فقالت الملكة بصوت حزين: نعم يا مولاي، لقد صك أذني صراخ بشع لم يسمع من قبل في هذا الوادي، فجئت ساعية إليك لأعلن ولائي، وأشاطرك المصير.
قالت ذلك، ثم ركعت على ركبتيها وأحنت رأسها، فتقهقر سوفخاتب إلى الخارج. وبادر الملك إلى معصميها ورفعها من ركعتها، ونظر إليها بعينين مرتبكتين. ولم يكن رآها من اليوم الذي جاءت فيه إلى جناحه وردها أسوأ رد، فاشتد به الحرج والألم، على أن صياح القوم وصراخ المتقاتلين رداه إلى ما كان عليه، فقال لها: شكرا لك أيتها الأخت، تعالي انظري إلى شعبي، إنه يحييني في يوم العيد.
فخفضت عينيها، وقالت في حزن عميق: كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
واستحال تهكم الملك غضبا وسخطا وازدراء، وقال بلهجة تنطوي على الاشمئزاز: بلد مجنون، جو خانق، قلوب ملوثة .. خيانة .. خيانة .. خيانة.
فارتعدت فرائص الملكة لذكر كلمة الخيانة، وجمدت عيناها من الذعر، وأحست بأنفاسها تحتبس في صدرها.
ترى هل حمل هتاف القوم لها على بعض الظن؟ .. وهل يكون جزاؤها الاتهام بعد أن طوت فؤادها على أسقامه، وجاءت طوعا إلى من أهانها وأشقاها؟ .. وهالها الأمر، فقالت: وا أسفاه يا مولاي! ليس في وسعي إلا أن أشاطرك المصير، ولكني أعجب من الخائن، وكيف كانت الخيانة؟! - الخائن رسول ائتمنته على رسالة، فسلمها إلى عدوي!
فقالت الملكة بلهجة استغراب: لا علم لي بالرسالة، ولا بالرسول، ولا أظن أن الوقت يتسع لإنبائي، وما أتمنى من شيء إلا أن أظهر إلى جانبك أمام الشعب الذي يهتف لي ليعلم أني أواليك، وأني أعادي من يعاديك. - شكرا لك يا أختاه، ليس من حيلة، وما علي إلا أن أستعد لموت شريف.
ثم أمسك بذراعها، وسار بها صوب حجرة اعتكافه، وأزاح الستار المسدل على بابها ودخلا معا إلى الحجرة الفاخرة، وكان يطالع الداخل محراب منحوت في الجدار يقوم بداخله تمثالان للملك والملكة السابقين، فاتجه الملكان إلى تمثالي والديهما، ووقفا أمامهما خاشعين صامتين ينظران بعينين حزينتين كئيبتين، وقال الملك بصوت ثقيل، وهو ينظر إلى تمثالي والديه: ترى ما رأيكما في؟!
وسكت لحظة كأنه ينتظر أن يتلقى الجواب، وعاوده انفعاله فغضب على نفسه، ثم ثبت عينيه على وجه أبيه، وقال: لقد أورثتني ملكا عظيما ومجدا أثيلا، فماذا صنعت بهما؟ لم يكد يمضي عام على توليتي حتى شارفت الدمار، وا أسفاه! لقد أذللت عرشي موطئا للنعال، وجعلت اسمي مضغة للأفواه، واكتسبت لنفسي اسما جديدا لم يطلق على فرعون من قبل، هو الملك العابث.
وانحنى رأس الملك الشاب مثقلا حزينا، ولبث ينظر إلى الأرض بعينين مظلمتين، ثم رفعهما إلى تمثال والده، وتمتم: لعلك وجدت في حياتي ما أخجلك، ولكنك لن تخجل من موتي أبدا!
Bog aan la aqoon