كلمات مضيئة
قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
[النساء: ٦٥] وقال النبي ﷺ: «... عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».
حديث صحيح وقال المصنف- ﵀: «الرّادّ على أهل البدع مجاهد، حتى كان يحيى بن يحيى يقول: الذّبّ عن السّنة أفضل من الجهاد».
وقال: «ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبارات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحبّ إليك، أو يتكلّم في أهل البدع؟
فقال: إذا صام وصلّى واعتكف فإنّما هو لنفسه، وإذا تكلّم في أهل البدع فإنّما هو للمسلمين، هذا أفضل».
«مجموع الفتاوى» (٢٨/ ٢٣١).
1 / 5
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة المحقق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢].
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: ١].
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد؛ فإن من تمام حفظ كتاب الله وحفظ سنة رسول الله ﵌، الذب والدفاع عنهما، ودفع كل ما يشوبهما.
ولقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هذا الأساس المتين، فحفظوا وصية نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، فحموا الكتاب والسنة من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهذا بفضل التربية التي رباها إياهم النبي الكريم ﵌. ثم سار على هذا المنهج القويم من بعدهم تلاميذهم من التابعين وأئمة الدين. حتى ظهرت نابتة السوء، وبدأت رائحة المبتدعة تفوح؛ فظهر الخوارج المبتدعة الذين كفّروا عليا ﵇ وحاربوه، ثم ظهر أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الحاقد، الذي ألّب الفتن، ونشر العقائد الفاسدة الباطلة.
ثم توالت الفتن، وانتشرت البدع، وكثر المتكلّمون في دين الله بالباطل، كالجهمية الذين عطّلوا الصفات، والمتكلّمين الذين حرّفوا نصوص رب العالمين،
1 / 6
والفلاسفة المهوّسين، والمعتزلة والأشاعرة والمرجئة، وغيرهم من أصحاب المقالات المخالفة لهدي رسول رب العالمين.
لكن مع هذا الشرّ المستطير؛ لم يندثر علماء أهل السنة والجماعة، علماء الطائفة المنصورة والفرقة الناجية؛ أهل الحديث والأثر، بل إنهم لكل هؤلاء كانوا بالمرصاد، فقابلوا الباطل بالحق، والجهل بالعلم، والبدعة بالسنة، والكذب بالصدق، والادّعاء بالحجة، وجرّدوا أهل الفتنة والبدعة من سلاحهم، وجاهدوهم بسلاح البيان والعلم، فناظروهم وناقشوهم، وألّفوا الردود على بدعهم وباطلهم، وأظهروا الحق والمحجة الواضحة.
وكان من بين أولئك الأئمة العلماء الثقات الأمناء؛ شيخ الإسلام نادرة زمانه، المجدد أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني- ﵀.
فقد «قضى جلّ حياته في جهاد أهل الباطل والبدع؛ ببيانه الواضح، وقلمه السيّال، وإمكاناته العقلية الهائلة، وشجاعته النادرة، فأنتج كل ذلك هذه الثروة العظيمة من المؤلفات التي أعلى الله بها منار الحق، ودفع بها الباطل.
وكان يركّز في أكثرها على أولئك المبتدعة- من صوفية وأشعرية- والذين يصرّون على الانتساب إلى أهل السنة والجماعة، ذلك الأسلوب الذي خدعوا به الأمة الإسلامية، فأوقعوا أجيالا منهم في أحضان البدع والخرافات المشينة ...
لقد كانت كتابات وجهاد ومؤلفات شيخ الإسلام تركّز على فكر ومناهج وعقائد تلك الطوائف المعتزية إلى السنة والجماعة- وهي بعيدة عنها-؛ فألّف في هذا الميدان الكثير والكثير؛ مثل: «در تعارض العقل والنقل» و«بيان تلبيس الجهمية» وجانب كبير من فتاواه، وجانب كبير من كتابه «منهاج السنة» الذي ألّفه ردا على الروافض، ومثل «الحموية» و«الواسطية» و«التدمرية» و«التوسل والوسيلة» و«الرد على البكري» و«الرد على الأخنائي»، وغير هذه؛ مما صبّه حمما على هذه الأصناف الخطيرة ...» «١».
ولا شك أن الردّ على المخالفين من المبتدعة وأهل الأهواء؛ فيه حماية للشريعة الغراء، وهو من أصول الاعتقاد، واتباع سير الأسلاف، وفيه قمع للمعاندين والمنافقين، وشدّ أزر الموحّدين، وإعلاء لمنهج سيد الأنبياء والمرسلين «٢».
_________
(١) من كلام العلامة السّلفي حامل لواء الجرح والتعديل؛ ربيع بن هادي المدخلي- سلّمه الله- في كتابه الماتع:
«منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف» ص ١٠٢ - ١٠٣. بتصرف يسير.
(٢) ومن أراد الوقوف على أهمية الرد على أهل الأهواء فلينظر «الرد على المخالف من أصول الإسلام» للشيخ بكر أبو زيد.
1 / 7
وهذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم، هو ثمرة أحد هذه الجهود المباركة، التي قام بها شيخ الإسلام، فقد قام فيه بالرد على قاضي المالكية؛ محمد بن أبي بكر الأخنائي «١»، في مسألة زيارة قبر النبي ﵌، والتفريق في ذلك بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية.
وهذه المسألة من المسائل الخطيرة والحسّاسة التي كثر فيها الكلام، وطال حولها النقاش، فمن متّبع لهدي النبيّين والسّلف الصالحين، ومن متّبع لطرق الغاوين المبتدعين، وسبل الشياطين.
ولا شك أن مثل هذه المسائل محلّها التشريع، ونحن نؤمن ونعتقد أن النبي ﵌، بيّن لنا الحقّ في هذه المسألة، لأنه ﵌ مات ولم يترك لنا خيرا إلا دلّنا وأرشدنا عليه، وما من شر إلا وحذّر أمته منه.
والمصنف ﵀ قد بيّن بالأدلة الشرعية؛ من القرآن والسنة الصحيحة، وأقوال العلماء الثقات؛ الهدي الصحيح، والقول الحق المبين في هذه المسألة المهمة.
واعلم- رحمني الله وإياك- أيها المسلم؛ أنه قد صنّف في هذه المسألة كتب ومصنفات كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
١ - «زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور» للمصنف، وهي موجودة في «مجموع الفتاوى».
٢ - «شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور» تأليف مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، نشر بمكتبة الباز بمكة المكرمة.
٣ - «الصارم المنكي في الرد على السبكي» لابن عبد الهادي، نشر بمؤسسة الريان ببيروت.
٤ - «تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد» لمحدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني ﵀.
٥ - «تنبيه زائر المدينة إلى الممنوع والمشروع في الزيارة» للعلامة صالح بن غانم السدلان- حفظه الله تعالى- نشر بدار بلنسية بالرياض.
٦ - «أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة» للعلامة المحدث أحمد بن يحيى النجمي- حفظه الله ورعاه- نشر بمكتبة الغرباء الأثرية بالمدينة النبوية. وغيرها كثير.
_________
(١) ترجمته في «الأعلام» (٦/ ٥٦).
1 / 8
منهجي في تحقيق الكتاب:
١ - تخريج الآيات القرآنية.
٢ - تخريج الأحاديث النبوية وبيان درجتها.
٣ - ضبط النص؛ بالرجوع إلى المصادر قدر الإمكان، مع العلم أن هذه الطبعة ضبطها من طبعة العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلّمي- ﵀ ولم أتمكن من الحصول على مخطوط للكتاب، وقد بذلت ما بقدرتي في ضبط النص، وقد أثبت تعليقات العلامة المعلمي في الهامش.
٤ - ترجمت لبعض الأعلام الواردة، وعرّفت ببعض الفرق باختصار.
٥ - صنعت فهارس علمية للكتاب.
ملاحظة: لم أصنع ترجمة للمصنف- ﵀ لسببين اثنين:
الأول: شهرته الكبيرة بين الخاصة والعامة.
ثانيا: كثرة من ترجم له سواء في مقدمات كتبه المحققة، أو بتراجم مستقلة.
وقد أخبرت أن الشيخ بكر أبو زيد ألف في ترجمته وسيرته ترجمة موسّعة على نسق الترجمة التي كتبها لابن القيم- ﵀، لكن لم أوفّق للحصول عليها حتى الآن، فاللهم يسّر لي ذلك.
هذا؛ وأسأل الله العليّ العظيم أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأسأله حسن القبول، كما أسأله أن يوفقني لخدمة هذا الدين، وأن يثبتنا على الحق والصراط المستقيم.
اللهم اغفر لي ولوالديّ ولجميع المسلمين، اللهم تجاوز عن سيئاتنا وتقبّل أعمالنا، واهدنا يا أرحم الراحمين، واجمع كلمة المسلمين على الحق والدين.
اللهم صلّ على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما مزيدا.
كتبه:
أبو عبد الله العاملي السّلفي الداني بن منير آل زهوي- كان الله له- الجية؛ منطقة جبل لبنان العاشر من رمضان المبارك لعام إحدى وعشرين وأربعمائة وألف
1 / 9
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[مقدمة المؤلف]
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ تسليما. بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا. وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدّقا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنا عليه. وأكمل له ولأمته الدين، وأتمّ عليهم النعمة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس. وإن أعظم نعمة أنعم الله بها على رسوله ﷺ كتاب الله الذي لا تفنى عجائبه، ولا يحاط بمعجزاته. وقد أوتي ﷺ هذا الكتاب ومثله معه من السنّة التي كان ينزل بها جبريل على النبي ﷺ كما كان ينزل بالقرآن فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن «١»، فالذي بلّغه للناس ﷺ من آيات ربه وما ثبت عنه في الصحيح من سنّته الشريفة ليس عن هوى النفس، كما أنه ليس من الظن كحال الذين هم له مخالفون، بل هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى [النجم: ٤ - ١٢] أيها الجاهلون، وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ: ٦] فهم له يتبعون. فلهذا كان أفضل الخلق وأقربهم من اتبع لرسول الله ﷺ. وأضلهم وأشقاهم من كان أبعد عن ذلك، وهم الأخسرون. وقد يتفق من يكون فيه معرفة لبعض ما جاء به، لكن لم يتّبعه فيكون مشابها لليهود، ومن كان
_________
(١) كما جاء في الأثر: «كان جبريل ينزل على رسول الله ﵌ بالسنة، كما ينزل بالقرآن، يعلمه إياها كما يعلمه القرآن».
أخرجه الدارمي في «سننه» (١/ ١٥٣/ ٥٨٨) وأبو داود في «المراسيل» ص ٣٦١ رقم (٥٣٦) والبغدادي في «الفقيه والمتفقه» (١/ ٢٦٦ - ٢٦٧/ ٢٦٨ - ٢٧٠) واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (١/ ٩٣/ ٩٩) وابن نصر المروزي في «السنة» (٢٨، ١١٦).
من طريق: الأوزاعي عن حسان بن عطية مرسلا.
وقال الحافظ في «فتح الباري» (٣/ ٣٥٠): «أخرجه البيهقي بسند صحيح».
وصحّح إسناده العلامة الألباني- ﵀ في كتاب «الإيمان» لشيخ الإسلام ص ٣٦.
1 / 10
يخالف ما جاء به جهلا وضلالا كان كالنصارى؛ الذين هم في دينهم يغلون، والله هو المسئول أن يجعلنا وإخواننا من عباده الذين هم بكتاب الله يهتدون، وبرسول الله يؤمنون، وبحبل الله معتصمون، ولأولياء الله يوالون، ولأعدائه يعادون، وفي سبيله يجاهدون، ولطريقي المغضوب عليهم والضالين يجتنبون، وللسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان يتّبعون.
أما بعد: فإن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق، وفرّق به بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، وبين الغيّ والرشاد، وبين طريق الجنة وطريق النار، وبين أوليائه وأعدائه، وبين المعروف والمنكر والخبيث والطيب، والحلال والحرام ودين الحق والباطل.
فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرّمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله. وليس لأحد من الثقلين الإنس والجن سبيل إلى رضى الله وكرامته ورحمته إلا بالإيمان بمحمد واتّباعه، فإن الله أرسله برسالة عامة إلى جميع الثقلين الجن والإنس في جميع أمور الدين الباطنة والظاهرة بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان إلى علمائهم وعبّادهم وملوكهم وسوقتهم، فليس لأحد وإن عظم علمه وعبادته وملكه وسلطانه أن يعدل عما جاء به الرسول ﷺ إلى ما يخالفه في شيء من الأمور الدينية؛ باطنها وظاهرها، وشرائعها وحقائقها، بل على جميع الخلق أن يتّبعوه ويسلّموا لحكمه. قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: ٦٥]، وقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: ٥٩] الآية، وقال تعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يونس: ١٠] كما قال في سورة البقرة: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: ٢١٣] الآية. وفي صحيح مسلم عن عائشة أن النبي ﷺ كان إذا قام من الليل يصلي يقول:
«اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» «١». وقد علق «٢» سبحانه بطاعته، فقال في ذمّ المنافقين:
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إلى قوله: فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ إلى قوله: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور: ٤٧ - ٥٤].
_________
(١) أخرجه مسلم (٧٧٠).
(٢) كذا بالأصل وفي نسخة الشيخ المعلمي: [وقد علق سبحانه بطاعته [الفوز].
1 / 11
وهذا الأصل متفق عليه بين كل من آمن به الإيمان الواجب الذي فرضه الله على الخلق، وكل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦]. وهذا تبيين لقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢].
قال ابن مسعود: «حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر» «١». لكن الأمر مشروط بالاستطاعة كما بينه في قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. فقد يخفى على الإنسان بعض سنة الرسول وأمره مع اجتهاده في طاعته، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. ولهذا قال النبي ﷺ: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». أخرجاه في الصحيحين «٢». وقد يقول الرجل ويحكم بغير علم فيأثم على ذلك كما يأثم إذا قال بخلاف ما يعلمه من الحق، وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار» «٣». وقد ذمّ الله القول بغير علم ونهى عنه في غير موضع من كتابه. قال تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: ٣٦] وقال تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ [الأعراف: ٣٣] الآية وقال تعالى عن الشيطان: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: ١٦٩] وقال فيها يخاطب به أهل الكتاب: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران: ٦٦] الآية. وقال: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ [الأعراف: ١٦٩]. وقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ [النساء: ١٧١]. وجعل العامل بغير علم كاذبا والصادق هو الذي يتكلم بعلم، فقال تعالى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الأنعام: ١٤٣] وقال تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
_________
(١) أخرجه الحاكم (٢/ ٢٩٤) والطبراني في «المعجم الكبير» (٩/ ٩٢/ ٨٥٠١ - ٨٥٠٢) وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» (١/ ٥٠٥) وابن الجوزي في «نواسخ القرآن» رقم (٩٣) - بتحقيقي-، وغيرهم. من طريق:
زبيد اليامي، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود موقوفا.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٦/ ٣٢٦): «رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح، والآخر ضعيف».
وصحّح إسناده موقوفا؛ الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (١/ ٥٠٥).
(٢) أخرجه البخاري (٧٣٥٢) ومسلم (١٧١٦).
(٣) أخرجه أبو داود (٣٥٧٣) والترمذي (١٣٢٢) والنسائي في «الكبرى» (٣/ ٤٦٢/ ٥٩٢٢) وابن ماجه (٢٣١٥) والحاكم (٤/ ٩٠) والبيهقي (١٠/ ١١٦) والطبراني في «المعجم الكبير» (٢/ ٢٠ - ٢١، ١١٥٤ - ١١٥٦).
من طرق: عن عبد الله بن بريدة عن أبيه؛ بريدة بن الحصيب.
والحديث صحيح بمجموع طرقه كما تجده في «الإرواء» (٢٦١٤).
1 / 12
[البقرة: ١١١]. لا سيما أهل الشرك فإنه وصفهم بالإفك مع الشرك، وقرن الكذب بالشرك كما قرن الصدق بالإخلاص، ولهذا يقرن بين المنافقين أهل الكذب وبين المشركين في مثل قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ إلى قوله: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيرًا [الفتح: ٤ - ٦]. وقال تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ [الحج: ٣٠، ٣١]. وقال عن أهل الكهف:
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ [الكهف: ١٥] الآية.
وقال عن الخليل: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت: ١٧]. وقال لأبيه وقومه: ماذا تَعْبُدُونَ أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات: ٨٥، ٨٦] ومثل هذا مذكور في غير موضع من القرآن. وكثير من الناس يقع في الشرك والإفك جهلا وضلالا من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع.
[مدار الدين على توحيد الله تعالى]
والله ﷾ قد أرسل جميع رسله وأنزل جميع كتبه بأن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، لا يعبد معه لا ملك ولا نبيّ ولا صالح، ولا تماثيلهم ولا قبورهم، ولا شمس ولا قمر ولا كوكب، ولا ما صنع من التماثيل لأجلهم ولا شيء من الأشياء، وبيّن أن كل ما يعبد من دونه فإنه لا يضر ولا ينفع، وإن كان ملكا أو نبيا، وأن عبادته كفر، فقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا إلى قوله: مَحْذُورًا [الإسراء: ٥٦، ٥٧] بيّن سبحانه أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والجن والإنس لا يملكون كشف الضرّ ولا تحويله، وأن هؤلاء المدعوون «١» من الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه، وكذلك كان قوم من الإنس يعبدون رجالا من الجن فآمنت الجن المعبودون، وبقي عابدوهم يعبدونهم، كما ذكر ذلك ابن مسعود «٢». وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ إلى قوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: ٢٢، ٢٣].
بيّن سبحانه أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والبشر وغيرهم ليس لهم مثقال ذرة في السماوات والأرض، ولا لهم نصيب فيهم، وليس لله نظير يعاونه من خلقه، وهذه الأقسام الثلاثة هي التي تحصل مع المخلوقين؛ إما أن يكون لغيره ملك دونه، أو يكون شريكا له، أو يكون معينا وظهيرا له. والربّ تعالى ليس له من خلقه مالك ولا شريك ولا ظهير. لم يبق إلا الشفاعة؛ وهو دعاء الشافع وسؤاله لله في المشفوع له.
فقال تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. ثم إنه خصّ بالذكر الملائكة
_________
(١) كذا، والصواب: المدعوين.
(٢) انظر «صحيح البخاري» (٤٧١٤ - ٤٧١٥) و«صحيح مسلم» (٣٠٣٠).
1 / 13
والأنبياء في قوله: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ إلى قوله: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ٧٩، ٨٠]. بيّن أن اتخاذهم أربابا كفر، وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ إلى قوله: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة: ٧٢ - ٧٦]. فقد بيّن أن من دعا المسيح وغيره فقد دعا ما لا يملك له ضرا ولا نفعا، وقال لخاتم الرسل: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام: ٥٠]. وقال: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: ١٨٨]. وقال: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [يونس: ٤٩].
وقال: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا [الجن: ٢١]. وقال: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [آل عمران: ١٢٧، ١٢٨]. وقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: ٥٦]. وقال: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ [النحل: ٣٧].
1 / 14
فصل [الكلام على الكتاب المردود عليه]
قد أرسل إليّ بعض أصحابنا جزءا أخبر أنه صنفه بعض القضاة قد تكلم في المسألة التي انتشر الكلام فيها؛ وهي السفر إلى غير المساجد الثلاثة، كالسفر إلى زيارة القبور هل هو محرم أو مباح أو مستحب؟
وهي المسألة التي أجبت فيها من مدّة بضع عشرة سنة بالقاهرة، فأظهرها بعض الناس في هذا الوقت ظنا أن الذي فيها خلاف الإجماع، وأن السفر لمجرّد قبور الأنبياء والصالحين هو مثل السفر المستحب بلا نزاع، وهو السفر إلى مسجد نبينا محمد ﷺ المتضمن لما شرعه الله من السفر إلى مسجده والصلاة فيه والسلام عليه، ومحبته وتعظيمه، وغير ذلك من حقوقه ﷺ في مسجده المؤسس على التقوى، المجاور لقبره ﷺ، وظنوا أن السفر، إلى زيارة قبور جميع الأنبياء والصالحين مستحبّ مجمع على استحبابه مثل هذا السفر المشروع بالنصّ وإجماع المسلمين إلى مدينة الرسول ﷺ، سواء سافر مع حج البيت أو بدون حجّ البيت، فإن هذا السفر المشروع إلى مدينته بالنص والإجماع لا يختص بوقت الحج، فإن المسلمين على عهد خلفائه الراشدين كانوا يحجّون ويرجعون إلى أوطانهم، ثم ينشئ السفر إلى مسجد النبي ﷺ من ينشئه، لأنه عبادة مستقلة بنفسها كالسفر إلى بيت المقدس، والسفر إلى مسجد النبي ﷺ أفضل من السفر إلى المسجد الأقصى بالنص والإجماع. فظن من ظن أن السفر المشروع هو لمجرّد القبر لا لأجل المسجد، وأن المسجد يدخل ضمنا وتبعا في السفر، وأن قبور سائر الأنبياء كذلك، أو أن المسافرين لمجرد القبور سفرهم مشروع كالسفر إلى المساجد الثلاثة، ومن الناس من ظن أنه أفضل من السفر إلى المساجد الثلاثة، حتى صرحوا بأنه أفضل من الحجّ، وأن الدّعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من الدعاء في المسجد الحرام ومسجد الرسول وعرفة ومزدلفة ومنى، وغير ذلك من المساجد والمشاعر التي أمر الله ورسوله بالعبادة فيها، والدعاء والذكر فيها، وظنّ من ظنّ أن هذا مجمع عليه، وأن من قال السفر لغير المساجد الثلاثة سواء كان لقبر نبي أو غير نبي، منهي عنه أو أنه مباح ليس بمستحب فقد خالف الإجماع، وليس معهم بما ظنوه نقل عن أحد من أئمة الدين الذين لهم في الأمة لسان
1 / 15
صدق، ولا حجة من كتاب الله ولا سنة رسوله، بل الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة المشهورون وغيرهم على خلاف ما ظنوه، فإجماع أهل العلم الذين تحكى أقوالهم في مسائل الإجماع والنزاع هو على خلاف ما ظنه الغالطون إجماعا وجرت في ذلك فصول.
لكن المقصود هنا أنه أرسل إليّ ما كتبه هذا القاضي وأقسم بالله عليّ أن أكتب عليه شيئا ليظهر للناس جهل مثل هؤلاء الذين يتكلمون في الدين بغير علم، وذلك أنهم رأوا في كلامه من الجهل والكذب والضلال ما لا يظن أن يقع فيه آحاد العلماء الذين يعرفون ما يقولون فكيف بمن سمّي: «قاضي القضاة» «١»!
[المردود عليه عنده شيء من الدين لكن مع جهل وسوء فهم]
ورأيت كلامه يدل على أن عنده نوعا من الدين، كما عند كثير من الناس نوع من الدين، لكن مع جهل وسوء فهم وقلة علم، حتى قد يجهل دين الرسول الذي هو يؤمن به ويكفّر من قال بقول الرسول وصدّق خبره وأطاع أمره، وقد يجهل أحدهم مذهبه الذي انتسب إليه، كما قد يجهل مذهب مالك وغيره من أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، فإن هذه المسألة التي فيها النزاع وهي التي أجبت فيها وإن كانت في كتب أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وقد ذكروا القولين. وأبو حنيفة مذهبه في ذلك أبلغ من مذهب الشافعي وأحمد، فهي في كلام مالك وأصحابه أكثر، وهي موجودة في كتبهم الصغار والكبار، ومالك نفسه نص على قبر نبينا محمد ﷺ بخصوصه أنه داخل في هذا الحديث، بخلاف كثير من الفقهاء، فإن كلامهم عام، لكن احتجاجهم بالحديث وغيره يبين أنهم قصدوا العموم، وكذلك بيانهم لمأخذ المسألة يقتضي العموم.
فهذا المعترض وأمثاله لا عرفوا ما قاله أئمتهم وأصحاب أئمتهم، ولا ما قاله بقية علماء المسلمين، ولا عرفوا سنة رسول الله ﷺ، وسنة خلفائه الراشدين، ولا ما كان يفعله الصحابة والتابعون لهم بإحسان.
ونقل هذا المعارض عن الجواب ما ليس فيه، بل المعروف المتواتر عن المجيب في جميع كتبه وكلامه بخلافه، وليس في الجواب ما يدلّ عليه بل على نقيض ما قاله. وهذا إما أن يكون عن تعمّد للكذب، أو عن سوء فهم مقرون بسوء الظن وما تهوى الأنفس، وهذا أشبه الأمرين به، فإن من الناس من يكون عنده نوع من الدين؛ لكن مع جهل عظيم، فهؤلاء يتكلم أحدهم بلا علم؛ فيخطئ، ويخبر عن الأمور بخلاف ما هي عليه خبرا غير مطابق، ومن تكلم في الدين بغير الاجتهاد المسوغ له الكلام وأخطأ فإنه كاذب آثم، كما قال النبي ﷺ في الحديث الذي في السنن عن
_________
(١) انظر حول تسمية (قاضي القضاة) «معجم المناهي اللفظية» للشيخ بكر أبو زيد ص ١٩٥ - ١٩٦.
1 / 16
بريدة عن النبي ﷺ أنه قال: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة؛ رجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة». فهذا الذي يجهل وإن لم يتعمد خلاف الحق فهو في النار، بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي ﷺ: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر». فهذا جعل له أجرا مع خطئه، لأنه اجتهد فاتقى الله ما استطاع، بخلاف من قضى بما ليس له به علم وتكلم بدون الاجتهاد المسوّغ له الكلام؛ فإن هذا كما في الحديث عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» وفي رواية: «بغير علم» «١».
وفي حديث جندب عن النبي ﷺ: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار» «٢».
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالما؛ اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا؛ فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلّوا» «٣» وفي رواية للبخاري: «فأفتوا برأيهم». وهذا بخلاف المجتهد الذي اتقى الله ما استطاع وابتغى طلب العلم بحسب الإمكان، وتكلم ابتغاء وجه الله، وعلم رجحان دليل على دليل، فقال بموجب
_________
(١) أخرجه أحمد (١/ ٢٣٣، ٢٦٩، ٣٢٣، ٣٢٧) والترمذي (٢٩٥٠، ٢٩٥١) والنسائي في «الكبرى» (٥/ ٣١/ ٨٠٨٤ - ٨٠٨٥) وأبو يعلى في «مسنده» (٤/ ٤٥٨/ ٢٥٨٥) والطبراني في «المعجم الكبير» (١٢/ ٢٨/ ١٢٣٩٢) وابن بطة في «الإبانة» (٧٩٩، ٨٠٥).
من طرق: عن عبد الأعلى بن عامر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا.
وقال الهيثمي في «المجمع» (١/ ١٦٣): «رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير .. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح»!! وصحّحه الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٧/ ٦٤٣/ ٣٣٤٨) - قرطبة-.
لكن الإسناد ضعيف؛ فيه عبد الأعلى بن عامر، ضعّفه أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وابن معين وغيرهم. انظر «تهذيب التهذيب» (٢/ ٤٦٤).
والحديث ضعّفه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه على «المسند» (٢٠٦٩) والعلامة الألباني في «المشكاة» (٢٣٤).
(٢) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (٨٠) وأبو داود (٣٦٥٢) والترمذي (٢٩٥٢) والنسائي في «الكبرى» (٥/ ٣١/ ٨٠٨٦) وأبو يعلى في «مسنده» (٣/ ٩٠/ ١٥٢٠) وفي «المفاريد» (٣٢) والطبراني في «المعجم الكبير» (٢/ ١٦٣/ ١٦٧٢) وابن عدي في «الكامل» (٣/ ١٢٨٨) وابن بطة في «الإبانة» (٧٩٨، ٨٠٦).
من طرق: عن سهيل بن أبي حزم، حدّثنا أبو عمران الجوني، عن جندب بن سمرة مرفوعا.
وقال الترمذي: «وقد تكلّم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم».
قلت: سهيل بن أبي حزم القطعي؛ ضعفه أحمد والبخاري وأبو حاتم وغيرهم.
والحديث ضعّفه الألباني- ﵀ في «المشكاة» (٢٣٥).
(٣) أخرجه البخاري (١٠٠، ٧٠٣٧) ومسلم (٢٦٧٣). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
1 / 17
الراجح، فهذا مطيع لله مأجور أجرين إن أصاب، وإن أخطأ أجرا واحدا. ومن قال:
كل مجتهد مصيب بمعنى أنه مطيع لله فقد صدق، ومن قال: المصيب لا يكون إلا واحدا، وإن الحق لا يكون إلا واحدا ومن لم يعلمه فقد أخطأ، بمعنى أنه لم يعلم الحق في نفس الأمر فقد صدق، كما بسط هذا في مواضع.
[التحذير من الكلام في دين الله بغير علم]
والمقصود: أن من تكلم بلا علم يسوغ، وقال غير الحق فإنه يسمى كاذبا، فكيف بمن ينقل عن كلام موجود خلاف ما هو فيه مما يعرف كلّ من تدبر الكلام أن هذا نقل باطل؟ فإن مثل هذا كذب ظاهر، والأول على صاحبه إثم الكذب ويطلق عليه الكذب، كما قال النبي ﷺ: «كذب أبو السنابل» «١». وكما قال لما قيل له: إنهم يقولون إن عامرا بطل عمله، قتل نفسه. فقال: «كذب من قال ذلك» «٢».
وكما قال عبادة: «كذب أبو محمد» لما قال الوتر واجب «٣». وقال ابن عباس:
_________
(١) قال العلامة المعلمي- ﵀: «في قصة سبيعة الأسلمية لما مات زوجها، فوضعت حملها وتهيأت للخاطبين، فأنكر عليها أبو السنابل، وقال: حتى تعتدّي أربعة أشهر وعشرا. فسألت النبي ﷺ فقال: «كذب أبو السنابل» والقصة في الصحيحين وغيرهما. وأبو السنابل هو: ابن بعك، اسمه حبة أو عمرو، وقيل غير ذلك: اه. من «الإصابة في معرفة الصحابة» بترجمة أبي السنابل.
قلت: والقصة أخرجها البخاري برقم (٥٣١٨) ومسلم برقم (١٤٨٤) وأحمد (١/ ٤٤٧) واللفظ له.
(٢) أخرجه أحمد ضمن قصة طويلة (٤/ ٥١ - ٥٢).
(٣) أخرجه مالك في «الموطأ» (١/ ٧٨/ ١٤) وأحمد (٥/ ٣١٥ - ٣١٦، ٣١٩ - ٣٢٢) وأبو داود (١٤٢٠) والنسائي (١/ ٢٣٠) وابن ماجه (١٤٠١) وابن حبان (٥/ ٢١/ ١٧٣١ و٦/ ١٧٤/ ٢٤١٧) والحميدي في «مسنده» ١/ ١٩١/ ٣٨٨) والدارمي في «سننه» (١/ ٤٤٦ - ٤٤٧/ ١٥٧٧) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢/ ٢٩٦) وابن أبي عاصم في «السنة» (٩٦٧) وعبد الرزاق في «مصنفه» (٣/ ٥/ ٤٥٧٥) والبيهقي في «سننه» (١/ ٤٦١ و٢/ ٤٦٧).
من طرق: عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن رفيع- أو أبي رفيع- المخدجي أنه قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت، فقال: يا أبا الوليد، إني سمعت أبا محمد الأنصاري يقول:
الوتر واجب. فقال عبادة: كذب أبو محمد؛ سمعت رسول الله ﵌ يقول:
«خمس صلوات كتبهن الله على عباده .. الحديث».
وهذا إسناد ضعيف؛ أبو رافع المخدجي مجهول، لم يوثقه غير ابن حبان.
لكنه توبع؛ تابعه عبد الله بن الصنابحي عند أحمد (٥/ ٢١٧) وأبي داود (٤٢٥) والبيهقي (٢/ ٢١٥).
من طريق: محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله الصنابحي، عن عبادة به.
ولكن وقع عند البيهقي: عن أبي عبد الله الصنابحي.
وهو الصواب، وأبو عبد الله الصنابحي هو: عبد الرحمن بن عسيلة المرادي. وانظر: «تهذيب التهذيب» (٢/ ٤٦٢ - ٤٦٣، ٥٣٣) وتحقيق العلامة أحمد شاكر على «الرسالة» للشافعي ص ٢١٧ وما بعدها.
وتابعه أيضا: أبو إدريس الخولاني عند الطيالسي (٥٧٣).
فالحديث صحيح بهاتين المتابعتين. وقد صححه الشيخ الألباني في «ظلال الجنة» (٩٦٧).
1 / 18
«كذب نوف» لما قال: إن موسى صاحب بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر «١»، ومثل هذا كثير.
فإذا كان هذا الخبر الذي ليس بمطابق يسمّى كذبا فما هو كذب ظاهر أولى، ومثل هذا إذا حكم بين الناس بالجهل فهو أحد القضاة الثلاثة الذين قال فيهم النبي ﷺ: «القضاة ثلاثة؛ قاضيان في النار وقاض في الجنة؛ رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار». وإن قيل فيه: قد يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له، فحكمه الذي أخطأ فيه وخالف فيه النص والإجماع باطل باتفاق العلماء، وكذلك حكم من شاركه في ذلك.
وكلام هذا وأمثاله يدلّ على أنهم بعيدون عن معرفة الصواب في هذا الباب، كأنهم غرباء عن دين الإسلام في مثل هذه المسائل لم يتدبّروا القرآن ولا عرفوا السنن ولا آثار الصحابة ولا التابعين ولا كلام أئمة المسلمين، وفي مثل هؤلاء قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» «٢». فشريعة الإسلام في هذا الباب غريبة عند هؤلاء لا يعرفونها، فإن هذا وأمثاله لو كان عندهم علم بنوع من أنواع الأدلة الشرعية في هذا الباب لوزعهم ذلك عما وقعوا فيه من الضلال والابتداع ومخالفة دين المرسلين، والخروج عما عليه جميع أئمة الدين، مع ما فيه من الافتراء على الله ورسوله ﷺ وعلى علماء المسلمين وعلى المجيب.
والاستدلال على ما ذكروه بما لا يصلح أن يكون دليلا؛ إما حديث صحيح لا يدل على المطلوب وإما خبر معتل مكذوب، والمستدلّ بالحديث عليه أن يبين صحته ويبين دلالته على مطلوبه. وهذا المعترض لم يجمع في حديث واحد بين هذا وهذا، بل إن ذكر حديثا صحيحا لم يكن دالا على محل النزاع، وإن أشار إلى ما يدل؛ لم يكن ثابتا عند أهل العلم بالحديث الذين يعتد بهم في الإجماع والنزاع.
فأما ما فيه من الافتراء والكذب على المجيب فليس المقصود الجواب عنه وله أسوة أمثاله من أهل الإفك والزور، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [النور: ١١]. بل المقصود الانتصار لله ولكتابه ولرسوله ولدينه، وبيان جهل الجاهل الذي يتكلم في الدين بالباطل وبغير علم. فأذكر ما يتعلق بالمسألة وبالجواب. وليس المقصود أيضا العدوان
_________
(١) انظر «صحيح البخاري» (٤٧٢٥).
(٢) الحديث مروي عن جمع من الصحابة، منهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وأبو هريرة، وسهل بن سعد الساعدي، وعمرو بن عوف، وجابر بن عبد الله، وغيرهم.
وهو عند مسلم (١٤٦) من حديث عبد الله بن عمر ﵁.
1 / 19
على أحد لا المعترض ولا غيره، ولا بخس حقه، ولا تخصيصه بما لا يختص به، بما يشركه فيه غيره، بل المقصود الكلام بموجب العلم والعدل والدين، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: ٨]. وليس أيضا المقصود ذم شخص معين، بل المقصود بيان ما يذمّ وينهى عنه ويحذر عنه من الخطأ والضلال في هذا الباب، كما كان النبي ﷺ يقول: «ما بال رجال يقولون أو يفعلون كذا» «١». فيذم ذلك الفعل ويحذر عن ذلك النوع، وليس مقصوده إيذاء شخص معيّن. ولكن لما كان هذا صنّف مصنفا وأظهره وشهره؛ لم يكن بد من حكاية ألفاظه والردّ عليه وعلى من هو مثله ممن ينتسب إلى علم ودين، ويتكلم في هذه المسألة بما يناقض دين المسلمين، حيث يجعل ما بعث الله به رسوله كفرا، وهذا رأس هؤلاء المبدّلين، فالرد عليه ردّ عليهم.
_________
(١) أخرجه أبو داود (٤٧٨٨) والبيهقي في «دلائل النبوة» (١/ ٢٣٧). وهو حديث صحيح، انظر «السلسلة الصحيحة» (٢٠٦٤).
1 / 20
فصل [بداية الرد على المعترض]
قال المعترض: «أما بعد؛ فإن العبد لما وقف على الكلام المنسوب لابن تيمية المنقول عنه من نسخة فتياه ظهر لي- من صريح ذلك القول وفحواه- مقصده السيئ ومغزاه، وهو تحريم زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور والسفر إليها ودعواه أن ذلك معصية محرمة مجمع عليها».
فيقال: هذا الكلام مع قلته فيه من الكذب الباطل، والافتراء ما يلحق صاحبه بالكذّابين المردودي الشهادة، أو الجهال البالغين في نقص الفهم والبلادة. وكان ينبغي له أن يحكي لفظ المجيب بعينه ويبين ما فيه من الفساد، وإن ذكر معناه فيسلك طريق الهدى والسداد. فأما أن يذكر عنه ما ليس فيه ولا يذكر ما فيه فهذا خروج عن الصدق والعدل إلى الكذب والظلم. وذلك أن الجواب ليس فيه تحريم زيارة القبور البتة، لا قبور الأنبياء والصالحين ولا غيرهم، ولا كان السؤال عن هذا، وإنما فيه الجواب عن السفر إلى القبور، وذكر قوليّ العلماء في ذلك.
والمجيب قد عرفت كتبه، وفتاويه مشحونة باستحباب زيارة القبور، وفي جميع مناسكه، يذكر استحباب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد، ويذكر زيارة قبر النبيّ ﷺ إذا دخل مسجده، والأدب في ذلك، وما قاله العلماء، وفي نفس الجواب قد ذكر ذلك ولم يذكر قط أن زيارة القبور معصية، ولا حكاه عن أحد، بل كان يعتقد حين كتب هذا الجواب؛ أن زيارة القبور مستحبّة بالإجماع، ثم رأى بعد ذلك فيها نزاعا وهو نزاع مرجوح، والصحيح أنها مستحبة، وهو في هذا الجواب إنما ذكر القولين في السفر إلى القبور، وذكر أحد القولين أن ذلك معصية، ولم يقل إن هذا معصية محرمة مجمع عليها، لكن قال: إذا كان السفر إليها ليس للعلماء فيه إلا قولان: قول من يقول إنه معصية، وقول من يقول إنه ليس بمحرّم؛ بل لا فضيلة فيه وليس بمستحب، فإذن من اعتقد أن السفر لزيارة قبورهم أنه قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده أن ذلك طاعة كان ذلك محرما بالإجماع. فهذا الإجماع حكاه لأن علماء المسلمين الذين رأينا أقوالهم اختلفوا في قوله: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام،
1 / 21
ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» «١». هل هو تحريم لذلك أو نفي لفضيلته على قولين، وعامة المتقدمين على الأول مع اتفاقهم على أن هذا يتناول السفر إلى القبور.
فإن الصحابة والتابعين والأئمة لم يعرف عنهم نزاع في أن السفر إلى القبور وآثار الأنبياء داخل في النهي، كالسفر إلى الطور الذي كلّم الله عليه موسى وغيره، وإن كان الله سمّاه الوادي المقدّس وسمّاه البقعة المباركة ونحو ذلك، فلم يعرف عن الصحابة نزاع أن هذا وأمثاله داخل في نهي النبيّ ﷺ عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، كما لم يعرف عنهم نزاع أن ذلك منهيّ عنه، وأن قوله: «لا تشدّ الرحال» نهي بصيغة الخبر، كما قد جاء في الصحيح بصيغة النهي، من حديث أبي سعيد الخدريّ عن النبي ﷺ قال: «لا تشدّوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» «٢». فالصحابة ومن تبعهم لم يعرف عنهم نزاع أن هذا نهي منه، فإن لفظه ﷺ صريح في النهي، ولم يعرف عنهم نزاع أن النهي متناول للسفر إلى البقاع المعظمة غير المساجد، سواء كان النهي عنها بطريق فحوى الخطاب، وأنه إذا نهى عن السفر إلى مسجد غير الثلاثة؛ فالنهي عن السفر إلى ما ليس بمسجد أولى، أو كان بطريق شمول اللفظ، فالصحابة الذين رووا هذا الحديث بينوا عمومه لغير المساجد، كما في الموطأ والمسند والسنن عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة:
من أين أقبلت؟ قال: من الطّور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت.
سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا تعمل المطيّ إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيليا»، أو قال: «بيت المقدس» «٣». وقال أبو زيد عمر بن شبّة النميري «٤»، في كتاب «أخبار المدينة النبوية» «٥»: حدّثنا هشام بن عبد الملك، حدّثنا عبد الحميد بن بهرام، حدّثنا شهر بن حوشب، سمعت أبا سعيد
_________
(١) حديث صحيح متواتر، مروي عن جمع من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم.
وانظر تخريج الحديث في «إرواء الغليل» (٧٧٣).
(٢) أخرجه البخاري (١١٨٨، ١١٩٧، ١٨٦٤، ١٩٩٥) ومسلم (٨٢٧) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٣) أخرجه مالك في «الموطأ» ٥ - كتاب الجمعة. (٧) باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة (١/ ٦٨/ ١٦) وأحمد (٦/ ٧) والنسائي (٣/ ١١٤) بإسناد صحيح.
(٤) هو: عمر بن شبّة بن زيد النميري البصري، نزيل بغداد، ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة، وتوفي سنة اثنتين وستين ومائتين.
كان من رواة التاريخ والحفاظ للحديث. انظر «تاريخ بغداد» (١١/ ٢٠٨) و«سير أعلام النبلاء» (١٢/ ٣٦٩).
(٥) هذا هو الصواب في اسم الكتاب، لا كما جاء على لوحة الكتاب المطبوع «تاريخ المدينة» وقد حقّق هذا الشيخ بكر أبو زيد في «طبقات النسابين» ص ٦٦. والشيخ مشهور بن حسن آل سلمان في «كتب حذر منها العلماء» (١/ ٥٧).
1 / 22
الخدريّ؛ وذكر عنده الصلاة في الطول فقال: قال رسول الله ﷺ: «لا ينبغي للمطيّ أن تشدّ رحالها إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا» «١». فهذا فيه أنه رواه بلفظ مسجد، وبيّن أن النهي متناول للطور وإن لم يكن مسجدا بطريق الأولى، فإن الذين يقصدون الطور ومثله لا يقصدونه لأنه مسجد، بل ولم يكن هناك قرية يتخذ المسلمون فيها مسجدا، وبناء المسجد حيث لا يصلّى فيه بدعة، وإنما يقصدونه لشرف البقعة، فعلم أن النهي عن المساجد نهي عن غيرها بطريق الأولى. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «أحبّ البقاع إلى الله المساجد» «٢». فإذا كان قد حرم السفر إلى أحبّ البقاع إلى الله، غير الثلاثة؛ فما دونها في الفضيلة أولى أن ينهى عنه كما قال الصحابة، ومنهم أيضا ابن عمر.
قال أبو زيد: حدّثنا ابن أبي الوزير، حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طلق، عن قزعة قال: أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور. فقال: «إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور فلا تأته».
لكن طائفة من المتأخرين قالوا: ليس هذا نهيا بل هو نفي لاستحباب السفر إلى غير الثلاثة ونفي لوجوب السفر بالنذر إلى غير الثلاثة. وهؤلاء يقولون: إن الحديث عام في السفر إلى قبور الأنبياء وآثارهم وغير ذلك.
وقال ابن حزم الظاهري: السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة حرام. وأما السفر إلى آثار الأنبياء فذلك مستحبّ، ولأنه ظاهريّ لا يقول بفحوى الخطاب وهو إحدى الروايتين عن داود الظاهري؛ فلا يقول إن قوله: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ [الإسراء: ٢٣] يدل على النهي عن الضرب والشتم، ولا أن قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: ٣١]. يدل على تحريم القتل مع الغنى واليسار، وأمثال ذلك مما يخالفه فيه عامة علماء المسلمين، ويقطعون بخطإ من قال مثل ذلك، فينسبونه إلى عدم الفهم ونقص العقل، ومع هذا فلم أجده ذكر ذلك إلا في آثار الأنبياء لا في القبور.
وأما السفر إلى مجرد زيارة القبور؛ فما رأيت أحدا من علماء المسلمين قال إنه مستحب، وإنما تنازعوا هل هو منهي عنه أو مباح، وهذا الإجماع والنزاع لم يتناول المعنى الذي أراده العلماء بقولهم: يستحبّ زيارة قبر النبي ﷺ، ولا إطلاق القول بأنه
_________
(١) الحديث أخرجه أحمد (٣/ ٦٤، ٩٣) من طريق: عبد الحميد بن بهرام الحماني، حدّثني شهر بن حوشب، قال: سمعت أبا سعيد الخدري .. وذكره.
وإسناده ضعيف، عبد الحميد الحماني وشهر بن حوشب فيهما كلام. لكن الحديث له شواهد يصحّ بها، انظرها في «إرواء الغليل» (٧٧٣).
(٢) أخرجه مسلم (٦٧١) من حديث أبي هريرة ﵁ بلفظ: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها».
1 / 23
يستحب السفر لزيارة قبره كما هو موجود في كلام كثير منهم، فإنهم يذكرون الحج ويقولون يستحب للحاج أن يزور قبر النبي ﷺ.
ومعلوم أن هذا إنما يمكن مع السفر، لم يريدوا بذلك زيارة القريب، بل أرادوا زيارة البعيد، فعلم أنهم قالوا يستحب السفر إلى زيارة قبره؛ لكن مرادهم بذلك هو السفر إلى مسجده، إذ كان المصلون والزوار لا يصلون إلا إلى مسجده لا يصل أحد إلى قبره ولا يدخل إلى حجرته.
ولكن قد يقال: هذا في الحقيقة ليس زيارة لقبره، ولهذا كره من كره من العلماء أن يقال زرت قبره، ومنهم من لم يكرهه. والطائفتان متّفقون على أنه لا يزار قبره كما تزار القبور بل إنما يدخل إلى مسجده. وأيضا فالنية في السفر إلى مسجده وزيارة قبره مختلفة. فمن قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه فهذا مشروع بالنص والإجماع، وإن كان لم يقصد إلا القبر، لم يقصد المسجد فهذا مورد النزاع، فمالك والأكثرون يحرمون هذا السفر، وكثير من الذين يحرمونه لا يجوّزون قصر الصلاة فيه. وآخرون يجعلونه سفرا جائزا وإن كان غير مستحب ولا واجب بالنذر.
وأما من كان قصده السفر إلى مسجده وقبره معا فهذا قد قصد مستحبا مشروعا بالإجماع، وهذا لم يكن في الجواب تعرض لهذا والجواب في السؤال كان عمن سافر لا يقصد إلا زيارة القبور لا يقصد سفرا شرعيا كالسفر إلى مكة وإلى مسجد النبيّ ﷺ والمسجد الأقصى. ولم يكن السؤال ولا الجواب عمّن سافر إلى مسجد النبي ﷺ، وإن قصد مع ذلك السفر إلى قبره، فإن هذا لم تجمع العلماء على أنه سفر غير مستحب، بل أصحاب أحمد لهم في- المسافر إلى القبور هل يقصر الصلاة- أربعة أوجه: قيل: يقصر مطلقا، وقيل: لا يقصر مطلقا، وقيل: لا يقصر إلا إلى قبر نبينا ﷺ، وقيل: إلى قبور الأنبياء مطلقا.
فهذان الوجهان من لم يعرفهما تخبّط في هذه المسائل، فيعرف العمل الممكن المشروع والقصد في ذلك ليظهر له الفرق بين الرسول وبين غيره من جهة الفعل والقصد، فإن السفر المسمى زيارة له إنما هو سفر إلى مسجده.
وقد ثبت بالنص والإجماع أن المسافر ينبغي له أن يقصد السفر إلى مسجده والصلاة فيه، وعلى هذا قد يقال: نهيه عن شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة لا يتناول شدها إلى قبره، فإن ذلك غير ممكن، فلم يبق إلا شدها إلى مسجده، وذلك مشروع بخلاف غيره، فإنه يمكن زيارته فيمكن شد الرحل إليه، لكن يبقى قصد المسافر ونيته ومسمى الزيارة في لغته، هل قصده مجرد القبر أو المسجد أو كلاهما؟
كما قال مالك لمن سأله عمن نذر أن يأتي إلى قبر النبي ﷺ؟ فقال: إن كان أراد مسجد النبي ﷺ فليأته وليصلّ فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء:
1 / 24