فعلم أنها تعني الملكة. وهز منكبيه قائلا: لقد استوليت عليه حيا، واستردته ميتا.
فحدجته بنظرة غريبة، وقالت له: يا أحمق، يا جاهل، ألا تعلم؟ .. لقد قتلته الخائنة لتسترده. - من الخائنة؟ - الملكة، هي التي أفشت سرنا وأثارت الشعب. هي التي قتلت مولاي.
وكان ينصت إليها في صمت، وعلى فمه ابتسامة شيطانية ساخرة، فلما انتهت ضحك ضحكته الجنونية المخيفة، ثم قال: أخطأت يا رادوبيس، ليست الملكة خائنة ولا قاتلة.
وحملق في وجهها ودنا منها خطوة، وكانت تنظر إليه بدهشة وإنكار، ثم قال بصوت رهيب: إن كان يهمك أن تعرفي الخائن، فها هو ذا يقف أمامك .. أنا الخائن يا رادوبيس .. أنا.
ولم يهمها قوله كما كان يتوقع، ولا بدت عليها اليقظة. ولكنها هزت رأسها هزات خفيفة كأنما تريد أن تنفض عن نفسها الخمول والإعياء، فاستولى عليه الغضب، وأمسك بكتفيها بغلظة، وهزها بعنف شديد، وصاح بها: اصحي، ألا تسمعين ما أقول؟ .. أنا الخائن .. طاهو الخائن .. أنا علة الكوارث جميعا.
وارتعد جسمها بعنف، وانتفضت انتفاضا شديدا خلصت به من يديه وتقهقرت خطوات وهي تنظر إلى وجهه الفزع بخوف وجنون، فسكت غضبه وهياجه، وأحس بتخاذل جسمه ورأسه فأظلمت عيناه، وقال بهدوء وبلهجة حزينة: إني أنطق بكلمات هائلة بكل بساطة؛ لأني أشعر شعورا صادقا أني لست من أهل الدنيا. لقد انقطع ما بيني وبين العالم جميعا، ولا شك فيما أحدثه اعترافي لك من الفزع، ولكنها الحقيقة يا رادوبيس، لقد تحطم قلبي بقسوة شنيعة، ومزق نفسي الألم البالغ في تلك الليلة الجنونية التي فقدتك فيها إلى الأبد.
وسكت القائد ريثما تهدأ أنفاسه المضطربة، ثم استطرد قائلا: وانطويت على الألم، واستوصيت بالصبر والتجلد، واعتزمت صادقا أن أؤدي واجبي إلى النهاية، حتى كان ذلك اليوم الذي دعوتني فيه إلى قصرك لتستوثقي من إخلاصي. في ذلك اليوم جن جنوني، واشتعلت النار في دمائي، فهذيت هذيانا غريبا، واستاقني الجنون إلى عدو متربص، فأفضيت له بسرنا، وهكذا انقلب القائد الأمين خائنا غادرا يطعن من وراء الظهور.
وأهاجته الذكرى فتقلص وجهه ألما وخزيا، ونظر إلى وجهها الفزع بقسوة، فعاوده الغضب والحنق، وصاح: أيتها المرأة الهلوك المدمرة. لقد كان جمالك لعنة على كل من رآه. لقد عذب قلوبا بريئة، وخرب قصرا عامرا، وزلزل عرشا مكينا، وأثار شعبا أمينا، ولوث قلبا شريفا .. إنه لشؤم ولعنة.
وسكت طاهو، وما زال الغضب يغلي في شرايينه، ورآها كصورة للعذاب والخوف، فأحس ارتياحا ولذة، وتمتم قائلا: ذوقي العذاب والهوان، وانظري الموت فما ينبغي لأحدنا أن يحيا، وقد مت منذ زمن بعيد، ولم يبق لي من طاهو إلا ثيابه المزركشة المجيدة، أما طاهو الذي اشترك في غزو النوبة، وأبلى بلاء حسنا استحق به ثناء بيبي الثاني، طاهو قائد حرس مرنرع الثاني، وصفيه، ومشيره، فلا وجود له.
وألقى الرجل نظرة سريعة على ما حوله، وبدا على وجهه الضيق والجزع الشديد، ولم يعد يحتمل السكون المطبق، ولا رؤية رادوبيس التي استحالت تمثالا جامدا، فنفخ في الهواء بقوة وسخط واشمئزاز، وقال: ينبغي أن ينتهي كل شيء، ولكني لن أحرم نفسي من العقاب الصارم، سأذهب إلى القصر، وأدعو كل من يحسن بي الظن، ثم أعلن جريمتين للملأ، وأمزق الستار عن الخائن الذي طعن مولاه وهو يساره، وأنزع النياشين التي تحلي صدري الآثم، وأرمي بسيفي، ثم أطعن قلبي بهذا الخنجر .. فالوداع يا رادوبيس، والوداع أيتها الحياة التي تستأدينا فوق ما تستحق.
Bog aan la aqoon