن يرسم - اعتمادا على هذا الوصف - صورة لهذا المشهد الرهيب تزين الآن أحد جدران المتحف التاريخي في موسكو.
وقد زار بلاد البلغار بعد ابن فضلان رحالة وعلماء مسلمون، ولكن معظمهم لم يدون عنها شيئا كثيرا. ومنهم عبد الله أبو حامد الأندلسي الغرناطي صاحب كتاب «تحفة الألباب ونخبة الأعجاب»، وقد زار بلاد البلغار سنة (530ه/1135م)، وصحب قاضيها يعقوب بن النعمان؛ وذكر أن هذا القاضي ألف كتابا في تاريخ البلغار، ولكنا لا نعرف عن هذا الكتاب شيئا. على أن أبا حامد الأندلسي نفسه لم يكتب عن رحلته إلا بعض قصص ضئيلة الشأن نشرها المستشرق دورن
B. Dorn .
2
أبو دلف
هو أبو دلف الخزرجي الينبوعي مسعر بن مهلهل. كان شاعرا وأديبا ورحالة؛ اتصل بالأمير الساماني بن أحمد. وأوفده هذا الأمير إلى الصين حول سنة (331ه/942م) مع بعثة كان أحد الأمراء الصينيين قد أرسلها إلى البلاط الساماني ليخطب ابنة أمير بخارى. وقد زار أبو دلف بلاد الهند، وآخر نقطة كانت تصل إليها السفن الإسلامية.
ولسنا نعرف عنه شيئا كثيرا ما عدا اتصاله بالصاحب إسماعيل بن عباد وزير بن بويه. وهو الذي قدم إليه أبو دلف قصيدة طويلة في حيل بني ساسان وأساليب حياتهم. والمعروف أن اسم «بني ساسان» أطلق على قوم من العيارين المستهترين والشطار المحتالين، كانوا يطوفون الأقاليم، ويتفننون في اختراع الحيل للحصول على المال (راجع مادة ساسان في دائرة المعارف الإسلامية وما ذكر فيها من مراجع).
وفي بعض أبيات هذه القصيدة الطويلة إشارة إلى الرحلات والأسفار الطويلة. ومن ذلك الأبيات الآتية منقولة من كتاب «يتيمة الدهر» للثعالبي:
ومن كان من الأحرا
ر يسلو سلوة الحر
ولا سيما في الغربة
أودى أكثر العمر
وشاهدت أعاجيبا
وألوانا من الدهر
فطابت بالنوى نفسي
على الإمساك والفطر
على أني من القوم ال
بهاليل بني الغر
فنحن الناس كل النا
س في البر وفي البحر
أخذنا جزية الخلق
من الصين إلى مصر
إلى طنجة، بل في ك
ل أرض خيلنا تسري
إذا ضاق بنا قطر
نزل عنه إلى قطر
لنا الدنيا بما فيها
من الإسلام والكفر
فنصطاف على الثلج
ونشتو بلد التمر
وقد حفظ لنا القزويني وياقوت وابن النديم مقتطفات يظن أنها من وصف أبي دلف لرحلته في الصين والهند.
1
وهو وصف يشهد - على إيجازه - بأن هذا الأديب الرحالة كان دقيق الملاحظة. وحسبنا مثلا أنه فطن إلى أن الخزف الصيني كان يقلد في بعض البلاد الأخرى، ولا سيما في إيران وملبار، ولكن الأواني الصينية كانت تفضل في الأسواق على كل ما يصنع تقليدا لها. وقد انتشر هذا الوصف سنة (1845) ومعه ترجمة لاتينية بعناية المستشرق فون شلوزر
Kurd vonSchloezer ، ثم ترجمه المستشرق فراند
Ferrand
في مجموعة الرحلات والنصوص الجغرافية التي نشرها عن الشرق الأقصى، وخصه ماركارت
M. J. Marquart
بدراسة وافية في مجموعة المقالات التي كتبت ذكرى وتكريما للمستشرق ساخاو (Festschrift Sachau) . وفضلا عن ذلك فإن المستشرق وستنفلد
F. Wustenfeld
كان قد كتب في منتصف القرن الماضي مقالا في مجلة علم تقويم البلدان المقارن، درس فيه ما كتبه أبو دلف عن القبائل التركية.
2
جغرافيو القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة (9-10م)
بدأ المسلمون في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) يؤلفون في تقويم البلدان، ويصفون أجزاء إمبراطوريتهم وما يجاورها من الأقاليم وامتاز الجغرافيون في القرن الرابع الهجري بأن معظمهم كانوا رحالة، جمعوا كثيرا مما كتبوه بوساطة المشاهدة والاختبار والأسفار. •••
فاليعقوبي توفي في نهاية القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، بعد أن قام برحلات طويلة في أمينية وإيران والهند ومصر وبلاد المغرب. وقد أفاد من هذه الرحلات فيما كتبه في التاريخ والجغرافيا. وذكر ذلك في مقدمة «كتاب البلدان». قال: «إني عنيت في عنفوان شبابي، وعند احتيال سني وحدة ذهني، بعلم أخبار البلدان والمسافة ما بين كل بلد وبلد؛ لأني سافرت حديث السن، واتصلت أسفاري ودام تغربي.» والواقع أن قارئ «كتاب البلدان» يشعر بأنه كتاب مثالي، لعمال الحكومة المعينين في مختلف أنحاء الدولة الواسعة الأرجاء، ولغيرهم من التجار والرحالة الذين يحرصون على أن يعرفوا شيئا عن البلاد التي يزمعون الرحيل إليها؛ كما يقف منه على أوصاف وأخبار تدل على أن اليعقوبي رأى بنفسه معظم ما عرض للكتابة فيه، مع أنه تحاشى ذكر ما لقيه في أسفاره من المشاهدات والتجارب. •••
أما الإصطخري فعاش في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي). واعتمد في تصنف مؤلفيه: «كتاب الأقاليم» و«المسالك والممالك» على رحلاته لطلب العلم والمعرفة في الآفاق الإسلامية، وعلى ما نقله من كتاب «صور الأقاليم» لأبي زيد البلخي. وقد وضح الإصطخري كتابه الأول بالخرائط. •••
وعاش المسعودي في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي). وقد نشأ في بغداد، ثم أقبل على السياحة لطلب العلم. وجمع الحقائق الجغرافية والتاريخية. فطاف في إيران، ثم رحل إلى الهند وجزيرة سرنديب، ثم رافق جماعة من التجار في رحلة إلى بحار الصين، وجال بعد ذلك في المحيط الهندي، وزار زنزبار وسواحل إفريقية الشرقية والسودان، ثم قام برحلات في إقليم بحر قزوين وآسيا الصغرى والشام والعراق وبلاد العرب الجنوبية ومصر. والظاهر أن أشق رحلاته كانت في المحيط الهندي شرقي إفريقية؛ فقد كتب: «وقد ركبت عدة من البحار كبحر الصين والروم والقلزم واليمن، وأصابني فيها من الأهوال ما لا أحصيه كثرة، فلم أشاهد أهول من بحر الزنج، وفيه السمك المعروف بالأوال، طول السمكة نحو من أربعمائة ذراع بالذراع العمرية، وهي ذراع ذلك البحر. والأغلب من هذا السمك طوله مائة ذراع. وربما بدا بهذا البحر فيظهر طرفا من جناحيه فيكون كالقلاع العظيم وهو الشراع. وربما يظهر رأسه وينفخ الصعداء بالماء فيذهب الماء في الجو أكثر من ممر السهم. والمراكب تفزع منه بالليل والنهار وتضرب له بالدبادب والخشب لينفر من ذلك ...»
وقد تحدث المسعودي عما لقيه من التجارب والمشاهدات خلال رحلاته في مؤلفات تاريخية ضخمة، ضاع أكثرها بسبب ضخامة حجمها وقلة انتشارها. أما أعظم ما وصل إلينا منها فكتاب «مروج الذهب ومعادن الجوهر» الذي اختصر فيه كتابين كبيرين له. وقد فرغ من تصنيفه سنة (336ه/947م). والكتاب يجمع بين التاريخ والجغرافيا والسياسة والعمران، بل يتضمن معظم ضروب العلم في عصره. ويمتاز على غيره من الكتب العربية بكثرة ما فيه من أخبار الأمم التي كانت تحيط بالعالم الإسلامي في العصور الوسطى، وبندرة بعض هذه الأخبار في كتب سائر المؤلفين. من ذلك عناية المسعودي ببيان الطرق البرية للسفر إلى بلاد الصين، على حين أن الطرق البحرية إلى تلك البلاد هي التي عني بها سائر من كتبوا في ذلك أيضا عنايته بالتعليل لبعض الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، مثل قوله: إن العاج كان يجلب في كثرة من شرقي إفريقية إلى الصين، وإن إقبال الصينيين على استيراده هو الذي جعله نادرا وغالي الثمن في الأقطار الإسلامية. ولكن كتابة المسعودي لم تخل من العيوب المعهودة في تأليف معظم الجغرافيين والمؤرخين أيام العصور الوسطى، ومن تلك العيوب الاستطراد ، ونقل الخرافات والأخبار السطحية بدون تمحيصها بالنقد العلمي أو بالرجوع إلى المصادر الأولى، ذلك فضلا عن إغفال منهج معين في الدراسة.
وقد أشار المسعودي في مقدمة «مروج الذهب» إلى أسفاره الطويلة، فقال : «على أنا نعتذر من تقصير إن كان، ونتنصل من إغفال أو عرض لما قد شاب خواطرنا وغمر قلوبنا من تقاذف الأسفار وقطع القفار، وتارة على متن البحر وتارة على ظهر البر، مستعلمين بدائع الأمم بالمشاهدة عارفين خواص الأمم بالمعاينة، كقطعنا بلاد السند والزنج والصنف والصين والرانج، فتارة بأقصى خراسان وتارة بوسائط أرمينية وأذربيجان والهوات والطالقان، وطورا بالشام؛ فسيري في الآفاق سري الشمس في الإشراق كما قال بعضهم:
تيمم أقطار البلاد فتارة
لدى شرقها الأقصى وطورا إلى الغرب
سرى الشمس لا ينفك تقذفه النوى
إلى أفق ناء يقصر بالركب
كذلك كتب في تلك المقدمة: «ولكل إقليم عجائب يقتصر على علمها أهله. وليس من لزم جهة وطنه، وقنع بما نمى إليه من الأخبار عن إقليمه، كمن قسم عمره على قطع الأقطار، ووزع أيامه بين تقاذف الأسفار، واستخراج كل دقيق من معدنه، وإثارة كل نفيس من مكمنه.»
والحق أن أوجه الشبه كثيرة بين المسعودي وهيرودوت. وحسبنا أن ابن خلكان وصف المسعودي بأنه كان إماما للمؤرخين، وأن هيرودوت انعقدت له مثل هذه الإمامة، حتى سمي أبا التاريخ. •••
ومن الجغرافيين في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) أبو القاسم محمد بن حوقل البغدادي. وقد ظل يتجول في البلاد الإسلامية نحو ثلاثين سنة. ولقي البغدادي. وقد ظل يتجول في البلاد الإسلامية نحو ثلاثين سنة. ولقي الإصطخري، فطلب منه هذا أن يراجع كتابه «المسالك والممالك» ففعل، ولكنه ما لبث أن أخرج كتابا بنفس الاسم، اعتمد فيه على ما كتبه إصطخري في كتابه. ولسنا نعرف شيئا كثيرا عن سيرة حياته عدا أنه غادر بغداد سنة (331ه/943م)، طلبا لدراسة البلاد والشعوب، ورغبة في الارتزاق من باب التجارة. فطاف في العالم الإسلامي من شرقيه إلى غربيه، ويبدو أنه شاهد كل ما كتب عنه وعاينه، ما خلا الصحراء الكبرى ، فإنه لم يشاهد إلا جزءا منها. وقد كتب في هذا المعنى: «وأعانني على تأليفه تواصل السفر وانزعاجي عن وطني إلى أن سلكت وجه الأرض بأجمعه في طولها، وقطعت وتر الشمس على ظهرها.» وقد وصف ابن حوقل بلرم عاصمة صقلية وصفا عظيم الشأن جليل القيمة؛ لأنه ليس أقدم وصف إسلامي لهذه المدينة فحسب؛ بل لأنه يشير إلى أسلوب ساذج اتبعه المسلمون حينئذ في تقدير سكان المدن، ومبلغ عمارها في تلك العصور التي لم تعرف فيها الإحصائيات الرسمية. ومما كتبه في وصفها:
وببلرم طائفة من القصابين والجرارين والأساكفة. وبها للقصابين دون المائتي حانوت لبيع اللحم. والقليل منهم في المدينة برأس السماط. ويجاوزهم القطانون والحلاجون والحذاؤون وبها غير سوق صالح. ويدل على قدرهم وعددهم صفة مسجد جامعهم ببلرم. وذلك أني حزرت المجتمع فيه إذا غص بأهله بلغ سبعة آلاف رجل ونيفا؛ لأنه لا يقوم فيه أكثر من ستة وثلاثين صفا للصلاة، وكل صف منها يزيد على مائتي رجل.
وقد عجب ابن حوقل لكثرة المساجد في صقلية. وسأل عن ذلك، فأخبر «أن القوم لشدة انتفاخ رؤوسهم كان يحب كل واحد منهم أن يكون له مسجد مقصور عليه لا يشاركه فيه غير أهله وغاشيته». وكذلك لاحظ كثرة المعلمين فيها وأن جنونهم المعلمين في كل بلد «وإنما توافرت عدتهم مع قلة منفعتهم لفرارهم من الغزو ورغبتهم عن الجهاد»؛ وذلك لأن المعلمين في صقلية كانوا يعفون من الجهات والقتال. والحق أن ابن حوقل كان قاسيا على أهل صقلية وعلى طائفة المعلمين بوجه خاص. فهو يزعم - سامحه الله - «أن المعلم أحمق محكوم عليه بالنقص والجهل والخفة وقلة العقل». ونراه ينتقص أهل صقلية لاحترامهم المعلمين، فيقول: «ومن أعظم الرزية وأشد البلية أن جميع أهل صقلية، لصغر أحلامهم، ونقص درايتهم، وبعد أفهامهم، يعتقدون أن هذه الطائفة أعيانهم ولبابهم وفقهاؤهم ومحصلوهم وأرباب فتاويهم.»
واتصل ابن حوقل بالفاطميين وقد ذهب المستشرق الهولندي دووزي
Dozy
إلى أن هذا الرحالة كان يتجسس، ويعمل لحساب الفاطميين في الأندلس؛ فإنهم كانوا في البداءة يتطلعون إلى الاستيلاء على تلك البلاد، ولعلهم كانوا سيسعون إلى جمع المعلومات عنها. وقد أشار دوزي إلى ما كتبه ابن حوقل في هذا الصدد: «ومن أعجب أحوال هذه الجزيرة بقاؤها على من هي في يده، مع صغر أحلام أهلها، وضعة نفوسهم، ونقص عقولهم وبعدهم من البأس والشجاعة والفروسية والبسالة، ولقاء الرجال ومراس نعمها ولذاتها ... وليس لجيوشهم حلاوة في العين؛ لسقوطهم عن أسباب الفروسية وقوانينها. وإن شجعت أنفسهم ومرنوا بالقتال، فإن أكثر حروبهم فتصرف على الكيد والحيلة. وما رأيت ولا رأى غيري بها إنسانا قط جرى على فرس فاره أو برذون هجين ورجلاه في الركابين.»
ويذكرنا هذا بما كان للرحالة الفرسي قولني
Volney
من شأن في فكرة استيلاء الفرنسيين على مصر، مع أنه لم ينصح لحكومته الإقدام على ذلك.
1
فقد نشر هذا الرحالة كتابا عن أسفاره في مصر سنة 1787، فقضى على الأساطير السائدة عن قوة المماليك ومناعتهم، وأشار إلى جهلهم طرق الحرب الحديثة، وإلى سهولة فتح مصر وخلو الإسكندرية من الحصون. •••
ومن أعظم الجغرافيين في القرن الرابع الهجري (10م) المقدسي، أبو عبد الله، المعروف بالبشاري. وقد طاف في الأقاليم الإسلامية، وقال عن نفسه: إنه لم يظهر كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» حتى بلغ الأربعين. وأطنب في ذكر تجاربه قائلا: «فقد تفقهت وتأدبت وتزهدت وتعدت ... وخطبت على المنابر، وأذنت على المنائر، وأممت في المساجد، وأكلت مع الصوفية الهرائس، ومع الخانقائيين الثرائد، ومع النواتي العصائد ... وسحت في البراري، وتهت في الصحاري ... وملكت العبيد، وحملت على رأسي بالزنبيل، وأشرفت مرارا على الغرق، وقطع على قوافلنا الطرق ... وسجنت في الحبوس. وأخذت على أني جاسوس، ومشيت في السمائم والثلوج.» ويلوح لنا أن المقدسي كان يعمد في رحلاته إلى التنكير وتغيير اسمه والدخول في الطوائف المختلفة لدراسة بيئاتها.
والحق أن المقدسي يكاد يزعج القارئ بإسرافه في وصف مزايا كتابه وذكر ما عانى في سبيل تأليفه. مثل قوله: «وما تم لي جمعه إلا بعد جولاتي في البلدان، ودخولي أقاليم الإسلام، ولقائي العلماء، وخدمتي الملوك، ومجالستي القضاة، ودرسي على الفقهاء، واختلافي إلى الأدباء والقراء وكتبة الحديث، ومخالطة الزهاد والمتوفين، وحضور مجالس القصاص والمذكورين، مع لزوم التجارة في كل بلد، والمعاشرة مع كل أحد والتفطن في هذه السباب بفهم قوي حتى عرفتها، ومساحة الأقاليم بالفراسخ حتى أتقنتها، ودوراني على التخوم حتى حررتها، وتنقلي إلى الأجناد حتى عرفتها ...» إلخ.
والظاهر أن المقدسي كان يعتمد على الرحلة والمشاهدة في جل كتاباته، وأن هذا هو الذي منعه من التعرض لوصف الأقاليم التي يسكنها غير المسلمين والتي لم يتجه إليها. ولعل ذلك أيضا مما جعله ينتقص كتاب أبي زيد البخل فيرميه بأنه «لم يدوخ البلدان ولا وطئ الأعمال».
وكان المقدسي بوجه عام دقيق الملاحظة، باحثا ناقدا، يتحرى تمحيص ما نقل. وكان يعنى بالأخبار الطريفة والعادات الشاذة. من ذلك ذكره أن جامع بغداد «كانت على أبوابه مياضئ بالكرى». وقد بحثنا طويلا فلم نوفق إلى العثور على أمثلة تاريخية أخرى لمراحيض يدفع القوم أجرا لاستعمالها، كما نرى في هذه الأيام. ومنه أيضا تلخيصه الكلام على عدن بأنها «دهليز الصين وفرضة اليمن وخزانة المغرب ومعدن التجارات».
ومن الجغرافيين الذين كتبوا في القرن الرابع الهجري، وبذلوا الفوائد بفضل رحلاتهم الطويلة، محمد التاريخي الأندلسي المتوفى سنة (363ه/973م). ألف كتابا في وصف أفريقية والمغرب. وكان هذا الكتاب من أكبر المراجع التي اعتمدها البكري في كتابه «المغرب في ذكر بلاد أفريقية والمغرب». •••
ومن العلماء المصريين الذين برزوا في عصر الدولة الفاطمية الحسن بن محمد المهلبي. وقد كان معاصرا للخليفة العزيز بالله. ويبدو أنه قام برحلة طويلة في بلاد السودان، وألف للعزيز سنة (375ه/985م) كتابا في الطرق والمسالك، امتاز بأنه أول كتاب عني بوصف إقليم السودان وصفا دقيقا؛ ولكنه لم يصل إلينا. •••
ويظهر أن السفر من العالم الإسلامي إلى الشرق الأقصى في القرن الرابع الهجري لم يكن وقفا على المسلمين فقط. فقد جاء في «الفهرست» لابن النديم أن هذا المؤلف كان يستقي أخبار الصين حول سنة (377ه/987م) من راهب نجراني، بعثه رئيس طائفته إلى تلك البلاد ومعه خمسة من القساوسة المسيحيين لرعاية النصارى الموجودين فيها؛ فأقاموا ست سنين ثم عاد الراهب وزميل له؛ وأخبرا عن هلاك النصارى في الصين وخراب كنيستهم. •••
وقد ظهر في الأندلس في القرن الخامس الهجري (11م) علم من أعلام الجغرافيين المسلمين. هو عبد الله بن عبد العزيز البكري، صاحب «كتاب المسالك والممالك» غير أن هذا المؤلف لم يدون في هذا الكتاب الكبير نتائج أسفاره ورحلاته، وإنما اعتمد على ما جمعه من الآثار العلمية التي خلفها من سبقوه.
قصة الفتية المغررين
اتجهت بعض الأبحاث العلمية الحديثة إلى القول بأن المسلمين عرفوا أمريكا قبل أن يكشفها كولومبس. وأشار أصحاب هذه النظرية إلى وجود كلمات عربية في لغة هنود أمريكا، وإلى أن كولومبس وجد في رحلته الثالثة زنوجا وذهبا إفريقيا في جزائر الهند الشرقية، وأن مدينة بعض الجماعات الوطنية في أمريكا تشبه المدينة الإسلامية إلى حد كبير.
1
ولسنا نعرض هنا لبحث هذه النظرية، ولكنا لا نشك في أن العرب اتخذوا الأساطيل في المحيط الأطلسي الدفاع عن ملكهم في المغرب والأندلس. وطبيعي أنهم عرفوا شيئا عن سواحل هذا المحيط وعن الجزائر غير البعيدة عنها. ولكن في بعض المصادر التاريخية العربية ما يشهد بأنهم حاولوا النفوذ إليه والتوغل فيه.
ومن ذلك حديث فتية من مدينة لشبونة حول القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، قاموا في المحيط برحلة جريئة، وعادوا منها بعد تجارب قاسية وأهوال شديدة. ولم يصلنا من أخبار هذه الرحلة إلا ما كتبه الشريف الإدريسي في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق». وقد علق عليه الأمير شكيب أرسلان في كتابه «الحلل السندسية»، والأستاذ عبد الحميد العبادي في مقال عن قصة أولئك الفتية المغررين (أو المغربين؟) قال الإدريسي: «ومن مدينة لشبونة كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه ... ولهم بمدينة لشبونة بموضع من قرب الحمة درب منسوب إليهم يعرف بدرب المغررين إلى آخر الأبد. وذلك أنهم اجتمعوا، ثمانية رجال كلهم أبناء عم، فأنشأوا مركبا حمالا وأدخلوا فيه من الماء والزاد وما يكفيهم لأشهر. ثم دخلوا البحر في أول طاروس الريح الشرقية (أي: هبوبها) فجروا بها نحوا من أحد عشر يوما. فوصلوا إلى بحر غليظ الموج كدر الروائح كثير التروش (أي: الصخور التي لا يكاد يسترها الماء) قليل الضوء؛ فأيقنوا بالتلف، فردوا قلاعهم في اليد الأخرى، وجروا في البحر في ناحية الجنوب اثني عشر يوما، فخرجوا إلى جزيرة الغنم، وفيها من الغنم ما لا يأخذه عد ولا تحصيل، وهي سارحة لا راعي لها ولا ناظر إليها. فقصدوا الجزيرة فنزلوا بها فوجدوا عين ماء جارية وعليها شجرة تين بري، فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها، فوجدوا لحومها مرة لا يقدر أحد على أكلها، فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب اثني عشر يوما، إلى أن لاحت لهم جزيرة، فنظروا فيها إلى عمارة وحرث فقصدوا إليها ليروا ما فيها. فما كان غري بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك، فأخذوا وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر فأنزلوا بها في دار، فرأوا بها رجالا شقرا، زعروا شعور رؤوسهم، شعورهم سبطة وهم طوال القدود ولنسائهم جمال عجيب. فاعتقلوا فيها في بيت ثلاثة أيام. ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي. فسألهم عن حالهم، وفيم جاءوا، وأين بلدهم. فأخبروه بكل خبرهم، فوعدهم خيرا، وأعلمهم أنه ترجمان الملك.
فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم أحضروا بين يدي الملك. فسألهم عما سألهم الترجمان عنه فأخبروه بما أخبروا به الترجمان بالأمس من أنهم اقتحموا البحر ليروا ما به من الأخبار والعجائب ويقفوا على نهايته. فلما علم الملك ذلك ضحك، وقال للترجمان: خبر القوم أن أبي أمر قوما من عبيده بركوب هذا البحر، وأنهم جروا في عرضه شهرا، إلى أن انقطع عنهم الضوء وانصرفوا من غير حاجة ولا فائدة تجدي. ثم أمر الملك الترجمان أن يعدهم خيرا وأن يحسن ظنهم بالملك ففعل. ثم صرفوا إلى موضع حبسهم إلى أن بدا جري الريح الغربية فعمر بهم زورق، وعصبت أعينهم، وجرى بهم في البحر برهة من الدهر. قال القوم: قدرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها ، حتى جيء بنا إلى البر، فأخرجنا وكتفنا إلى خلف، وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار وطلعت الشمس ونحن في ضنك وسوء حال من شدة الكتاف، حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناس فصحنا بأجمعنا؛ فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة، فحلوا من وثاقنا وسألونا فأخبرناهم بخبرنا، وكانوا برابر، فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا: لا؛ فقال: إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين. فقال زعيم القوم: وا أسفى! فسمي المكان إلى اليوم «أسفى» وهو المرسى الذي في أقصى المغرب.»
وعلى كل حال فإن هؤلاء الفتية استطاعوا العودة إلى لشبونة، كما يؤخذ من سياق الكلام في الإدريسي، وحدثوا أهلها بأخبار رحلتهم، ولكن مواطنيهم لم يروا فيهم إلا شبابا مخاطرين مغررين (أو مغربين، من الاتجاه إلى المغرب؟) حتى عرف الدرب الذي كانوا يسكنونه بهذا الاسم.
وإن تكن معالم هذه القصة صادقة، فإننا لا نستطيع أن نتتبع سير هؤلاء الفتية؛ لنتبين الجزر التي وطئتها أقدامهم في هذه الرحلة، ولكننا نرجح أنهم وصلوا أولا إلى مقربة من إحدى جزائر أزور
Azores
التي تبعد عن غربي البرتغال نحو 1370 كيلومترا، والواقعة بين خط 37 وخط 40 من العرض الشمالي وبين خط 25 وخط 32 من الطول الغربي. والظاهر أنها لم تكن مجهولة عند الفينيقيين والقرطاجنيين والنورمنديين والعرب، وإن نسب كشفها في القرن الخامس عشر الميلادي إلى الفلمنكيين في رواية، وإلى البرتغاليين في قول آخر. ولما انحدر الفتية إلى الجنوب وساروا اثني عشر يوما فالمحتمل أنهم وصلوا إلى جزر ماديرا. وقد نقل الأستاذ عبد الحميد العبادي عن بعض العلماء الأوروبيين أن بهذه الجزيرة كثيرا من المعز تقتات بنوع من العشب، هو السبب في مرارة لحومها. أما الجزيرة التي انتهى إليها المغرورون وقبض عليهم فيها، فلعلها إحدى جزر الخالدات أو كناري، التي تبعد عن الساحل الشمالي الغربي لإفريقية بنحو مائة كيلومتر والواقعة بين خطي 27 و29 من العرض الشمالي وبين خط 13 وخط 18 من الطول الغربي. والراجح أن هذه الجزائر كانت معروفة عند الفينيقيين ثم العرب، وذلك قبل أن يكشفها الأوروبيون ثانية في القرن الرابع عشر الميلادي.
ولعل هذه القصة لم تكن مجهولة في العصور الوسطى؛ بل لعل كولومبس كان يعرفها، ويعرف قصصا أخرى من أخبار من حاولوا ركوب المحيط الأطلسي وكشف غوامضه، ومن روايات بعض البحارة في السفن التي كانت تسيرها بعض البيوت التجارية إلى ساحل أفريقية الغربي، وإلى بعض جزر المحيط الأطلسي، لجلب الذهب والعاج والأحجار الكريمة وغير ذلك. وكانت تلك البيوت التجارية تخفي أعمالها استئثارا بالكسب، واحتكارا للتجارة مع تلك الأصقاع.
وأكبر الظن أن هذه القصة أساس رحلة تنسب إلى راهب إيرلندي اسمه القديس براندان. توفي سنة (578م)؛ ولكن حديث رحلته لم يظهر إلا في القرن الحادي عشر الميلادي. والأرجح أنه خرافة، قامت على بعض عناصر من قصة الفتية المغررين، وعلى عناصر أخرى من الأخبار العجيبة المعروفة في أسفار السندباد البحري،
2
فضلا عن قصص أخرى في الأدب الكلتي عن رحلات وهمية إلى ما وراء البحار، وقد اشتهر هذا الراهب بإنشاء عدة أديرة في إيرلندة. ويزعمون أنه أراد أن يبلغ الجنة التي جعلها الله مأوى لعباده الصالحين. أو أنه أراد أن يجد مكانا قصيا يعتزل فيه الحياة الدنيا، فركب سفينة ومعه سبعة عشر من زملائه الرهبان يقصدون إحدى جزر المحيط الأطلسي، ولعلهم وصلوا إلى جزيرة من جزر الخالدات، ولكنهم لم يستقروا بها بل عادوا إلى إيرلندة. وقص براندان ما شاهد من العجائب والغرائب في قصيدة طويلة يظن النقاد أنها ترجع إلى القرن الحادي عشر، أو الثاني عشر بعد الميلاد. وقد ظل القوم يعتقدون بوجود جزيرة يطلقون عليها اسم هذا القديس، ويظنونها غربي جزائر الخالدات؛ بل كانوا يرسلون البعثات لكشفها حتى بداءة القرن الثامن عشر.
محمد بن قو سلطان مالي
ومن قصص الرحلات الإسلامية المجهولة حديث سلطان مسلم ركب المحيط الأطلسي لكشف غوامضه؛ وقد جاء ذكره في كتاب «صبح الأعشى» للقلقشندي المتوفى سنة (821ه/1418م)، عند الكلام على مملكة مالي في السودان الغربي جنوبي بلاد الغرب.
وبيان ذلك أن الملك منسا موسى بن أبي بكر ملك مالي مر بمصر في طريقه إلى الحج في عصر الناصر محمد بن قلاوون سنة (724ه/1324م)، فأوفد السلطان الناصر أحد كبار موظفي القصر لاستقباله، واحتفى به الأمراء المصريون،
1
واستفسروا منه عن أمور كثيرة في بلاده ولا سيما استخراج الذهب والنحاس. كما سأله أحدهم عن سبب انتقال الملك إليه، فأجاب بأن ابن عمه السلطان السابق محمد بن قو كان يظن أن «البحر المحيط له غاية تدرك»، فجهز مئات من السفن وشحنها بالرجال والمؤن التي تكفيهم سنين، وأمرهم أن يسيروا في المحيط وألا يرجعوا حتى يبلغوا نهايته أو تنفذ أزوادهم. فغابت السفن مدة طويلة ثم عادت منها سفينة واحدة. ومثل قائدها بين يدي السلطان، فسأله عن أمر زملائه؛ فقال: «إن السفن سارت زمانا طويلا وحتى عرض لها في وسط اللجة واد له جرية عظيمة.» فابتلع المراكب فلم ينج إلا هذا القائد بسفينته. وقد كانت آخر السفن، ولكن السلطان لم يصدق هذا الحديث، أو لعله أراد أن يتبين نصيبه من الصحة، فأعد ألفي سفينة للرجال وألفا للأزواد، واستخلف ابن عمه منسا موسى في حكم البلاد، وأقلع بنفسه على رأس حملته الاستكشافية العظيمة. فكان ذلك آخر العهد به وبمن معه.
البيروني
من العلماء المسلمين الذين كان للرحلات أكبر الفضل في علمهم أبو الريحان البيروني المتوفى سنة 440ه/1048م. وقد امتاز بالاطلاع الواسع، وروح النقد العلمي الدقيق، والعمق في التفكير؛ فحار قصب السبق في الفلسفة والفلك والعلوم الرياضية والتاريخ وعلوم اللغة وتقويم البلدان. وامتدت شهرته في العصور الوسطى إلى أوروبا.
ولد البيروني ونشأ في إقليم خوارزم. ثم أتيح له بعد ذلك أن يصحب السلطان محمود الغزنوي في فتوحاته بالهند. وقام برحلات طويلة في تلك البلاد، وتعلم لغاتها، وضبط مواقع مدنها، وأصلح بعض البيانات الجغرافية الخاطئة، التي كانت مدونة عنها، وأفاد مما جمعه خلال أسفاره في تأليف كتابه «تاريخ الهند»، ولا سيما أنه كان يقبل على البحث والتنقيب، وكان إسلامه لا يمنعه من الإخلاص في الحكم على غير المسلمين. والحق أن كل ما كتبه عن الهند يشهد بسعة اطلاعه وكثرة تجاربه ودقة ملاحظاته ، وبأنه جال طويلا في تلك البلاد، فعرف آفاقها وخبر أهلها ودرس عاداتهم ومظاهر حضارتهم.
ناصر خسرو
ولد ناصر سنة (394ه/1003م) في بلدة من أعمال بلغ وتأدب أحسن تأدب. وقام في شبابه بأسفار عديدة في أنحاء إيران وتركستان والهند وبلاد العرب، ثم استقر في منصب كبير في ديوان السلاجقة بمدينة مرو. وظل يعيش ترف وبطالة حتى سنة (437ه/1045م)؛ فنراه يضحي بمنصبه ويبدأ حياة جد وسفر وعلم وتقوى. وهو يذكر في كتاباته أن السبب في هذا التحول رؤيا ظهر له فيها شيخ طلب إليه أن يكف عن شرب الخمر وعن حياة اللهو والمجون. فسافر لتأدية فريضة الحج وقام برحلات طويلة في الشرق الأدنى بين عامي (437-444ه/1045-1052م).
ولما عاد إلى وطنه كان قد ترك مذهبه السني، وأصبح من أشد دعاة الإسماعيلية والمتعصبين للفاطميين. ولا عجب فإنه غادر إيران في وقت انتشرت فيه الاضطرابات، واشتد النزاع بين أمراء الأقاليم المختلفة، ورأى نفس البؤس في البلاد التي زارها ما خلا مصر، فقد وجد فيها رخاء عظيما وأسواقا عامرة وتحفا فنية نادرة وهدوءا شاملا. وظن ناصر خسرو أن الفضل في رخاء وادي النيل، إنما يرجع إلى الدولة الفاطمية ومذهبها الإسماعيلي، وأن هذا المذهب كفيل بإنقاذ العالم الإسلامي؛ فلم يلبث ناصر أن اتصل ببعض رؤساء الشيعة الإسماعيلية في مصر. والظاهر أن الخليفة المستنصر بالله أحسن استقباله وكلفه بأن يدعو لمذهب الإسماعيلية في خراسان. ولكن السلاجقة لاحظوا خطر هذه الدعوة فاضطهدوا ناصر خسرو، واضطروه إلى الفرار إلى بلاد ما وراء النهر، حيث توفي سنة (453ه/1061م).
وخلف هذا الرحالة وصفا دقيقا لرحلته يحمل على القول بأنه كان يدون مشاهداته أولا فأولا وأنه كان يعنى بالاتصال بالشعوب التي يمر بها، ويتفهم مظاهر الحضارة التي يشاهدها. وحسبنا أن نشير هنا إلى وصفه مدينة القاهرة، وكلامه عن حضارة مصر في عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وعنايته بدراسة الأعياد والحفلات والصناعات والفنون والأسواق، وإلى وصفه الحرم الشريف بالقدس.
وقد ترجمت رحلة ناصر خسرو إلى الفرنسية. وأصبحت مصدرا أساسيا في دراسة الحضارة الإسلامية في الشرق الإسلامي في القرن الخامس الهجري، والحق أن وصف مصر في رحلة ناصر خسرو يعد من أكثر المصادر التاريخية إمتاعا وأعظمها شأنا في بيان حال البلاد قبل القحط أو «الشدة العظمى» التي حلت بها في نهاية عصر الخليفة المستنصر.
1
ولا عجب فإن هذا الرحالة لم يكن سائحا عابرا؛ بل أقام في مصر نحو أربع سنوات ودون مشاهداته بدقة وإسهاب، فوصف الحياة العقلية وتحدث عن الأزهر ودار الحكمة وجامع عمرو، وعن العلماء والفقهاء ودعاة الفاطميين.
واستطاع أن يدرس الحياة الاجتماعية عن كثب. فذكر مثلا أنه لم يعرف بلدا يستمتع بمثل ما ظفرت به مصر من الأمن والهدوء، وأن الصناع والعمال فيها يمنحون أجورا مرضية، فيقبلون على العمل بسرور وانشراح، على عكس ما في الأقطار الأخرى من السخرة وما إلى ذلك؛ كما أن مرتبات القضاة كانت كبيرة جدا، ليتم الاطمئنان إلى عدالتهم وبعدهم عن المؤثرات المختلفة ولتقل حاجتهم إلى الناس.
ولاحظ ناصر أن التجار في مصر كانوا يبيعون بأثمان محددة، وإذا ثبت على أحدهم الغش فإنه يركب جملا، ويوضع في يده جرس يدقه ويطاف به في البلد ويرغم على أن يصيح بأعلى صوته: «لقد غششت وها أنا ألقى عقابي. جزى الله الكاذبين!» وكتب كذلك أن البقالين والعطارين وبائعي «الخردة» كانوا يأخذون على عاتقهم إعطاء الزجاج والأواني الخزفية والورق لوضع ما يبيعونه فيها؛ فلم يكن على المشتري أن يبحث عما يجعل فيه ما يقتنيه.
ومما ذكره أن ركوب الخيل كان وقفا على الجند والمتصلين بالجيش، على حين كان سائر الأهلين ينتقلون على حمير ذات سروج جميلة. وكان في الفسطاط والقاهرة نحو خمسين ألف حمار للتأجير؛ يشاهد المرء عددا كبيرا منها عند مداخل الشوارع والأسواق.
وأطنب ناصر خسرو في التدليل على ثروة البلاد ورخائها، ووصف مدينة القاهرة وصفا شائقا، وقدر أنها في ذلك الوقت (فيما بين سنتي 449-441 هجرية/1047-1050م) كانت قد نمت عمارتها، وأصبح فيها ما لا يقل عن عشرين ألف دكان، كلها ملك للخليفة. وكثير منها يؤجر بعشرة دنانير في الشهر، وليس بينها إلا القليل تبلغ أجرته في الشهر دينارين. وكان في القاهرة من الخانات والحمامات عدد وافر جدا، وكلها ملك للخليفة أيضا والقصر الملكي وسط المدينة، بينه وبين الأبنية المحيطة به فضاء يفصله عنها. وأسواره عالية فلا يستطيع أحد رؤيته من داخل المدينة، وهو يبدو من خارجها كالجبل. ولم يكن بالقاهرة سور محصن، ولكن أبنيتها كانت أعلى من الأسوار المحصنة، وفي كل منها خمس طبقات أوست؛ فكأنها القلاع الضخمة. وكانت البيوت مبنية بناء نظيفا محكما وكانت مفصولا بعضها عن بعض بحدائق ترويها مياه الآبار.
وانتقل ناصر خسرو بعد ذلك إلى وصف مدينة الفسطاط جنوبي القاهرة، حيث كانت الحركة التجارية فأسهب في الكلام على عظمتها وبيوتها الشاهقة وجوامعها الكبيرة وحدائقها الغناء وصناعتها الزاهرة، ووصف الثروة في أسواقها والازدحام فيها، وقال: إن الحوانيت مملوءة بالسلع المختلفة والأقمشة الثمينة والذهب وسائر الحلي، حتى إن المشتري لا يجد فيها محلا يجلس فيه.
وذكر هذا الرحالة في مواضع عديدة من حديث رحلته قصصا تشهد بالتسامح الديني الذي عرف عن العصر الفاطمي، وباطمئنان المسيحيين واليهود إلى عدل الخليفة وحكومته. ومن ذلك قصة تاجر مسيحي كان من أغنى الأثرياء في مصر؛ فلا يستطيع أحد أن يحصي أرزاقه وأملاكه وماله من السفن. وقد دعاه الوزير ذات يوم وأخبره أن الخليفة أقلقه، وأهمه ما حل بالشعب من الضيق بسبب قلة المحصول ذلك العام، ثم سأله عن مقدار القمح الذي يمكنه أن يبيعه أو يقرضه، فأجاب التاجر بأن عنده من القمح ما يكفي مدينة مصر (الفسطاط) ست سنوات. وقد أعجب ناصر خسرو بما عرف عن الخليفة والحكومة من العدل الذي يسمح لمثل ذلك الرجل أن يمتلك مثل هذه الثروة، وأن يصدق القول بشأنها بدون أن يخشى مصادرتها أو ضياع حقه في جزء منها.
وامتاز ناصر خسرو بما عرف عن الإيرانيين من الذوق الفني الجميل؛ حتى أصبحت ملاحظاته وآراؤه عن الآثار والفنون في رحلته مرجعا أساسيا للمشتغلين بالفنون الإسلامية. فنراه يتحدث عن مراكز الصناعات والفنون المختلفة، ويصف المساجد، والقصور والخانات وغير ذلك من مفاخر العمارة الإسلامية. وتحدث ناصر عن مدينة تنيس، وأعجب بما كان ينسج في أي مكان آخر قصب يوازيه في الجودة والجمال، وبقماش الأبوقلمون، الذي يتغير لونه باختلاف ساعات النهار، ويصدره المصريون إلى بلاد الشرق والغرب. كما أعجب بالكتان الذي كان ينسج في أسيوط ويبدو للعين كأنه الحرير.
وأشار إلى صناعة الخزف في العصر الفاطمي؛ فقال : إن المصريين كانوا يصنعون أنواع الخزف المختلفة، وإن الخزف المصري كان رقيقا وشفافا، حتى لقد كان ميسورا أن ترى من باطن الإناء الخزفي اليد الموضوعة خلفه. وكانت تصنع بمصر الفناجين والقدور وسائر الأواني، وتزين بألوان مختلفة تختلف باختلاف أوضاع الآنية.
وكان ناصر خسرو شديد الإعجاب بسوق القناديل - بجوار جامع عمرو - فقال: إنه لم يعرف مثله في أي بلد آخر، وإن التحف النادرة والثمينة كانت تحمل إليه من أصقاع العالم كله. وترجع هذه التسمية إلى أن سكان هذا الحي كان لكل منهم قنديل على باب مسكنه. والطريف أن ما وصل إلينا من التحف الفنية الفاطمية يؤيد تماما ما كتبه ناصر خسرو في هذا الميدان. وقد فصلنا الكلام على ذلك في كتابنا «كنوز الفاطميين».
ولا ريب في أن هذا الرحالة أتيح له أن يدرس مصر دراسة طيبة خلال رحلته فيها، وإن كان من المحتمل أن تعصبه الشديد للمذهب الفاطمي قد يكون من أسباب إفراطه في الإعجاب بثروة البلاد ورخائها وأمنها، والتسامح الديني فيها وازدهار فنونها وعدالة النظم الاجتماعية فيها.
والحق أن ناصر خسرو لم يكن شديد الاهتمام بالنظم الاجتماعية في مصر فحسب؛ بل نراه يعرض لما يصادفه من هذه النظم في سائر البلاد التي تجول فيها. مثال ذلك ما كتبه عن إقليم الأحساء في بلاد العرب. فقد أعجب بنظام الحكومة القرمطية فيه. وذكر أنه إذا أعسر أحد السكان فيه أقرضوه مالا يستعين به على تدبير أموره، وأن الذي يستدين شيئا لا يطالب بدفع ربح عنه، وأن الغريب الذي يحسن إحدى الحرف يقرض عند وصوله إلى هذا الإقليم مبلغا من المال يستعين به على شراء عدده. وإذا تهدمت دار أو مطحنة، وعجز صاحبها عن إصلاحها، فإن حكام الإقليم ينيطون ببعض عبيدهم إتمام هذا الإصلاح من غير أجر. وللحكومة في الإحساء مطاحن تنفق عليها ويطحن الناس فيها قمحهم بالمجان. وقد سجل ناصر إعجابه بهذه النظم التي تذكرنا الآن ببعض الاتجاهات الاشتراكية في العصور القديمة وفي العصر الحديث. •••
ودون ناصر في أخبار رحلته أن السفر في بعض أجزاء بلاد العرب لم يكن ميسورا إلا إذا استأجر المسافر حارسا من أبناء القبيلة التي يمر بأرضها ليدله على الطريق ويحميه من اعتداء قطاع الطرق.
ومن طريف ما ذكره ناصر عن البيع والشراء في أسواق البصرة أن هذه المدينة كانت تقوم في أنحائها ثلاثة أسواق في اليوم الواحد، وأن رواد تلك الأسواق كانوا يودعون أموالهم عند أصحاب المصارف المالية، ويأخذون منهم إقرارا باستلامها ثم يدفعون قيمة كل ما يشترونه «شيكا» أو «إذنا» يقبض البائع قيمته من صاحب المصرف. وهكذا لا يستعمل التجار النقود في معاملتهم، وإنما يستخدمون «الشيكات أو أذنات الصرف» يدفع قيمتها أصحاب المصارف.
2
ولاحظ ناصر خسرو في مدينة طبس (بين نيسابور وإصفهان) أن المرأة لا تخاطب إلا زوجها أو قريبا لها وأنه إذا ثبت أن رجلا وامرأة لا قرابة بينهما قد دار بينهما حديث فإن جزاءهما القتل.
وصفوة القول: أن رحلة ناصر خسرو في الشرق الأدنى تميط اللثام عن كثير من نظمه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في منتصف القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).
الإدريسي
هو محمد بن محمد الشريف الإدريسي صاحب كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق». ولا ريب في أنه من أعلام الجغرافيين المسلمين الذين كان للرحلات شأن عظيم في آثارهم العلمية. ولد في سبتة سنة (493ه/1100م). ودرس في جامعة قرطبة، ثم طاف في الأندلس وشمالي إفريقية وآسيا الصغرى. ويقال أيضا: إنه زار فرنسا وإنجلترا. ثم لبى دعوة الملك رجار
Roger
الثاني فنزل في بلاطه بصقلية، حيث كان التأثر بالمدينة الإسلامية لا يزال عظيما.
وكان رجار قد أراد - جريا على سنة كثير من الأمراء الشرقيين - أن يؤلف له كتاب شامل في وصف مملكته وسائر الآفاق المعروفة في ذلك العهد، فجمع ما كتب المؤلفون في هذا الميدان. ووقع اختياره على الشريف الإدريسي ليصنف له كتابا في وصف الكرة الأرضية الفضية التي صنعت له مرسوما عليها جميع الأقاليم المعروفة حينئذ. وطبيعي أن هذا الاختيار يشهد بما كان للمسلمين من تفوق في العلوم والفنون في ذلك العصر. وقد تم تأليف هذا الكتاب المسمى «نزهة المشتاق» قبل وفاة رجار سنة (548ه/1154م)، وظل الكتاب ينسب إلى أمير البلاد فيقال: «كتاب رجار» أو «الكتاب الرجاوي».
واستعان الإدريسي في كتابه مؤلفاته الجغرافية الواسعة بما أفاده من رحلاته الخاصة، وبما جمعه الرواد الذين أوفدهم الملك رجار إلى أقاليم المختلفة لاستطلاع أوصافها وتحقيق مواضعها، وبما قيده من أحاديث الرحالة والتجار والحجاج في السفن التي كانت تمر بموانئ صقلية، إلى جنب ما استطاع الحصول عليه من بيانات عن البلاد المسيحية بفضل رعاية الملك رجار المسيحي. والواقع أنه - بهذه البيانات - امتاز على سائر الجغرافيين المسلمين فإن من سبقه منهم لم يستطع الكتابة على أوروبا في شيء من الدقة، ولم يظهر بمشاهدات أولئك الرواد الذين أوفدهم الملك حتى إلى أقصى الأطراف مثل إسكندناوة. أما الذين خلفوه فقد عمد معظمهم إلى نقل ما كتبه هو في هذا الصدد.
وطبيعي أيضا أن يمتاز كتاب الإدريسي بغزارة مادته في جغرافية المغرب وصقلية مما يشهد بأنه ساح في تلك الآفاق. أما فيما يخص الشرق فقد نقل كثيرا عمن سبقه من المؤرخين. ومع ذلك كله، فإن ما كتبه عن مصر والشام وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والأراضي المطلة على البحر الأدرياتيك يشهد بأنه أفاد كثيرا من سياحاته الخاصة أو سياحات غيره من الرواد. وكتب الإدريسي كثيرا في الغوص عن اللؤلؤ فأحسن عرض هذا الموضوع وألم بأطرافه.
1
وأكبر الظن أن كتب الإدريسي وصلت إلى العلماء المسيحيين بصقلية في العصور الوسطى، ولكننا لم نظفر بدليل على ذلك؛ لأن أقدم ترجمة نعرفها لكتابه «نزهة المشتاق» كانت إلى اللاتينية في بداءة القرن السابع عشر الميلادي. والذي لا شك فيه أن الغربيين اعتمدوا هذا الكتاب في تقويم البلدان، ولا سيما بلاد الشرق، إلى أن تقدم علم الجغرافيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وحسبنا أن نشير إلى ما كتبه البارون دي سلان. (في عدد أبريل سنة 1841 من المجلة الآسيوية الفرنسية)؛ فقد قال: «إن كتاب الإدريسي لا يمكن أن يوازن به أي كتاب جغرافي سابق له، وإن ثمت بعض أجزاء من المعمورة لا يزال هذا الكتاب دليل المؤرخ والجغرافي في الأمور المتصلة بها.»
ولا شك في أن ما كتبه الإدريسي عن صقلية يشهد بالتسامح الديني الذي كان سائدا فيها برعاية الحكام النورمانديين الذين كانوا يحثون رعاياهم المسلمين على التمسك بأهداف دينهم والذين يقال: إنهم كانوا لا يأذنون للمسلم أن يرتد عن الإسلام. ولا غرو في ذلك فقد كان هؤلاء الحكم شبه شرقيين في مظاهر حضارتهم المختلفة.
ومما يؤسف له أننا لا نعرف شيئا كثيرا عن سيرة الإدريسي. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن مرجع هذا أن المؤلفين العرب كانوا يتجاهلون وجوده لإسرافه في مدح رجار، ولإنصافه المسيحيين في صقلية إلى أبعد حد، في وقت كان المسيحيون فيه يشنون على المسلمين الحروب الصليبية الشعواء، أو يعملون على طردهم من الأندلس. ولكن هذا التعليل لا يقوم على أساس متين؛ لأن شكنا في شأن ضياع سيرة الإدريسي تصلح أيضا لسيرة كثير من سائر الجغرافيين المسلمين، الذين لم يتصلوا بالمسيحيين ولم يسرفوا في مدحهم.
السمعاني
هو عبد الكريم بن أبي بكر السمعاني من علماء مدينة مرو. ولد سنة (506ه/1112م) من بيت كريم انتهت إليه رئاسته. وقام برحلات طويلة في طلب العلم والحديث؛ حتى قيل: إن عدد شيوخه زاد على أربعة آلاف. والمعروف أنه زار بلاد ما وراء النهر
Transoxiane
وجال في أقاليم الشرق الإسلامي، ولا سيما إيران والعراق والشام والحجاز، ولعله طاف في «غيرها من البلاد التي يطرأ ذكرها ويتعذر حصرها»، على حد قول ابن خلكان في ترجمته.
ويتجلى علم السمعاني ببلاد الإسلام في مؤلفه «كتاب الأنساب» الذي جمع فيه بضعة آلاف من التراجم مرتبة على حروف المعجم، ونسب كل واحد منها إلى بلد أو قبيلة أو صناعة أو تجارة أو غير ذلك؛ فكان يضبط حروف النسبة ويشرحها، وإذا كانت إلى بلد ذكر موقعه ثم ترجم لصاحب الاسم. والحق أن مثل هذا المعجم المطول من الأعمال العلمية الجليلة، التي تتطلب الأسفار الطويلة والاطلاع الواسع. وقد لخص «كتاب الأنساب» أو أجمله عدد من المؤلفين. واختصره السمعاني نفسه في كتاب طبعته مصورا لجنة تذكار جب
Gibb Memorial
سنة (1912).
ابن جبير
كان كثير من الحجاج القادمين من الأندلس يزورون المغرب ومصر والشام في طريقهم إلى الحجاز، ثم ينتهزون هذه الفرصة للطواف في بعض الأقاليم الإسلامية الأخرى. وأعظم أولئك الحجاج شأنا في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) هو ابن جبير؛ فقد قام بثلاث رحلات إلى الشرق ودون أخبار الرحلة الأولى في شبه مذكرات يومية تعرف باسم «تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار». ولعله كتبها حول سنة 582ه/1186م. وقد قام على نشرها المستشرق الإنجليزي رايت
W. Wright
سنة 1852 ثم ظهرت منها طبعة جديدة سنة 1907 راجعها المستشرق الهولندي دي خويه.
ولد ابن جبير في مدينة بلنسية سنة 540ه/1145م. ودرس على أبيه وغيره من علماء العصر في سبتة وغرناطة، ثم دخل في خدمة أبي سعيد بن عبد المؤمن صاحب غرناطة. ومما جاء في ترجمة ابن جبير عن كتاب نفح الطيب للمقري أن الأمير أبا سعيد استدعاه يوما ليؤلف فيه كتابا، وهو في مجلس شرابه وحدث أن دفع إليه كأسا من النبيذ، فاعتذر ابن جبير بأنه ما شرب الخمر قط، فقال الأمير: والله لتشربن منها سبعا؛ فلم يستطع إلا الإذعان. وكافأه الأمير بأن قدم إليه القدح سبع مرات أخرى مملوءة بالدنانير وصب ذلك في حجره. وانصرف ابن جبير. وعقد العزم في الليلة نفسها على أن يذهب لتأدية فريضة الحج تكفيرا عن ذنبه في شرب النبيذ. وأنفق تلك الدنانير في سبيل البر وباع عقارا له تزود به. •••
بدأ ابن جبير رحلته إلى الأراضي الحجازية في شوال سنة 578ه/فبراير سنة 1183م مع صديق اسمه أحمد بن حسان كان من رجال الطب والعلم والأدب. وعبر الصديقان البحر إلى مدينة سبتة
Cauta ، حيث وجدا سفينة من سفن مدينة جنوة، تريد الإقلاع إلى الإسكندرية، فركباها يوم الخميس 29 من شوال/24 فبراير، وبدأ ابن جبير تقييد يومياته منذ اليوم التالي. ومما يشهد بأن العلاقات بين الأفراد المسيحيين والمسلمين كانت طيبة أن ابن جبير سره التوفيق لتلك السفينة، وكتب أن الله «سهل عليه وعلى صديقه ركوبها».
أقلعت السفينة من ثغر سبتة الواقع على شاطئ مراكش في مواجهة جبل طارق. وسارت محاذية لشاطئ الأندلس حتى ثغر دانية جنوبي بلنسية. ثم اتجهت شرقا مارة بجزائر البليار. وكادت أنواء البحر وأمواجه أن تعبث بها، لولا مركبا مسيحيا آخر، كان قادما من قرطاجنة الإسبانية وميمها شطر صقلية، فاقتفت أثره. واستطاعت أخيرا أن تصل مع ذلك المركب إلى برسردانية حيث جدد المسافرون الماء والحطب والزاد. وقيد ابن جبير أن مسافرا مسلما ممن يعرفون اللسان الرومي هبط مع جماعة من الروم إلى أقرب المواضع المعمورة من المرسى الذي وصلت إليه السفينة، فرأى نحو ثمانين من أسرى المسلمين رجالا ونساء يباعون في السوق، وكان الروم قد عادوا بهم من غزوة في سواحل البحر ببلاد المسلمين.
أقلعت السفينة بعد ذلك إلى صقلية. ووصف ابن جبير ما مر بها من العواصف والأهوال إلى أن أرست على شاطئها عند موضع لم يحدده. ثم فارقته إلى ثغر الإسكندرية فوصلت إليه في 29 من ذي القعدة أي بعد شهر من بدء رحلتها من مراكش.
وطبيعي أن أول ما شاهده ابن جبير في الإسكندرية إنما كان متصلا بما نسميه اليوم «إجراءات الجمارك». والحق أنه وصفها في دقة وطرافة، تحملنا على روايتها على لسانه؛ لنتبين أن كثيرا من الأنظمة التي تبدو لنا اليوم من تمخضات مدنيتنا ليس في الحق إلا تطورا طبيعيا لما عرفه القوم في العصور الوسطى.
قال ابن جبير: «فمن أول ما شاهدنا فيها (أي: في الإسكندرية) يوم نزولنا أن طلع أمناء إلى المركب من قبل السلطان بها لتقييد جميع ما جلب فيه، فاستحضر جميع من كانوا فيها من المسلمين واحدا واحدا وكتبت أسماؤها وصفاتها وأسماء بلادهم، وسئل كل منهم عما لديه من سلع أو ناض (نقد) ليؤدي زكاة ذلك كله، دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل. وكان أكثرهم متشخصين لأداء الفريضة لم يستصحبوا سوى زاد لطريقهم، فلزموا أداء زكاة ذلك دون أن يسأل هل حال عليه حول أم لا. واستنزل أحمد بن حسان منا، ليسأل عن أنباء المغرب وسلع المركب؛ فطيف به مرقبا على السلطان أولا. ثم على القاضي ثم على أهل الديوان ثم على جماعة من حاشية السلطان، وفي كل يستفهم ثم يقيد قوله فيخلى سبيله.
وأمر المسلمون بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم. وعلى ساحل البحر أعوان يتوكلون بهم وبحمل جميع ما أنزلوه إلى الديوان، فاستدعوا واحدا واحدا، وأحضر ما لكل واحد من الأسباب. والديوان قد غص بالزحام فوقع التفتيش لجميع الأسباب، ما دق منها وما جل. واختلط بعضها ببعض. وأدخلت الأيدي إلى أوساطهم بحثا عما عسى أن يكون فيها. ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غيري ما وجدوا لهم أم لا. وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام. ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم ... وهذه لا محالة من الأمور الملبس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين. ولو علم بذلك، على ما يؤثر عنه من العدل وإيثار الرفق، لأزال ذلك وكفى الله المؤمنين تلك الخطة الشاقة، واستؤدوا الزكاة على أجمل الوجوه. وما لقينا ببلاد هذا الرجل ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الأحدوثة، التي هي من نتائج عمال الدواوين.»
فقد آلم ابن جبير أن يساء إلى الحجاج المسلمين، وأن يطلب إليهم أداء الزكاة عن جميع ما معهم، بدون تفرقة بين الذي حال الحول فاستحقت عليه الزكاة وما لم يحل عليه الحول فلا زكاة عليه، كما آلمته القسوة في تفتيشهم. والظاهر أن هذه الدقة في «جمرك» الإسكندرية قديمة، فقد ذكر الأستاذ نقولا زيادة في كتابه «رواد الشرق العربي»، الذي أخرجته مجلة المقتطف، أن السائح المسيحي برنارد الحكيم روى عن نفسه (في القرن التاسع الميلادي) أنه فتش في الإسكندرية وحقق معه، ودفع ستة دنانير ذهبية.
وقد لقي ابن جبير مثل هذا التفتيش بالإسكندرية في رحلته الثانية إلى مصر؛ فكتب قصيدة يمدح فيها السلطان صلاح الدين، ويشير إلى فتحه ببيت المقدس سنة 583ه/1187م، وينصحه بإزالة هذه الأساليب التي تهتك فيها الحرمات وتنسى حقوق المسلمين، ومن أبيات هذه القصيدة:
يعنت حجاج بيت الإله
ويسطو بهم سطوة الجائر
ويكشف عما بأيديهم
وناهيك من موقف صاغر
وقد أوقفوا بعدما كوشفوا
كأنهم في يد الآسر
ويلزمهم حلفا باطلا
وعقبى اليمين على الفاجر
وإن عرضت بينهم حرمة
فليس لها عنه من ساتر
وليس على حرم المسلمين
بتلك المشاهد من غائر
ألا ناصح مبلغ نصحه
إلى الملك الناصر الظافر
فما للمناكر من زاجر
سواك وبالعرف من آمر
وحاشاك إن لم تزل رسمها
فما لك في الناس من عامر
أما الطواف بأحمد بن حسان - زميل ابن جبير - على طائفة من الموظفين لسؤاله عن أبناء المغرب، فيذكرنا بما يحدث اليوم بين دول المتحاربة من استجواب القادمين إليها من أبناء بلاد الأعداء أو ممن مروا بتلك البلاد؛ ليمكن الإفادة مما قد يدلون به من أخبار. ومما يؤسف له أن ابن جبير لم يدون شيئا عما اتبع الثغر مع المسافرين من غير المسلمين.
عرض ابن جبير بعد ذلك لوصف الإسكندرية، فذكر آثارها وعمائرها ومنارها وأعجب بما فيها من مدارس للغرباء «يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنا يأوي إليه ومدرسا يعلمه الفن الذي يريد تعليمه»، كما أشار إلى المستشفى الذي شيده السلطان لأولئك الغرباء، وإلى الخيرات التي أوقفها للعناية بهم. ولاحظ كثرة المساجد إلى حد أن توجد منها الأربعة والخمسة في موضع واحد. وأتيح لابن جبير أن يشاهد في الإسكندرية دخول الأسرى الصليبيين، الذين وقعوا في يد المسلمين في الحملة الصليبية الفاشلة، التي كان صاحب الكرك قد دبرها في البحر الأحمر للاستيلاء على المدن الإسلامية المقدسة. وقد أدخل الأسرى «راكبين على الجمال ووجوههم إلى أذنابها وحولهم الطبول والأبواق».
ثم انتقل ابن جبير إلى القاهرة ومصر - وهذا الاسم الأخير هو الذي كانت تعرف به حينئذ مدينة الفسطاط وضواحيها المتصلة بالقاهرة - ونزل بفندق أبي الثناء في زقاق القناديل بمقربة من جامع عمرو بن العاص. وأقام في عاصمة البلاد أياما؛ زار فيها مشهد الحسين والقرافة وضريح الإمام الشافعي، والمدرسة الناصرية التي شيدها بإزائه السلطان صلاح الدين، ولم تكن عمارتها قد تمت بعد. وأعجب ابن جبير بسعتها فكتب: «يخيل لمن يتطوف عليها أنها بلد مستقل بذاته. بإزائها الحمام إلى غير ذلك من مرافقها.» وحرص على لقاء شيخها نجم الدين الخبوشاني؛ لأنه كان قد سمع في الأندلس بفضله وبركته. ثم شاهد مارستان القاهرة وبنيان القلعة والسور الذي كان صلاح الدين يريد أن يتخذه حول القاهرة والقطائع والعسكر والفسطاط، فيجمع عواصم مصر الإسلامية كلها. وقد عثرت دار الآثار العربية في حفائرها على أطلال هذا السور.
كما شاهد القناطر التي شيدها السلطان عند بدء الصحراء الغربية «بعد رصيف ابتدئ به من حيز النيل بإزاء مصر، كأنه جبل ممدود على الأرض تسير فيه مقدار ستة أميال حتى يتصل بالقنطرة المذكورة». وكانت القنطرة والطريق المرصوف معا جزءا مما أعده السلطان للدفاع عن البلاد من جانب الغرب. ولاحظ ابن جبير أن جميع المسخرين في العمائر والمنشآت المختلفة كانوا من أسرى الروم. ووصف أهرام الجيزة «وأبا الهول».
وأشار في حديثه عن القاهرة إلى فضل السلطان صلاح الدين في محو المكوس، التي كانت مفروضة على الحجاج في عصر الدولة الفاطمية، والتي كانت تجبى يضطهدون ويعذبون في سبيل دفعها؛ وأما الذين لا يدفعون الضريبة في عيذاب، وتصل أسماؤهم إلى جدة «غير معلم عليها علامة الأداء»، فكانوا يلقون فيها أضعاف هذا التنكيل. فأبطل صلاح الدين هذه المكوس، وعوض أمراء مكة بما يرسله إليهم سنويا من الطعام والمال. •••
ثم صعد ابن جبير في النيل إلى قوص. ووصف بعض المعابد في المدن. التي توقفت عندها المركب، كما شرح ما يلقاه الحجاج والمسافر من عسف العمال المكلفين جمع الزكاة، فقد كانوا يعترضون المركب ويفتشون المسافرين ويفحصون الأمتعة بوساطة مسلة طويلة يتخللون بها الأكياس والحزم.
ودخل ابن جبير قوص فكتب أنها حافلة الأسواق، متسعة المرافق، كثيرة الخلق لكثرة الصادر والوارد من الحجاج والتجار المصريين والمغاربة واليمنيين والهنديين وتجار أرض الحبشة. ثم سافر منها إلى عيذاب بطريق الصحراء الذي ذاعت شهرته في عالم التجارة في العصور الوسطى. ووصف ابن جبير هذا الطريق وأشار إلى ضخامة تجارته في الفلفل وأنواع التوابل فقال: «ورمنا في هذا الطريق إحصاء القوافل الواردة والصادرة فما تمكن لنا، ولا سيما القوافل العيذابية المتحملة لسلع الهند الواصلة إلى اليمن، ثم من اليمن إلى عيذاب وأكثر ما شاهدنا من ذلك أحمال الفلفل، فلقد خيل إلينا لكثرته أنه يوازي التراب قيمة. ومن عجيب ما شاهدناه بهذه الصحراء أنك تلتقي بقارعة الطريق أحمال الفلفل والقرفة وسائرها من السلع مطروحة لا حارس لها، تترك بهذا السبل إما لإعياء الإبل الحاملة لها، أو غير ذلك من الأعذار. وتبقى بموضعها إلى أن ينقلها صاحبها مصونة من الآفات، على كثرة المارة عليها من أطوار الناس.
وصل ابن جبير إلى عيذاب ولاحظ أنها من أعظم الثغور شأنا «بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها زائدا إلى مراكب الحجاج الصادرة والواردة». كما لاحظ أنها في صحراء لا نبات فيها ولا يؤكل فيها شيء إلا مجلوب، ولكن أهلها في نعمة بما يكسبونه من خدمة الحجاج ولا سيما من تأجير الجلاب - والواحدة جلبة - وهي المراكب التي تنقل الحجاج بين عيذاب وجدة. وقد وصفها ابن جبير وصفا فريدا؛ لأنها كانت غريبة لا يستعمل فيها مسمار البتة. وكان أهل عيذاب لا يحفلون براحة الحجاج؛ فكانوا «يشحنون الجلاب بهم، حتى يجلس بعضهم على بعض وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج»؛ لكي يستطيع صاحب الجلبة منهم أن يستوفي ثمنها في رحلة واحدة. والواقع أن ابن جبير قدر أن الحلول بعيذاب من أعظم المكاره التي حف بها السبيل إلى الحج، فقد كان ساخطا على هوائها الذي «يذيب الأجسام» ومائها «الذي يشغل المعدة على اشتهاء الطعام»، وسكانها «الذين لا خلاق لهم ولا جناح على لاعنهم». وأشار في هذه المناسبة إلى ما يزعمه الناس من أن سليمان بن داود كان اتخذها سجنا للعفارتة. ونصح ابن جبير بتجنبها وباتخاذ طريق الشام. والحق أن هذا الطريق الأخير ومثله طريق العقبة، كان طريقا طبيعيا ولا سيما لحجاج المغرب والأندلس. ولكن وجود الصليبيين في الشام حمل معظم الحجاج على التحول إلى طريق عيذاب. •••
على أن الجزء الأساسي في رحلة ابن جبير إنما هو وصف مكة والمسجد الحرام ومناسك الحج وزيارة المدينة؛ فقد استغرق هذا كله أكثر من ثلث الكتاب، ووفق فيه الرحالة لتدوين أخبار وملاحظات ذات شأن عظيم في دراسة التاريخ والآثار الإسلامية. ولا عجب فقد أقام بمكة حول ستة شهور. وغضب ابن جبير لما شاهده من سوء معاملة الحجاج، وإمعان أهل مكة في استغلالهم، لولا تدارك صلاح الدين بإرساله المال والطعام إلى مكثر الحسني أمير مكة، فضلا عن منحه إقطاعات في صعيد مصر واليمن. غير إن غياب صلاح الدين في حروبه مع الصليبيين في الشام كان يشجع مكثر الحسني على التمادي في نهب الحجاج، حتى تمنى ابن جبير أن تطهر تلك الأراضي المقدسة بسيوف مولاه ملك الموحدين.
وكان أمراء مكة يدينون بالطاعة للخليفة العباسي ولصلاح الدين، ولكنهم كانوا ينعمون بقسط وافر من الاستقلال، ما دام الخليفة العباسي ضعيفا، وما دام صلاح الدين مشغولا بقتال الصليبيين. وذكر ابن جبير أن الخطيب في الحرم الشريف كان يدعو يوم الجمعة للخليفة العباسي. ثم لأمير مكة ثم للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ولأخيه وولي عهده أبي بكر. «وعند ذكر صلاح الدين بالدعاء تخفق الألسنة بالتأمين عليه في كل مكان. وحق ذلك عليهم، لما يبذله من جميل الاعتناء بهم وحسن النظر لهم ... وحسن رفعه من وظائف المكوس عنهم.» وليس هذا هو الوضع الوحيد الذي أشار فيه ابن جبير إلى صلاح الدين بأعظم الإعجاب والتقدير.
أكمل ابن جبير حجته، ولكنه لم يعقد العزم على العودة إلى وطنه مباشرة. ولم يكن ليفكر في الرجوع من طريق عيذاب؛ فرافق ركب الحجاج العراقي، ومر بطريق نجد قاصدا الكوفة، ودون أن هذه المدينة «كبيرة عتيقة البناء قد استولى الخراب على أكثرها، ومن أسباب خرابها قبيلة خفاجة المجاورة لها، فهي لا تزال تضر بها». وعبر الفرات عند مدينة الحلة على جسر جديد أمر الخليفة بتشييده لراحة الحجاج. وكان هذا الجسر معقودا على مراكب كبار متصلة من الشط إلى الشط، تحف بها من جانبها سلاسل من حديد «كالأذراع المفتولة عظما وضخامة، ترتبط إلى خشب مثبتة في كلا الشطين تدل على عظم الاستطاعة والقدرة». واجتاز ابن جبير بظاهر مدينة الحلة جسرا آخر على نهب متشعب من الفرات يسمى «النيل».
وأخيرا ألقى الرحالة عصا التسيار في بغداد. ووصف أحياءها المختلفة ومساجدها وأسواقها وحماماتها ومدارسها ومستشفياتها، ولكنه لم يجد العاصمة العباسية على حسب ما تخيل فكتب: «إن هذه المدينة العتيقة، وإن لم تزل حاضرة الخلافة العباسية ... قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها إلا شهير اسمها ... أما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع بالتواضع رياء، ويذهب بنفسه عجبا وكبرياء. يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء. قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود يصغر بالإضافة لبلده؛ فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم، كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادا أو عبادا سواهم ... يظنون أن أسنى الفخار في سحب الإزار ... يتبايعون بينهم بالذهب قرضا؛ فلا نفقة فيها إلا من دينار تقرضه، وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف، ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها إلا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف. فالغريب منهم معدوم الإرفاق متضاعف الإنفاق، لا يجد من أهلها إلا من يعامله بنفاق، أو يهش إليه هشاشة انتفاع واسترفاق ... فسوء معاشرة أبنائها يغلب على طبع هوائها ومائها ... أستغفر الله إلا فقهاءهم المحدثين ووعاظهم المذكرين ... لكنهم معهم يضربون في حديد بارد.»
والحق أن ابن جبير كان قاسيا على أهل بغداد قسوة تذكرنا بقسوة الطبيب ابن رضوان (القرن 6ه/12م) على المصريين عامة، حين أسرف في وصفهم بالجبن والبخل وما إلى ذلك، حتى لاحظ أن كلابهم أقل جرأة وبهائمهم أشد ضعفا من الكلاب والبهائم في سائر الأقاليم.
1
وعرض ابن جبير في وصف بغداد لقصور الخليفة وأسرته. وذكر أن بني العباس كانوا وقتئذ متعلقين اعتقالا جميلا لا يخرجون ولا يظهرون ولهم المرتبات القائمة، ولم يكن للخليفة وزير؛ بل كان له موظف لشئونه الخاصة ، يعرف بنائب الوزارة، وله فضلا عن ذلك قيم على الدولة كلها يعرف بالصاحب أستاذ الدار، ويدعي له في الخطبة إثر الدعاء للخليفة. •••
وانتقل ابن جبير إلى الموصل مارا بسر من رأى وتكريت وأعجب بما في الموصل من عمائر حربية ودينية ومستشفيات. ثم واصل الرحلة بين مدن الشام المختلفة فوصف آثارها، وتحدث عن عادات أهلها وعن عنايتهم بالغرباء. ودون «أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به أحد المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم، ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله - عز وجل - فتجب مشاركتهم».
والحق أن ابن جبير نبه إلى ما كان من مودة وعلاقات تجارية بين أفراد المسلمين والمسيحيين، حتى في العهد الذي كانت الحروب الصليبية ناشبة فيه بين أمراء الفريقين، فقد كتب في رحلته: «ومن أعجب ما يحدث به أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف (القتال) بينهم، ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. شاهدنا في هذا الوقت الذي هو شهر جمادى الأولى من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك، وهو من أعظم حصون النصارى، وهو المعترض في طريق الحجاز والمانع لسبيل المسلمين على البر، بينه وبين القدس مسيرة يوم أو أشق قليلا، وهو سرارة أرض فلسطين، وله نظر عظيم الاتساع متصل العمارة، يذكر أنه ينتهي إلى أربعمائة قرية، فنازله هذا السلطان وضيق عليه وطال حصاره، واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك، وتجار النصارى أيضا لا يمنع أحد منهم ولا يعترض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم. وهي من الأمنة على غاية. وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب. هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم، وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك، ولا تعترض الرعايا ولا التجار، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلما أو حربا، وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوفى الحديث عنه.»
ولاحظ ابن جبير أن الفلاحين المسلمين في الأرض التابعة للمسيحيين كانوا في رخاء، بينما كان إخوانهم الفلاحون المسلمون عند الملاك من بني دينهم لا ينعمون بمثل ذاك الرفق والعدل. قال ابن جبير: «ورحلنا من تبنين سحر يوم الاثنين وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منظمة، سكانها كلها مسلمون وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه ... وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أوان ضمها وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط، ولا يعترضونهم في غير ذلك، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدون أيضا، ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم، وكل ما بأيدي الإفرنج من المدن بساحل الشام على هذا السبيل، رساتيقها كلها للمسلمين وهي القرى والضياع، وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم، لما يبصرون عليه إخوانهم من رساتيق المسلمين وعمالهم؛ لأنهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق. وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين أن يشتكي الصنف الإسلامي جور صنفه المالك له، ويحمد سيرة ضده وعدوه المالك له من الإفرنج ويأنس بعدله.»
لاحظ ابن جبير أن الصليبيين كانوا يفرضون على المسلمين المغاربة ضريبة خاصة قدرها دينار على كل شخص. ودون أن السبب في ذلك أن طائفة من المجاهدين المغاربة اشتركت مع مسلمي الشرق الأدنى في فتح أحد الحصون الصليبية، وكان لهم الفضل الأكبر في هذا الميدان. والظاهر أن الصليبيين ضايقهم قدوم المغاربة من بلادهم البعيدة للمساهمة في قتالهم، فجزوهم بهذه الضريبة «وقال الإفرنج: إن هؤلاء المغاربة كانوا يختلفون على بلادنا ونسالمهم ولا نرزأهم شيئا، فلما تعرضوا لحربنا وتألبوا مع إخوانهم المسلمين علينا وجب أن نضع هذه الضريبة عليهم». ولكن الواقع أن اشتراك المغاربة في الحروب الصليبية في الشرق ليس غريبا في شيء، ولا سيما إذا تذكرنا أن بلاد المغرب والأندلس كانت في حروب صليبية مع المسيحيين قبل أن تنشب الحروب الصليبية في الشرق الأدنى. •••
ووصل ابن جبير إلى عكا في العاشر من جمادى الآخرة سنة 580ه/18 من سبتمبر 1184، ووصفها بأنها ملتقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق. ولا عجب فقد كانت حينئذ أهم ثغور الصليبيين. وعلم هناك أن مركبا في ثغر صور عازم على الإبحار إلى بجاية بتونس. فذهب إلى صور ولكنه استصغر المركب فقفل راجعا إلى عكا بطريق البحر وركب فيها سفينة جنوية كبيرة من سفن الحجاج المسيحيين والمسلمين كان قصدها ثغر مسينة بجزيرة صقلية. ودون ابن جبير أنها كانت كالمدينة الجامعة؛ فيها أكثر من ألفي مسافر، ويباع فيها كل ما يحتاجه المسافر، وأن المسلمين كانوا في المركب بمعزل عن الإفرنج. وأشار إلى أن عددا من المسافرين من المسلمين ومن البلغريين (تعريب لكلمة
بمعنى حجاج، في اللاتينية) هلكوا في السفينة فقذف بهم في البحر، وورثهم قائد المراكب؛ لأن المتبع عندهم أنه يرث كل من يموت في البحر. واستغرقت الرحلة إلى مسينة حول شهرين، وكان المقرر لها نحو أسبوعين. والحق أنها كانت رحلة غنية بالأحداث والأخطار، تشهد بما كان يتعرض له المسافرون في البحر حينئذ، وبما كان يستلزمه قيادة السفن من مهارة ومران وصبر. وقد أتيح لابن جبير في وصف عبور البحر الأبيض المتوسط قادما وعائدا. وفي وصف عبوره البحر الأحمر، أن يستعمل كثيرا من مصطلحات الملاحة وبناء السفن في العصور الوسطى، فحفظ لنا بذلك عددا وافرا منها، ويمكن الإفادة منه في فهم بعض الأخرى المدونة في ذلك العصر.
أرست السفينة أخيرا عند مدينة مسينة في صقلية، فوصفها ابن جبير، ولكنه وصف ملؤه المفارقات المتناقضات فبينما يقول: إنه «لا يقر فيها لمسلم قرار»، وإنها «لا توجد لغريب أنسا» إذ به يضيف إلى ذلك «أن أسواقها نافقة حفيلة، وأرزاقها واسعة بأرغاد العيش كفيلة، لا تزال بها ليلك ونهارك في أمان، وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان». ويلوح أن ابن جبير لم يكن قد اطمأن بعد إلى حال المسلمين في صقلية، فإنه زار بعد ذلك بالرمة عاصمة البلاد، وزار غيرها من مدن الجزيرة، ووصف عمرانها، وثقة حكامها المسيحيين برعاياها من المسلمين، وقد كان عددهم وافرا في هذا الإقليم، الذي التقت فيه مختلف المدنيات الوثنية والمسيحية والإسلامية.
ولكنا لا نستطيع أن نركن إلى رحلة ابن جبير في الوقوف على حال المسلمين بصقلية، ومعرفة ما كانوا يتمتعون به من الحرية الدينية بعد أن زال سلطانهم عن هذه الجزيرة بقرن من الزمان. فإنا نراه يدون ما يشهد بأن المسيحيين كانوا يحسنون معاملة المسلمين، ويستخدمونهم في الوظائف والمهن، حتى في أعظمها شأنا ببلاط الأمير، وإنا نراه يروي حديث رجل مسلم لقيه في مسينة، اسمه عبد المسيح، وقال له: «أنتم مدلون بإظهار الإسلام فائزون بما قصدتم له، رابحون إن شاء الله في متجركم، ونحن كاتمون إيماننا، خائفون على أنفسنا، متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرا.»
وعلى كل حال فإن الذي وصل إليه المؤرخون أن الدولة النورمانية في صقلية كانت تشمل المسلمين بقسط وافر من رعايتها، وكانت تعترف بفضلهم وسبق مدينتهم في كثير من نواحي الحياة. وإذا لم يكن ما كتبه ابن جبير في هذا الصدد واضحا تماما، فإن سائر وصفه لبلاد صقلية عظيم الفائدة من الناحيتين التاريخية والجغرافية؛ لأنه كان دقيق الملاحظة في وصف الظواهر الاجتماعية. من ذلك ما فطن له من أن الخلاف بين أفراد الأسرة الواحدة من المسلمين كان يؤدي أحيانا إلى دخول بعضهم في المسيحية، فرارا من رقابة أو ولاية أو علاقة شرعية أخرى.
ثم أقلع ابن جبير من صقلية على ظهر سفينة جنوية حملته إلى ثغر قرطاجنة في الأندلس، فوصل إليها في الخامس عشر من المحرم سنة 581 ثم واصل السفر حتى وصل إلى غرناطة في الثاني والعشرين من المحرم (25 أبريل سنة 1185) بعد أن غاب عنها حول سنتين وثلاثة أشهر.
وقام ابن جبير برحلة ثانية إلى الشرق الإسلامي سنة (585ه/1189م)، استغرقت سنتين وبضعة أشهر. وقيل: إن الذي جذبه إلى الشرق هذه المرة ما سمعه من استيلاء صلاح الدين على بيت المقدس سنة (853ه/1187م). ثم ترك ابن جبير المقام في غرناطة، وانتقل إلى بلاد المغرب حيث أقام عشرين سنة أو نيف؛ رحل بعدها إلى الشرق مرة ثالثة سنة (614ه/1217م). وقيل: إن ذلك كان بسبب وجده على زوجه عاتكة، التي توفيت في تلك السنة والتي نظم فيها ديوانه «نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح». واستقر ابن جبير في الإسكندرية، وتوفي بها في السنة نفسها، وقد جاوز الثانية والسبعين.
الهروي السائح
هو علي بن أبي بكر - وقيل: أبي طالب - بن علي الهروي الأصل. ولد في الموصل. وطاف في أنحاء الشرق الإسلامي وفي الهند وفي القسطنطينية والمغرب وصقلية وغيرها من جزائر البحر الأبيض المتوسط. وكان مغرما بالأسفار وبكتابة اسمه على الآثار التي يزورها، حتى كتب عنه ابن خلكان «أنه لم يترك برا ولا بحرا ولا سهلا ولا جبلا من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآه، ولم يصل إلى موضع إلا كتب خطه في حائطه»، وقد سار ذكره بذلك، حتى عرف باسم الهروي السائح.
والمعروف أنه زار القسطنطينية في زمن الإمبراطور عمانوئيل كومنينوس، وأنه زار دمشق سنة (568ه/1173م) قبل أن يستعيدها صلاح الدين من يد الصليبيين. وكان في الإسكندرية سنة 570ه. ثم كان في قافلة نهبها الصليبيون سنة (588ه/1192م)، ففقد فيها كتبه وبعض المذكرات التي جمعها، ولعله كان حانقا لهذا السبب، أو لعل تقواه وشدة اعتداده بنفسه حملاه على أن يرفض مقابلة الملك ريكاردوس قلب الأسد، الذي سمع بفضله، وحرص على أن يتحدث إليه.
واتصل الهروي في خاتمة حياته بالملك الظاهر ابن صلاح الدين؛ فأقام تحت رعايته في حلب إلى أن توفي سنة (611ه/1214م).
وقد وصل إلينا من مؤلفات الهروي كتاب «الإشارات إلى معرفة الزيارات»، ولا يزال مخطوطا لم يطبع إلى اليوم، ولكن الرحالة يشير فيه إلى كتب أخرى من تأليفه، مثل كتاب «منازل الأرض ذات الطول والعرض» و«كتاب الآثار والعجايب والأصنام.»
أما كتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات، فقوامه ذكر الآثار والعمائر الدينية التي زارها الهروي والتي يستطرد في الحديث عنها إلى بعض البيانات التاريخية الطريفة. وفي دار الكتب المصرية نسخة مخطوطة منه بعنوان «رحلة أبي الحسن بن أبي بكر بن علي الهروي الموصلي، تمت كتابتها سنة 602ه» أي: قبل وفاة المؤلف. ومما يؤسف له أن هذه الرحلة غنية بالخرافات والأساطير، وإن كنا نجد في بعض أجزائها وصفا وأحاديث تدل على دقة الملاحظة.
وقد نسخ الهروي على منوال كثير من المؤلفين، فقال في مقدمة كتابه: إن بعض الإخوان والخلان سألوه أن يذكر لهم ما زاره من الزيارات، وما شاهده من العجائب والأبنية والعمارات، وما رآه من الأصنام والآثار والطلمسات «في الربع المسكون والقطر المعمور»، وأنه رفض أن يلبي هذا الطلب، إلى أن اجتمع برسول الخليفة العباسي إلى صلاح الدين، وأقنعه هذا الرسول بتأليف الكتاب الذي وصل إلينا.
ومن الطريف أن الهروي اعتذر عما في الكتاب من خطأ فقال: «وإن جرى السهو فيما أذكره بطريق الغلط لا بطريق القصد، فأسأل الناظر فيه والواقف عليه الصفح في ذلك وإصلاح الخطأ وإيضاح الحق؛ فإن كتبي أخذها الانكتار ملك الفرنج، ورغب في وصوله إليه، فلم يمكن ذلك، ومنها ما غرق في البحر، وقد زرت أماكن ودخلت بلادا من سنين كثيرة، وقد نسيت أكثر ما رأيته، وشذ عني أكثر ما عاينته، وهذا مقام لا يدركه أحد من السائحين والزهاد، ولا يصل إليه أكثر المسافرين والعباد، إلا رجل جال الأرض بقدمه، وأثبت ما قلته بقلبه وقلمه.»
ومما كتبه الهروي: «الأهرام من عجائب الدنيا، وليس على وجه الأرض شرقيها وغربيها عمارة أعجب منها ولا أعظم ولا أرفع، ورأيت بمصر أهراما كثيرة منها خمسة كبار والباقي صغار. فأما الكبار فاثنان عند الجزيرة واثنان عند قرية يقال لها: دهشور، وهرم عند قرية يقال لها: ميدوم، وقد اختلفت أقاويل الناس فيها وفي بانيها وما يريد بها، ومنهم من قال: إنها قبور للملوك، ومنهم من قال: إنهم عملوها خوفا من الطوفان، وقيل: إن المأمون فتح هرما منها، وهو أحد الهرمين اللذين عند الجزيرة؛ فوجدوا داخله بئرا مربعة، في تربيعها أبواب يفضي كل باب منها إلى بيت فيه موتى بأكفانهم، وقيل: إنهم وجدوا في رأس هذا الهرم بيتا فيه حوض من الصخر على مثال القبر، وفيه صنم كالآدمي الرهنج، وفي وسطه إنسان عليه درع من الذهب مرصع بالجوهر، وعلى صدره سيف لا قيمة له وعند رأسه حجر ياقوت كالبيضة كالنار.» وأضاف الهروي أنه دخل إلى هذا الهرم ورأى الحوض واضحا، وقد كتب أنه سيذكر في كتاب العجائب والآثار والأصنام والطلسمات جميع ما سمعه من أخبار الأهرام والصنم أبي الهول، وجميع البرابي (المعابد) التي ببلاد الصعيد.
ومما دونه عن الأقصر: «مدينة بها من الآثار والقصور والأصنام، وصور الأصنام وصور السباع والدواب ما لم أر مثله في بلاد الصعيد ولا في غيرها، وذرعت يد صنم فكان من المرفق إلى مفصل الكف سبعة أذرع.»
وقد كتب الهروي عن المقابر الأثرية في صعيد مصر، وعن الجثث المدفونة فيها، وعن أكفانها المحفوظة على حالها الأولى. والحق أن الاكتشافات الأثرية الحديثة، والمنسوجات الوافرة التي عثر عليها المنقبون عن الآثار في تلك المقابر، كل ذلك يؤيد ما كتبه الهروي كل التأييد.
وكتب عن أسوان: «آخر بلاد الصعيد وبلاد الإسلام وبها الجنادل حجارة نابتة في وسط البحر. فإذا كان وقت زيادة النيل، يوضع عليها سرج فإذا زاد البحر وأخذها، وأرسلوا البشارة إلى مصر. فينزلوا في مركب صغير ويسبقوا الماء ويبشروهم بالزيادة. وجميع معادن حجارة المانع والعمد التي بالديار المصرية ومسال فرعون وعمد السواري بالإسكندرية من جبال هذه المدينة. ورأيت آثار القطاعات في الجبل والحجارة المانع والعمد مقطوعة.»
وقد أعجب الهروي بما رأى في مصر من زهور ونبات، فكتب في رحلته: «وبالجملة في ديار مصر ونيلها من عجائب الدنيا، ورأيت بها في أوان واحد مجتمعا وردا ثلاثة ألوان وياسمين لونين ونيلوفر لونين وآسا ونسرينا وريحانا وخبريا وبنفسجا ومسورا ونبقا وأترنجا وليمونا مركبا وطلعا ورطبا وموزا وجميزا وحصرما وعنبا وطينا (تينا) أخضر ولوزا وقثاء وفقوسا وبطيخا وباذنجانا وباقلا أخضر ويقينا وحمصا أخضر وخسا وجوزا أخضر ورمانا وهليونا وقصب سكر.»
أسامة بن منقذ
هو أسامة بن مرشد من بني منقذ، أمراء إقليم شيزر شمالي سورية ولد سنة (488ه/1095). وكانت إمارة هذا الإقليم قد آلت إلى أبيه مرشد ولكنه تنازل عنها لأخيه. وعني الأمير بأسامة، ابن أخيه، ولكنه رزق ولدا ذكرا فاتجه إليه بعطفه، مهملا أسامة. وغادر هذا قلعة شيزر. وحدث أن دمرت هذه القلعة في زلزال سنة (552ه/1157م)، ومات من كان فيها من آل المنقذ أما أسامة فقد كان في بعض أسفاره. ومات سنة (584ه/1188م) بعد أن جاوز التسعين.
وقد قام أسامة بعدة رحلات في مصر والشام وبلاد الجزيرة وبلاد العرب. ومع أنها رحلات ضيقة الأفق محدودة الدائرة، فإن لها شأنا عظيما في وصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وفي بيان العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في الشرق الأدنى في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي). ذلك أن أسامة كان أميرا فارسا وأديبا شاعرا، وأتيح له أن يتصل بأمراء المسلمين في عصره، وأن يلقى بعض الأمراء الصليبيين ويصادق الفرسان من رجالهم. وأخبار رحلته في كتابه «الاعتبار» تمتاز بالدقة في الملاحظة، والصدق في الرواية، والإبداع في الفن القصصي، مع التوفيق في الفكاهة وإيراد النكتة.
وقد وقف الدكتور فيليب حتي
اللبناني أستاذ الآداب السامية في جامعة برنستون بالولايات المتحدة على نشر كتاب الاعتبار سنة 1930. وقدمه بترجمة طريفة لأسامة، قال فيها: «فحياة أسامة إذن تمثل لنا الفروسية الإسلامية العربية على ما ازدهرت في ربوع الشام في أواسط القرون الوسطى، والتي بلغت حدها الكامل في صلاح الدين، وسيرته تتضمن موجز تاريخ البلاد في القرن الثاني عشر - قرن التجريدات الصليبية الثلاث الأولى، ومذكراته الموسومة بكتاب «الاعتبار» مرآة تتجلى فيها المدينة الشامية في أجلى مظاهرها - وذلك ليس بحد ذاتها فقط بل مع المدينة الإفرنجية التي قامت إلى جانبها. ولو أن أسامة عاش اليوم، لكان عضوا عاملا في المجمع العلمي العربي، ولكان بيته صالونا للأدب بدمشق، ولراسل «الهلال» و«المقطم» ولأكثر من العيش في الهواء الطلق، يدرس طبائع الحيوان ويرقب نمو النبات، ولنالت جياده العربية جوائز السبق في بيروت، ولكان بلا تردد في أثناء الحرب العظمى ديوان فرقة من المطوعة يتولى قيادتها بنفسه.»
وكتاب «الاعتبار» غني بأخبار القتال بين المسلمين والصليبيين، وبما شاهده أسامة في دمشق ومصر، وبما اشترك فيه من المطارد والمصايد ومكافحة الأسود. ومن أمتع فصوله ما كتبه أسامة عن الصليبيين؛ فقد كان يطوف في أنحاء إماراتهم، ويقاتلهم مع سائر المسلمين مع صداقته لبعضهم ولا سيما الفرسان الداوية
Templars - وكان هؤلاء الفرسان يخلون له في المسجد الأقصى مكانا صغيرا يصلي فيه حين يزور بيت المقدس. ومما كتبه عن الإفرنج: «ليس عندهم شيء من النخوة والغيرة. يكون الرجل منهم يمشي هو وامرأته يلقاه رجل آخر يأخذ المرأة، ويعتزل بها ويتحدث معها. والزوج واقف ناحية ينتظر فراغها من الحديث. فإذا طولت عليه خلاها مع المتحدث ومضى!» وساق أسامة ثلاث قصص في هذا الصدد. منها قصة إفرنجي «جاء يوما ووجد رجلا مع امرأته في الفراش» فقال له: «أي شيء أدخلك إلى عند امرأتي؟» قال: «كنت تعبان، دخلت أستريح.» قال: «فكيف دخلت إلى فراشي؟» قال: «وجدت فراشا مفروشا نمت فيه.» قال: «والمرأة نائمة معك؟» قال: «الفراش لها. كنت أقدر أمنعها من فراشها؟!» قال: «وحق ديني، إن عدت فعلت كذا تخاصمت أنا وأنت.» فكان هذا نكيره ومبلغ غيرته!»
وكان أسامة يعجب بمهارة بعض أطباء الصليبيين، ولكنه كان يتهكم من جهل البعض الآخر ومن سذاجة الناس في الإيمان بهم. وروى في هذا الصدد قصة عن حاكم بلدة صليبية شمالي لبنان. كان هذا الحاكم صديقا لعم أسامة فكتب إليه يطلب منه إيفاد طبيب يداوي بعض المرضى من أهل بلدته. فأرسل إليه عم أسامة طبيبا عربيا نصرانيا. ولم يطل غياب هذا الطبيب؛ فلما رجع قال له أهل أسامة متهكمين: ما أسرع ما داويت المرضى! فأجاب: «أحضروا عندي فارسا قد طلعت في رجله دملة وامرأة قد لحقها نشاف.
1
فعلمت للفارس لبيخة ففتحت الدملة وصلحت. وحميت المرأة ورطبت مزاجها. فجاءهم طبيب إفرنجي فقال: «هذا ما يعرف شيء يداويهم!» وقال للفارس: «أيهما أحب إليك تعيش برجل واحدة أو تموت برجلين؟» قال: «أعيش برجل واحدة.» قال: «أحضروا لي فارسا قويا وفأسا قاطعا.» فحضر الفارس والفأس، وأنا حاضر، فحط ساقه على قرمة خشب فقال للفارس: «اضرب رجله بالفأس ضربة واحدة اقطعها.» فضربه وأنا أراه ضربة واحدة ما انقطعت. ضربه ضربة ثانية فسال مخ الساق ومات من ساعته. وأبصر المرأة فقال : «هذه امرأة من رأسها شيطان قد عشقها. احلقوا شعرها.» فحلقوه. وعادت تأكل من مآكلهم الثوم والخردل فزاد بها النشاف. فقال: «الشيطان قد دخل في رأسها.» فأخذ الموسى وشق رأسها صليبا وسلخ وسطها حتى ظهر عظم الرأس وحكه بالملح، فماتت في وقتها. فقلت لهم: «بقي لكم إلي حاجة؟!» قالوا: «لا.» فجئت وقد تعلمت من طبعهم ما لم أكن أعرفه!»
2
وروى أسامة في كتاب الاعتبار (ص134-135) قصة استنبط منها أن الصليبيين ترق أخلاقهم وتحسن طباعهم باستيطان الشرق ومعاشرة المسلمين. وقال في هذا الصدد: «فكل من هو قريب العهد بالبلاد الإفرنجية أجفى أخلاقا من الذين تبلدوا
3
وعاشروا المسلمين.»
بل أشار أسامة في كتابه إلى أن بعض الصليبيين تأقلموا في الشام، وعاشروا المسلمين وتطبعوا بطباعهم، وكانت بينهم وبين المسلمين علاقات طيبة قال أسامة: «فمن ذلك أني نفذت صاحبا إلى أنطاكية في شغل. وكان بها الرئيس تادرس بن الصفتي
Theodorus Sophianos
وبيني وبينه صداقة، وهو نافذ الحكم في أنطاكية فقال لصاحبي يوما: «قد دعاني صديق لي من الإفرنج. تجيء معي حتى ترى زيهم؟» قال: «فمضيت معه، فجئنا إلى دار فارس من الفرسان العتق، الذين خرجوا في أول خروج الإفرنج، وقد اعتفي من الديوان والخدمة، وله بأنطاكية ملك يعيش منه، فأحضر مائدة حسنة وطعاما في غاية النظافة والجودة. ورآني متوقفا عن الأكل؟ فقال: «كل طيب النفس، فأنا ما آكل طعام الإفرنج، ولي طباخات مصريات ما آكل إلا من طبيخهن ولا يدخل داري لحم الخنزير، فأكلت وأنا محترز وانصرفنا.»
وقد وصف أسامة في «كتاب الاعتبار» ما شاهده في مصر من الأحداث فيما بين سنتي (539-549ه/1144-1154م)، فتحدث عن وصوله إليها في عصر الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله وعما وقع فيها من الفتن بسبب ثورات الجند، والنزاع القائم بين الخلفاء والوزراء. ولتفاصيل هذه الأخبار شأن تاريخي كبير؛ لأن أسامة ساهم في بعض تلك الأحداث وقام بمهمات سياسية لطائفة من الأمراء. ومن طريف ملاحظاته عن إقليم الطور أنه كان ولاية مصرية بعيدة، وأن الخليفة الحافظ لدين الله كان إذا أراد إبعاد بعض الأمراء ولاه الطور. •••
أما الباب الذي عقده أسامة في ذلك الكتاب الكلام على الصيد والطرد فيشهد بأن هذا اللون من الرياضة كان جد شائع ومستحسن في الشرق الإسلامي حينذاك، وهو جليل الشأن لأن أسامة كان من أسرة أصابت في الصيد مهارة ودربة، وقد أتيح لأسامة نفسه أن يصحب في الصيد الأمراء المسلمين في سورية والجزيرة ومصر. فدون في كتابه شيئا كثيرا في شأن الصيد بالبزاة يرمونها على الطيور، ويدقون الطبول فتتصيد منها ما تصيد. وكتب في صيد الحيوان ولا سيما الذئب والضبع والأرنب والغزال وحمار الوحش والثعلب والخنزير. ووصف أسامة أساليب الصيد عند المسلمين وصفا دقيقا. وذكر بعض النوادر التي تدل على عنايتهم به وعلى أن بعض المولعين بالصيد كانوا يرسلون إلى مختلف الآفاق في طلب البزاة وغيرها من طيور القنص. وكان التعاون صادقا بين المسيحيين والمسلمين في هذا الميدان؛ فكان الروم في القسطنطينية والمسيحيون من الأرمن يرسلون البزاة والكلاب إلى أصدقائهم من هواة الصيد في الشرق الإسلامي.
وكان أسامة يحترم المرأة ويعنى بأحوالها فألف كتابا في «أخبار النساء»، وروى في «كتاب الاعتبار» قصصا كثيرة تشهد بما قام به بعض النساء من أعمال البطولة. ولعل هذا جانب من الفروسية ونزعة الأرستقراطية عنده. والحق أن هذه النزعة الأرستقراطية كانت لا تفارقه حتى في حضرة الملوك والأمراء. فقد روى في «كتاب الاعتبار» أنه شهد يوما الصيد مع الملك العادل نور الدين وسأله هذا أن يصلح الباز، فرفض وأظهر نور الدين عجبه من أسامة يقضي عمره بالصيد ولا يحسن إصلاح الباز، فأجاب أسامة: «يا مولاي، ما كنا نصلحها نحن، كان لنا بازيارية وغلمان يصلحونها ويتصيدون بها قدامنا.» •••
ومما حدث لأسامة في بعض رحلاته أن وقع وهو رفاقه أسرى في يد الصليبيين، وفقدوا ما كانوا يحملونه من المال والمتاع، ولكن أسامة لم يأسف على ذلك كله أسفه على ضياع كتبه التي نهبوها، وعددها أربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة، وقال في ذلك: إن ذهابها كان حزازة في قلبه ما عاش.
4
ومن طريف ما يستنبط من إحدى القصص التي رواها أسامة في «كتاب الاعتبار» (ص115) أن استئجار الندابات للندب في المآتم كان معروفا في القرن الثاني الميلادي كما هو معروف اليوم.
وكان أسامة، مثل الهروي السائح، مغرما بكتابة اسمه أو تقييد بعض خواطره في الأمكنة التي ينزل بها، على نحو ما يفعل بعض السياح في العهد الحاضر. من ذلك الأبيات الآتية، وقد كتبها على حائط مسجد في حلب، وكان قد زار المسجد قبلا في طريقه إلى الحج:
لك الحمد يا مولاي كم لك منة
علي وفضل لا يحيط بها شكري
نزلت بهذا المسجد العام قافلا
من الغزو موفور النصيب من الأجر
ومنه رحلت العيس في عامي الذي
مضى نحو بيت الله والركن والحجر
فأديت مفروضا وأسقطت ثقل ما
تحملت من وزر المسيئة عن ظهري
ومنه ما كتبه على حائط دار سكنها بالموصل، حيث لم تطب له الإقامة. قال:
دار سكنت بها كرها وما سكنت
روحي إلى شجن فيها ولا سكن
والقبر أستر لي منها وأجمل بي
إن صدني الدهر عن عودي إلى وطني
ياقوت الحموي
كان ياقوت يوناني الجنس. ولد حول سنة (574ه/1178م) وأسر في حداثته، وبيع إلى تاجر حموي مقيم في بغداد، فنشأ مسلما، وعني التاجر بتعليمه لينتفع به في تجارته، فتلقى العلوم المعروفة في عصره. ثم قام بعدة أسفار في أعمال تجارية لسيده، ولا سيما بمنطقة الخليج الفارسي. وأعتقه مولاه سنة (596ه/1199م). وأشركه في تجارته، وأخذ يبعثه في شئونها إلى الأصقاع المختلفة. وجدت أن دب بينهما الخلاف، فاحترف ياقوت نسخ الكتب، وأفاد من ذلك كثيرا، ثم صافى سيده السابق، واستأنف الأسفار التجارية. ومات السيد، فاشتغل ياقوت بتجارة الكتب، ولكنه لم يلبث أن عاد إلى حياة الأسفار والرحلات، فجال في إيران وبلاد العرب وآسيا الصغرى ومصر والشام وبلاد ما وراء النهر. وأقبل على التنقيب في خزانات الكتب، فجمع المواد اللازمة للمعاجم التي عقد العزم على تأليفها في أسماء البلاد وتراجم الأدباء.
خريطة الكرة الأرضية للشريف الإدريسي. (عن كتاب الرواد).
ويلوح أنه أفاد من خزائن مدينة إفادة كبيرة؛ فقد أشار إلى ذلك في كلامه على هذه المدينة في «معجم البلدان»؛ فذكر أنه أقام بها ثلاثة أعوام وأنه تركها وفيها عشر خزانات كبيرة، لم يرد في أي مدينة أخرى مثلها. وكان العمل فيها واستعارة كتبها الموقوفة أمرا سهلا، حتى إن عدد ما كان عند ياقوت من هذه الكتب في الآن الواحد كان يقرب من مائتي مجلد. والظاهر أنه كان يدفع رهنا للنادر منها. ولكن أكثرها كان بغير رهن. وقد ختم ياقوت حديثه عن هذه الخزانات بقوله: «فكنت أرتع فيها، وأقتبس من فوائدها، وأنساني حبها كل بلد، وأنهاني عن الأهل والوالد. وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته، فهو من تلك الخزائن.» •••
والمعروف أن ياقوت لم يدون أخبار رحلاته. ولا ريب في أن ما شاهدته في أسفاره وما جمعه من الخزائن التي نقب فيها، كان خير عدة له في تأليف كتابه «معجم البلدان» الذي امتاز بترتيبه على حروف الهجاء، وبدقته واتساعه وجمعه بين الجغرافية والتاريخ والعلم والأدب، حتى إن أحد المستشرقين قال فيه: إنه من المؤلفات التي يحق للإسلام أن يفخر بها كل الفخر.
1
وقد فرغ ياقوت من تأليف هذا المعجم في سنة (621ه/1224م).
ومما يؤسف له أننا لا نستطيع أن نحدد مقدار ما أفاده ياقوت من رحلاته تحديدا دقيقا. فإنه نقل في معجمه عن كثير من الجغرافيين والرحالة والمؤرخين، ولم يعين الأقاليم التي زارها بنفسه وكتب عنها مشاهداته الخاصة؛ مع أنه كان من أكثر العلماء طوافا في عصره، ومن أشدهم عناية بالتاريخ الطبيعي ومظاهر الثقافة الشاملة، ومن أبعدهم عن الأخذ بالخرافات والأساطير. وقد عني أحد المستشرقين “Heer”
في نهاية القرن الماضي بدراسة معجم البلدان، وأخرج بحثا في المراجع التاريخية والجغرافية التي اعتمدها ياقوت لتصنيف هذا المعجم. ولكن أحدا لم يستطع حتى الآن أن يبين الخاص وآثار أسفاره وتجاربه في هذه الموسوعة الجغرافية الجليلة الشأن. •••
ومهما يكن من شيء فقد امتاز ياقوت عن كثير من مؤلفي العرب بملكة النقد التي كانت تتجلى في روايته بعض الأساطير الذائعة في عصره، وفي حكمه على بعض الأساطير والتعليل لها. من ذلك ما لاحظه الدكتور حسين فوزي في كتابه «حديث السندباد القديم» (ص123). فقد كتب ياقوت في مادة (جاسك) من «معجم البلدان»:
جاسك بفتح السين المهملة وآخره كاف. جزيرة كبيرة بين جزيرة قيس هي المعروفة بكيش وعمان قبالة مدينة هرمز. بينها وبين قيس ثلاثة أيام وفيها مساكن وعمارات يسكنها جند ملك جزيرة قيس. وهم رجال أجلاء أكفاء لهم صبر وخبرة بالحرب في البحر وعلاج للسفن والمراكب ليس لغيرهم. وسمعت غير واحد من جزيرة قيس يقول: أهدى إلي بعض الملوك جواري من الهند في مراكب فرفأت تلك المراكب إلى هذه الجزيرة فخرجت الجواري يتفسحن، فاختطفهن الجن وافترشهن فولدن هؤلاء الذين بها.
وطبيعي أن يروي ياقوت هذا الحديث المتداول بين أهل زمانه، ولكنه يحرص على أن يشعرنا بأنه أسطورة وعلى أن ينسبه إلى قائليه، فينص على أنه سمعه من «غير واحد من جزيرة قيس» كما يحرص بعد هذا كله على محاولة تفسيره فيضيف:
يقولون هذا لما يروى فيهم من الجلد الذي يعجز عنه غيرهم، ولقد حدثت أن الرجل منهم يسبح في البحر أياما، وأنه يجالد بالسيف وهو يسبح مجالدة من هو على الأرض.
عبد اللطيف البغدادي
ولد عبد اللطيف بن يوسف في بغداد سنة 557ه/1162م، ودرس الطب والفلسفة وعلوم اللغة. وتنقل بين مصر والشام والعراق. واتصل بصلاح الدين وغيره من الأمراء الأيوبيين. واجتمع بأعلام الأساتذة ولم يكن «يأخذ بقلبه ويملأ عينه» إلا النفر القليل منهم. وقد لقي الفاضل في معسكر صلاح الدين بظاهر مدينة عكاء. وزوده القاضي الفاضل بكتاب توصية إلى وكيله في مصر، وهو ابن سناء الملك. ولكن عبد اللطيف لم يلبث أن غادر مصر ورحل إلى القدس للقاء صلاح الدين، ثم يمم شطر دمشق. وقدم مصر ثانية بعد وفاة صلاح الدين واشتغل بالتدريس في الأزهر، وشاهد الغلاء الفاحش والقحط والوباء والشدة العظمى التي ألمت بوادي النيل فيما بين سنتي 595-598ه/ 1198-1201م.
وأهم ما وصل إلينا من مؤلفات عبد اللطيف البغدادي كتاب «الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعانية بأرض مصر». وهو وصف رحلته إلى وادي النيل في نهاية القرن السادس الهجري. وقد ذاعت شهرة هذه الرحلة، وترجمت إلى بضع لغات أوروبية. والحق أنها تمتاز - على اختصارها - بدقة الوصف، وذكر مختلف الشئون العمرانية والاجتماعية، فضلا عن الاتجاه العلمي المنتظر من طبيب مثل البغدادي، والذي يتجلى في كلامه على خواص مصر العامة، وعلى ما تختص به من النبات والحيوان، وعلى ما فيها من الآثار القديمة مثل الأهرام وأبي الهول والمسلات، والمعابد في مصر العليا، ومنارة الإسكندرية وعمود السواري.
رسم سفينة عربية في مخطوط من القرن السابع الهجري (13م). (عن فييت).
ومن الطريف أن عبد اللطيف سجل في رحلته رأيا في قيمة الآثار قد يظن بعضهم أنه غريب على المسلمين في العصور الوسطى. أجل، فقد كتب هذا الرحالة:
وما زالت الملوك تراعي بقاء هذه الآثار، وتمنع من العيث فيها والعبث بها، وإن كانوا أعداء لأربابها. وكانوا يفعلون ذلك لمصالح: منها لتبقى تاريخا يتنبه به على الأحقاب ... ومنها أنها تدل على شيء من أحوال من سلف وسيرتهم وتوافر علومهم وصفاء فكرهم وغير ذلك. وهذا كله مما تشتاق النفس إلى معرفته وتؤثر الاطلاع عليه.
ولكنه أضاف إلى ذلك أن القوم في عصره كانوا يخربون الآثار ويكسرون الأصنام، ويدخلون إلى المقابر بحثا عن الكنوز وسعيا وراء الذهب المدفون مع الموتى. والحق أن ما كتبه البغدادي عن المقابر الأثرية وما يوجد فيها لا يختلف كثيرا عما وصلت إليه الحفائر العلمية في العصر الحاضر، أي: بعد وفاة البغدادي بسبعمائة سنة ونيف، بل إن الفصل الطويل الذي عرض فيه لآثار مصر فيه من دقة الوصف وشدة الإعجاب ما يبدو كأنه بقلم عالم من علماء الآثار المحدثين. •••
أما ما ذكره البغدادي عن حوادث مصر سنة 595 وسنة 598ه فوصف تقشعر لهوله الأبدان، إذ اشتد القحط حتى أكل الفقراء لحم الميتة والكلاب: بل «تعدوا إلى أكل صغار بني آدم». ولم يفت الرحالة أن يلاحظ أن فريقا من الناس استغل هذه الشدة العظمى على حساب الطبقات الفقيرة في الشعب، فأثبت في أخبار رحلته أن «مما يقضي منه العجب أن جماعة من الذين ما زالوا مجدودين سعدوا في دنياهم هذه السنة. فمنهم من أثرى بسبب متجره في القمح. ومنهم من أثرى بسبب مال انتقل إليه بالإرث. ومنهم من حسنت حاله لا بسبب معروف».
وروى عبد اللطيف قصصا مروعة عن الجوع والوباء وتصيد الناس، وأثر هذا كله في الانصراف إلى الضلالة والشهوات. وكأنه شعر بما يحمله بعضها من طابع المبالغة فقال: «ولو أخذنا نقص كل ما نرى ونسمع لوقعنا في التهمة أو في الهذر. وجميع ما حكيناه مما شاهدناه لم نتقصده ولا تتبعنا مظانه، وإنما هو شيء صادفناه اتفاقا، بل كثيرا ما كنت أفر من رؤيته لبشاعة منظره.» والمعروف أن مصر ابتليت بمثل هذا القحط عدة مرات في تاريخها الطويل. وحسبنا أن المقريزي، شيخ المؤرخين المصريين في العصور الوسطى، ألف كتاب «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، بحث فيه المجاعات التي نزلت بمصر منذ أقدم العصور إلى سنة (808ه/1405م)، فتقصى أسبابها، وأشار إلى الأساليب الممكنة لعلاجها.
والحق أن البغدادي كان دقيق الملاحظة في كل ما دونه في رحلته عن أرض مصر ومناخها ونباتها وحيوانها، ومن ذلك قوله: «إن أرض مصر رملية لا تصلح للزراعة، لكنه يأتيها طين أسود علك فيه دسومة كثيرة يسمى الإيليز؛ يأتيها من بلاد السودان مختلطا بماء النيل عند مده، فيستقر الطين، وينضب الماء، فيحرث ويزرع. وكل سنة يأتيها طين جديد، ولهذا يزرع جميع أراضيها ولا يراح شيء منها، كما يفعل في العراق والشام.»
ولاحظ عبد اللطيف أن مصر لم يكن بها فراريج عن حضان الدجاج إلا نادرا؛ فقد كان في البلاد كثيرا من معامل الفروج، وكان القوم يتقنون صناعة حضانة الفراريج، ويتخذونها صناعة ومعيشة يتجر فيها ويكتسب منها، وقد أسهب الرحالة في وصف طريقة المصريين في بناء تلك المعامل واستخدام زبل البقر حتى لا يبقى فيها منفس للبخار.
ورأى البغدادي أن كثيرا من الناس يدخلون الهرم الأكبر، وذكر أن الطريق المسلوك في هذا الهرم زلاقة تفضي إلى قلعة فيها ناووس من حجر، ولاحظ أن مدخل الهرم ليس الباب المتخذ له في أصل البناء، وإنما منقوب نقبا صودف اتفاقا، وأعجب ببناء الأهرام إعجابا عظيما فقال: «وقد سلك في بناء الأهرام طريق عجيب من الشكل والإتقان، ولذلك صبرت على ممر الزمان، بل على ممرها صبر الزمان، فإنك إذا تبحرتها وجدت الأذهان الشريفة قد استهلكت فيها، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها، والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها لها، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثلا هي غاية إمكانها، حتى إنها تكاد تحدث عن قومها وتخبر بحالهم وتنطق عن علومهم وأذهانهم وتترجم عن سيرهم وأخبارهم، وذلك أن وضعها على مخرط يبتدئ من قاعدة مربعة وينتهي إلى نقطة، ومن خواص الشكل المخروط أن مركز ثقله في وسطه، وهو يتساند على نفسه، ويتواقع على ذاته، ويتحامل بعضه على بعض؛ فليس له جهة أخرى خارجة عنه يتساقط عليها، ومن عجيب وضعه أنه شكل مربع قد قوبل بزواياه مهاب الرياح الأربع؛ فإن الريح تنكسر سورتها عند مصادمتها الزاوية، وليست كذلك عندما تلقى السطح.»
ولم يكن البغدادي سائحا عابرا، بل كان يبحث ويتفهم. فنراه، مثلا قد سمع أن في القرية المجاورة للأهرام قوما اعتادوا ارتقاء الهرم بدون عناء، فاستدعى أحدهم وأعطاه شيئا من النقود وطلب إليه أن يصعد إلى قمته وأن يقيس أبعاده عندها، ولكنه لم يطمئن بعد ذلك إلى قياسه، فدون رأيه في خطأ هذا القياس، وعلق عليه بقوله: «وإن ساعدت المقادير توليت قياسه بنفسي.»
وأشار البغدادي إلى المغارات الموجودة على ضفة النيل الشرقية جنوبي القاهرة وقال: إنها «مقابر كثيرة العدد كبيرة المقدار عميقة الأغوار متداخلة وفيها ما هو ذو طبقات ثلاث، وتسمى المدينة، حتى لعل الفارس يدخلها برمحه ويتخللها يوما أجمع، ولا ينهيها، لكثرتها وسعتها وبعدها، ويظهر من حالها أنها مقاطع حجارة الأهرام».
وشاهد عبد اللطيف أبا الهول وأعجب بتناسب وجهه وباستطاعة الفنان أن يحفظ نظام التناسب في الأعضاء مع عظمها.
وصفوة القول: أن البغدادي أطنب في وصفه آثار مصر وأعمل الفكر في بيان عظمتها، وحسبنا أنه ختم ما كتبه عنها بعبارة أودعها كل شعوره في هذا الصدد. قال: «وإذا رأى اللبيب هذه الآثار، عذر العوام في اعتقادهم عن الأوائل بأن أعمارهم كانت طويلة وجثثهم عظيمة، أو أنه كان لهم عصا إذا ضربوا بها الحجر سعى بين أيديهم، وذلك أن الأذهان تقصر عن مقدار ما يحتاج إليه في ذلك من علم الهندسة، واجتماع الهمة، وتوفر العزيمة، ومصابرة العمل، والتمكن من الآلات، والتفرغ للأعمال، والعلم بمعرفة أعضاء الحيوان، وخاصة الإنسان، ومقاديرها، ونسب بعضها من بعض، وكيفية تركيبها، وبصفاتها، ومقادير وضع بعضها من بعض.»
وقد أطنب عبد اللطيف في وصف حمامات مصر وقال: إنه لم يشاهد «أتقن منها وصفا ولا أتم حكمة ولا أحسن منظرا ومخبرا. أما أولا فإن أحواضها يسع الواحد منها ما بين روايتين إلى أربع روايا وأكثر من ذلك، يصب فيه ميزابان ثجاجان حار وبارد، وقبل ذلك يصبان في حوض صغير جدا مرتفع، فإذا اختلطا فيه جرى منه إلى الحوض الكبير، وهذا الحوض نحو ربعه فوق الأرض وسائره في عمقها ينزل إليه المستحم فيستنقع فيه. وداخل الحمام مقاصير بأبواب، وفي المسلح أيضا مقاصير لأرباب التخصص حتى لا يختلطوا بالعوام ولا يظهروا على عوراتهم. وهذا المسلح بمقاصيره حسن القسمة مليح البنية وفي وسطه بركة مرخمة وعليها أعمدة وقبة وجميع ذلك نرزوق السقوف مفوف الجدران مبيضها مرخم الأرض بأصناف الرخام مجزع باختلاف ألوانه، وترخيم الداخل يكون أبدا أحسن من ترخيم الخارج، وهو مع ذلك كثير الضياء مرتفع الآذاج، جاماته مختلفة الألوان ضافية الأصباغ بحيث إذا دخله الإنسان لم يؤثر الخروج منه؛ لأنه إذا بالغ بعض الرؤساء أن يتخذ دارا لجلوسه، وتناهى في ذلك لم تكن أحسن منه».
والواقع أن عبد اللطيف البغدادي أعجب بكل ما شاهد في القاهرة من غرائب الأبنية ووسائل الراحة التي قرنها أحد العلماء المحدثين بما نعرفه في الفنادق الحديثة من أرقى المخترعات وأساليب الترف.
1
الإسكندر الأكبر في حديقة، أشجارها من الذهب، وقباب معابدها مغطاة بالذهب ومرصعة بالأحجار الثمينة. صورة من مخطوط فارسي من تاريخ الإسكندر للشاعر نظامي، كتب في القرن الحادي عشر الهجري (17م). (عن بلوشيه).
ابن سعيد وابن فاطمة
ولد علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد المغربي في غرناطة حول سنة (610ه/1214م). وتلقى العلم في إشبيلية، ثم أدى فريضة الحج مع أبيه، ولكن أباه توفي في طريقهما للعودة إلى أرض الوطن سنة 639ه، وأقام الابن في الإسكندرية بضع سنوات، ثم قام برحلات طويلة في العراق والشام والحجاز وتونس وأرمينية، واتصل ببعض أمراء المسلمين وعلمائهم. وتوفي في الربع الأخير من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).
وقد دون ابن سعيد أخبار بعض رحلاته. وأفاد من مشاهداته فيما ألف من كتب التاريخ. وقد خلف تواليف كثيرة معظمها مخطوط إلى الآن، فلم يطبع إلا بعضها وأجزاء من البعض الآخر، ولا سيما من كتاب «المغرب في حلى المغرب» وهو كتاب كبير أتم ابن سعيد تأليفه بعد أن بدأه أبوه وجده من قبله.
وأكبر الظن أن ابن سعيد جال في غربي أفريقية، ورأى مصب نهر السنغال. أو لعله نقل ما كتبه في هذا الصدد عن الرحالة ابن فاطمة، الذي قام برحلة بحرية جنوبي مراكش، وغرقت السفينة التي كان فيها عند الرأس الأبيض (جنوبي المستعمرة الإسبانية التي تعرف الآن باسم ساحل الذهب)، بعد أن توغل عند الأوروبيين حينذاك.
1
والظاهر أن ابن فاطمة قام بأسفار طويلة في أفريقية. ولعله كتب أخبار هذه الرحلات، ولكن شيئا من آثاره لم يصل إلينا ما خلا الذي نقله عنه ابن سعيد، حين أشار إليه في أكثر من موضع واحد. •••
ومن طريف ما خلفه ابن سعيد وصف للقاهرة والفسطاط نقله المقري في كتابه «نفح الطيب». وقد جاء في هذا الوصف: «قال ابن سعيد: ولما استقررت بالقاهرة تشوقت إلى معاينة الفسطاط، فسار معي إليها أحد أصحاب القرية، فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدة لركوب من يسير إلى الفسطاط حملة عظيمة، لا عهد لي بمثلها في بلد. فركب منها حمارا وأشار إلي أن أركب حمارا آخر، فأنفت من ذلك، على عادة من أخلفته في بلاد المغرب. فأخبرني أنه غير معيب على أعيان مصر، وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والشارة الظاهرة يركبونها فركبت. وعندما استويت راكبا أشار المكاري إلى الحمار فطار بي، وأثار من الغبار الأسود ما أعمى عيني ودنس ثيابي وعاينت ما كرهته. ولقلة معرفتي بركوب الحمار، وشدة عدوه على قانون لم أعهده، وقلة رفق المكاري، وقعت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج فقلت:
لقيت بمصر أشد البوار
ركوب الحمير وكحل الغبار
وخلفي مكار يفوق الرياح
لا يعرف الرفق مهما استطار
أناديه مهلا فلا يرعوي
إلى أن سجدت سجود العثار
فدفعت إلى المكاري أجرته، وقلت له: إحسانك أن تتركني أمشي على رجلي، ومشيت إلى أن بلغتها ... ولما أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرة، وتأملت أسوارا مثلمة سوداء، وآفاقا مغبرة، ودخلت من بابها وهو دون غلق، يفضي إلى خراب مغمور بمبان مشتتة الوضع، غير مستقيمة الشوارع، وقد بنيت من الطوب الأدكن والقصب والنخيل طبقة فوق طبقة، وحول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف ويغض طرف الظريف. فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال، إلى أن صرت في أسواقها الضيقة، فقاسيت من ازدحام الناس فيها لحوائج السوق والروايا التي على الجمال ما لا تفي به إلا مشاهدته ومقاساته، إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع، فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت ضده في جامع إشبيلية، جامع مراكش، ثم دخلت إليه فعاينت جامعا كبيرا قديم البناء غير مزخرف ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه وتنبسط فيه. وأبصرت العامة رجالا ونساء قد جعلوه معبرا بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق. والبياعون يبيعون فيه أصناف المسكرات والكعك وما سوى ذلك. والناس يأكلون في عدة أمكنة منه غير متحشمين لجري العادة عندهم بذلك. وعدة صبيان بأواني ماء يطوفون على كل من يأكل قد جعلوا ما يحصل لهم منه رزقا. وفضلات مأكلهم مطروحة في صحن الجامع، وفي زواياه العنكبوت قد عظم نسجه في السقف والأركان والحيطان والصبيان يلعبون في صحنه، وحيطانه مكتوبة بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة ...
وأما ما يرد إلى الفسطاط من متاجر البحر الإسكندراني والبحر الحجازي فإنه فوق ما يوصف، وبه مجمع ذلك لا بالقاهرة، ومنها يجهز إلى القاهرة وسائر البلاد. وبالفسطاط مطابخ السكر والصابون ومعظم ما يجري هذا المجرى ...
والمكان المعروف بالقاهرة بين القصرين هو من الترتيب السلطاني؛ لأن هنالك ساحة متسعة للعسكر والمتفرجين ما بين القصرين. ولو كانت القاهرة كلها كذلك كانت عظيمة القدر ... ولكن ذلك أمد قليل، ثم تسير منه إلى أمد أضيق وتمر في مكان كدر حرج بين الدكاكين، إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان مما تضيق به الصدور وتسخن منه العيون، ولقد عاينت يوما وزير الدولي وبين يديه الأمراء وهو في موكب جليل، وقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل حجارة، وقد سدت جميع الطرق بين الدكاكين، ووقف الوزير وعظم الازدحام، وكان في موضع طباخين، والدخان في وجه الوزير وعلى ثيابه. وقد كاد يهلك المشاة، وكدت أهلك في جملتهم.»
القزويني
ولد زكريا بن محمد القزويني حول سنة (600ه/1203م) في مدينة قزوين بالعراق العجمي. وطاف في إيران والعراق والشام. وتولى قضاء مدينتي واسط والحلة. وتوفي سنة (682ه/1283م). وقد خلف كتابين كبيرين: الأول في الفلك والجغرافية الطبيعية عند العرب ويسمى «عجائب المخلوقات»، ولا ريب في أنه أجل ما أنتجه في هذا الميدان علماء العصور الوسطى قاطبة، والثاني في التاريخ وتقويم البلدان وما يتصل بهما، ويسمى «آثار البلاد وأخبار العباد».
وفي الكتاب الثاني ذكر بعض البلاد الفرنسية والألمانية والهولندية مثل ايطرخت
Utrecht . وأبولده
Fulda
ومغانجة
Mainz
وشلشويق
Schleswig
وواطربورونة
. والمعروف أن القزويني اتصل بكثير من الرحالة، وقرأ آثارهم، وأفاد من مشاهداتهم. فنقل عن أبي الربيع سليمان الملتاني الرحالة الذي نفذ إلى وسط أفريقية، وعن إبراهيم الطرطوشي الأندلسي وأحمد بن عمر العذري اللذين توفيا حول سنة (477ه/1085م) بعد أن أتيح لهما رؤية بعض المدن في فرنسا وأوروبا الوسطى.
السكان البيض والسكان السود: صورة في مخطوط من الترجمة الفارسية لكتاب «عجائب المخلوقات» للقزويني، ويرجع المخطوط إلى القرن التاسع أو العاشر الهجري (15-16م). (عن سكسيان).
شجرة واق واق والملكة عرجون: صورة في مخطوط من الترجمة الفارسية لكتاب «عجائب المخلوقات» للقزويني. ويرجع المخطوط إلى القرن التاسع أو العاشر الهجري (15-16م). (عن ساكسيان).
ومما نقله القزويني عن الطرطوشي حديث مدينة النساء، وقد أشار إليه الدكتور حسين فوزي في الفصل الذي عقده للكلام على جزائر النساء في كتابه «حديث السندباد القديم». نقل القزويني عن الطرطوشي أن «مدينة النساء مدينة كبيرة واسعة الرقعة في جزيرة من جزائر بحر المغرب، أهلها نساء لا حكم للرجال عليهن، يركبن الخيل ويباشرن الحرب بأنفسهن ذوات بأس شديد عند اللقاء، ولهن مماليك يختلف كل مملوك إلى سيدته، ويقوم بالسحر ليخرج مستترا قبل انبلاج الصبح فإذا وضعت إحداهن ذكرا وأدته في الحال».
وقد كتب المستشرق الألماني جاكوب
C. jacob
عدة أبحاث عما ذكره القزويني من البلاد الأوروبية وعن العلاقات التجارية بين المسلمين وسكان أوروبا الوسطى والشمالية.
العبدري
هو محمد بن محمد بن علي العبدري نسبة إلى جده الأعلى عبد الدار بن قصي القرشي. أصله من بلنسية. ولسنا نعرف من سيرة حياته شيئا كثيرا. ولكن الثابت أنه كان على مقربة من الصويرة (مغادور
Mogador ) في المغرب الأقصى حين سافر لتأدية فريضة الحج سنة (688ه/1289م). واتخذ العبدري في رحلته طريق أفريقية الشمالي إلى الإسكندرية، ومنها بالطريق البري إلى مكة، وأقام بعد الحج فترة من الزمن بفلسطين، ثم قفل معرجا على الإسكندرية. ودون أخبار رحلته، وأشار فيها إلى مواطنه ابن جبير. وقد وصلت إلينا بضع مخطوطات من هذه الرحلة محفوظة في خزانات متفرقة. ونشر منها المستشرق الفرنسي شاربونو
Charbonneau
بعض مقتطفات في المجلة الآسيوية الفرنسية (ج4 من الحلقة الخامسة).
وعني العبدري في رحلته ببيان المواقع الجغرافية، وذكر المعالم الأثرية، ودراسة العادات في البلاد التي مر بها؛ فضلا عن الكلام على أعلام الفقهاء المسلمين في عصره. ومما عرض له شدة ما يلقاه القادمون إلى ثغر الإسكندرية من قسوة مفتشي المكوس. فقد كتب في هذا الصدد: «ومن الأمر المستغرب والحال الذي أفصح عن قلة دينهم أنهم يعترضون الحجاج، ويجرعونهم من بحر الإهانة الملح الأجاج. ويأخذون على وفدهم الطرق والفجاج، يبحثون عما بأيديهم من مال ، ويأمرون بتفتيش النساء والرجال. وقد رأيت من ذلك يوم ورودنا عليهم ما اشتد له عجبي، وجعل الانفصال عنهم غاية أربي. وذلك لما وصل إليها الركب جاءت شرذمة من الحرس، لا حرس الله مهجتهم الخسيسة، ولا أعدم منهم لأسد الآفات فريسة، فمدوا في الحجاج أيديهم، وفتشوا الرجال والنساء، وألزموهم أنواعا من المظالم، وأذاقوهم ألوانا من الهوان، ثم استخلفوهم وراء ذلك كله، وما رأيت هذه العادة الذميمة، والشيمة اللئيمة في بلد من البلاد، ولا رأيت في الناس أقسى قلوبا، ولا أقل حياء ومروءة، ولا أكثر إعراضا عن الله، سبحانه، وجفاء لأهل دينه من أهل هذا البلد.»
البلوي
هو القاضي أبو البقاء خالد بن عيسى البلوي غادر الأندلس سنة (736ه/1335م) في رحلة إلى أقطار الحجاز لتأدية الفريضة وزيارة بعض الأقطار الإسلامية. فمر بتونس والإسكندرية والقاهرة وأقام بعض الوقت ببيت المقدس. ورافق منها ركب الحاج السوري إلى الحجاز. ثم دون أخبار رحلته في كتاب سماه «تاج المفرق في تحلية علماء المشرق» فرغ من تأليفه سنة (767ه/1365م)، وقد وصلت إلينا نسخ مخطوطة منه، لا تزال محفوظة في بعض الخزانات العامة.
وعني البلوي في أخبار رحلته بوصف البلاد التي مر بها، والإشارة إلى آثارها وذكر علمائها وأدبائها مع نبذ من أشعارهم ونثرهم. ولكنه نقل كثيرا من غيره من المؤلفين والرحالة، ولا سيما عن ابن جبير؛ فقد أخذ عنه وصف الإسكندرية والقاهرة ومكة والمدينة. بل إن معاصره لسان الدين بن الخطيب صاحب كتاب «الإحاطة في أخبار غرناطة» فطن لهذا العيب في تأليفه، فكتب عنه في الكتاب المذكور: «حج وقيد رحلته في سفر وصف فيه البلاد ومن لقيه بفصول جلب أكثرها من كلام الأصبهاني وصفوان وغيرها.»
ابن بطوطة
هو أعظم الرحالة المسلمين قاطبة، وأكثرهم طوافا في الآفاق، وأوفرهم نشاطا واستيعابا للأخبار، وأشدهم عناية بالتحدث عن الحالة الاجتماعية في البلاد التي تجول فيها. حقا إنه لم يكن فقيها دقيق الملاحظة سليم الحكم مثل ابن حجر، ولكن حديث رحلاته الطويلة غني بالأحداث، يشع بالحياة، ويشهد بأن ابن بطوطة كان من المغامرين الذين لا يقر لهم قرار، ومن الذين يدفعهم حب الاستطلاع والرغبة في الاستمتاع بالحياة إلى أن يركبوا الصعب من الأمور.
ولد محمد بن بطوطة في مدينة طنجة سنة (703ه/1304م) من أسرة عالية، أتيح لكثير من أبنائها الوصول إلى منصب والنبوغ في العلوم الشرعية. غادر وطنه سنة 725ه لأداء فريضة الحج، ولكنه ظل حول ثمانية وعشرين سنة في أسفار متصلة ورحلات متعاقبة. وألقى أخيرا عصى التسيار بما كان فيه ابن بطوطة يقصه من أحاديث أسفاره، فأمر كاتبه محمد بن جزي الكلبي أن يدون ما يمليه عليه هذا الرحالة. وتولى ابن جزي كاتب السلطان رواية الرحلة وتلخيصها وترتيبها وإضافة بعض الأشعار إليها وتحقيق بعض أجزائها مستعينا بكتب الرحلات المعروفة في ذلك العصر، ولا سيما رحلة ابن جبير.
ثم سماها «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وفرغ منها سنة (757ه/1356م) وختمها بعبارة أجزل فيها الثناء على ابن بطوطة، ولم ينس مولاه السلطان، فافتخر بأن ذاك الرحالة اختار الاستقرار في دياره دون غيرها.
قال ابن جزي: «انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ أبي عبد الله محمد بن بطوطة أكرمه الله. ولا يخفى على ذي عقل أن هذا الشيخ هو رحال العصر. ومن قال: رحال هذه الملة لم يبعد. ولم يجعل بلاد الدنيا للرحلة. واتخذ حضرة فاس قرارا ومستوطنا بعد طول جولاته، إلا لما تحقق أن مولانا - أيده الله - أعظم ملوكها شأنا، وأتمهم بما ينتمي إلى طلب العلم حماية. فيجب على مثلي أن يحمد الله تعالى؛ لأن وفقه في أول حاله وترحاله لاستيطان هذه الحضرة، التي هذا الشيخ بعد رحلة خمسة وعشرين عاما.» •••
وقد طبعت رحلة ابن بطوطة في باريس مع ترجمة فرنسية في منتصف القرن الماضي على يد المستشرقين ديفريمري
Defremory
وسانجنتي
Sanguinetti
وطبعت في القاهرة طبعتين غربيتين ونشر الأستاذ جب
Gibb
ملخصا لها بالإنجليزية في سلسلة
Broadway Travellers
سنة 1929 قدم له بتصدير طيب تحدث فيه عن الرحالة وعصره.
ولعل بعض الاضطراب في أخبار ابن بطوطة يرجع إلى أنه لم يدون رحلته بنفسه، وأن ابن جزي عدل في بعض أخبارها وغير فيها بالحذف أو الإضافة، بعد أن راجع طائفة من كتب الأسفار الأخرى، حتى جاءت بعض الأخبار بعيدة عن الدقة، ولا سيما أحاديث ابن بطوطة عن الصين: فاتهمه بعض النقاد بأنه لم يصل إلى تلك البلاد كما زعم في رحلته. ولكنا لا نميل إلى تأييد هذا الاتهام كل التأييد؛ لأن معظم تلك الأحاديث يدعمها ما نعرفه عن رحلة ماركو بولو، الذي زار الصين أيضا، ومكث فيها حول سبعة عشر عاما، ثم أملى أخبار رحلته على كاتب آخر، وتوفي قبل أن يقوم ابن بطوطة برحلته الأولى بسنة واحدة.
وقد أشار الدكتور حسين فوزي في كتابه «حديث السندباد القديم» (ص 118-119) إلى قصة نزول ابن بطوطة ببلاد طوالسي في المحيط الهادي، ولاحظ أن وصفه تلك البلاد - ولا سيما نساءها - ذو صلة بأسطورة جزيرة النساء وأسطورة الوقواق. وقال: إن تلك القصة من الحكايات التي دعت كثيرا إلى التشكك من سفر ابن بطوطة إلى بلاد الصين وأنه ليس ببعيد أن يكون حديثه عن «أودجا» ملكة تلك البلاد «نوعا من السطو البري على قصة علقت بذهن ابن بطوطة من مطالعاته عن البلاد التي في شرق الصين ونسبها إلى نفسه».
وفي رأينا أن هذه القصة وغيرها من القصص الغريبة قد تحملنا على أن نشك في صحة بعض ما نسبه ابن بطوطة إلى نفسه، ولكنها لا تكفي لأن نشك في صحة سفره إلى تلك البلاد. والحق أن ما كتبه عن الصين يبدو قائما على أسس من المشاهدات الشخصية، ويجب ألا ننسى في هذه المناسبة أن مثل هذه الرحلة إلى الصين كانت أمرا ميسورا لابن بطوطة بوصفه سفير سلطان دلهي. وإذا كان حديثه عنها بعيدا عن الإسهاب والإطالة، فلعل السبب في ذلك أنه لم يكن يستطيع أن يتذكر السماء الصينية أو أن ابن جزي محرر الرحلة أمعن في اختصاره لسبب من الأسباب.
ومهما يكن من الأمر فإننا نشعر حين نقرأ رحلة ابن بطوطة أن ثمة أجزاء عليها طابع المبالغة، ونرجح أن الرحالة خصب الخيال، وأنه قد يكون مصداقا للمثل المشهور في بعض اللغات الأوروبية
A beau mentir qui vient de join
ومعناه أن القادمين من البلاد البعيدة لهم أن يختلفوا ما شاءوا، إذ لا رقيب عليهم. ولكن ليس في هذا ما ينقص من شأن ابن بطوطة ورحلته. وحسبنا أن نتبعها مرحلة مرحلة، لنقف عند بعض أجزائها الطريفة، مما يصف ظاهرة اجتماعية غريبة أو يثبت وجود نظم نظن أنها من مستحدثات العصر الحاضر. •••
غادر ابن بطوطة بلاد المغرب الأقصى إلى الأراضي الحجازية، فمر ببلاد الجزائر وتونس وطرابلس. والظاهر أن هذا الطريق البري لم يكن أمينا كل الأمن؛ فقد علم الرحالة من صديق له بضرورة الإسراع في السير خوف غارة العرب في الطريق، وحدث بعد ذلك أن أرادت طوائف الأعراب الإيقاع بالركب قبل الوصول إلى الحدود المصرية. وحرص ابن بطوطة على أن يحدثنا عن بعض شؤونه الخاصة في هذه المرحلة الخاصة في هذه المرحلة فأملى ما يأتي: «ووقع بيني وبين صهري مشاجرة أوجبت فراق بنته وتزوجت بنتا لبعض طلبة فاس وبنيت بها بقصر الزعافية، وأولمت وليمة حبست لها الركب يوما وأطعمتهم.»
ثم وصل إلى الإسكندرية ووصفها وصفا موجزا ولا سيما المنار وعمود السواري، وتحدث بشيء من الإسهاب عمن زارهم من علمائها، ومنهم الإمام الزاهد برهان الدين الأعرج الذي توسم فيه حب الرحلة والأسفار، فأوصاه إذا ذهب إلى الهند أو الصين أن يزور إخوانا سماهم له. وشجع ذلك ابن بطوطة على التفكير في التوجه إلى تلك البلاد القاصية. على أننا لا نشك في أنه لم يكن منذ البداية يقصد الحج فحسب، بل كان يزمع التجول في العالم الإسلامي، كما يظهر من قضائه عدة شهور في الطريق إلى الإسكندرية، ومن تعريجه على مدن في الدلتا بعيدة عن الطريق العادي إلى القاهرة.
ومن طريف ما ذكره ابن بطوطة عن مدينة دمياط أنها كانت مسورة، وإذا دخلها أحد لم يكن له سبيل إلى الخروج منها إلا بإذن الوالي؛ فمن كان في الناس معتبرا أعطاه رجال الإدارة الإذن على ورق مختوم بطابع الوالي، أما طالب الخروج من عامة الناس فكانوا يطبعون على ذراعه بخاتم الوالي ، فيسمح له حراس باب المدينة بمبارحتها عند رؤية هذا الختم.
ثم وصف ابن بطوطة القاهرة والفسطاط (مصر) فذكر المساجد والمدارس والمستشفيات والقرافة والنيل والأهرام، وقال عن هذه: إنها بنيت لتكون مستودعا للعلوم ولجثث الملوك. وتحدث عن السلطان الناصر محمد بن قلاوون وعن بعض كبار الأمراء والعلماء في دولته، ووصف الاحتفال بسفر المحمل. وقال: إن بنيل مصر من المراكب ستة وثلاثين ألفا للسلطان والرعية، تمر صاعدة إلى الصعيد ومنحدرة إلى الإسكندرية ودمياط بأنواع الخيرات والمرافق، وأن «الروضة» كانت حينئذ مكان النزهة والتفرج وبها البساتين الكثيرة الحسنة، وأن أهل مصر ذو طرب وسرور ولهو، وأنه شاهد بها مرة فرجة - بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده - فزين كل أهل سوق سوقهم وبقوا على ذلك أياما.
وسافر الرحالة من القاهرة إلى عيذاب، ولكنه لم يستطع أن يعبر البحر منها؛ لأنه وجد أميرها الحدر بن زعيم البجاة قد ثار على مولاه السلطان الناصر المملوكي، وأقبل على مطاردة جنوده المماليك، وأتلف المراكب فتعذر السفر في البحر. وعاد ابن بطوطة إلى الفسطاط، ثم رحل عنها إلى فلسطين ولبنان وسورية؛ على أن يرافق إلى الحجاز ركب الحاج الشامي. ووصف الطريق الصحراوي بين مصر وفلسطين، وما كان فيه من محطات ولا سيما «قطيا» التي كانت تجبي المكوس. قال:
ثم وصلت إلى الصالحية، ومنها دخلنا الرمال ونزلنا منازلها، وبكل منزل منها فندق وهم يسمونه الخان، ينزله المسافرون بدوابهم، وبخارج كل خان ساقية للسبيل وحانوت يشتري منه المسافر ما يحتاج إليه ودابته ومن منازلها «قطيا» المشهورة، وبها تؤخذ الزكاة من التجار وتفتيش أمتعتهم، ويبحث عما لديهم أشد البحث، وفيها الدواوين والعمال ... ومجباها في كل يوم ألف دينار من الذين. ولا يجوز عليها أحد من الشام إلا ببراءة (إذن أو جواز سفر) من مصر ولا إلى مصر إلا ببراءة من الشام، احتياطا على أموال الناس، وتوقيا من الجواسيس العراقيين. وطريقها في ضمان العرب وقد وكلوا بحفظه، فإذا كان الليل مسحوا على الرمل لا يبقي به أثر، ثم يأتي الأمير صباحا فينظر إلى الرمل، فإن وجد به أثرا طالب العرب بإحضار مؤثره فيذهبون في طلبه فلا يفوتهم، فيأتون به الأمير فيعاقبه بما شاء. •••
وتنقل ابن بطوطة بين مدن فلسطين والشام تنقلا يبدو غير منتظم في أخبار رحلته. ومهما يكن من الأمر، فإنه وصف غزة وبيت المقدس، وأعجب بقبة الصخرة وتحدث عن فضلاء القدس، وانتقل إلى وصف صور وطرابلس الشام وحلب، وسره بعض القصص التي تتصل بالنزاع بين السلطان الناصر محمد بن قلاوون ودولة إيلخانات المغول بالعراق، وما تبعه من فرار الأمير قراسنقر نائب حلب إلى إيلخان المغول.
وأسهب ابن بطوطة في الكلام على دمشق، فوصف مسجدها الجامع وصفا دقيقا، وتحدث عن حلقات التدريس فيه. ومن أطرف ما كتبه عنها ذكر ما بها من أوقاف لمختلف الشؤون الاجتماعية «منها أوقاف تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطريق ورصفها؛ لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون ، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير»، وسرد ابن بطوطة قصة طريفة في هذا الصدد. قال: «مررت يوما ببعض أزقة دمشق، فرأيت به مملوكا صغيرا قد سقطت من يده صفحة من الفخار الصيني، وهم يسمونها الصحن، فتكسرت، واجتمع الناس، فقال له بعضهم: «اجمع شفقها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني.» فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن. وهذا من أحسن الأعمال، فإن سيد الغلام لا بد له أن يضر به على كسر الصحن أو ينهره، وهو أيضا ينكسر قلبه ويتغير جل ذلك. فكان هذا الوقف جبرا للقلوب.»
وطبيعي أن يعنى ابن بطوطة بالكلام على ما يلقاه مواطنوه المغاربة من كرم الوفادة في دمشق فأشار إلى أن أهلها يحسنون الظن بالمغاربة، ويعهدون إليهم في شتى الأعمال، فلا يحتاج غريب إلى بذل وجهه في السؤال «وكل من انقطع بجهة من جهات دمشق لا بد أن يأتي له وجه من المعاش» من إمامة مسجد، أو قراءة بمدرسة، أو ملازمة مسجد يجيء إليه فيه رزقه، أو قراءة القرآن، أو خدمة مشهد من المشاهد المباركة أو يكون كجملة الصوفية بالخوانق تجري له النفقة والكسوة. فمن كان بها غريبا على خير لم يزل مصونا عن بذل وجهه محفوظا عما يزري بالمروءة. ومن كان من أهل المهنة والخدمة فله أسباب أخر، من حراسة بستان أو إمامة طاحونة أو كفالة صبيان يغدو معهم إلى التعليم ويروح، ومن أراد طلب العلم أو التفرغ للعبادة وجد الإعانة التامة على ذلك.»
وأشار ابن بطوطة إلى أن من فضائل أهل دمشق أنه لا يفطر أحد منهم في ليالي رمضان وحده البتة، فمن كان غنيا فإنه يدعو أصحابه والفقراء. أما الفقراء فإنهم يجتمعون كل ليلة في دار أحدهم أو في مسجد ويأتي كل أحد بما عنده فيفطرون جميعا.
وكان ابن بطوطة يعنى بالنواحي الاقتصادية في مشاهداته، فيذكر أجل ما تختص به المدن التي يزورها من منتجات زراعية أو صناعية ولا تفوته الإشارة إلى الطريف منها. ومن ذلك قوله في بعلبك: «ويصنع بها أواني الخشب وملاعقه التي لا نظير لها في البلاد، وهم يسمون الصحائف بالدسوت، وربما صنعوا الصحفة وصنعوا صحفة أخرى تسع في جوفها أخرى إلى أن يبلغوا العشر، يخيل لرائيها أنها صحفة واحدة. وكذلك الملاعق يصنعون منها عشرا واحدة في جوف واحدة ويصنعون لها غشاء من جلد ...» فليس لنا أن نعجب إذن حين نرى مصانع الغرب في العصر الحاضر تطبق هذه الفكرة في إنتاج بعض أنواع الآنية ومنافض السجاير. •••
أدى ابن بطوطة بعد ذلك فريضة الحج، ووصف مناسكها، وتحدث عن الحجازيين وعاداتهم وأحوالهم الاجتماعية، وأثنى على أهل مكة ومدح ما شاهده فيها من الكرم وحسن الجوار للغرباء، ولاحظ أن نساء مكة «فائقات الحسن بارعات الجمال ذوات صلاح وعفاف، وهن يكثرن التطيب، حتى إن إحداهن لتبيت طاوية وتشتري بقوتها طيبا. وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة فيأتين في أحسن زي، وتغلب على الحرم رائحة طيبهن، وتذهب امرأة منهن فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقا»!
ثم غادر الحجاز سنة (726ه/1326م) مع الركب العراقي، ولكنه تركه عند النجف، وعرج على واسط والبصرة. وعجب لهذه التي إلى أهلها كانت انتهت رياسة النحو، فلم يبق بها من يعرف شيئا من هذا العلم، حتى الخطيب يلحن في الخطبة لحنا كثيرا جليا.
ولم يشأ ابن بطوطة أن يقفل إلى العراق من الطريق عينها التي دخل منها. وقال في ذلك: إن من عادته في سفره ألا يعود على طريق سلكها ما أمكنه ذلك. فزار بعض المدن في غربي إيران مثل تستر وأصبهان وشيراز وكازرون. وأظهر في وصفها ذوقا فنيا وإعجابا بجمال الطبيعة، فضلا عن عنايته المعهودة بالناس وأعيادهم وأحوالهم الاقتصادية والعلمية والاجتماعية، ومن ذلك قوله في وصف مدينة اشتركان: «وهي بلدة حسنة كثيرة المياه والبساتين. ولها مسجد بديع يشقه النهر.»
ورجع ابن بطوطة إلى العراق فنزل بالكوفة ثم انتقل إلى بغداد، وأتيح له أن يرى موكب السلطان أبي سعيد، فوصفه على نحو ما وصف القلقشندي مواكب الفاطميين والأيوبيين والمماليك في مصر. •••
وقام ابن بطوطة برحلات من بغداد إلى تبريز والموصل ونصيبين وسنجار وماردين، ثم رافق ركب الحاج العراقي إلى الحجاز فأدى الفريضة ثانية، وأقام يدرس بمكة سنة كاملة. ثم حج مرة ثالثة، وركب البحر إلى اليمن مارا بسواكن، وأشار إلى أن البحر في هذه المنطقة لا يسافر فيه ليلا لكثرة أحجاره، وإنما يسافرون فيه من طلوع الشمس إلى غروبها ويرسون وينزلون إلى البر. فإذا كان الصباح صعدوا إلى المركب.
وزار الرحالة زبيد، وقال: إنها أملح بلاد اليمن وأجملها، وليس في تلك البلاد بعد صنعاء أكبر منها ولا أغنى من أهلها. وأعجب بجمال نسائها وبقبولهن تزوج الغرباء. وغادرها إلى صنعاء وذكر أن أرضها مبلطة فإذا نزل المطر غسل جميع أزقتها وأنقاها. وطبيعي أن يلاحظ ابن بطوطة - وهو الناشئ في إقليم البحر الأبيض المتوسط حيث يهطل المطر شتاء - أن المطر ببلاد الهند واليمن والحبشة إنما ينزل في أيام القيظ .
وقابل الرحالة سلطان اليمن في صنعاء ووصف بلاطه وترتيب الطعام فيه ثم أضاف: «وعلى مثل هذا الترتيب ملك الهند في طعامه؛ فلا أعلم أسلاطين الهند أخذوا ذلك عن سلاطين اليمن، أم سلاطين اليمن أخذوه عن سلاطين الهند.»
وسافر ابن بطوطة إلى عدن وأشار في وصفها إلى ثروة التجار فيها، ثم عبر البحر إلى زيلغ بالصومال الإنجليزي الحالي، ووصفها بأنها أقذر مدينة في المعمور وأوحشها وأكثرها نتنا «حتى إنه اختار المبيت بالبحر على شدة هوله ولم يبت بها لقذرها»، وسافر بعدها إلى مقدشو عاصمة تلك البلاد (وهي تقع على ساحل المحيط الهندي). ونزل بأمر السلطان في دار الطلبة، وهي معدة لضيافة أهل العلم. وغادرها إلى جزيرة منبسي ثم إلى كلوا على ساحل أفريقية الشرقي جنوبي خط الاستواء، وأهلها من الزنوج. وقال الرحالة عن المسلمين منهم: إنهم «أهل جهاد؛ لأنهم في بر واحد متصل مع كفار الزنوج».
وعاد ابن بطوطة إلى بلاد العرب طائفا حول سواحلها الجنوبية والشرقية ومارا بمدينة ظفار، وعجب لأنه رأى الدواب والغنم فيها بسمك السردين، وتحدث عن تجارها مع الهند وعن سلطانها. ثم مر بهرمز وسيراف والبحرين، ووصف الغواصين على الجوهر، وعبر الخليج الفارسي إلى القطيف في إقليم اليمامة، وانحدر منها إلى مكة فأدى الفريضة مرة أخرى وشاهد السلطان الناصر محمد يحج ومعه طائفة من الأمراء والمماليك.
وأراد ابن بطوطة أن يبحر إلى اليمن والهند ولكنه لم يجد في ثغر جدة مركبا أو رفيقا إلى الجنوب فرجع إلى مصر. وسافر منها إلى الشام على طريق بلبيس. ووصل إلى اللاذقية. وركب منها البحر إلى العلايا في الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى، وكانت حينئذ مشتى الروم السلاجقة.
وطاف الرحالة في كثير من بلاد الأناضول، فوصف أحوالها السياسية قبل أن تصبح دولة واحدة على يد العثمانيين. كما تحدث عن آثارها وصناعاتها وعادات أهلها، ولا سيما نظام جماعات الإخوان أو الفتيان. وهي جماعات تضم الشبان العزباء أبناء الطائفة الواحدة أو القرية الواحدة، فيقدمون عليهم رئيسا لهم ويتخذون مقرا لجمعيتهم ويتعاونون على البر وإكرام الضيف الغريب ويشتركون في الطعام وفي الغناء وفي الرقص وما إلى ذلك من اللهو البريء. ونظامهم يتصل بنظام فتوة الإسلام. وقد ذكر ابن بطوطة أن فتيان مدينة قونية «لهم في الفتوة سند يتصل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ولباسها عندهم السراويل كما تلبس الصوفية الخرقة».
وأبحر الرحالة إلى شبه جزيرة القرم من ثغر صنوب شمالي آسيا الصغرى، ونزل بمرسى «الكرش». ثم انتقل إلى تغر كافا، وأكثر سكانه من أهل جنوة، جعلوه من أهم مراكز التجارة وأكبر أسواق الرقيق. ورحل عنها إلى مدينة القرم. وكانت تابعة للسلطان محمد أوزبك، خان المغول المعروفين بالقبيلة الذهبية. وغادر القرم إلى أزاق وأشار إلى كثرة الخيل بتلك البلاد وإلى أن ثمنها زهيد فينقل التجار ألوفا منها الهند ويغنمون الأرباح الطائلة.
وانتقل إلى مدينة الماجر بالقوقاز حيث لقي يهوديا كلمه بالعربية وظهر أنه من الأندلس، وأنه قدر إلى القوقاز بطريق البر الأوروبي، وأن رحلته استغرقت حول أربعة أشهر، وعلم ابن بطوطة صحة ذلك من بعض التجار الآخرين ممن لهم المعرفة في هذا الشأن. وأعجب الرحالة بتعظيم النساء في تلك البلاد حتى قال: «وهن أعلى شأنا من الرجال.» ووصف بعض مواكبهن ولاحظ أنهن لا يحتجبن «وربما كان مع المرأة منهن زوجها، فيظنه من يراه بعض خدمها».
وتحدث ابن بطوطة عن السلطان محمد أوزبك وزار معسكره على أربعة أيام من مدينة الماجر في موضع يقال له «بش دغ». وكان هذا المعسكر مدينة عظيمة متنقلة «فيها المساجد والأسواق ودخان المطبخ صاعد في الهواء. وهم يطبخون في حال رحيلهم والعربات تجرها الخيل بهم» فإذا بلغوا المكان الذي يريدون المقام فيه، أنزلوا البيوت عن العربات وجعلوها على الأرض. وقد أفاض ابن بطوطة في الكلام على مواكب خواتينه أو نسائه الأربع.
وذكر الرحالة أن هذا السلطان أوفد معه دليلا لتوصيله إلى مدينة بلغار على الشاطئ الأيسر لنهر أتل (الفولجا). وقد مر بنا ذكرها في الكلام على ابن فضلان. وأراد ابن بطوطة أن يجاوز هذه المدينة إلى الشمال لزيارة أرض الظلمة (سيبريا وشمالي روسيا) وبينها وبين مدينة بلغار أربعون يوما، ولكنه لم يفعل، فقال في رحلته: «ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤونة فيه وقلة الجدوى. والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار، تجرها كلاب كبار، فإن تلك المفازة فيها الجليد، فلا تثبت قدما الآدمي ولا حافر الدابة فيها. والكلاب لها أظفار فتثبت أقدامها في الجليد. ولا يدخلها إلا الأقوياء من التجار الذين يكون لأحدهم مائة عجلة أو نحوها، موقرة بطعامه وشرابه وحطبه، فإنها لا شجر فيها ولا حجر ولا مدر. والدليل بتلك الأرض هو الكلب الذي سار فيها مرارا كثيرة. وتنتهي قيمته إلى ألف دينار ونحوها وتربط العربة إلى عنقه ويقرن معه ثلاثة من الكلاب. ويكون هو المقدم وتتبعه سائر الكلاب بالعربات، فإذا وقف وقفت ... فإذا كملت للمسافرين الفلاة أربعون مرحلة نزلوا عند الظلمة وترك كل واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك، وعادوا إلى منزلهم المعتاد. فإذا كان من الغد لتفقد متاعهم. فيجدون بإزائه من السمور والسنجاب والقاقم. فإن أرضى صاحب المتاع ما وجده إزاء من متاعه أخذه، وإن لم يرضه تركه فيزيدونه. وربما رفعوا متاعهم، أعني أهل الظلمة، وتركوا أمتاع التجار، وهكذا بيعهم وشراؤهم. ولا يعلم الذين يتوجهون إلى هنالك من يبايعهم ... والقاقم هو أحسن أنواع الفراء، وتساوي الفروة منه ببلاد الهند ألف دينار ... وهي شديدة البياض من جلد حيوان صغير في طول الشبر وذنبه طويل، يتركونه في الفروة على حاله. والسمور دون ذلك. تساوي الفروة منه أربعمائة دينار فما دونها.»
وطبيعي أن ما يذكره ابن بطوطة في هذه العبارة مصدره ما سمعه من التجار عن تلك البلاد الشمالية. ولا ريب في أن قصة تبادل التجارة من دون رؤية أهل تلك البلاد تبدو خيالية إلى حد كبير، ومع ذلك فقد قرأنا أن الأوروبيين عرفوا مثل هذا الأسلوب التجاري مع الهنود الحمر في أمريكا، كما عرفه القرطاجنيون مع بعض الأمم في العصور القديمة، وعرفه الأحباش مع بعض القبائل الأفريقية في القرن السادس الميلادي.
1
عاد ابن بطوطة إلى بلاط أوزبك خان في القوقاز وأتيح له أن يغادره إلى القسطنطينية في رفقة الخاتون بيلون زوجة هذا السلطان، وكانت تقصد زيارة أبيها ملك الروم «لتضع حملها عنده». وكانت هذه الرحلة بطريق البر في جزيرة البلقاء. ولقي الرحالة من رعاية قيصر القسطنطينية ما اعتاد أن يلقاه من سلاطين المسلمين. وذكر أنهم فتشوه قبل الدخول على الإمبراطور «لئلا يكون معه سكين»، وأنه في البلاط ترجمان يهودي يتكلم العربية وأصله من بلاد الشام. وقد خلع الملك على ابن بطوطة وأمر له بفرس. والغريب أن الذي يلبس خلعة الملك ويركب فرسا من هداياه يطاف به في أسواق المدينة بالأبواق والطبول؛ ليراه الناس. وعلق ابن بطوطة على ذلك بقوله: «وأكثر ما يفعل ذلك بالأتراك الذين يأتون من بلاد السلطان أوزبك؛ لئلا يؤذوا.»
وشاهد الرحالة آثار القسطنطينية. ثم رجع إلى السلطان أوزبك بدون الخاتون بيلون؛ فقد رغبت في المقام مع أبيها. وقد شك بعض النقاد في رحلة ابن بطوطة إلى القسطنطينية، ولا سيما لأنه لم يوضح الطريق الذي سلكه للوصول إليها، ولأنه أشار إلى لقائه قيصر الروم السابق بعد أن انقطع للعبادة ونزل عن العرش لابنه، والحقيقة أن هذا القيصر توفي في السنة السابقة للعام الذي ينم عنه كلام ابن بطوطة. ولكن المستشرق الإنجليزي الأستاذ جب
Gibb
كتب في مقدمته للمقتطفات التي نشرها من رحلة ابن بطوطة باللغة الإنجليزية أن غموض الطريق الذي سار فيه الرحالة إلى القسطنطينية يمكن تفسيره بغرابة تلك البلاد في وجه سائح لا يعرف لغتها ولا تربطه ببيئتها أي صلة، أما لقاء الإمبراطور السابق فيمكن تفسيره بخطأ وقع فيه ابن بطوطة في حساب السنة التي زار فيها عاصمة الدولة البيزنطية. •••
وسافر ابن بطوطة بعد ذلك إلى خوارزم وبخارى. ومن طريف ما شاهده في المدينة الأخيرة أن شواهد القبور الموجودة في مدافن علمائها كانت تتضمن أسماء الكتب التي صنفوها في حياتهم. وقد أعجب الرحالة بهذا الأسلوب في تخليد ذكراهم؛ فنقل بعض نصوص تلك الشواهد، ولكنه أضاعها بعد ذلك. وأشار إلى ذلك بقوله: «وزرت ببخارى قبر الغمام العالم أبي عبد الله البخاري مصنف الجامع الصحيح شيخ المسلمين - رضي الله عنه - وعليه مكتوب: هذا قبر محمد بن إسماعيل البخاري وقد صنف من الكتب كذا وكذا. وكذلك على قبور علماء بخارى أسماؤهم وأسماء تصانيفهم. وكتب قيدت من ذلك كثيرا، وضاع مني في جملة ما ضاع لي لما سلبني كفار الهند في البحر.»
ثم واصل ابن بطوطة أسفاره إلى سمرقند وترمذ وبلح وهراة وطوس ونيسابور وبسطام وغزنة وكابل. ثم دخل بلاد الهندسنة (734ه/1333م) واتصل بسلطانها محمد بن تغلق. وتولى منصب القضاء في دهلي. وأقام فيها حوالي ثماني سنين. وترك في رحلته وصفا حسنا لكثير من مدنها وآثارها ونباتها وحيوانها. كما تحدث عن أمراء المسلمين فيها، ومن كان يفد عليهم من أعلام الغرباء. وأشار إلى كثير من عادات الهنود وأحوالهم الاجتماعية، فذكر مثلا كيف يتشرف نساء الهندوس بإحراق أنفسهن بعد موت أزواجهن. وقال: إن التي لا تفعل ذلك تقيم عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها. كما ذكر الذين يغرقون أنفسهم في نهر الكنج تقربا إلى معبودهم.
وطبيعي أنه أسهب في الكلام على مدينة دهلي وعمائرها وسكانها ومن حكمها من الأمراء المسلمين، ولا سيما السلطان محمد شاه بن تغلق؛ فقد أفاض في وصف بلاطه ومراسيم احتفالاته وفيض كرمه وعطاياه واستقباله للملوك والأمراء، ولكنه وصف إلى جنب ذلك قسوته وشغفه بإراقة الدماء. والحق أن ابن بطوطة أتيح له أن يكتب في وصف هذا السلطان والمتصلين به ما لم يظفر التاريخ الإسلامي بمثله عن بلاط أي أمير آخر. ولم يكن ابن بطوطة مرضيا عنه دائما في بلاط ابن تغلق، فقد كان هذا السلطان يقصيه أحيانا ويقربه أحيانا أخرى. •••
وكان أن غضب عليه السلطان مرة، فاعتزل الخدمة ووهب ماله للفقراء والمساكين، ولازم أحد الزهاد، ولكن السلطان أراد أن يرسل وفدا من قبله إلى ملك الصين يحمل هدية سنية. واختار ابن بطوطة لرياسة هذا الوفد إلى قندهار وركب منها البحر إلى ثغر قاليقوط التي كانت تقصدها سفن أهل الصين وجاوة وسيلان واليمن وإيران وغيرها .
ورأى الرحالة في هذا الثغر ثلاثة عشر مركبا للصين. ووصف في هذه المناسبة أنواع المراكب الصينية وأساليب بنائها. وأشار إلى ضخامة تلك السفن وقال: إن للمركب أربعة ظهور. ويكون فيه البيوت (أي: مجموعة الغرف) والمصاري (أي: مجموعة الغرف وما يتبعها) والغرف للتجار. والمصرية منها يكون فيها البيوت والسنداس (أي: الرحاض) وعليها المفتاح، يسدها صاحبها ويحمل معه الجواري والنساء. وربما كان الرجل في مصريته فلا يعرف به غيره ممن يكون بالمركب حتى يتلاقيا إذا وصلا إلى بعض البلاد»، وأضاف ابن بطوطة أن البحارة كانوا يسكنون مع أسراتهم في السفن، وأنهم كانوا يزرعون الخضر والبقول في أحواض من خشب.
ثم شاء القدر أن هبت على مرسى قاليقوط عاصفة شديدة، قذفت إلى عرض البحر بالمركب الذي كانت فيه الهدية التي يحملها الوفد إلى ملك الصين ولكن ابن بطوطة نفسه كان وقتئذ بالشاطئ. وكان متاعه وغلمانه وجواريه بسفينة أخرى. فلما رأى أهل هذه السفينة ما حل بالسفينة الكبرى التي كانت تحمل الهدية أقلعوا، وبقي ابن بطوطة منفردا على الساحل لا يملك إلا عشرة دنانير وبساطا كان يفترشه. فلم يشأ أن يعود إلى سلطان دهلي؛ بل تنقل بين الساحلين الغربي والشرقي في شبه جزيرة الهند. واشتغل حينا بالغزو والجهاد في خدمة جمال الدين سلطان مدينة هنور.
الجبال في الطريق إلى بلاد التبت: صورة في مخطوط من كتاب «جامع التواريخ» لرشيد الدين مؤرخ بين عامي 707-714ه/1306-1314م.
ثم سافر إلى جزائر ديبة المهل (جزائر الملديف الحالية). وتولى القضاء فيها وأعجب بصلاح أهلها وتقواهم. وكان أكثر نساء هذه الجزائر لا يلبسن سوى «فوطة واحدة تسترهن من السرة إلى أسفل»، وسائر أجسادهن مكشوفة. وكن يمضين كذلك في الأسواق وغيرها. فجهد ابن بطوطة لما ولي القضاء بها أن يقطع تلك العادة ويأمرهن باللباس فلم يوفق. ومما عجب له الرحالة «أنهن يؤجرن أنفسهن للخدمة بالديار، على عدد معلوم من خمسة دنانير فما دونها، وعلى مستأجرهن نفقتهن، ولا يرين ذلك عيبا. ويفعله أكثر بناتهم، فتجد في دار الإنسان الغني منهن العشر والعشرين. وكل ما تكسره من الأواني يحسب عليها قيمته».
وكان حكم هذه الجزائر قد آل إلى السلطانة خديجة بنت جلال الدين البنجالي حين لم يبق من بيت الملك غيرها وأختان لها. وكان ابن بطوطة صارما في منصب القضاء؛ فأبعد عنه قلوب بعض الوزراء والعيان في الجزائر. ولم يشأ البقاء فيها بعد ذلك؛ فغادرها إلى جزيرة سيلان، ثم إلى ساحل الهند الشرقي فإقليم بنجالة فشبه جزيرة الملايو فسومطرة. •••
ووصل ابن بطوطة إلى الصين. وفي رحلته بيانات طيبة عن أحوال الصينيين من المسلمين والوثنيين، وعن إتقانهم الصناعات والفنون، ولا سيما التصوير وصناعة الصيني. كما أن فيها أقدم إشارة إلى استخدام ورق النقد في المعاملات. فقد ذكر الرحالة أن عادة التجار في الصين أن يسبكوا ما يكون عندهم من الذهب والفضة قطعا، تكون القطعة منها من قنطار فما فوقه وما دونه، ويجعل ذلك على باب داره، وأن «أهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم. وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعا كما ذكرنا». وإنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغد. كل قطعة منها بقدر الكف، مطبوعة بطابع السلطان. وإذا تمزقت تلك الكواغد في يد إنسان، حملها إلى دار كدار السكة عندنا؛ فأخذ عوضها جددا ودفع تلك. ولا يعطي على أجرة ولا سواها.»
ومما ذكره ابن بطوطة في معرض الحديث عن مهارة أهل الصين في التصوير أن عادتهم أن يصوروا كل من يمر بهم من الغرباء «وتنتهي حالهم في ذلك إلى أن الغريب إذا فعل ما يوجب فراره عنهم بعثوا صورته إلى البلاد، وبحث عنه، فحيثما وجد في تلك الصورة أخذ».
ولابن بطوطة إشارات طريفة إلى عادة رجال الإدارة والبحرية في تقييد أسماء البحارة ورجال السفن قبل الإذن لها بالسفر، فإذا عادت «صعدوا إليها وقابلوا ما كتبوه بأشخاص الناس، فإذا فقدوا أحدا ممن قيدوه طالبوا صاحب المركب به، فإما أن يأتي ببرهان على موته أو فراره أو غير ذلك مما يحدث له، وإلا أخذ فيه، فإذا فرغوا من ذلك أمروا صاحب المركب أن يملي عليهم تفصيلا بجميع ما فيه من سلع قليلها وكثيرها. ثم ينزل من فيه، ويجلس حفاظ الديوان لمشاهدة ما عندهم. فإن عثروا على سلعة قد كتمت عنهم عاد جميع ما فيه مالا للمخزن».
وأشار ابن بطوطة إلى ما كان للمسلمين من امتيازات في الصين، فقال: «ولا بد في كل بلد من بلاد الصين من شيخ الإسلام، تكون أمور المسلمين كلها راجعة إليه، وقاض يقضي بينهم.» وذكر أن كل مدينة من مدن الصين كان فيها حي للمسلمين يسكنونه ويتخذون فيه المساجد، وأن الحكومة كانت تعنى بمراقبة التجار المسلمين وضمان أموالهم التي يدخلون البلاد بها، بحيث لا يمكنهم إنفاقها في الفساد. وكان أولو الأمر في الصين حريصين أشد الحرص على ألا يقال: إن المسلمين يخسرون أموالهم في الصين.
وأعجب ابن بطوطة ببيوت أهل الصين فقال: «وجميع بلاد الصين يكون للإنسان بها البستان والأرض وداره في وسطها كمثل ما هي بلدة سجلماسة ببلادنا. وبهذا عظمت بلادهم.» كما أعجب ببعض منشآت الشؤون الاجتماعية ولا سيما بمعبد كبير شاهده في مدينة «جيني كلان» كان فيه بيوت لسكن الضريرين وذوي العاهات وفيه مستشفى كبير. وكان الأيتام والأرامل والشيوخ الذين لا قدرة لهم على التكسب يحصلون من هذا المعهد على ما يلزمهم من النفقة والكسوة. وطبيعي أن المعهد كانت له أوقاف غنية.
ويبدو من رحلة ابن بطوطة أن المسافرين المسلمين القادمين إلى الصين كانوا يلقون من بني دينهم في تلك البلاد أعظم الترحيب والإكرام. من ذلك أن ابن بطوطة، حين وصل إلى مدينة قنجنفو، خرج إليه القاضي وشيخ الإسلام والتجار ومعهم الأعلام والطبول والأبواق والأنفار وأهل الطرب، وأتوه بالخيل، فركب ومشوا بين يديه ولم يركب معه غير القاضي والشيخ. وكان المسلمون في البلاد الصينية التي ينزلها ابن بطوطة يقيمون له الولائم، ويقدمون له الهدايا ويصحبونه إلى رحلات في القوارب ومعهم المغنون والموسيقيون، يغنون بالصينية والعربية والفارسية.
نقلا عن كتاب «مهذب رحلة ابن بطوطة».
ومن أعلام المسلمين الذين لقيهم ابن بطوطة في بلاد الصين أسرة مصرية الأصل نزل بدارها في مدينة «خنسا ». قال الرحالة: «ونزلنا منها بدار أولاد عثمان بن عفان المصري. وكان أحد التجار الكبار؛ استحسن هذه المدينة فاستوطنها. وعرفت بالنسبة إليه، وأورث عقبه بها الجاه والحرمة، وهم على ما كان عليه أبوهم من الإيثار على الفقراء والإعانة للمحتاجين. ولهم زاوية تعرف بالعثمانية حسنة العمارة لها أوقاف كثيرة. وبنى عثمان المسجد الجامع بهذه المدينة، ووقف عليه وعلى الزاوية أوقافا عظيمة. وعدد المسلمين بهذه المدينة، وكانت إقامتنا عندهم خمسة عشر يوما، فكنا كل يوم وليلة في دعوة جديدة، ولا يزالون يحتفلون في أطعمتهم، ويركبون معنا كل يوم للنزهة في أقطار المدينة.»
ومن غريب ما ذكره ابن بطوطة عن نظم التأمين الاجتماعي في الصين أن «العامل أو الصانع كان يعفى من العمل، وتنفق عليه الحكومة إذا بلغ الخمسين، وأن من بلغ ستين سنة عدوه كالصبي فلم تجر عليه الأحكام». •••
وعاد ابن بطوطة من الصين معرجا على سومطرة، حيث حظي بضيافة سلطانها الملك الظاهر وأتيح له أن يشهد أعراس ابنه وولي عهده مع بنت أخيه، ولاحظ أن الزفاف بدأ بخروج العروس «من داخل القصر عل قدميها بادية الوجه، ومعها نحو أربعين من الخواتين يرفعن أذيالها من نساء السلطان وأمرائه ووزرائه، وكلهن باديات الوجوه، ينظر إليهن كل من حضر من رفيع أو وضيع. وليست تلك أهل الطرب رجالا ونساء يلعبون ويغنون؛ ثم جاء الزوج على فيل مزين، على ظهره سرير، وفوقه قبة والتاج على رأس العروس المذكور، عن يمينه ويساره نحو مائة من أبناء الملوك والأمراء قد لبسوا البياض وركبوا الخيل المزينة وعلى رؤوسهم الشواشي المرصعة وهم أتراب العروس، وليس فيهم ذو لحية. ونثرت الدنانير على الناس عند دخوله. وقعد السلطان بمنظرة له يشاهد ذلك. ونزل ابنه فقبل رجله، وصعد المنبر إلى العروس فقامت إليه وقبلت يده. وجلس إلى جانبها والخواتين يروحن عليها ...»
ولم يشأ ابن بطوطة أن يعود إلى دلهي ثانية واستأنف أسفاره إلى الخليج الفارسي والعراق. ولقي في بغداد بعض المغربة. فعرف منهم الهزيمة التي حلت بأبي الحسن سلطان المغرب في قتال الفونس الحادي عشر ملك قشتالة. (وكان ذلك على مقربة من طريف سنة 741ه/134م) كما علم بسقوط الجزيرة الخضراء في يد الأسبان المسيحيين سنة 743ه/1342م. •••
ثم وصل إلى دمشق. وذكر في الكلام عليها حديثا يؤيد ما أشرنا إليه من تزوج الرحالة المسلمين في كثير من البلاد التي يمرون بها. قال: «وكانت مدة غيبي عنها عشرين سنة كاملة. وكنت تركت بها زوجة لي حاملا. وتعرفت وأنا ببلاد الهند أنها ولدت ولدا ذكرا. فبعثت حينئذ إلى جده للأم، وكان من أهل مكناسة المغرب أربعين دينارا ذهبا هنديا. فحين وصولي إلى دمشق في هذه الكرة لم يكن لي هم إلا السؤال عن ولدي. فدخلت المسجد فوقف لي نور الدين السخاوي إمام المالكية وكبيرهم فسلمت عليه فلم يعرفني، فعرفته بنفسي وسألته عن الولد فقال: مات منذ اثنتي عشرة سنة، وأخبرني أن فقيها من أهل طنجة يسكن بالمدرسة الظاهرية؛ فسرت إليه لأسأله عن والدي وأهلي، فوجدته شيخا كبيرا فسلمت عليه وانتسبت له، فأخبرني أن والدي توفي منذ خمس عشرة سنة، وأن الوالدة بقيد الحياة.»
وكان ابن بطوطة بالشام حسن انتشر الطاعون في مدنها سنة 749ه/1348م، فأشار إلى كثرة ضحاياه وواصل السفر في مصر، ووجد أن الوباء كان قد انتشر في بعض مدنها ثم خفت حدته. واتجه الرحالة إلى عيذاب حيث أبحر إلى الحجاز لتأدية الفريضة مرة أخرى. ثم قصد إلى فلسطين ومنها إلى القاهرة.
وأكبر الظن أنه لم يكن قد عقد العزم على الرجوع إلى وطنه بعد، ولكنه سمع في مصر عن عظمة السلطان أبي عنان ونجاحه في النهضة ببلاد المغرب وإحسانه على الخاص والعام، فأراد أن يقصد بابه، ويمم شطر وطنه الأول. •••
أبحر ابن بطوطة من مصر إلى تونس في صفر سنة 750/مايو سنة 1349. وسافر من تونس على سفينة مع القطلانيين مرت بجزيرة سردانية. ولم تكن رحلته إلى أرض الوطن خالية من الأخطار؛ فقد كاد أن يقع في أيدي القرصان المسيحيين، ولكنه وصل أخيرا إلى مدينة فاس ونزل في بلاط السلطان أبي عنان. ثم سافر إلى طنجة وزار قبر والدته، وعرج على مدينة سبته، فمرض بها ثلاثة أشهر. وكأنه أراد ألا يلقي عصا التسيار قبل أن يزور الدولتين الإسلاميتين اللتين لم تطأهما قدماه بعد وهما الأندلس ومملكة المسلمين في السودان الغربي.
قام ابن بطوطة إذن برحلة ثانية، زار فيها الأندلس. وأشار إلى موت الفونس الحادي عشر ملك قشتالة أثناء حصاره جبل طارق وعمله على الاستيلاء على ما بقي بأيدي المسلمين من بلاد الأندلس. وأتيح للرحالة أن يشاهد الحصون وأعمال الدفاع التي أقامها في جبل طارق السلطان أبو عنان وأبوه السلطان أبو الحسن. ثم زار مالقة وأعجب بالخزف النفيس ذي البريق المعدني، وكان يصنع بها ويصدر إلى أقاصي البلاد. ودخل بعد ذلك غرناطة وأعجب بجمال موقعها وما بها من قصور وبساتين وكروم. •••
وعاد ابن بطوطة إلى مدينة فاس عاقدا العزم على السفر في رحلة ثالثة ليزور بلاد المسلمين في السودان الغربي؛ وقيل: إن السلطان أوفده في مهمة إلى تلك البلاد. ومهما يكن من الأمر فقد استأذن في الرحيل، واتجه إلى سجلماسة وانضم فيها إلى جماعة من التجار.
2
وبدأت القافلة رحلتها عبر الصحراء الكبرى في أول سنة 753/فبراير 1352، ووصلت بعد خمسة وعشرين يوما إلى مدينة تغازي حيث يستخرج الملح. ولاحظ ابن بطوطة أن السودان يتعاملون بالملح كما يتعامل غيرهم بالذهب والفضة. ووصلت القافلة إلى (تاسرهلا)، ومنها يبعث «التكشيف» إلى مدينة إيوالاتن. وقد شرح ابن بطوطة أن التكشيف دليل من قبيلة مسوفة يكتريه أهل القافلة فيتقدم إلى إيوالاتن بكتب من المسافرين إلى أصحابهم بها؛ ليكتروا لهم الدور ويخرجوا للقائهم بالماء مسيرة أربع ليال. ومن لم يكن له صاحب في إيوالاتن كتب إلى أحد المشهورين بالفضل من تجارها، وإذا حدث أن تاه هذا الدليل أو أهلك، فلا يعلم أهل إيوالاتن بالقافلة، وربما هلك من فيها أو الكثير منهم. وذكر ابن بطوطة أن دليل قافلته كان «أعور العين الواحدة مريض الثانية»، وكان مع ذلك أعرف الناس بالطريق. وقد تحدث الرحالة عن شدة الحر في الصحراء وذكر أن القافلة كانت ترحل بعد صلاة العصر وتسير الليل كله وتقف عند الصباح.
وصلت القافلة إلى إيوالاتن بعد سفر شهرين كاملين من سجلماسة. وذكر ابن بطوطة أنها أول أقاليم مملكة السودان وأقصاها شمالا، وأن أهلها كانوا يحتقرون البيض، وأن ثيابهم كانت من المنسوجات المصرية، وأن معظمهم من قبيلة مسوفة. «وشأن هؤلاء القوم عجيب وأمرهم غريب. فأما رجالهم فلا غيرة لديهم ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه بل ينتسب لخاله. ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته دون بنيه. وذلك شيء ما رأيته في الدنيا إلا عند كفار بلاد المليبار من الهنود. وأما هؤلاء فهم مسلمون محفظون على الصلوات وتعلم الفقه وحفظ القرآن. وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات. ومن أراد التزوج منهم تزوج. لكنهم لا يسافرن مع الزوج. ولو أرادت إحداهن ذلك لمنعها أهلها. والنساء هنالك يكون لهن الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات، ويدخل أحدهم داره فيجد امرأته ومعها صاحبها، فلا ينكر ذلك.»
وروى ابن بطوطة قصتين في هذا الشأن. قال في الأولى: «دخلت يوما على القاضي بإيوالاتن بعد إذنه في الدخول، فوجدت عنده امرأة صغيرة السن بديعة الحسن، فلما رأيتها ارتبت وأردت الرجوع فضحكت مني ولم يدركها خجل. وقال لي القاضي: «لم ترجع؟ إنها صاحبتي.» فعجبت من شأنهما، فإنه من الفقهاء الحجاج، وأخبرت أنه استأذن من السلطان في الحج في ذلك العام مع صاحبته لا أدري أهي هذه أم لا، فلم يأذن له.»
وقال ابن بطوطة في الحكاية الثانية: دخلت يوما على أبي محمد بندكان المسوفي الذي قدمنا في صحبته فوجدته قاعدا على بساط وفي وسط داره سرير مظلل عليه امرأة معها رجل قاعد وهما يتحدثان فقلت له: ما هذه المرأة؟ فقال: هي زوجتي، فقلت: وما الرجل الذي معها منها؟ فقال: هو صاحبها. فقلت له: أترضى بهذا وأنت قد سكنت بلادنا وعرفت أمور الشرع؟ فقال لي: مصاحبة النساء للرجال عندنا على خير وحسن طريقة لا تهمة فيها، ولسن كنساء بلادكم؛ فعجبت من رعونته وانصرفت عنه فلم أعد إليه بعدها واستدعاني مرات فلم أجبه.»
غادر ابن بطوطة إيوالاتن ميمما شطر «مالي» الواقعة جنوبيها على مسيرة أربعة وعشرين يوما. واكترى هو وثلاثة من أصحابه دليلا من قبيلة مسوفة. ومر بطريق فيها أشجار ضخمة قد تستظل القافلة بظل الشجرة الواحدة منها. وبعض هذه الأشجار يحفظ فيه ماء المطر ويشرب الناس منه. وقد ذكر الأستاذ جب
Gibb
في تعليقه على هذا الوصف أن هذا النوع من الشجر أدخل من أفريقية الغربية إلى إقليم كردفان في القرن الثامن عشر، وكانوا يفرغون جذوعه لتخزن فيها المياه فتقوم مقام الآبار.
وأشار الرحالة إلى أن المسافر في تلك البلاد لا يحمل زادا وإنما يحمل قطع الملح وحلي الزجاج أو الخرز وبعض السلع العطرية، فإذا وصل إلى إحدى القرى جاء نساء السودان بالذرة واللبن والدجاج ودقيق النبق والأرز والفوفي - وهو كحب الخردل يصنع منه الكسكسو - والعصيدة ودقيق اللوبيا، فيشتري منهن ما أحب من ذلك.
ووصل ابن بطوطة إلى مدينة كارسخو على نهر النيجر وظنه نهر النيل وقال : إنه ينحدر من كارسخو على بلدة كابره فبلدة زغة ثم إلى تنبكتو. ولاحظ أن أهل زاغة قدماء في الإسلام متمسكون بأهداب الدين ومقبلون على طلب العلم. والواقع أن هذه المنطقة، وهي على فرع النيجر الشمالي الغربي مقر مملكة تكرور التي كانت أول معقل للإسلام بالسودان في بداءة القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).
وكان ابن بطوطة يعتقد أن «النيل» (أي: النيجر) ينحدر من تمبكتو إلى بلدة كوكوثم على بلدة مولى فبلدة يوفي ثم ينحدر إلى بلاد النوبة ودنقلة. ولعل وجود بحر الغزال كان سببا في هذا الخطأ. ولكن معظم الرحالة والجغرافيين كانوا يعتقدون أن نهر النيجر يصب غربا، وكانوا يخلطون بينه وبين نهر السنغال، إلى أن أتيح للطبيب البريطاني منجو بارك
Mungo park
أن يقوم برحلته لكشف حوض النيجر سنة 1795، فيتقدم في إقليم غمبيا ويعبر نهر السنغال، ثم يتبع مجرى النيجر إلى مسافة قريبة من تمبكتو.
ووصل ابن بطوطة أخيرا إلى مدينة مالي محاضرة مملكة السودان المسماة بهذا الاسم. وأشار إلى أن من عادات أولي الأمر فيها أن يمنعوا الناس دخولها إلا بالإذن. وكان الرحالة قد كتب إلى زعماء الجالية العربية فيها، فحصلوا على ذلك الإذن واكتروا له دارا وكان بين أولئك الزعماء تاجر مصري اسمه شمس الدين بن النقويس المصري. والظاهر أن هذه المدينة كان فيها جالية مصرية بارزة، وقد أشار ابن بطوطة إلى مرض أصيب به فيها، وكان علاجه على يد أحد أفراد تلك الجالية.
وقد ذكر الرحالة بخل منسا سليمان سلطان مالي في عبارة ظريفة تشهد بما اعتاده من كرم الأمراء والسلاطين، قال: «ولما انصرفت بعث إلي الضيافة، فوجهت إلى دار القاضي. وبعث القاضي بها رجاله إلى دار ابن الفقيه. فخرج ابن الفقيه من داره مسرعا حافي القدمين، فدخل علي وقال: «قم قد جاءك قماش السلطان وهديته. فقمت وظننت أنها الخلع والأموال، فإذا هي ثلاثة أقراص من الخبز وقطعة لحم بقري مقلو بالغرتى، وقرعة فيها لبن رائب؛ فعندما رأيتها ضحكت وطال تعجبي من ضعف عقولهم وتعظيمهم للشيء الحقير.»
وطبيعي أن السودان في تلك المملكة كانوا يتكلمون لغة غير العربية، ولعل المسلمين المقيمين فيها من العرب والبربر كانوا يتعلمون تلك اللغة الوطنية. وقد أشار ابن بطوطة إلى وجود مترجم في بلاط الملك كان وساطة الكلام بينه وبين من لا يعرفون لغة البلاد. وكان لهذا المترجم شأن كبير بارز في البلاد فكان كالأمين الأول للملك.
وتحدث ابن بطوطة عن كثير من أحوال السكان في تلك البلاد وعن عاداتهم البدائية، وأعجب بقلة الظلم في بلادهم، وشمول الأمن بحيث لا يخاف المسافر فيها ولا القيم من سارق ولا غاصب؛ كما ذكر أنهم لا يتعرضون لمال من يموت في بلادهم من البيض، يتركونه لثقة من جنس المتوفى حتى يأخذه مستحقه. وأشار إلى عنايتهم بحفظ القرآن وإقبالهم على صلاة الجماعة، وحرصهم على لبس الثياب البيض النظيفة يوم الجمعة، حتى إنه إذا لم يكن لأحدهم إلا قميص بال غسله ونظفه وشهد به الجمعة. ولكن ضايق ابن بطوطة أن رأى الخدم والجواري والبنات الصغار يظهرن للناس عرايا باديات العورات، كما أغمه أن النساء كن يدخلن على السلطان عرايا غير مستترات وأن بنات السلطان نفسه كن عرايا.
ومن طريف ما ذكره ابن بطوطة عن السودان أن منسا موسى أحد ملوك مالي كان قد غضب على قاض من البيض، فنفاه إلى بلاد الزنوج الذين يأكلون بني آدم. وأقام هذا القاضي عندهم أربع سنين ثم رجع إلى مملكة مالي. ولم يأكله الزنوج لبياضه؛ فقد كانوا يعتقدون أن أكل الأبيض مضر؛ لأنه لم ينضج بعد! أما الأسود فهو وحده ذو اللحم الناضج.
وغادر الرحالة مدينة مالي ورأى في النيجر فرس البحر لأول مرة في حياته. ثم وصل إلى مدينة تمبكتو وشاهد بها قبر سراج الدين بن الكويك أحد كبار التجار من أهل الإسكندرية، وكان قد جاءها ليقتضي مالا له كان السلطان منسا موسى اقترضه منه لما كان بمصر متوجها إلى الحج. وشاهد كذلك قبر الشاعر المهندس أبي إسحق الساحلي الغرناطي. وكان هذا الشاعر قد لقي منسا موسى في مكة أثناء تأدية فريضة الحج؛ ثم صحبه بعد ذلك إلى بلاد السودان، وشيد له قصره الملكي والمسجد الجامع في تمبكتو.
3
واصل ابن بطوطة السفر شرقا في الصحراء حتى وصل إلى مدينة تكدا. وذكر أن أهلها لا عمل لهم إلا التجارة «يسافرون كل عام إلى مصر، ويجلبون ما بها من حسان الثياب وسواها». وكان سلطانها من البربر، ولعله كان زعيم قبيلة المسوفة. وذكر ابن بطوطة أن أهل تكدا كانوا في رفاهية وسعة حال، وكانوا يتفاخرون بكثرة العبيد والخادمات. وكان معدن النحاس يوجد بكثرة على مقربة من بلدهم فكانوا يأتون به، ويسبكونه في دورهم، وينصعون منه قضبانا في طول شبر ونصف بعضها دقاق وبعضها غلاط، ويتخذون هذه القضايا صرفا لهم فيشترون برقاقها اللحم والحطب، ويشرون بغلاظها العبيد والخدم والذرة والسمن والقمح. •••
وكانت هذه المدينة آخر مرحلة في رحلة ابن بطوطة، فقد وصل إليه فيها رسول من قبل السلطان أبي عنان، يطلب إليه الرجوع إلى فاس. فغادر تكدا في الحادي عشر من شهر شعبان سنة 754ه/11 سبتمبر سنة 1353، ووصل إلى فاس بعد سفر ثلاثة شهور.
والحق أن رحلة ابن بطوطة إلى بلاد السودان ليست أقل شأنا من رحلته الكبرى؛ فقد كان أول رحالة الآفاق المجهولة في الصحراء الكبرى، وكتب عن مشاهداته فيها.
4 •••
وقد وفق ابن بطوطة كل التوفيق فيما أملاه عن رحلته، فخلف لنا صورا صادقة، كلها حياة للعصر الذي عاش فيه، ووصف لنا الأشخاص والجماعات وصفا يجعلنا نشعر كأنهم بين أيدينا وزار كل الدول الإسلامية في عصره، وقطع في أسفاره مسافة قدرها بعض العلماء بخمسة وسبعين ألف ميل، وهي مسافة لا يظن أن رحالة غيره قطعها قبل استخدام البحار في وسائل السفر؛ لذلك كله خصصناه بالإطالة في هذا العرض.
عبد الباسط بن خليل بن شاهين الظاهري
هو زين الدين عبد الباسط، ولد في ملطية في رجب سنة 844/ديسمبر سنة 1440. وكان أبوه خليل بن شاهين الظاهري من أمراء المماليك وأعلام رجال الإدارة في عصره، بل كان من كبار المؤلفين كما يشهد بذلك كتابه «زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك». وهو عرض للوظائف السياسية والإدارية في إمبراطورية المماليك في القرنين السابع والثامن بعد الهجرة (13-14م).
ولكن عبد الباسط لم يتبع أباه في سلك الإدارة، بل درس الفقه والأدب والطب واشتغل بالتجارة والتأليف. ومن آثاره كتاب «الروض الباسم في حوادث العمر والتراجم»: ويبحث في تاريخ الدول الإسلامية ولا سيما مصر وسورية، على نمط كتاب السلوك للمقريزي. ولم يصلنا منه إلا أجزاء في مخطوطتين بمكتبة الفاتيكان. وتشمل إحداهما الكلام على ما بين سنتي 865 و847ه. وفيها إشارات إلى رحلة طويلة قام بها عبد الباسط في بلاد المغرب للتجارة، ودراسة الطب على أعلام الأطباء في تلك البلاد.
وقد أتيح له أن يقضي في هذه الرحلة بضع سنوات في زيارة الممالك والدويلات الإفريقية الواقعة في حكم الحفصيين وبني عبد الواد وبني نصر. وكان سفره من الإسكندرية في شوال سنة 866ه/يوليه سنة 1462 على إحدى سفن البندقية ومر بجزيرة رودس، ثم نزل في تونس بعد رحلة بحرية دامت ثلاثة وثلاثين يوما.
وبعد أن أقام عدة أشهر في عاصمة بني حفص غادرها على إحدى سفن البندقية إلى طرابلس ومنها إلى قابس ثم القيروان. ورجع بعد ذلك إلى تونس ثم رحل عنها إلى قسطنطينية وبجايا والجزائر ومازونا وتلمسان وواهران وأبحر على باخرة جنوية إلى الأندلس في ربيع الثاني سنة 870/ديسمبر سنة 1465، وزار مالقة وغرناطة في شهرين ونصف. ثم رجع إلى وهران وغادرها بعد عدة أشهر إلى تونس على باخرة جنوية. ثم رجع إلى مصر مارا بليبيا، فوصل الإسكندرية في شوال سنة 871/مارس 1467. •••
ومما يؤسف له أن عبد الباسط لم يدون أخبار رحلته في كتاب مستقل، ولكنه كتبها في مواضع متفرقة في كتابه «الروض الباسم». وقد قام المستشرق ليفي ديلافيدا
Levi della vida
بنشر المقتطفات الخاصة بالأندلس مع ترجمة وتعليقات في مجلس «الأندلس» سنة 1933، وأعلن عزمه على نشر الجزء الخاص بطرابلس. بينما قام الأستاذ برنشويج
Brunschwig
بنشر الأجزاء الخاصة بتونس والجزائر ومراكش ومعها ترجمة فرنسية وتعليقات. والحق أن هذه المقتطفات وثائق عظيمة الشأن في تاريخ العرب في القرن التاسع الهجري (15م)، فهي تميط اللثام عن جوانب شتى من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في ذلك العصر.
وكان عبد الباسط يكسب نفقات أسفاره من التجارة في العبيد، وفي البضائع المصرية والمغربية واستطاع بذلك أن يختلط بالتجار في البلاد التي مر بها. ولكنه كان يجتمع - فضلا عن ذلك - بالفقهاء والعلماء ولا سيما رجال الطب. وكان ينظم الشعر فأمكنه الوصول إلى مجالس العظماء. وكان يكافأ على قصائده في المديح بإعفائه من الضرائب على تجارته أحيانا، وبمنحه العطايا أحيانا أخرى. من ذلك أنه نظم قصيدة في مدح صاحب تلمسان «فكتب له ظهيرا بمسامحته في كل ما يتصرف فيه من نوع المتجر»، وأنه في سنة 867 أنشد للمتوكل على الله صاحب تونس بيتين في مدح بني حفص، هما:
ألا يا آل حفص يا ملوكا
ويا دررا بهم نظمت سلوك
ألا فقتم ملوك الأرض طرا
فما من بعدكم أحد مليك
فأعجب بهما المتوكل وكتب لعبد الباسط «ظهيرا بإعفائه من المغارم واللوازم فيما يتجر فيه».
وعرف عبد الباسط بالتسامح الديني واحترام عقائد الآخرين كما يتبين من حديثه عن طبيب إسرائيلي لقيه في تلمسان سنة 869ه، قال: «ولازمت في الطب الرئيس الفاضل الماهر ... موسى بن صموئيل بن سهودا الإسرائيلي المالقي الأندلسي اليهودي المتطبب ... هداه الله تعالى للإسلام. لم أسمع بذمي ولا رأيت كمثله في مهارته في هذا العلم، وفي علم الوقت والميقات وبعض العلوم القديمة مع التعبد الزائد في دينه على ما يزعمه ويعتقده. وهو في الأصل من يهود الأندلس وولد بمالقة قبل العشرين وثمانمائة، وأخذ عن أبيه وغيره، وأجازني وبلغني عنه في هذه الأيام بأنه انتهت إليه الرياسة في الطب بتلمسان وهو مقرب ومختص بصاحبها.»
وقد وصف عبد الباسط نزوله وغيره من التجار المسلمين في ساحل البحر بالقرب من بجاية، بعد تركهم السفينة الجنوية التي قدموا عليها، وأشار إلى أن طائفة من البربر في تلك النواحي فروا عندما رأوه وسائر التجار وظنوا أن السفينة لبعض القرصان من الفرنج «غيروا هيئتهم حيلة لأخذ المسلمين»، فصار التجار ينادونهم من البعد باللغة العربية ويقرون بالشهادتين، والبربر «لا يلتفتون إليهم لكونهم لا يعلمون اللغة العربية بل البربرية، فلا يفرقون بين لغة الفرنج والعرب».
وفي هذه القصة إشارة إلى الغارات الكثيرة التي كان المسيحيون يشنونها على ثغور إفريقية لأسر المسلمين. وكان من المألوف في تلك البلاد أن يأتي الإفرنج بأسراهم من المسلمين إلى إفريقية فيفديهم أهل البلاد.
ومن طريف ما رواه عبد الباسط قصة على عبث قطاع الطرق واللصوص بالتجار في ذلك الحين. وخلاصتها أن جمعا من التجار باعوا تجارة لهم في فاس وأرادوا الرجوع إلى أوطانهم، ولكنهم كانوا يحسبون لقطاع الطرق ألف حساب «فاتفق أربعة منهم على الرجوع بحيلة احتالوها، مشت على العرب وقطاع الطريق، بأن شروا حميرا وجعلوا عليها أخراجا بما كان معهم من المال النقد، وعمدوا إلى عبي عتيقة فجعلوها أغطية على الأخراج، وأنهم أخذوا الطحال من الغنم فجففوه ودقوه، وحملوه معهم مع شيء من الغراء وخرجوا وكانوا إذا قربوا من طائفة من العريان أو نجع أذابوا الغراء الذي معهم وجعلوا يلطخون مواضع من أبدانهم على رقابهم ووجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى نصف الساق، ثم يذرون على ذلك مما معهم من الطحال المدقوق المجفف ويمشون بأسكانهم، يوهمون بأنهم مجاذيم من أهل البلاء، وأنهم يجولون بحميرهم عليها زادهم وأثاثهم، فكانوا إذا اجتازوا على العرب ورأوهم على تلك الحالة هربوا فارين منهم وأبعدوا عنهم يخشون العدوى حتى كانوا يجعلون لهم من أنواع المآكل على ممرهم بالطريق، ويشيرون إليهم من البعد بأن يأخذوا ذلك ويدعون لهم من غير أن يقربوا منهم ولا يصلوا إليهم ... ولم يزالوا على ذلك حتى وصلوا إلى بلادهم ولم يروا إلا الخير والسلامة، وكان يكاد أن لا يطير الطير من شرور من اجتازوا بهم من العربان وعد ذلك من غريب الحيل والنوادر».
وروى عبد الباسط قصة أخرى يتبين منها أن التجار الداخليين مدينة واهران كان يؤخذ منهم عند باب المدينة عشر قيمة ما معهم من البضائع، وأن بعضهم كان يلجأ إلى تهريب بضائعه بتوزيعها على من يدخل المدينة من أهلها؛ لأنهم لا يفتشون ولا يطلب إليهم أن يدفعوا أي ضريبة على ما يحملون. وكان التجار يستردون بضائعهم في المدينة بعد نجاح حيلتهم في التخلص من دفع الضريبة المطلوبة.
وأشار عبد الباسط إلى أن الأشراف من بني هاشم كانوا يلقون في بلاد العرب تعظيما كبيرا، مما أدى إلى أن بعض المحتالين كان يفد من مصر والعراق إلى بلاد المغرب منتسبا إلى أسرة النبي، وجامعا حوله نفرا من الأنصار والمحتالين ولم يكن من السهل أن يكشف أمرهم.
ومما لاحظه هذا الرحالة أن المسجونين في تونس كانوا في حالة يرثى لها، وقد حدث في جمادى الثانية سنة 867ه أن كثرت استغاثتهم، «حتى أعيوا السامعين، فسأل السلطان صاحب تونس عن حالهم فبلغه بأنهم يشكون الجوع، فأمر لهم بطعام يفرق فيهم وحصل لهم بذلك نوع رفق في الجملة.»
وصفوة القول: أن عبد الباسط روى في كتابه أخبارا كثيرة عن رحلته في بلاد المغرب والأندلس. وكلها تشهد بدقة ملاحظته وتشير إلى نظم تلك البلاد في عصره وإلى أحوالها الاجتماعية والاقتصادية.
الخاتمة
عرضنا في الصفحات السابقة أخبار الرحالة المسلمين، وظهر لنا أن المجهولين منهم أكثر ممن حفظ التاريخ أسماءهم. فمعظمهم لم يعن بتدوين أخبار أسفاره. واستطاع نفر قليل منهم أن ينتفع بها في الكتابة في التاريخ وعلم تقويم البلدان. ووفق أفراد معدودون لتدوين أحاديث الرحلات التي قاموا بها، ولسرد مشاهداتهم العجيبة في البلاد التي تجولوا فيها. •••
وأما شأن هذه الرحلات في تطور العلم والمعرفة فما من شك في أن المسلمين ساهموا في تعريف بالشرق الأقصى وأفريقية، فضلا عن آفاق دولتهم المتراخية.
فالرومان كانوا يتخيلون وجود الصين، ولكن الرحالة المسلمين عرفوها وكتبوا عنها منذ بداءة العصور الوسطى أخبارا أيتها رحلة ماركوبولو البندقي في القرن الثالث عشر الميلادي. وكان الرومان لا يعرفون من قارة إفريقية إلا سواحلها الشمالية، أما المسلمون فقد عبروا الصحراء وعرفوا مجاهل هذه القاهرة التي ظل الأوروبيون حتى القرن الثامن عشر يقفون عند سواحلها فلا تتطول أعناقهم إلى ورائها.
أما بلاد العرب والعراق وإيران فطبيعي أن يكون المسلمون المرجع الأساسي في دراسة وصفها الجغرافي والعمراني والاجتماعي، إلى غير ذلك مما لم يصل إليه الغربيون قبل العصور الحديثة. •••
وحسبنا لتبيان فضل الرحالة المسلمين أن ينتهي بنا المطاف إلى أن دراستهم على نحو واف دقيق أمر لا بد منه لكل بحث في تاريخ التجارة أو النظام السياسي أو التاريخ الاجتماعي في الشعوب الإسلامية والأمم التي اتصلت بها؛ فإن ما كتبه الرحالة المسلمون من وصافين وجغرافيين كنز لا ينضب معينه، يضم الوثائق العظيمة الشأن في تاريخ الإنسانية. وفي استطاعة الباحث أن يستخرج منها شتى الحقائق ومختلف ضروب المعرفة، مطمئنا إلى نتائج بحثه، إذا أقبل على دراسة هذه الوثائق ببصيرة نافذة وبشيء من الحذر الذي يتطلبه النقد العلمي عند معالجة النصوص في العصور الوسطى غربية كانت أو شرقية. •••
وتمتاز قصص الرحلات الإسلامية عامة بظهور شخصيات الرحالة فيها، فإن أكثرهم لا يقفون عند وصف مراحل أسفارهم وصفا عاما، بل يعنون بتقييد الظواهر الاجتماعية غير المألوفة في أقاليمهم. ثم إنهم يحرصون على لقاء أعلام البلاد التي يجتازونها من علماء وأدباء ورؤساء إلى جنب تعرفهم إلى طبقات الشعب المختلفة. •••
وقد كتب المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي
V. Minorsky
أن جغرافي العرب ملأوا الفراغ وسدوا الفجوة الزمنية بين عهد بطليموس العالم اليوناني وعهد ماركوبولو العالم البندقي، وأن أخبار رحالة العرب وقصصهم أكثر تنوعا وأشد حيوية وقوة مما نجده مسطورا في كتب علماء اليونان وجداولهم، وأن علمهم الذي ضمنوه كتبهم يمتاز بأنه أعظم اختيارا ونقدا وأكثر في التفاصيل مما ورد في كتابات الرحالة البندقي العظيم ماركوبولو. •••
وكان ما كتبه الرحالة المسلمون عن البحار مصدرا لقصص البحرية العربية. وهي - على قلة عددها - من أبدع القصص البحرية في آداب العالم على الإطلاق.
1
وحسبنا أن نشير هنا إلى قصة السندباد البحري وقصة عبد الله البري؛ فالثابت أن كثيرا من وقائع القصص البحرية منقول من كتب الرحلات وكتب العجائب.
2
بل رأينا أن كتب الرحلات كانت مصدرا لكثير من الجغرافيين. ومن ذلك أيضا أن ابن الفقيه نقل في كتابه «مختصر البلدان» أجزاء كبيرة من رحلة سليمان السيرافي.
وفضلا عن ذلك كله فإن بعض الرحالة والملاحين المسلمين كان لهم شأن عظيم في مساعدة أعلام الرحالة الغربيين في مجاهل إفريقية والمحيط الهندي في نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة.
3
مراجع
ابن بطوطة: تحفة النظار في عجائب الأمصار، ط. باريس والقاهرة.
ابن جبير: الرحلة إلى المشرق، ط. ليدن ولندن والقاهرة.
ابن حوقل: المسالك والممالك. ليدن 1873.
ابن خرداذبة: كتاب المسالك والممالك. ليدن 1889.
أبو زيد السيرافي: ذيل لرحلة التاجر سليمان. نشره رينو. باريس 1845.
الإدريسي: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق (مختصر طبع روما 1592).
صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس. عن «نزهة المشتاق»، ط. دوزي ودي خوي. ليدن 1869.
أسامة بن منقذ: كتاب الاعتبار. نشره فيليب حتى، جامعة برنستون 1930 الإصطخري (أبو إسحاق الكرخي الفارسي): مسالك الممالك. ليدن 1870.
انستاس ماري الكرملي (الأب): عرف العرب أميركة قبل أن يعرفها أبناء الغرب (مقال في العدد الثاني في المجلد 106 من مجلة المقتطف. فبراير سنة 1945).
البيروني (أبو الريحان محمد بن أحمد): الآثار الباقية من القرون الخالية. لندن 1879.
تحقيق ما للهند مقالة مقبولة في العقل أو مرذولة. نشره ساخاو. لندن 1887.
حسين فوزي (الدكتور): حديث السندباد القديم. القاهرة 1943.
الدمشقي (شمس الدين أبو عبد الله الصوفي): نخبة الدهر في عجائب البر والبحر. سنت بطر سبرج 1886.
سليمان (التاجر): سلسلة التواريخ. نشره لانجلس
Langles
سنة 1811 ونشره رينو
Reinaud
مع ترجمة فرنسية في باريس سنة 1845.
زكي محمد حسن (الدكتور): الصين وفنون الإسلام. الفاخرة 1941.
كنوز الفاطميين. القاهرة 1937.
الفنون الإيرانية في العصر الإسلامي. القاهرة 1939.
التصوير في الإسلام. القاهرة 1936.
عبد اللطيف البغدادي: الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعينة بأرض مصر، ط. أوروبا والقاهرة.
عبد الحميد العبادي: حديث الفتية المغررين من أهل لشبونة (مقال في العدد 136 من مجلة الثقافة بالقاهرة، 5 / 8/ 1941).
عبد الوهاب عزام (الدكتور): البلغار المسلمون (مقلان في العددين 261 و262 من مجلة الثقافة، 28/ 12 / 1943 و4 / 1 / 1944).
القزويني (زكريا محمد بن محمود): آثار البلاد وأخبار العباد. جوتنجن 1848.
عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات. جوتنجن 1849.
محمد مصطفى زيادة (الدكتور): رحلة ابن جبير ورحلة ابن بطوطة (محاضرتان ألقيتا بدار مكتب التبادل الثقافي للمغرب بمصر، ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة (1939).
المسعودي (أبو الحسن علي بن الحسين بن علي): مروج الذهب ومعادن الجوهر، ط. باريس والقاهرة.
التنبيه والإشراف، ط. ليدن والقاهرة.
نقولا زيادة: رواد الشرق العربي. القاهرة 1943.
D’Avezac, Armand: Les files Fantastiques de l’Ocean Occidéntal au moyen age, Paris 1845.
Beazley, C. R.: The Dawn of Modern Geogaphy, 3 vols. (vol.1, London 1897).
Benjamin (of Tudela); The Travels of Rabbi Benjamin ben Jonas of Tudela, through Europe, Asia and Africa, from Spain to China. London 1764.
Bretschneider, E: On the Knowledge possessed by the Ancient Chinese of the Arabs and Arabinan Colonies and other western Countries mentioned in Chinese Books, London 1871.
Brunschwig R.: Deux récits de voyage inédits en Afrique du Nord.
Casanova, Paul: Notes sur Le svoyages de Sindbad le Marin, le caire 1922 (Extrait du Bulletin de l’Institut Français d’Archéolgie Orientale, t. xx).
Della Vida, L.: Une nouvelle source pour l’histoire de l’Afrique du Nord (Hesperis, t. xix). - Il regno di Granata nel 1465-66 nei ricordi di un viaggiatore egiziano (al-Andalus. 1933).
Ferrand, G.: Voyage du Marchand Arabe Sulayman en Inde et en Chine redige en 851, suivi de remarpues par Abu Zayd Hassan vers 916. Trad. G. Ferrand. Paris 1922.
Relations des Voyages et texte géographiques Arabes, persans et turcs relatives a l’Exterme-Orient du Ville au XVIIIes.
Fraehn, Ch. M.; Ibn Foszlan’s und anderer Araber Berichte uber die Russen alterer zeit und ihre Nachbarn. St. Petersburg 1823.
Gibb, H. A. R.: Ibn Battuta, Travels in Asia and Africa (Translated and selected, with an introduction and notes, by Gibb, London 1929) .
Goeje, J: La légend de saint Brandan, tirée des Actes du 8e Congrés international des Orientalistes, tenu en 1889 a Stockholm et a Christiania, Leyde 1890.
Heyd; W: Histoire du commerce du Levant aut cmoyen age.
Leipzig et Paris 1885-6.
Hirt, F. And Rockhill, W.W.: Chau Ju-kua: His Work on the Chinese and Arab Trade in the Xlle and Xllle centuries entitled Chu-fan-chi, trans. From the Chinese and annotated.
St. Petersburg. 1911.
G. Jacob: Studien in Arabischen Geographen. Berlin 1891-2.
Jaubert, P. A.: Géographie d’Edrisi, traduite et a ccompagnée de notes, tone V et VI du Recueil de Voyages et de Memoires publie par la Societé de Geogrphie de Paris 1836-40.
Kammerer, A: La mer Rouge, I’Abyssinie et l’Arbie depuis I’ Antipuité. Le caire 1929 at 1935.
Marco Polo: The Book of ser Marco Polo, the Venetian. Translated and edited by sir H. Yule. London 1903.
Nasir-i-Khosrua: Sefer Nameh, éd. Chefer. Paris 1881.
Reinaud, J. T.: Mémoire géographique, historique et scietifique sur l’Inde, anterieurement au milieu du Xie siècle de l’ère chretienne d’aprés les ecrivains arabes, persans et chinois. Paris 1849.
Renaudot, E: Ancient Accounts of India and china by two Mahomedan Mediaeval Travellers 1733, retranslated from the annotated French translation (1718) of the texts of sulayman the Merchant (851 A.D.) and Abu Zayd Hassan of Siraf (912 A.D.).
De La Ronciere, Charles: La Découvorte de L’Afrique au Moyen Age. Le Caire 1925.
De Saint-Martin, Vivien: Histoire de la géographie. Paris 1873.
Schloezer, k. Von: Abu Dolef Misaris Ben Mohalhal (texte arabe et traduction latine, Berofini 1845).
de Vaux,. Carra: Les Penseurs de l’Islam (t. II, Paris 1921).
Youssef Kamal, Prince: Monumenta Géogrphicae Africae et Aegypti (tome III, époque arabe).
Bog aan la aqoon