صلى الله عليه وسلم
دفعة واحدة وكتلة متماسكة كألواح موسى، إنما تواتر مفرقا عبر ثلاث وعشرين سنة، هي عمر الوحي، أي أنه استغرق من التاريخ زمنا يتجادل مع أحداث الواقع ومستجداته ويتفاعل معها ويجيب على ما تطرحه من إشكاليات دائمة التغير، وخلال ذلك نسخت آيات آيات أخرى، ونسيت آيات، ورفعت آيات، وهو ما يعني أن للوحي عمرا هو جزء من التاريخ، وهو ما يعني تاريخية النص القرآني التي لا يجادل فيها إلا مكابر أو صاحب مصلحة، وكانت هذه التاريخية واضحة تماما في أذهان المسلمين الأوائل.
وفهم تاريخية النص الديني، وربط الآيات بأسبابها، لا شك يوقف الاستخدام النفعي والانتهازي والمصلحي والارتزاقي للدين ، فحيث إن عملية جمع القرآن زمن الخليفة عثمان، قد جمعت الناسخ إلى جوار المنسوخ، فقد دفع ذلك أكثر الصحابة علما وفقها إلى التنبيه على تلك التاريخية طوال الوقت، وهو ما يمثله قول علي بن أبي طالب لأحد القضاة وهو يحكم بين الناس: «هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟» فقال: لا. فقال علي: «إذن فقد هلكت وأهلكت.»
وفي عصور التخلف، واستخدام الدين لخدمة توجهات أصحاب السلطان، تم وضع قاعدة فقهية تقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام الاستخدام الانتهازي الصريح لنصوص الدين. ومن أمثلة ذلك الاستخدامات القريبة ما مر في تاريخنا المعاصر، من تبرير رجال الدين لتوجهات الحكومات على تناقضها التام، فعندما كنا نحارب إسرائيل وجدنا آيات لا حصر لها تؤيد تلك الحرب وتدعو إليها، وعندما قررنا عقد السلم معها وجدنا آيات أخرى تدعو إلى السلم وتطالبنا بالجنوح إليه، وعندما اعتمدنا المنهج الاشتراكي في الزمن الناصري، اكتشفوا لنا أن رائد الاشتراكيين وإمامهم هو النبي
صلى الله عليه وسلم ، وعندما قررنا الأخذ بنظام الاقتصاد الحر قدموا لنا كشفا على النقيض تماما، يجعل الناس درجات وطبقات.
وهكذا وجد القائمون على شئون الدين بناء على تلك القاعدة الفقهية، مكاسب دائمة، تبرر للسلاطين عبر العصور آراءهم واتجاهاتهم بل ونزواتهم، بالدين ونصوصه تأسيسا على إنكار تاريخية الوحي والقول بثباته الأزلي في لوح محفوظ، للعمل بالناسخ وقت الحاجة ، وللعمل بالمنسوخ عند تغير الحاجة، حسب التوجهات المطلوبة والانتهازية.
والقول بأزلية النص إنما يجافي العقل والمنطق والنص نفسه، حيث يحوي النص أحداثا وقعت إبان حياة الرسول لا يمكن فهمها إلا في ضوء تاريخية النص، ولا يمكن فهم الآيات المتعلقة بها إلا بربطها بتلك الأحداث الحادثة وليست الأزلية أو القديمة، وهي تتعدد بتعدد آيات القرآن الكريم ذاته، وإلا كيف نفهم نصا أزليا قديما يحدثنا عن واقعة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش ليحل إشكاليتها؟! أو كيف نفهم، في ظل الأزلية، النص الذي يحدثنا عن أولئك الذين نادوا النبي من وراء الحجرات، أو كيف نفهم سماع الله لتلك المرأة التي جاءت إلى النبي تجادله ... إلخ، والنماذج أكثر من أن تحصى.
من هنا وتأسيسا على كل ذلك جاءت أعمال كوكبة المفكرين المحدثين في مصر، لوقف إهدار الوطن وكرامة المواطن طوال الوقت بهذا الاستخدام النفعي للدين، وحتى لا نظل على حافة التناقض دوما، وعلى رأس تلك الأعمال كانت كتابات نصر أبو زيد الرائدة، التي أقضت مضجع هؤلاء المنتفعين، ودفعتهم إلى تلك الحملة المسعورة، ضمن تكتيكهم الجديد المرحلي.
وغير خاف على أي مدقق، أن استمرار التعامل مع النصوص باعتبارها كتلة واحدة غير مرتبطة بأحداث ومتغيرات واقع الزمن النبوي، مع تعليقها في فضاء لا يرتبط بواقع تلك الأحداث؛ أدى إلى تناقض شديد إلى درجة «الشيزوفرينيا» في فكر الإنسان المسلم، كناتج ضروري للتضارب بين الناسخ والمنسوخ، والإيمان بالعمل بأحكام كليهما. وأبرز مثال عليه ذلك التضارب بين آيات الصفح والصبر الجميل، وبين آية السيف التي أجمع الفقهاء على نسخها لآيات الصفح، وهو تناقض شكلي بالطبع وليس موضوعيا؛ لأن لكل منهما كانت ظروف واقعية تلتحم به وتبرره، وبالتالي، وعملا بقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، انطبع سلوكنا بالنفعية والانتهازية، حيث يمكنك أن تجد مبررا دينيا دائما لما تريد، وبحيث أصبحت الآيات القرآنية والأحاديث حججا دائمة حتى في خصوماتنا الشخصية أو تعاملاتنا المجتمعية أو الاقتصادية، وكل منا على طرفي الخصومة يجد فيها مؤيدا له.
ومن ثم تناقضنا مع أنفسنا ، ومع تاريخنا، ومع الآخر، ومع العالم، ومع مفهومنا عن الوطن، بل عن الدين ذاته، فلم نستطع طوال ذلك التاريخ أن نضع رؤية واضحة متسقة لأنفسنا أمام أنفسنا أو أمام العالم، وهو ما ترك بصمته الواضحة لدى الأحزاب الدينية، التي لم تتمكن حتى الآن من وضع برنامج واضح المعالم لها.
Bog aan la aqoon