وكم كان بإمكان السيد شاهين أن يتلافى كل ما حدث في المحاكم، لو طلع على المشاهدين بتقرير واضح يقول: «هذه قصة يوسف بن يعقوب، أحد الآباء الإسرائيليين الأوائل وعلاقته بمصر، كما جاءت بالتوراة.» ولا علاقة للفيلم بقصة يوسف النبي التي وردت بالقرآن الكريم، لكن المخرج ورط نفسه، إن كان قاصدا الإثارة التي حدثت أم غير قاصد، بوضعه لافتة إعلانية في مقدمة فيلمه باللغة العربية تؤكد أنه لا علاقة للفيلم بالنبي يوسف، وتحتها مباشرة لوحة أخرى باللغة الفرنسية تؤكد أن هذه القصة قصة البطرك يوسف!
ويبدو أن المخرج قد أراد أن يوصل للمشاهد أن تلك قصة الأب يوسف، لكن بشكل غير مباشر، ولأن أغلب المشاهدين مسلمون بالضرورة، فقد عمد إلى خلط بعض المفاهيم الإسلامية بالراوية التوراتية، مما أثار عليه المتأسلمين وأوجبوا محاسبته، وهو بسبيل ذلك أوقع نفسه في أكثر من ورطة وأكثر من خطأ حقيقي، فبينما قد اختار الرواية التوراتية، نجده يضع على لسان بطل قصته عبارات تعبر عن مفاهيم وعقائد إسلامية، لا علاقة لها بالمفاهيم التوراتية ولا عقائدها، وذلك مثل قول رام المعبر عن الإيمان بإله واحد أحد هو رب العالمين، وهذه سقطة لا تليق بمخرج يراه البعض أهم مخرجينا، وكان عليه أن يلجأ في ذلك للمتخصصين كي يعلم، فالمعلوم لدارس التوراة بالمنهج العلمي أن التوراة زمن البطاركة الأوائل: إبراهيم وولديه إسماعيل وإسحاق، وولد إسحاق يعقوب، ثم أبناء يعقوب الأسباط الاثني عشر وضمنهم يوسف، تتحدث عن زمان كانت فيه القبيلة العبرية لم ترتق بعد إلى مفهوم التوحيد الإسلامي الذي ساقه شاهين على لسان بطله رام، حيث كان التقديس والعبادة توجه إلى «إلوهيم»؛ أي الآلهة، وهو اسم الجمع للفظ الجلالة السامي المفرد «إيل»؛ أي الإله. ومن هذه الآلهة ما وردت بأسمائها في سفر التكوين التوراتي، مثل: إيل صبأوت، وإيل يراه، وإيل شداي، والإله القدير، وأدوناي، وغيرها، كما تمثل كبار الآلهة لإبراهيم في ثلاثة شخوص، ثم جاء بعد ذلك إله آخر زمن موسى هو الإله «يهوه» الذي لم ينف الآلهة الأخرى، بل أوجب على الإسرائيليين تقديسه وحده دونهم، وكان الخطاب الموسوي في التوراة ليهوه يقول: «من مثلك بين الآلهة يا رب؟»
وربما لم يقصد شاهين تلبيس الرواية التوراتية بمفاهيم إسلامية، إنما التبس عليه الأمر ، مع التطور المتأخر للمفاهيم الدينية اليهودية زمن الأنبياء المتأخرين حزقيال ودانيال وإرميا، حيث بدأ هؤلاء ينحون نحو توحيد يهوه وحده وتنزيهه، فظن شاهين أن الأمر كان كذلك منذ البدء.
ومثال آخر على الالتباسات التي وقع فيها السيد شاهين، قوله على لسان رام بطل الفيلم بما يشي بإيمان يوسف بن يعقوب بعالم آخر تخلد فيه الأرواح، وأن الجسد الذي يعمد المصريون تحنيطه ليس أبدا قيمة في مسألة الخلود، وهنا خلط ما بعده خلط، وخبط ما بعده خبط؛ لأن الإسرائيليين الأوائل منذ فجر تاريخهم وحتى القرون الأولى للميلاد، لم يعتقدوا إطلاقا في خلود للروح في عالم آخر، وأن الشعب الأوحد في ذلك الزمان الذي ابتدع فكرة الخلود من بعد الموت، والبعث والحساب أمام موازين العدالة الإلهية، هو الشعب المصري وحده مطلقا ودون شريك؛ لذلك عمدوا إلى تحنيط الأجساد حتى تجد فيها الروح سماتها المادية عند البعث، فتعود وتتلبس جسدها المحنط استعدادا للحساب الأخروي، وهو ما ركز عليه الفيلم واعتبره حطة في المصريين! وقد مرت تلك الفكرة بأطوار عدة شرحناها في كتابنا «أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة»، ولم يدخل عليها أي تطور بعد نهاية العصور الفرعونية.
ولما جاءت المسيحية وأخذت بعقيدة الخلود، استبدلت فقط رب الخلود المصري «أوزيريس» بيسوع المسيح، ثم جاء الإسلام فأقر عقيدة الخلود، ولم يخرج عن التصور المصري للبعث والحساب، فقال بضرورة عودة الروح لتتلبس بالجسد، وكان الفارق هو أن المصري القديم اهتم بتحنيط الجسد لتجد الروح قسماتها فيه، بينما اعتبر الإسلام أن فناء الجسد ليس مشكلة بعد تطور مفهوم الألوهية إلى إله كلي القدرة، حيث يصبح بإمكانه الكلي أن يحيي تلك العظام الرميم مرة أخرى، وهو اعتقاد سبق تطويره والقول به في الزمن السابق للإسلام بجزيرة العرب، وهو ما تفصح عنه أشعار الجاهليين حول الخلود والحشر.
أما التوراة فلم تقل أبدا ببعث أو حساب ثم خلود زمن البطاركة، زمن يوسف، ولا بعد ذلك بقرون طويلة تصل إلى الألف عام، حتى زمن أنبياء التجديد عند انهيار مملكتهم. وقد ظهر الاعتقاد في عالم آخر آنذاك بتأثير العقائد المصرية والفارسية في فلسطين في العصر الهلليني الروماني، المعروف بعصر الآلام، حيث بحث اليهود عن تعويض وسلوان في عالم آخر، ومن هنا يظهر مدى فساد الحوار في فيلم السيد شاهين.
ورواية جوزيفيوس
وعليه فقد التبست كل تلك المتداخلات على السيد شاهين ، فخلط وخبط خبطا عشوائيا. ليوقع نفسه والآخرين في مأزق كان في غنى عنه لو درس الأمر بشكل أفضل، المهم أنه ساق الأمر كله في ثوب تاريخي أسهمت فيه الكاميرا والديكورات بعامل الإبهار، لنعيش جوا مصريا فرعونيا على مدى زمن الفيلم. هذا بينما التاريخ كعلم لا يعرف في وثائقه المدونة ولا في حفائره الأركيولوجية على الإطلاق، شخصا باسم يوسف، ولا جماعة باسم الأسباط ولا صديقا للإله باسم إبراهيم، ولا نبيا باسم موسى، ولا عظيما باسم داود، ولا حكيما حاز شهرة فلكية ملك على مملكة أسطورية باسم سليمان. فكل تلك الأسماء الإسرائيلية لا يعرفها التاريخ كعلم، فقط حكاها لنا كتاب مقدس باسم التوراة في كتاب العهد القديم، وآمن بها المسيحيون من بعد اليهود عبر كتاب مقدس آخر هو العهد الجديد، ثم علمناها إيمانا عبر الكتاب المقدس الأخير القرآن الكريم.
لكن ذلك لم يفت في أعضاد المؤرخين، خاصة من أرادوا أن يجدوا لبني إسرائيل موطئ قدم في التاريخ، وقد بدأت تلك المحاولات مبكرا على يد المؤرخ اليهودي يوسف بن متى المعروف باسم «جوزيفيوس»، الذي ألقى بتاريخ القبيلة البدوية الإسرائيلية في عمق أعرق تاريخ المنطقة، تاريخ الشعب المصري، وهي الرواية التي ركن إليها السيد شاهين واختارها دون روايات أخرى ومحاولات اجتهادية تاريخية أخرى، حاولت البحث التاريخي وراء المأثور الإسرائيلي، وهو الاختيار الذي يجب أن يتحمل مسئوليته لتتم بموجبه محاكمة ما ساقه، ليس على المستوى الفني وحده، لكن أيضا على المستوى التاريخي.
وحتى نضع بيد القارئ أصول المسألة، نقف وقفة نحيطه معها علما أن «جوزيفيوس» كتب عدة مؤلفات تتعلق بتاريخ الإسرائيليين، منها كتاب باسم «ضد آبيون»، وكان آبيون هذا مؤرخا يكره اليهود كراهية شديدة، ووصفهم بكل ما هو خسيس، وأفاد أنهم دخلوا مصر عبيدا جوعى ثم طردوا منها، بعد أن تفشت بينهم الأوبئة الناشئة عن عدم النظافة والعلاقات الجنسية غير السوية، ولم يتعلموا أي شيء متحضر من المصريين، مما أدى لطردهم خشية تفشي الداء في البلاد.
Bog aan la aqoon