67

وكانت الملكة ضاقت بانزوائها، وضغطت عليها عواطفها الخفية وواجبها المبين، لتخرج من صمتها وسجنها الطويل .. فلم تعد تستطيع صبرا، وأقنعت نفسها بأن واجبها يدعوها إلى عمل شيء ما، وإلى بذل محاولة أخرى .. وتساءلت في حيرتها: «أأذهب حقا إلى هذه المرأة، وألفتها إلى واجبها، وأطلب إليها أن تنقذ الملك من الهاوية التي يندفع إليها؟» وأسلمها تساؤلها هذا إلى حيرة طويلة، وارتباك محزن، هويا بها إلى الهوس والهذيان، ولكنها لم ترجع عن فكرتها. وما كانت تزداد إلا تصميما، كانت كسيل يندفع في منحدر لا يستطيع عنه حولا، ولكنه يندفع مضطربا مزبدا كاسرا .. فقالت في نهاية المعركة الناشبة: «سأذهب.» •••

وفي صباح اليوم الثاني لبثت تنتظر عودة الملك. واستقبلت الضحى في سفينة ملكية، أبحرت بها قاصدة إلى قصر بيجة، الأبيض الذهبي. وكانت تشملها حالة ذهول محزن، ولم تكن ارتدت ثوبا ملكيا، فأحست لذلك بسخط واستياء، ورست السفينة على سلم القصر، فهبطت إليه واستقبلها عبد من الرقيق، فقالت له: إنها زائرة تطلب مقابلة ربة القصر، فتقدمها إلى بهو الاستقبال، وكان الجو باردا، وريح الشتاء ترسل هبات قارسة خلل أغصان تعرت كأذرع محنطة .. وجلست في البهو تنظر وحدها. وكانت تشعر بغرابة وحيرة، وتحاول تعزية نفسها بقولها إنه يصح أن تخفض الملكة من كبريائها في سبيل واجبها الأسمى، ولكنها أحست بالانتظار يطول وتساءلت قلقة: «هل تدعها تنتظر طويلا كما تفعل مع الرجال؟» ولحقها جزع مؤلم، وندمت على تسرعها بالحضور إلى قصر غريمتها.

وفاتت دقائق قبلما سمعت حفيف ثوب، فرفعت رأسها المثقل، فوقعت عيناها لأول مرة على وجه رادوبيس. كانت رادوبيس بغير ريب. وقد أحست بلذعة ألم ويأس، ونسيت لحظة همومها وما جاءت من أجله أمام الحسن الهلوك. وبغتت رادوبيس نفسها أمام جمال الملكة الرزين وجلالها المجيد.

وسلمتا باليد وجلست رادوبيس إلى جانب ضيفتها الجليلة المجهولة، ولما وجدتها تلوذ بالصمت قالت بصوتها الموسيقي: نزلت قصرك.

فردت الضيفة بصوت بالغ في جلاله قائلة باقتضاب: شكرا.

فابتسمت الغانية وقالت: ليت ضيفتنا تؤذننا بشخصها الجليل.

وكان السؤال طبيعيا ولكن الملكة ضاقت به كأنها لم تكن تتوقعه. ولم تجد بدا من إعلان نفسها، وقالت بهدوء: أنا الملكة.

ونظرت إلى المرأة لترى تأثير تصريحها في نفسها، فشاهدت ابتسامة تغيض، وعينيها تلمعان دهشة، وصدرها يمتلئ ويتصلب كالأفعى إذا هوجمت .. ولم تكن الملكة هادئة كما تبدو؛ فقد تغير قلبها لدى رؤية غريمتها، وأحست بدمائها تلتهب وتحرق عروقها جميعا، وشعرت بالكراهية والبغضاء، وتواجهتا كغريمتين تتحفزان للقتال .. واستولت عليها حالة مريرة ملوثة بالغضب والحقد. ونسيت الملكة إلى حين كل شيء إلا أنها بإزاء المرأة التي سلبتها سعادتها، ونسيت رادوبيس كل شيء إلا أنها أمام المرأة التي تقاسم حبيبها اسمه وعرشه.

وتبودل الحديث بينهما بادئ الأمر في ذلك الجو المشبع بالغضب والحقد فجرى مجرى عنيفا محزنا، وكانت الملكة مستاءة لعدم اكتراث غريمتها، فقالت باستياء: ألا تدرين أيتها السيدة كيف تحيين الملكة؟

فجمدت رادوبيس في مكانها ولفحت قلبها هبة من انفعال شديد، وكادت تنفجر لتنفس عن صدرها الكظيم، ولكنها ملكت أعصابها، وكانت تعرف طريقة أخرى للانتقام فرسمت ابتسامة على وجهها وأحنت رأسها وهي جالسة، وقد أسندت رأسها إلى المقعد في تراخ واستهانة، وقالت بلهجة لم تخل من سخرية: إنه ليوم عظيم يا صاحبة الجلالة سيذكر لقصري في التاريخ.

Bog aan la aqoon