هنا بالطبع مع اعتبار أن أي نقلة تطورية على سلم التراث، كان لا بد أن تسبقها نقلة على الدرجة الأدنى، ويستحيل دونها الوصول إلى الدرجة الأعلى، وهو ما ينطبق بدوره على علاقة المأثور الإسلامي بالتراث السابق للمنطقة بكاملها.
وبمعنى آخر؛ إن أي تطور ثقافي ما كان ممكنا حدوثه إلا على أسس وأعمدة من ثقافة سابقة، فقط ما يجب أخذه بالاعتبار هو: أن التطور عندما يأتي رأسيا صاعدا على عمد تراث قديم، فإنه يقوم إبان ذلك بتوسع أفقي يفجر فيه، مع كل نقلة، الأسوار والتحديدات القديمة، من أفكار ومعتقدات لم تعد مناسبة لاحتواء الظرف التطوري الجديد، ولم تعد صالحة كوعاء مناسب للتراكم المعرفي المتزايد، ولم تعد صالحة لمعالجة إشكاليات مستجدة لم تكن معروفة من قبل، ويفرضها التطور الدائم للأشكال الاقتصادية والتنظيمات الاجتماعية، وهو ما ينطبق على علاقة المأثور الإسلامي بما سبقه، كما يجب أن ينطبق تماما على ظرف اليوم وعلاقته بمأثور مضى عليه ما يزيد عن أربعة عشر قرنا من الزمان.
ومن ثم فإن القناعة السائدة بانقطاع شعوب المنطقة عن ماضيها القديم هي قناعة إيمانية، أكثر منها حقيقة واقعة؛ لأن التراث حسبما أسلفنا لا يمكن أن يكون حكرا على ثقافة بعينها، ولا يمكن أن يكون ذا مبتدأ «زمكاني» محدد. وإن ما جاء بمأثورنا الإسلامي عن تراث سابق، لم يأت غريبا من الماضي ليتسلل إلى المأثور الإسلامي زمن التدوين، وفي الوقت ذاته فإن المأثور الإسلامي ذاته ليس وافدا من خارج الزمن والمكان، بل كان هو الامتداد الموضوعي للزمن والمكان، وبهذا الطرح يمكن تحقيق معرفة بالتراث تصحح الوعي به، وتزيل عن فهمه أي التباس، وهو الأمر الذي سيسحب عددا من التصويبات تلحق بمفاهيم لم تزل رجراجة حول «الوطن، الأمة، الهوية، القومية ... إلخ».
وعليه فلا مناص من تحديد مفهوم الثقافة والتراث، باعتبارها ناتج تراكم كمي وكيفي لخبرات طويلة تعود إلى عمق ما قبل بداية التاريخ، مع ارتباط الإنسان بهذه الأرض واستقراره فيها، وأن هذا التراث ناتج تفاعل جدلي داخل تلك المجتمعات منذ بداياتها الأولى، وبينه وبين بيئته الطبيعية، وبينه وبين المجتمعات الأخرى والثقافات الأخرى المتباينة، عبر خلالها نقلات على سلم التطور الزمني والمجتمعي والاقتصادي، وشكل في النهاية منظومة فكرية كبرى، يشكل المأثور الإسلامي فيها إحدى الحلقات الكبرى.
«النص» بين الأزلية والتاريخية1
عنوان هذا الموضوع، يلخص - في رأينا - سر الأزمة التي آثارها الشيخ «عبد الصبور شاهين» إزاء أعمال المفكر «نصر أبو زيد». حيث انطلق الشيخ «شاهين» من موقف مألوف، يصر على فكرة الشخصية الثقافية الثابتة المتماهية مع النص الإلهي، بحيث يظل ثبات المفهوم القدسي، ضامنا لثبات المواقع السيادية لرجال المنظومة الدينية، بمعنى ثبات النص كوحدة كتلية واحدة من الأزل. وأن هذا الثبات الكتلي غير المتغير قد جاء - كما هو معلوم - نتيجة انتهاء جدل فلسفي قديم حول قدم النص أو حداثته، بانتصار سياسي سيادي لأصحاب فكرة الأزلية والقدم والثبات، بتحالف أسس لأصحاب تلك الرؤية مواطئ قدم ثابتة دائمة في المنظومة السيادية، التي يجب أن تقوم دوما على الثبات الشروع قدسيا. وبعدها أصبحت أي محاولة للمناقشة لونا من الكفران المبين! مع الأمر غير الخفي الذي يبين في تماهي وتماسك المنظومة السيادية التحالفي مع مؤسستها الدينية، وبالتالي مع صاحب النص الذي يمثلونه على الأرض، كمعبرين دائمين عن ثبات كلمته، وثبات العروش القائمة في الآن ذاته.
ومن ثم كانت أية محاولة لنبش ذلك المفهوم السائد الثابت، حول الثبات الكتلي المتوحد للنص مع ذاته ومع صاحبه ومع الأزل، والذي يؤكد أن النص كان في الأزل كتلة واحدة متماسكة سماوية مفارقة للأرضي وأحداث الواقع، تعني هز الأسس السيادية التي تقوم عليها تلك المنظومة، وهو ما كان يوجب بالطبع ردا عنيفا حديا بين قراري الإيمان والكفر، وهو الرد الطبيعي غير المدهش إطلاقا، وهو الرد نفسه الذي يضرب في عمق الماضي، الذي استخدمته الطبقات السائدة دوما عبر وسطائها المحترفين من رجال الدين، كما استخدمته منظومة رجال الدين ذاتها، لتأمين مصالحها الخاصة، بإبقاء النص معلقا في الفضاء غير مرتبط بأي واقعة تاريخية كانت سببا له، لأمر مفهوم تماما استمر عبر أربعة عشر قرنا مضت، رزح فيها المسلمون تحت كافة أنواع القهر الطبقي والطغيان السلطوي. الذي عادة ما كانت تتغير مظاهره وتتفاوت بتفاوت أحوال المكان والزمان، وعادة أيضا ما كان يجد ذلك القهر المتفاوت سنده في النص الذي يفلسفه رجال الدين، بسحب أي آية قرآنية في سياقها النصي، وبتر صلتها بسابقها ولاحقها، وهم بذلك يسمحون لأنفسهم وحدهم بفض ذلك التماسك الكتلي الذي يدافعون عنه، وفي الوقت ذاته يقطعون علاقة الآية المطلوبة بواقع الحال الذي سبقت بشأنه في أوانها.
استخدام نفعي
وهكذا يظل النص دوما رهن الاستخدام النفعي، لتبرير مواقف قد تصل إلى حد التناقض التام مع بعضها، وبالتالي التناقض التام في الآيات المعبرة عن تلك المواقف المتناقضة والمبررة لها، ولا تحتاج إلى جهد كبير لكشف ما وراءها من مصالح ومواقف هي ضد إنسانية المواطن وكرامته.
وقد كان ذلك الاستخدام الانتهازي الدائم للنص الديني مصدرا لعدد من الانتكاسات الفادحة، حتى وصل الأمر أحيانا إلى استخدام النص لتبرير أهواء ونزوات للحاكمين، هي ضد الوطن وضد المواطن وضد الدين ذاته.
Bog aan la aqoon