الإهداء
مقدمة الطبعة الثانية
المقدمة
الباب الأول: موجز تاريخ مصر القديمة
1 - مصر القديمة على ذمة التاريخ
2 - استقراء التاريخ
خاتمة ونتائج
الباب الثاني: فلسفة الديانة المصرية
1 - فلسفة الوجود المصرية
2 - عقيدة الخلود المصرية
3 - مشكلة الإله أوزير
خاتمة ونتائج
الباب الثالث: عقيدة الخلود المصرية عبر مراحلها التطورية
1 - الجماهير تغزو عالم الخلود
2 - الردة والاحتواء
3 - تطور عقيدة الخلود المصرية وسيادتها العالمية
النتائج العامة للبحث
النتائج العامة للبحث
المصادر
مصادر ومراجع الدراسة العربية والمترجمة مرتبة حسب أسماء المؤلفين
مصادر ومراجع البحث اللاتينية
الإهداء
مقدمة الطبعة الثانية
المقدمة
الباب الأول: موجز تاريخ مصر القديمة
1 - مصر القديمة على ذمة التاريخ
2 - استقراء التاريخ
خاتمة ونتائج
الباب الثاني: فلسفة الديانة المصرية
1 - فلسفة الوجود المصرية
2 - عقيدة الخلود المصرية
3 - مشكلة الإله أوزير
خاتمة ونتائج
الباب الثالث: عقيدة الخلود المصرية عبر مراحلها التطورية
1 - الجماهير تغزو عالم الخلود
2 - الردة والاحتواء
3 - تطور عقيدة الخلود المصرية وسيادتها العالمية
النتائج العامة للبحث
النتائج العامة للبحث
المصادر
مصادر ومراجع الدراسة العربية والمترجمة مرتبة حسب أسماء المؤلفين
مصادر ومراجع البحث اللاتينية
رب الثورة
رب الثورة
أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة
تأليف
سيد القمني
الإهداء
إلى إيزيس
ابنتي
الأمل الذي أرجوه.
مقدمة الطبعة الثانية
ما يقرب من العشرين عاما انقضت، منذ انتهيت من كتابة هذا العمل كرسالة دكتوراه، وصدرت طبعته الأولى عن دار فكر، وكان رأي مدير الدار حينذاك المرحوم الدكتور طاهر عبد الحكيم أن أقوم بتشذيب الرسالة من مادتها الأكاديمية؛ حتى تصلح لتناول المثقف العادي وليس الأكاديمي، ووافقته حينها على رأيه، وتم نشرها في طبعتها الأولى عام 1988م.
وها أنا ذا أعيد نشر العمل مرة أخرى، لكن في صورته الأصلية؛ من باب التوثيق، حيث سيجد القارئ في هذه الطبعة زيادات الأصل، ودور الفلسفة الرابط بين التاريخ والفكر الديني، الذي كان موضوع الرسالة الأساسي.
ونظرا لأن مقدمة الطبعة الأولى في رأيي فيها كفاية للتعريف بمضمون العمل وخطته؛ فقد رأيت عدم الاستطراد في هذه المقدمة، وترك القارئ أمام العمل مباشرة، مكتفيا بالتنويه السالف.
سيد القمني
المقدمة
1
يمكن التقرير مبدئيا، بأن طبيعة المشكلة موضوع هذا البحث، تجمع بين الفكر العقائدي والفكر الفلسفي، مرتبطين بتطور زمني يجعل التاريخ عنصرا ثالثا وأساسيا في المشكلة إلى جانبهما؛ فهي مشكلة عقائدية؛ لأنها تتناول الإيمان دينيا عند المصري القديم في عالم آخر، يخالف عالمنا هذا في ماهيته ومواصفاته وطبيعته، مخالفة شبه تامة، وهذا الاعتقاد يشكل - بشكل خاص عند المصريين القدماء - الجزء الأكبر من معتقداتهم الدينية، بحيث يستحيل فهم فكرهم السياسي والاجتماعي والديني، وحتى العلمي والعملي، بدون تأسيس هذا كله على عقيدتهم في الخلود.
وهنا تكمن الأهمية الكبرى والقصوى لهذه العقيدة عندهم، حتى أكد البعض أنه لا يمكن فهم أو تصور مصر القديمة بوضوح، دون تصور عالمها الآخر؛ لأن الاعتقاد في هذا العالم قد نفذ إلى كل فكرة وكل سلوك، وصبغ كل شيء مصري قديم بصبغته، وما كان ليحدث تقدم أو تخلف اجتماعي، أو تغيرات سياسية أو اقتصادية، أو فكرية، أو حتى معمارية أو فنية، دون أخذ هذا المعتقد كعامل أول وأساس مشترك، مؤثر ومتأثر بعلاقة جدلية قائمة ومستمرة بينه وبين هذه المتغيرات.
كما أن تصورات المصريين القدماء عن هذا العالم، تعطي انطباعا واضحا عن أسلوب تفكيرهم، وعن أخلاقياتهم ونظمهم الاجتماعية، في تلك العصور السحيقة، بل إنه لولا اهتمام المصريين القدماء بعالمهم الآخر، ما وصل إلينا شيء البتة عن تاريخهم؛ فهم لم يدونوا ما دونوا، ولم يهتموا بتسجيل ما سجلوا؛ إلا بسبب - ومن أجل - أملهم العظيم في الخلود.
ولعل الإصرار على رؤية العقلية المصرية، من خلال المنظار الفلسفي لطبيعة المشكلة، يعود في الأساس إلى طبيعة كل من الفلسفة والدين، وغني عن الذكر أن العلاقة بينهما كانت مسألة المسائل، التي شغلت تفكير كثير من الفلاسفة - أو على الأصح أغلبهم - ويعتبر أشيعهم ذكرا في هذا الميدان، الفيلسوف الألماني «هيجل
Hegel »، وهو من هدفت فلسفته في معظمها «إلى بيان أن الدين ينتهي حتما إلى الفلسفة، وأن الفلسفة تؤدي بالضرورة إلى الدين»،
1
بل والأهم أنه اعتبر الدين فيصلا بين الإنسان والحيوان، ومميزا أول للإنسان عن الجنس الحيواني؛ «لأن الدين قائم على الشعور ، الشعور بالخلود، الشعور بالحرية، والشعور لا يوجد إلا عند الإنسان.»
2
وبذلك كانت فكرة الخلود وظهورها عند المصري القديم - إذا طالعناها بالمنظار الهيجلي - هي بداية الإنسانية لإنسانيتها على الأرض، وبداية التفلسف أيضا، كما أنه إذا كانت «الفلسفة تظهر حينما توجد الحياة السياسية»
3 - في رأيه - فإن الفلسفة بهذا المعنى تكون أيضا قد ظهرت مع بداية أول حكومة منظمة في تاريخ العالم، أي: مع الأسرة الأولى في الدولة الفرعونية القديمة.
أما اعتبار المشكلة مشكلة تاريخية أيضا، فهذا أمر لا يحتاج إلى تفصيل، باعتبار خضوع المسألة بكليتها لظروف تاريخية محددة، أو باعتبار أن عقيدة الخلود - كأي عقيدة أخرى - قد مرت بمراحل تطورية، عبر فترات زمنية، تأثر فيها تطورها بعدة عوامل هي في حقيقتها أحداث تاريخية، لا يمكن فصلها عنها بأي من الأحوال.
وهنا أيضا تظل الطبيعة الفلسفية قائمة؛ لأن العلاقة بين التاريخ والفلسفة قائمة ومتوثقة، ولقد هدفت فلسفات كثير من الفلاسفة مثل «كولنجوود» إلى تأكيد «أن المشكلات الفلسفية التي تواجه الفيلسوف، في حاجة إلى الفهم التاريخي، كما أن أكثر هذه المشكلات تاريخية في صميمها.»
4
وإن الباحث المدقق في فلسفة ابن خلدون، يستطيع أن يكتشف عدة مواضع تبين أنه كان من أوائل الذين اكتشفوا القيمة الفلسفية للتاريخ، وضرورة اعتماد المعرفة بأسرها على الفهم التاريخي.
بل إن الفيلسوف الإنجليزي «فرنسيس بيكون
Francis Bacon » كان يؤكد على أن «الحقيقة هي بنت الزمن»
5 ، كما أن رفيقه في التجريبية الإنجليزية «ديفيد هيوم
David Hume » والذي كان يعد أكثر التجريبيين إنكارا للعلوم القائمة على الاستدلال التأملي العقلي، فإنه مع ذلك كان أكثر الفلاسفة التجريبيين معرفة بمسائل التاريخ، بل إنه رغم تقتيره الشديد في الاعتراف بشرعية كثير من العلوم التأملية، فإنه اعتبر المعلومات التاريخية أكثر شرعية من بقية العلوم.
6
وبناء على ذلك تكون الفلسفة أو الفهم الفلسفي لطبيعة المشكلة هو الفهم السليم؛ باعتبار أن الفلسفة ستصبح الرابط بين الدين والتاريخ، فهي تدخل في صميم كليهما، وهي - إذا أخذنا بالآراء النازعة في اتجاه الدين والتاريخ - تقوم على الدين والتاريخ، وإذا أخذنا بالآراء التي تلزم جانب الفلسفة ، فإن الدين والتاريخ يقومان على أسس فلسفية، فتصبح الفلسفة عنصرا أو عاملا مشتركا، يمكن بواسطتها إمساك الموضوع من جميع أطرافه بشمولية، تصب نتائجها جميعا في قوالب من الفهم الفلسفي لها، فلا تصبح الدراسة مجرد سرد تاريخي، ولا مجرد عرض لمفاهيم عقائدية، وإنما تصبح علاقة تأثير وتأثر بين الجوانب الثلاثة، أدى لبزوغ أفكار كانت دون مبالغة، أول بوادر التفلسف في تاريخ الإنسانية.
2
وهنا يعن السؤال الأهم حول هذه الدراسة، وهو:
لماذا البحث في عقيدة الخلود بالذات؟
يقول الكاتب الإسباني «ميجل دي أونامونو
Migel De Unamuno »: «كنت أتحدث إلى فلاح ذات يوم، واقترحت عليه وجود إله يحكم في الأرض وفي السماء، كما افترضت عليه أيضا عدم وجود عالم آخر، وأنه لن يكون بعث ولا نشور بالمعنى التقليدي المعروف، فأجابني الفلاح قائلا: وما فائدة وجود الله إذا؟!»
7
وتوضح هذه الفقرة معاني عقائدية، لا تقتصر على المستوى البسيط لهذا الفلاح، بل تتجاوزه إلى أكبر العقول ثقافة، وإلى عمق الجذور التي تقوم عليها عقائد كثيرة، ولعل أهم هذه المعاني:
الارتباط المتكامل بين العقيدتين الإلهية والأخروية، ارتباطا يصعب فصمه، مما يجعل البحث في إحداهما مستقلا عن الأخرى في ديانة ما، مسألة شائكة ومعقدة وصعبة إلى حد كبير.
إن الأولوية لدى العقائديين، لا زالت للعالم الآخر؛ لأنه يحمل معنى الخلود، وبقياس منطقي بسيط يمكن القول: إنه لو لم يكن هناك خلود لمات الله. ولربما كان «لوثر» يقصد هذا عندما قال: إذا لم تعتقد في اليوم الآخر، ما ساوى إلهك عندي شيئا.
8
وهذا هو السبب الأول لاختيار عقيدة الخلود؛ لمعالجتها في هذا البحث.
كما أن العالم الآخر عالم غيبي، لا دليل عليه سوى ما ورد عنه في بعض السطور في بعض الصحائف المقدسة، دون بعضها في ديانات أخرى، فأصبح موضوعا مختلفا عليه، وعلى ماهيته ومواصفاته، بل وعلى وجوده أصلا، بين الغيبيين أنفسهم، مما يجعله موضوع تصديق وتكذيب؛ ليستمر قلقا بين الوجود والعدم. هذا رغم ارتباطه ارتباطا وثيقا، بالسلوك الخلقي والشخصي والاجتماعي للإنسان، حتى إن بعض الديانات الحية كالمسيحية والإسلام، ترى أن عدم الإيمان بالحياة الأخرى، معناه الانهيار الكامل للنظام الأخلاقي الدنيوي برمته، بل وانهيار الإيمان بالله ذاته.
وغني عن الذكر أن فريقا كبيرا من الفلاسفة يرى الرأي نفسه، ولعل أصدق من يمثلهم هنا، فيلسوف النقدية الألماني «عمانوئيل كانط
lmmanuel kant »، الذي بنى دليله الوحيد على وجود الله والعالم الآخر معا، على النظام الأخلاقي الدنيوي، وذهب إلى أنه لو لم تكن هناك حياة أخرى يكتمل فيها تحقيق المثل الأخلاقية، لما أصبح للأخلاق في هذا العالم معنى.
9
وقد كتب كانط
Kant
مقالا صغيرا عن «نهاية كل شيء»، أوضح فيه أن العالم كله سينتهي إلى غاية واحدة، هي نهايته، ولن يبقى سوى الله وحده، بمعنى أنه يقضي على الزمان ليثبت الخلود،
10
وفلسفته الدينية في مجملها، تفرق بين نوعين من الإيمان بالله:
الإيمان أو اللاهوت الفيزيقي
Thelogie physique : الذي يعتمد على الغائية في الطبيعة.
الإيمان أو اللاهوت الخلقي
Thelogie morale : الذي يعتمد على الغائية الخلقية للسلوكيات البشرية.
وينتهي كانط
Kant
من دراسته للاهوت الخلقي، إلى إثبات وجود الله كعلة خلقية للعالم، وغاية قصوى تطابق القانون الخلقي، بحيث لا يمكن الاستغناء بالقانون الخلقي عن الله،
11
لأنه هو الضامن للأخلاق أو الدال عليها، ومن ثم تكشف الإلزامات الخلقية عن الله. وباختصار وبساطة، يمكن القول: إن كانط
Kant
لم يقل شيئا أكثر مما قاله فلاح أونامونو. ونعتقد أن هذا الرابط بين الإيمان بالخلود، وبين النظام الخلقي الدنيوي، سبب آخر كاف لإعطاء موضوع الخلود أهمية تجعله جديرا بالبحث.
والأمر الواضح والمأخوذ على مكتبتنا العربية، هو إقلالها الشديد في الدراسات الموضوعية، حول العقائد السابقة على الإسلام، وبذلك تعاني نقصا وفقرا شديدا في هذا المجال، خاصة فيما يتعلق بعقائد الحضارات القديمة وما تيسر لنا منها، وجدناه يعامل هذه المعتقدات إما باعتبارها مثيولوجيا خالصة، من منطق التسفيه والتكفير. بل إن بعضها كان يعاني من سطحية شديدة في البحث لا تراعي أبسط شروط البحث السليم؛ كمراعاة الفارق الزمني، وما يستتبعه من فوارق في مختلف الإمكانات المتاحة، مثلا.
ويلاحظ على هذه الدراسات العقائدية العربية، اقتصار كل منها في الغالب على البحث في ديانة معينة ، يتم تناولها في مجملها، دون بيان واضح للخطوط الفاصلة بين معتقد ومعتقد، داخل هذه الديانة المدروسة.
علما أن المترجمات التي تناولت العقائد القديمة، وخاصة عقائد مصر الفرعونية، لم تتناول عقيدة الخلود منفصلة عن بقية فروع الديانة، انطلاقا من قاعدة هي أن هذه العقيدة بالذات هي لب الديانة المصرية وأساسها وجوهرها، فجاءت مختلطة ببقية عقائدها؛ مما جعل الحديث عنها، مستقلة، أمرا صعبا.
وهذا ما نجده مثلا عند «أدولف إرمان
A. Erman » في «ديانة مصر القديمة»، وإن كان ذلك لا يجعلنا نجحد فائدته الكبيرة لهذا البحث، أو ما نجده مختلطا أكثر بالعرض التاريخي في دراسات أخرى، كما عند عبد العزيز صالح في مجموعته الضخمة الشرق الأدنى القديم، أو عند نجيب ميخائيل في سلسلة كتبه مصر والشرق الأدنى القديم، أو سليم حسن في مجموعته «مصر القديمة»، وهي مجموعات هائلة كيفا وكما، وكان لها فضل لا ينكر على بحثنا هذا.
وفي مجال الإشارة للكتب التي أفادتنا لا يفوتنا أن نذكر «فجر الضمير» للمؤرخ والأثري «جيمس هنري برستد
J. H. Breasted »، و«الحضارة المصرية» للأثري «جون ولسن» كما كانت هناك فوائد خاصة لبعض الكتب التاريخية، كمساعدتها في تفهم خط سير التاريخ المصري منذ بداية العصور التاريخية، وقد برزت أهميتها بوضوح أثناء كتابة الباب الأول من هذه الدراسة، ولعل أجدرها بالذكر هنا «مصر الخالدة» لعبد الحميد زايد، وكتاب «تاريخ مصر منذ أقدم العصور إلى الفتح الفارسي» ل «برستد
»، و«قصة الحضارة» لول ديورانت.
إلا أن الملاحظة الجديرة بالتسجيل في مقام عرض ثروة المكتبة العربية العقائدية، أن أغلب المؤلفات العربية كان واضحا فيها روح تبعية واضحة لآراء الأثريين الغربيين وأخذها كمسلمات، والملاحظ بشكل عام على ما تم من دراسات حول العقائد القديمة، أن مجملها كان تسجيليا، وبعض القليل كان وصفيا، وأقل القليل ناقش أو قارن، وأنها بنظرة مجملة لم تجب عن كثير من الأسئلة حول عالم الخلود بوضوح أو بتفصيل؛ مثل:
أين تخيل المصريون القدماء موقعه في الكون؟
زمن وجوده؛ بمعنى: هل هو موجود حاليا بجانب عالمنا هذا؟ أم فيما وراءه ؟ أم سيكون بعد زوال منتظر لعالمنا المحسوس؟ أم أنه صورة مستقبلية له بعد تغيير أو تبديل سيتم فيه؟ ... إلخ.
العلاقة الجدلية القائمة بينه وبين أطراف العقيدة الشاملة المرتبط بها، وبينه وبين نظيره في ديانات مختلفة، وعلاقات التأثير والتأثر التي يحتمل قيامها على هذه العلاقة.
وإن كل هذه الأسباب السالفة، تدعو إلى إضافة بحث جديد، يتناول هذا المعتقد بشكل مستقل - قدر ما يمكن - عن بقية المعتقدات؛ شرحا وتفصيلا.
ومع كل ما سلف، تأتي أسباب أكثر أهمية لاختيار الديانة المصرية؛ لدراسة عقيدتها في الخلود، لعل أولها إشارة كثير من الباحثين إلى سبق الديانة المصرية للفلسفات التي تلتها تاريخيا، بحيث يصبح من واجب الباحثين تناول هذه الديانة بقدر أكبر من الاهتمام.
مضافا إلى ذلك ما قيل حول تأثير الديانة المصرية القديمة، وبخاصة عقيدتها في الخلود، على الديانات الأخرى التي تلتها في الظهور، أو ما تأكد يقينا بعد جملة دراسات عند برستد
Breasted
وديورانت، من تأثيرها الكبير في العقائد العبرية، نكتفي بالإشارة إليها، مع إحالة القارئ إلى «فجر الضمير» لبرستد
Breasted
و«قصة الحضارة» لديورانت، هذا مع ما أشار إليه بعض الباحثين، حول تأثيرها العميق في العقيدة المسيحية.
والأخطر ما أكده بعض الباحثين، حول قوة تأثير عقيدة الخلود الفرعونية وعمقها فيما تلاها، حتى وصل هذا التأثير في مده ومداه إلى اليوم، وهو ما يعبر عنه جون ولسن بقوله: «إن مصر القديمة، كانت الينبوع الذي استقينا منه ميراثنا الخلقي»
12 ... أو ما تعبر عنه رؤية برستد
Breasted
لمصر، كمهد لأعلى معاني المدنية، وقوله: «كشفت وأنا مستشرق مبتدئ، أن المصريين كان لهم مقياس أسمى بكثير من الوصايا العشر، وأن هذا المقياس قد ظهر قبل أن تكتب تلك الوصايا بألف سنة.»
13
وبناء على ذلك، تأخذ الديانة المصرية القديمة وعقيدتها في الخلود شكلا جديدا، هو سر الاهتمام ببحثها؛ وهي أنها ليست مجرد ديانة تمثل بداية الأطوار التطورية للعقل البشري، وإنما أيضا لأنها ديانة أثرت في العقلية البشرية، وعاشت حية فيها من خلال عقائد أخرى، أخذت عنها وتأثرت بها.
وهناك أسباب هامة أخرى دفعت إلى هذه الدراسة، تتلخص فيما أثير من جدل حول قيمة الديانة المصرية القديمة، فنجد في هذا المجال آراء أخرى ترى أن الديانة المصرية، رغم طول بقائها الزمني لأكثر من أربعة آلاف عام، فإنها لم تستطع أن «تصبح قوة روحية شاملة أبدا، ولا أن تثمر فلسفة حياتية ملائمة»
14
بل ويرى البعض مثل «إريك بيت
Erik peet »
15
أن شهرة العقائد المصرية خطأ شائع، يرجع في الحقيقة إلى شهرة الإسكندرية التي ينسبها فكريا إلى اليونان، ويذهب إلى أن دينهم كان مجموعة خرافات وأساطير، وخاليا تماما من النظر في الوجود والموت والأخلاق، وأنهم - في رأيه - قوم كتب عليهم الجمود ولم يرتقوا يوما ارتقاء عقليا أبدا.
وإن هذا التعارض في الآراء، يعد سببا وجيها جديدا يضاف إلى مجموعة الأسباب؛ ليجعل البحث في عقيدة الخلود الفرعونية أمرا مطلوبا؛ لحل هذا التعارض، والوصول بالأمر إلى حقيقته، على الوجه الأقرب إلى الصحة واليقين.
3
وتنقلنا هذه الأسباب إلى سؤال جديد وهام، هو:
لماذا أعتبر موضوع البحث مشكلة؟ وللإجابة نقول:
أولا: يمكن اعتبار الأسباب السالف إيرادها لاختيار الموضوع تفسيرا لاعتباره مشكلة، كما أنه لن يكون قصورا من الباحث ولا ابتداعا منه التأكيد من البداية على أن البحث في ديانة مصر القديمة، أمر شائك ومشكلة كبرى معقدة أشد التعقيد. حتى قال برستد: إن العقائد المصرية القديمة قد تشابكت حتى «صارت تشبه حزمة خيوط معقدة، مما يجعل بحثها الآن صعبا جدا، بل يكاد يكون مستحيلا.»
16
أو ما أكده «ستانلي. ا. كوك» في قوله: إن «آراء المصريين في الآلهة والموتى، أكثر تعقيدا واضطرابا من أن تسمح ببسطها بسطا يسهل إدراكه»،
17
وهو ما تذهب إليه «إليزابيث رايفشتال» بقولها: «إن الديانة المصرية موضوع لا يقبل التحليل الموجز، بل لا يقبل التحليل على الإطلاق.»
18
وما أقر به - إقرار الخبير - الآثاري إرمان حول صعوبة حصول الباحث على فكرة متصلة الحلقات عن عقائد مصر القديمة، وأنه «إذا أريد استقصاء التفاصيل، فدون ذلك متناقضات من ضروب شتى.»
19
ويعزو هؤلاء جميعا أسباب صعوبة البحث في عقائد الفراعنة - أو استحالته بتعبير برستد - إلى : أن الديانة المصرية لم تكن تتألف من عقيدة واحدة، متسقة في جميع تفاصيلها وأجزائها، يدين بها المصري في كل العصور، وإنما كانت تتألف من عقائد عبادات مختلفة، تتصل بعبادات محلية متفرقة، بما حيك حول كل منها من فكر وأساطير، فأصبحت تحوي تناقضات صارخة من مفارقات شتى، لا تأتلف مع بعضها البعض بأي حال، فكانت النتيجة أن ترك لنا المصريون القدماء نصوصا متضاربة، مما حدا بالباحثين إلى إعلان «أن الأمر ينجلي عن اضطراب لا مثيل له؛ فهذه النصوص لم تعرف النظام أبدا، خلال الثلاثة آلاف سنة التي عاشتها الديانة المصرية بعد عصر نصوص الأهرام»
20
حتى إنهم كانوا يعجبون «كيف تحمل شعب ذكي هذا الخلط قرنا بعد قرن.»
21
ومع ذلك التناقض والتضارب الشديدين في نصوص الديانة المصرية القديمة، فإن المصري القديم لم يكن يشعر «من جراء تضاربها بأي قلق، أكثر مما كانت تشعر به أية حضارة قديمة أخرى، باستبقاء طائفة من عقائدها الدينية - جنبا إلى جنب - مع عقائد أخرى تخالفها أو تتناقض معها كل التناقض.»
22
وإن السبب المؤكد لهذا الاضطراب في عرف هؤلاء الباحثين «لا يرجع إلى طبيعة المصريين، وإنما إلى أنها (ديانتهم) تراث أجيال طويلة وعبادات مختلفة.»
23
وإذا كان هذا هو رأي علماء المصريات؛ فقد بات واضحا من البداية أن عوائق الدراسة في تلك الديانة القديمة كانت جمة وكثيرة، خاصة إذا علمنا أن عقيدة الخلود - موضوع البحث - هي أساس هذه الديانة، والقاسم المشترك بين عقائدها المختلفة المتضاربة، فنالها من التضارب نصيب أوفى وأكبر من نصيب أي عقيدة أخرى في هذه الديانة؛ لأنها حملت من أصناف هذا التضارب أنواعا تتعدد بتعدد العقائد التي شاركت فيها. ولم تكمن العوائق فقط في هذا التناقض والتضارب داخل ديانة مصر القديمة، بل أيضا في دخول عقائدها مراحل تطورية ليس لها سنة ولا قانون؛ فقد كانت طورا إلى الأمام وطورا إلى الخلف، فطورا ارتبط هذا التطور منطقيا مع عهده وعصره، ومع التسلسل التاريخي العام لحضارة مصر الطويلة، وأطوارا خرج هذا الارتباط عن كل حدود الفهم والمنطق تماما !
وكان لخيال الكهان في العصور الفرعونية المتوالية دور أنكى وأمر، بما أضافوه من أمور شتى متتالية، لتتراكم فوق بعضها البعض، مضافا إلى كل هذا تواجد بعض العقائد المتعارضة داخل النص الواحد، مما جعل الفصل بين الرأي والآخر، أمرا غاية في الصعوبة. زد على ذلك بعض الأساطير المقدسة التي دخلت خليطا بين نصوص هذه العقائد بروايات مختلفة، اختلفت باختلاف آراء كاتبيها وأمزجتهم، وحسب الظروف والملابسات التي أحاطت بزمن كتابتها، فكان أن كتبت الأسطورة الواحدة مرات متتالية متفرقة عبر قرون طويلة، فإذا بها بعد جمعها قد اختلفت في أحداثها، وتضارب أولها مع آخرها، بل إن بعض كتاب هذه العهود كان يضع لما يكتب تاريخا مغايرا لتاريخ عصره الحقيقي؛ بقصد رفع قيمة ما كتب، أو لإعطاء كتاباته هالة قدسية؛ تحقيقا لأغراض خاصة، متداخلا مع كل هذه المتراكمات، ووسط هذا الازدحام - باستمرار وإصرار - أورادا سحرية بلا معنى ولا رابط ولا زمام، جعلت التفرقة بين ما هو حقيقة، وبين ما هو من سحر الخيال مسألة تحتاج إلى سحر معاصر لفك طلاسمها، مما جعل تعبير برستد
Breasted
بأن حل هذا كله من ضروب المستحيل، تعبيرا غير مبالغ فيه.
وقد أدى ذلك بدوره إلى تناقض ما وصل إليه علماء المصريات مع بعضهم البعض في تفسير النص الواحد أو الحدث الواحد، أو في نسبة هذا النص أو الحدث التاريخي إلى زمنه الصحيح - تبعا لتناقض موضوع بحثهم ذاته - كما كانت تفسيراتهم في بعض الأحايين متضاربة، بل واختلفوا أحيانا حول مراحل بكاملها من مراحل هذا التاريخ العتيد! بل إن محاولة وضع هذه الأمور في نصابها، قد دفع الباحث إلى بحث مسائل لم تكن من قبل في عداد المشاكل، وبالتالي خلق مشاكل جديدة تحتاج إلى حل، خلقا أجبرته عليه خطته، وإصراره على الوصول بالأمور إلى وضعها الأقرب إلى الصحة؛ كمشكلة الإله أوزير التي واجهته لدى قراءته في أوليات المصادر، ذلك الإله الذي كان قاضيا للحساب في عقيدتين تنافرتا كل التنافر؛ نتيجة حتمية لتنافر المصالح الطبقية، فقد كانت أولهما عقيدة الملكية الرسمية ، والثانية عقيدة الشعب الجماهيرية.
4
والهدف من هذه الدراسة هو في حقيقته مجموعة من الأهداف، هي:
أولا:
تنقية عقيدة الخلود الفرعونية من علائقها بالمعتقدات الأخرى التي تشابكت معها؛ حتى يمكن دراستها مستقلة منذ مناشئها البدائية الأولى، وعبر مراحلها التطورية؛ حتى يمكن تكوين تصور أوضح عن الخلود الفرعوني، مع محاولة التفسير والتعليل، وفهم الأسباب والنتائج، عندما يستدعي المقام ذلك.
ثانيا:
وضع فصول مستقلة لبيان هذه الارتباطات بين عقيدة الخلود وبين بقية العقائد؛ لإيضاح العلائق بينها متى وجدت، وبخاصة العقيدة الإلهية، وما تحويه من آراء في الوجود؛ باعتبارها اعتقادا ملازما لعقيدة الخلود.
ثالثا:
محاولة اكتشاف ملامح السبق أو التأثير للديانة المصرية في فلسفات وعقائد الأمم التالية، دون إفاضة تبعد البحث عن موضوعه الأساسي، بمعنى محاولة العثور على ما يمكن اعتباره أصولا أولى، بدأت ظهورها عند المصريين؛ لتصب بعد ذلك في العقائد التي تلتها، اعتمادا على أساسين جوهريين:
الأساس الأول:
العراقة التي تميزت بها ديانة مصر القديمة وقدمها التاريخي.
الأساس الثاني:
أنه لا يمكن استبعاد هذا التأثير المصري فيما عاصره أو تلاه؛ إعمالا لمبدأ الاتصال الدائم والقائم باستمرار للفكر البشري، فليس هناك ما يمنع من حدوث تبادل ثقافي بين مصر وجاراتها، وهذا ما يرجح حدوثه في عصر الإمبراطورية المصرية التي امتدت من الجندل الرابع في العمق الأفريقي، وحتى الفرات الأسيوي شمالا وشرقا، في عصر الدولة الحديثة.
ومن ثم الانتهاء من هذه المحاولة بوضع ما قد يتم اكتشافه حول تأثير هذه العقيدة المصرية فيما تلاها في شكل واضح، وبحثه قدر الجهد، وبقدر ما تسمح به طبيعة البحث، أو تركه على صورته الواضحة تلك، لمن يستطيع أن يتابع السير على النهج، إذا لم يتسع مجال دراستنا لبحثه تفصيلا، أو إذا قصرت القدرة، ولم تستطع استطاعتنا استكمال بحثه.
رابعا:
ولعل الموضوع الأساسي والرئيسي هو استنطاق التاريخ ما اختفى وراء غمار أحداثه الظاهرة، حول تأثير العوامل السياسية والاجتماعية على العقل المصري القديم، بحيث دفعته إلى تصوراته عن عالم الخلود، ونتائج هذا الارتباط بين الحدث السياسي أو الاجتماعي، وبين تطور هذا المعتقد ومفاهيمه.
خامسا:
البحث عن الحقيقة الكامنة وراء آراء الباحثين المتضاربة حول الديانة المصرية القديمة؛ هل كانت هذه الديانة في جوهرها ساذجة فطرية كما اعتقد البعض؟ أم كانت فكرا عميقا قويا كما ذهب البعض الآخر؟ وهل كان تضاربها الظاهر يعود إلى عقلية متخلفة؟ أم أنه كان وراء هذا الاضطراب أسباب أدت إليه؟ وهل يمكن الوصول - تسللا عبر هذا الاضطراب - إلى حقائق فكرية ثابتة يحتمل أن المصري القديم آمن بها؟ وتؤخذ له لا عليه؟!
سادسا:
إلقاء الضوء باستمرار حول كل نقطة تطورية يمكن اكتشافها في السلسلة التطورية لهذه العقيدة، مع ربطها بأحداث عصرها وملابساته؛ لبيان الأسباب والنتائج، حتى يمكن في النهاية رسم صورة واضحة للخط التسلسلي التطوري لهذه العقيدة، إبان سيرها خلال العصور المتوالية.
سابعا:
ويؤدي هذا بنا إلى محاولة إعادة ترتيب النصوص التاريخية والدينية المصرية القديمة، وفق خطة منهجية، تحاول اكتشاف الحقيقة وراء التضارب الظاهر؛ لإبراز أوجه الاتفاق والاختلاف، والتأثير والتأثر المتبادل بين هذه النصوص، وبين الظروف التاريخية؛ سياسية، أو اجتماعية.
ثامنا:
الانتهاء من هذا كله إلى هدف يجمع كل هذه الأهداف معا، وهو الكشف عن طريقة وأسلوب العقل البشري، في حقبة قديمة من حقب التاريخ الإنساني، والقوانين التي حكمت تطوره الفكري، وتصورات المصري القديم للعالم الآخر، مكانا وزمانا ومواصفات وماهية.
5
ولكن ما السبيل إلى تحقيق هذه الأهداف؟ خاصة أمام تعبير برستد
Breasted
عن استحالة ذلك؛ هذا التعبير الذي قد يكون باعثا للتساؤل حول قيمة هذا البحث برمته؟!
إن الباحث لا يدعي قدرات ليست له، ولا يصل به الظن إلى حد إمكان تجاوز «الاستحالة»، ولا يزعم لنفسه فهما يفوق أصحاب المسألة المتخصصين، إنما هو يزعم «المحاولة» فقط، لدفع الموقف عبر الاستحالة، من خلال عمليات ترتيب وتنظيم وتبويب جديدة تماما، للموجود منذ القديم، فلربما تصبح المسألة أكثر قبولا، وأقل تناقضا واضطرابا، بدفع من إيمان عميق برأي يؤكد أنه «لو كتب على أصحاب التفتحات الجديدة أن يخذلوا إنسانيا وتاريخيا، لما كانت الإنسانية تنعم بما تنعم به اليوم، ولما كان هناك مجال للتطور »،
24
لأنه «ليس كل مألوف أو كل معروف، هو الذي ينبغي أن يظل ثابتا»،
25
فلربما تكون «القاعدة نفسها التي تعلم الناس الأصول بحاجة إلى إحياء وتحديث»،
26
وهذا ما كان يؤكده المستشرق الفرنسي «ميشال آلار» لتلامذته الباحثين دائما بقوله: إنه «لا يمكن لعلم البارحة أن يكون كافيا، وأحيانا لا يكون له أي قيمة لعلم اليوم.»
27
لهذا؛ وبدفع من مثل هذه الرؤى، يمكن أن يتحول «المحال» إلى «إمكان»، إمكان محدود في المحاولة، وفي القدرة عليها.
وتحقيقا لكل هذه الأهداف، فقد وضعنا لها خطة تسير عبر مسارات ثلاث؛ لعلها كانت بوحي من عقيدة التثليث الفرعونية، فقسمت هذه الدراسة إلى ثلاثة أبواب: باب أول مقسوم إلى فصلين، وبابين ثان وثالث، انقسم كل منهما إلى فصول ثلاثة؛ لتعالج هذه الأبواب والفصول عقيدة الخلود الفرعونية، مقسمة إلى مراحل ثلاث، أولاها العقيدة في مراحلها البدائية، مع عرض عام لها في - الفصل الثاني من الباب الثاني - ثم العقيدة خلال تطورها مع ديانتين توالى سلطانهما على العقل المصري القديم، هما ديانتا الإله «رع
Ra » إله الملكية الرسمي، و«أوزير
Osiris » إله الديانة الجماهيرية.
وقد روعي أن يسير هذا التطور مع عصور ثلاثة كبرى متتالية شكلت عمر الحضارة المصرية، بدءا بعصر الدولة القديمة، ومرورا بعصر الدولة الوسطى، وانتهاء بعصر الإمبراطورية أو الدولة الحديثة؛ ليوضع هذا كله في موجز تاريخي في الباب الأول.
وعليه؛ فقد تم ترتيب الأبواب والفصول كالآتي:
الباب الأول:
موجز تاريخ مصر القديمة:
وقد تم تقسيمه إلى:
مقدمة:
لشرح الخطوات المنهجية التي اتبعت لدراسته.
فصل أول:
مصر القديمة على ذمة التاريخ: وهو عرض سريع لقصة مصر التاريخية، كما جاءت في كتب التاريخ لدى المؤرخين والأثريين وعلماء الحضارات.
فصل ثان:
استقراء التاريخ: وخصص لمناقشة مقارنة لما جاء في الفصل الأول، بهدف ترتيب أحداث التاريخ، ترتيبا يساير روح المنطق والعقل، وفق خطة تهدف إلى إبراز الأحداث التي تهم دراستنا، أو التي سنعتمد عليها.
خاتمة:
تلخص أهم النتائج التي ينتهي إليها البحث في بابه الأول.
الباب الثاني:
فلسفة الديانة الفرعونية:
وقد تم تقسيمه إلى :
مقدمة:
لشرح الخطوات المنهجية التي اتبعت لدراسة هذا الباب.
فصل أول:
فلسفة الوجود الفرعونية: وهو عرض عام لأهم أسس الديانة المصرية وفلسفتها في الوجود، مع محاولة المقارنة مع ما لحقها من فلسفات.
فصل ثان:
عقيدة الخلود الفرعونية: وقد خصص لشرح وتفصيل عقيدة الخلود المصرية منذ مناشئها الأولى.
فصل ثالث:
مشكلة الإله أوزير: ورغم عدم وضوح المغزى والدلالة لهذا الفصل في البداية، فإن له أهمية قصوى، فقد خصصناه لمناقشة موقف إله الموتى أوزير، مناقشة منطقية تاريخية مقارنة؛ لبيان مدى ارتباطه بالملكية الحاكمة من جهة، وجماهير الشعب من جهة أخرى، وما هي علاقته بالإله الرسمي «رع»، وما هو توقيت ظهوره الصحيح - أو على الوجه الأقرب إلى الصحة - كحاكم لمملكة الموتى؛ وكقاض للعالم الآخر، وقد تم وضع الخطوط العريضة لهذا الفصل بالذات بعد القراءات الأولية، التي أوضحت بجلاء أن هناك اختلافا كبيرا وعميقا بين الباحثين، حول الأمور المتعلقة بهذا الإله.
خاتمة:
تلخص أهم النتائج التي وصل إليها الباحث من بحثه في الباب الثاني.
الباب الثالث:
عقيدة الخلود الفرعونية عبر مراحلها التطورية.
وقد تم تقسيمه إلى:
مقدمة:
تشرح الخطوات المنهجية التي اتبعت لدراسته.
فصل أول:
الآثار السياسية والاجتماعية في نشوء عقيدة خلود فرعونية جماهيرية: وقد خصص لمناقشة الآثار التي يمكن أن تكون الأحداث السياسية والاجتماعية قد تركتها على العقلية المصرية؛ لتبدع عالم خلود جماهيري يدخله الجميع، وتأثير ذلك في الديانتين؛ الشعبية والملكية.
فصل ثان:
الآثار السياسية والاجتماعية في تطور عقيدة الخلود شعبيا وملكيا: ويتناول ما قد يكون للسياسة أو أحداث المجتمع من آثار على تطور عقيدة الخلود الشعبية، التي دخلت في إطار الملكية.
فصل ثالث:
تطور عقيدة الخلود الفرعونية وسيادتها العالمية: وقد وضع لمناقشة الحد أو المدى الذي وصلت إليه عقيدة الخلود الفرعونية في تطورها.
خاتمة:
تلخص أهم نتائج الباب الثالث، وأهم نتائج الدراسة بكاملها.
6
ومما تجدر الإشارة إليه - بالإضافة إلى ما سبق - مصادر هذه الدراسة ومراجعها، التي سأورد أهمها وأكثرها؛ اعتمادا في الحواشي بالطريقة التقليدية في مواضع الاستشهاد بها، بينما سأقوم بجمعها كلها في نهاية الدراسة، مرتبة حسب الحروف الهجائية لأسماء مؤلفيها. إلا أن المصادر المصرية القديمة ذاتها كانت هي المعتمد الأساسي، وعمد موضوعات بحثنا، ولما كانت العودة إلى هذه المصادر بلغتها القديمة أمرا يفوق قدراتنا، فقد تم استخراج هذه المصادر من مراجعها الموثوقة بكل الدقة المطلوبة - قدر القدرة والإمكان المتاح - وتصنيفها حسب مقتضيات الحديث وسياقه.
ولعله من الأفضل إلقاء إطلالة سريعة على هذه المصادر الأساسية؛ لمعرفة ماهيتها باعتبارها أهم الأعمدة المصدرية.
لقد قسم الآثاريون هذه النصوص - والتي تجمعها كلها رابطة واحدة هي أنها كانت جنازية تكتب في التوابيت والمقابر - إلى أنواع، أعطوا لكل منها اسما مستمدا من هويتها، وأهمها لهذا البحث كانت: (1) متون الأهرام
وتعد هذه المدونات أقدم ما حفظ للإنسانية على الإطلاق من نصوص دينية مكتوبة وصلت لنا، وهي نصوص مستفيضة تكشف عن كثير من عقائد المصريين وأفكارهم الدينية والسياسية والفلسفية، عمد إلى نقشها على جدران غرف الدفن وبعض الغرف الملحقة بها داخل الأهرام، ملوك الأسر الحاكمة في الدولة القديمة، منذ بداية الأسرة الخامسة على وجه التقريب. ويقول د. عبد العزيز صالح إنها قد «نقشت ... لأول مرة في هرم ونيس
28
في أواخر القرن الخامس والعشرين ق.م على وجه التقريب. غير أن هذا لا يعني أنها ألفت في عهده لأول مرة، أو أنها كانت من وضع فرد بعينه، وإنما هي على الأرجح من إنتاج عصور وقرون طويلة، وإنتاج كفايات فكرية متباينة، ومذاهب دينية متعددة، ظلت نصوصها وأفكارها متفرقة قبل عهد ونيس في صدور الكهان وعلى صفحات البردي وسطوح الفخار والأحجار، وعلى أفواه الرواة والمحدثين عهودا طويلة، حتى صحت الرغبة في عهد ونيس في تسجيلها في باطن هرمه؛ تأكيدا لاستفادته الأخروية من تراتيل الدين التي تضمنتها. وترتب على تنوع مصادر متون الأهرام وتعدد مؤلفيها، أن خرجت في نهاية أمرها تحمل أكثر من دلالة على أصحابها، وتحمل أكثر من دلالة للباحثين فيها، وظهر فيها كثير من أسماء الأرباب القدامى وصفاتهم، وكثير من تصورات المفكرين عن الخلق الأول، ونشأة الوجود، وكثير من قصص المحدثين ...»
29
مع ملاحظة أن هناك آراء أخرى تذهب إلى القول بأن هذه المدونات قد بدأ تسجيلها في الأسرة الرابعة ...
30 (2) متون التوابيت
ويتألف منها أعظم وأكبر مجموعة من المصادر الدينية القديمة، وقد بدأ المصريون بتسجيل هذه المجموعة من الأدب الديني على الأوجه الداخلية للتوابيت، مع بداية العصر المتوسط الأول بعد نهاية الدولة القديمة، وهي صيغ تشابه متون الأهرام، وتتحد معها في الغرض الذي ترمي إليه، غير أنها كانت أكثر ملاءمة لحاجات غمار الناس، رغم أن أغلبها عبارة عن مقتبسات من الأهرام الملكية.
وعدا ذلك توجد مصنفات أخرى نكتفي بالإشارة إليها دون اعتمادها، مثل كتاب الطريقين، وكتاب الموتى، وكتاب الموجودين في العالم السفلي، وكتاب البوابات؛ نظرا لأن كل ما ورد بها فيما يتعلق بموضوع البحث، لا يخرج عما جاء في المصدرين الأساسيين: متون الأهرام، ومتون التوابيت.
ونظرا لما تقتضيه ظروف البحث وطبيعته؛ كان لا بد - بالإضافة لهذه المتون - من الأخذ بعين الاعتبار، بل وبكل الاعتبار، بعض ما تركه المصري القديم من نصوص أدبية، لم يقل تقديرها عنده عن النصوص الدينية، والتي يمكن من خلال دراستها الخروج بأهم سمات الحياة السياسية والاجتماعية لعصور أحداثها، وبانتخاب واصطفاء ما يناسب طبيعة موضوعنا من هذه النصوص الأدبية، يمكن إضافة الأعمال الخمس التالية: (2-1) تحذيرات وإنذارات الحكيم «إبيور» إيبو العجوز
وقد اشتهرت هذه التحذيرات باسم نصائح الحكيم «إبيور» (أي الحكيم العجوز، أو الشيخ الحكيم)، ويغلب على ظن المؤرخين أن هذا الحكيم قد عاش في أواخر عهد الملك «بيوبي الثاني»،
31
آخر ملوك الأسرة السادسة في الدولة القديمة، أو في العصر الذي تلاه المسمى بالعصر المتوسط الأول. وهي مقالات أدبية رائعة، تصور الحالة السياسية والاجتماعية التي وصلت إليها البلاد، كما ترسم صورة للحاكم الصالح الذي تمناه أناس هذا العصر، حتى إن الجماهير حفظت آراء العجوز «إبيور» عن ظهر قلب، وسجلوها على البردي الذي وصل بعضه إلى عصرنا تحت ما يعرف اصطلاحا ببردية «ليدن». (2-2) وصايا إلى «مري كارع»
وهي عبارة عن مجموعة نصائح يقال: إن الملك الإهناسي «أخيتوي الثالث
Akhtoy »
32
قد وجهها إلى ولده «مري كارع»، وتعبر - عند المؤرخين - عما طرأ على الملكية من تغير ناتج عن الصراع الاجتماعي، الذي جاء في نهاية الأسرة السادسة، ولم يعد الملك في هذا العمل الأدبي الرائع إلها تفصله عن رعاياه هوة سحيقة، بل بدأ يقر بخطيئته ومسئوليته عن شعبه وسعادته، كما أنها تعد من أخطر وثائق التطور الخلقي الإنساني في العالم أجمع، وأولها في تاريخ الإنسانية كلها مما وصلنا مكتوبا. (2-3) قصة الفلاح الفصيح
وهي أيضا من الآداب التي تدفق ظهورها إبان محنة العصر المتوسط الأول، وتتكون من تسع شكايات تقدم بها فلاح من قرية بالفيوم، إلى مدير بيت الملك، بعد أن سلبه أحد نبلاء الأقاليم تجارته ودوابه، وهي تظهر الحالة السيئة التي تردت إليها البلاد وضعف الحكومة واختلال الأمن وانفلات زمامه، كما تظهر نزعة تقدمية جديدة، لأول مرة في تاريخ الملكية على ظهر الأرض. (2-4) توجعات «نفر رحو» وتنبؤاته
ويعود تاريخها إلى نفس عهد الأعمال الأدبية السابقة - تقريبا - وهي أيضا تصور حال البلاد البائس، ثم تتخذ منه موقفا إيجابيا، فتعد بالخلاص على يد ملك عادل، يأتي ليرعى مصالح شعبه ورعيته بحنان ومحبة، لا بقهر واستعباد. (2-5) أغنية العازف على الهارب
وهي مجموعة أبيات شعرية تبرز لأول مرة في تاريخ الفكر المصري اتجاها ماديا، يكاد يكون إلحاديا، صاحب حالة الصراع الاجتماعي الذي بدأ في نهايات الدولة القديمة.
مضافا إلى كل هذا أساطير الآلهة المصرية، التي لا يعلم منها حتى الآن سوى القليل الذي جمع من النقوش والرسوم والمتون سالفة الذكر، بحيث لم يوجد نص واحد يعطي تفصيلا كاملا لأحداث هذه الأساطير، ويرجع كل من إرمان
Erman
ورانكه أسباب ذلك إلى أن «مؤلفي هذه النصوص الدينية، قد اكتفوا بهذه التلميحات؛ لأن الأساطير بلغت من الذيوع والانتشار مبلغا كانت فيه مجرد الإشارة تكفي.»
33
ولعل أهم ما يعني الموضوع هنا أسطورة كبرى هي الأسطورة الأوزيرية؛ نسبة للإله «أوزير»؛ لأنها كانت أكثر وضوحا من غيرها، كما دخلت عناصرها في المتون الجنازية، ناهيك عن أنها شكلت أساس العقيدة الشعبية وجوهرها، حتى إن علماء المصريات القديمة يرون أنها «أثرت على الحضارة المصرية تأثيرا بينا، بحيث أصبحنا لا نتصور هذه الديانة بدون قصة أوزيريس»،
34
ونظرا لهذه الأهمية البالغة؛ فقد وضعنا لمناقشة العقيدة الأوزيرية فصلا كاملا هو الفصل الثالث من الباب الثاني. ومن المهم أن نذكر أن نصوص الأهرام والتوابيت وبعض الأساطير وخاصة الأوزيرية، قد تمتعت بمكانة كبرى عند المصري القديم، لا سيما وأن «الكتب التي تضم هذه الأساطير قد اعتبرت من القداسة بحيث لا يجوز وضعها في مزارات المقابر وقاعات المعابد عرضة لأنظار الناس.»
35
أما مصدر قدسيتها في نظر المصري القديم، فمرجعه إلى كونها «كلمات الله ...»
36
نعم؛ بل إن كتاب الموتى
Book of the Dead ، كان محل اعتبار خاص، نتج عما أشيع حوله آنذاك، بأنه «قد عثر عليه في عين شمس»، وأنه «كان بخط الإله نفسه»،
37
ليس هذا فقط، وإنما كانت قدسيتها تفرض على المؤمن ألا يمسها إلا بعد أن يغتسل ويتطهر، فلا يمسها إلا المتطهرون، حتى إن الآلهة أنفسها «كانت تغتسل سبع مرات عندما تريد أن تقرأ في أحد هذه الكتب المقدسة»،
38
وعلى أية حال، فإن الحياء والنزاهة قد يتطلبان منا اليوم أن نؤمن للمصريين القدماء وجهة نظرهم هذه؛ ما دمنا قد أمناها لمن ادعوا نفس الادعاءات في الديانات الأخرى.
إلا أن ما يجب إيضاحه هنا: أن كل هذه المصادر الأصيلة تبدأ من عهد تسجيل المتون داخل الأهرام مع عصر الأسرات، فما هو الحال بالنسبة لعصر ما قبل الأسرات؟ هنا يستحيل الحديث الأقرب لليقين، ويبقى الحديث ترجيحا واستنتاجا؛ والسبب أنه لم تترك مصر في عصر ما قبل الأسرات أية كتابة لنا
39
يمكن الاعتماد عليها، وبالتالي فلا مفر من البدء مع النصوص المكتوبة في عصر الأسرات، أو بالتحديد مع متون الأهرام، ثم افتراض أن النظام العقائدي الوارد فيها، قد بدأ قبل عصر الكتابة.
أضع هذا كله بين يدي قارئي؛ راجيا أن أضع أمامه أهداف البحث محققة، في صورة توضح طريقة العقل البشري ومنهجه الفكري، في تلك العصور الموغلة في غابر القدم، وفق ما تستطيعه استطاعتي، وقدر ما أملك من قدرات .
الباب الأول
موجز تاريخ مصر القديمة
تأسيس
يقول الفيلسوف الألماني «لوتزيه
Lotze »: «إن الطبيعة هي عالم الضرورة، أما التاريخ فهو عالم الحرية»،
1
ويضيف «كولنجوود» تأكيده على أن التفكير التاريخي إذا كان يعنى بالسياسة والحروب والاقتصاد والأفعال الأخلاقية؛ فإن هدفه في النهاية هو معرفة الطبيعة الإنسانية.
2
وتأسيسا على هذين الرأيين يمكن التقرير مبدئيا بأن الدراسة في هذا الباب - وخاصة فصله الثاني - تقوم على حرية التفكير فيما تركه المصري القديم؛ بهدف معرفة أهم طبائع الإنسان المتمثلة في منهجه الفكري، أو خطواته العقلية التطورية خلال تلك الحقب من الزمان، وأهم الأحداث السياسية والاجتماعية التي أدت إلى التطور الفكري أو نجمت عنه.
ولكن معنى حرية البحث هنا سيكون معنى مقيدا بقيود ثلاثة؛ أولها رؤية فلاسفة التاريخ، الذين يلخص كولنجوود اتجاهاتهم باعتباره هذه الحرية، هي حرية اختيار الطريق الذي يلائم الباحث للاستدلال من الأحداث التاريخية على معانيها، بشرط أن يبرر أي ادعاء يذهب إليه، وأن تكون وسيلته هي النفاذ في أعماق الحدث التاريخي، وأن يكون هدفه كشف الفكر المتضمن في الفعل التاريخي؛ لأن «كل التاريخ تاريخ فكر»
3 - على حد زعمه - وإن الباحث ليقبل هذا القيد أو هذه الشروط، مقابل قدر من الحرية في الترتيب والفهم؛ ومن ثم في التفسير بمنهجية محددة، هدفها إعمال هذا الرأي فعلا؛ لكشف الفكر المتضمن في بعض أحداث التاريخ المصري القديم، السياسية منها والاجتماعية.
وحتى لا تختلط اجتهادات الباحث التنظيمية أو التفسيرية مع الأحداث التاريخية؛ فقد لجأ إلى تقسيم هذا الباب إلى فصلين؛ يتناول الأول أحداث التاريخ كما جاءت في مصادرها ومراجعها، دون تدخل من جانبه إلا فيما ندر، أو في الحالات التي لم يجد الباحث لها تفسيرا؛ مما استدعى التدخل؛ ليبقى التدخل الحقيقي للفصل الثاني. وهنا يظهر القيد الثاني، ويتمثل في كون الباحث ليس بعالم مصريات؛ لذلك وجب أن تظل اجتهاداته داخل أطر رؤية علماء المصريات القديمة المتخصصين، مع قليل من حرية الحركة المنطقية، بعملية ترتيب وتنظيم تؤدي بدورها إلى التفسير المقبول، أو الاستدلال المنطقي الأقرب للقبول العقلي؛ استنادا لمبدأي لوتزيه وكولنجوود - بما يحقق هدفية هذه الدراسة - ودون أن يخل في الوقت نفسه بالرؤى التخصصية.
ولكن عبد الرحمن بدوي يؤكد هنا أن ذلك قد يكون أمرا عسيرا كل العسر، خاصة فيما يتعلق ب «تحديد صحة الوثائق؛ فعلينا أن نقوم بعملية امتحان قاس لكل هذه الوثائق المتخلفة عن الحادث موضوع الدرس؛ لأن حالة التدخل هنا ستكون مقصودة؛ لبيان أمور يراها الباحث جديدة، أو يرى ضرورة إيضاحها في ضوء خطة بحثه.»
4
ولعل السبب في الإصرار على امتحان الوثائق يكمن في أنه «كثيرا ما يدخل في الوثائق كثير من الحشو، أو قد يضاف إليها كثير من الإضافات الزائدة المقصود بها الإكمال، وأحيانا يكون النص محرفا في بعض أجزائه.»
5
ولهذا السبب بالذات ترك الباحث لنفسه بابا مفتوحا حرا في الفصل الثاني؛ انطلاقا من نصح أصحاب المناهج؛ لأنه «يجب ألا تثق مطلقا في أي توكيد مهما كانت قوته؛ فكثير من الوثائق قد زيف لعدة اعتبارات، ذكرها باست
J. Bast
بالتفصيل، منها مثلا أن يكون الأثر ضئيل القيمة، فيمهر بخاتم فلان من الناس المشهورين؛ لكي ترتفع قيمته، أو قد يكون الأثر عظيم القيمة، فيضاف إلى إنسان؛ من أجل تمجيد هذا الإنسان، مع أن الأثر لا ينتسب إليه، وقد يكون قصد صاحب الانتحال أن يبين مذهبا معينا، فيضطر إلى أن يكتب كتابا يبين فيه قوة هذا المذهب، أو كيف أن شخصية عظمى هي التي كتبته أو أنتجته، ومن أجل هذا يزيف كتابا أو أثرا بأكمله؛ ليعزوه لهذه الشخصية العظيمة.»
6
وهنا نقر بأننا قد خصصنا الفصل الثاني لمسائل من هذا النوع بالذات؛ نتيجة للشك في بعض الآثار الأدبية الفرعونية وتاريخ تدوينها الصحيح؛ كنصائح الحكيم «آبي أور»، والوصايا إلى «مري كارع»، ومنها وثيقة غاية في الأهمية هي بردية «نفر رحو»، وهي مما نظنه يدخل تحت نوع من أنواع التزييف الخطير، الذي أشار إليه الدكتور بدوي باسم «الحشو والإكمال
Interpolation & Continuation ، ...»
7
أما كيف يمكن للباحث أن يقوم بالتحقيق؟ فهو ما يجيب عنه أصحاب المناهج بأنه «علينا أن ننظر في الوقائع التي ترد في الوثيقة من حيث إمكان حدوثها في الزمان المنسوبة إليه، أو في المكان الذي تزعم الوثائق أنها جرت فيه.»
8
ويعتمد هذا كله في رأي كولنجوود على مناقشة الباحث لما بين يديه؛ بوضع المصادر في قفص الاتهام واستجوابها، وعدم قبول أية رواية على علاتها، فيستطيع بذلك أن يكشف ما أصبح منسيا تماما، باعتماده على نقد روايات المصادر الموجودة بين يديه.
ولا شك أن هذا كله يظهر كما لو كان تصريحا للباحث بمزيد من الحرية، ولكن هنا يظهر القيد الثالث على عمل الباحث ومدى تدخله، من حيث إن المسألة تعود إلى قدراته، والقدرات لا شك محدودة، وعلينا أن نتعرفها جيدا؛ حتى لا نتجاوزها؛ تحاشيا للوقوع في الخطأ.
وأخيرا فإن من الواجب الإشارة إلى أن هناك أحداثا اضطرت الباحث للوقوف عندها مليا؛ خدمة لغرض البحث وأهدافه، بينما مر على بعض الأحداث مرور الإشارة، وتجاوز بعضها لعدم تأثيرها أو جدواها في بحثه، أو لأنها تخرج في تأثيرها عن نطاق دائرته العقائدية، ولا تخدمها من بعيد أو قريب، ثم تم إيجاز كل ما توصلت إليه عملية استقراء التاريخ في خاتمة موجزة للباب.
الفصل الأول
مصر القديمة على ذمة التاريخ
إن الإنسان لا يعرف حضارة من حضارات التاريخ القديم، عمرت ما عمرت الحضارة الفرعونية، وبرهنت على عراقة ورسوخ لا مثيل لهما قط.
أندريه إيمار
وجانين إبوايه
ليس جديدا ولا غريبا، أن يؤكد الباحثون في تراث الإنسانية: أن تاريخ مصر هو تاريخ الدنيا، ولم يكن «برستد
Breasted » مغاليا حين أكد: أن أعلى معاني المدنية كان مهده هناك،
1
ففي هذا الوادي الضيق الذي يمتد بجذور تضرب في أعماق الماضي السحيق، بزغت شمس الحضارة ثم استوت حتى أكملت دورتها، من مهدها حتى شيخوختها عدة مرات، في وقت كان فيه الإنسان في بقية أنحاء المعمورة، لا يزال يصارع وحشيته البدائية فتصرعه، وكان طبيعيا أن تمور وتفور في هذه الحضارة - التي امتدت قرابة خمسة آلاف عام - موجات كثيرة من الأنظمة والنظريات والعقائد، مدا وجزرا، منها ما أتلف ومنها ما تناقض واختلف، ومنها ما علا حتى عمر مسيطرا، ومنها ما تراجع وانحسر.
وعبر تيارات اليم الزمني، سارت هذه الأنظمة علوا وهبوطا، فتركت للبشرية تراثا فرض نفسه على عقلها وروحها، بحيث أصبح من فساد الرأي أن يقوم باحث بتأصيل لأي نوع من النظريات أو الأنظمة - وبخاصة العقائدية منها - دون الرجوع إلى مصر القديمة.
وبحثا عن المراحل الأولى للتاريخ المصري القديم، يبدأ الفكر جولته مع شعب الوادي على طريق بدئه الحضاري، ساعيا عبر مصادره ومراجعه نحو غايته، فيجدها ترتد به ارتدادا نحو أغوار الزمن العميق؛ لتوقفه على اتفاق معظمها على: تقسيم مصر القديمة حضاريا إلى عدد من المراحل أو العصور، يمكن بعد استقرائها، تفصيلها على الوجه التالي:
عصر فجر التاريخ،
عصر التأسيس،
عصر الدولة القديمة،
العصر المتوسط الأول،
عصر الدولة الوسطى،
العصر المتوسط الثاني،
عصر الدولة الحديثة،
عصر الانحلال. (1) عصر فجر التاريخ
أو ما يطلق عليه أحيانا عصر ما قبل بداية التاريخ المكتوب، وترجع التسمية لعدم وجود المدونات الخطية في الآثار التي تركها المصري القديم لهذا العصر،
2
كما لم تسمح الشواهد الأثرية بتكوين فكرة إيجابية عن ديانة هذا العصر أو أهم أحداثه.
3
والمرجع لما دار فيه من أحداث، هو تفسيرات علماء المصريات القديمة، لما حملته الذاكرة والشفاه ليسجل في مدونات العصور التي تلته.
ويوضح إريك بيت
Eric peet :
4
أن هذه المدونات قد جاءت على شكل إشارات متفرقة في متون الأهرام، كقصص أسطورية، تحكي عن حكام مصر من الآلهة، من أمثال «حور
Horus » و«ست
Seth » و«آتوم
Atum ». وأن هذه المتون لم يبدأ تسجيلها إلا في العصر التالي، مع الأسرة الرابعة من عصر الدولة القديمة على وجه التقريب.
وتفصيلا لمجريات أحداث هذا العصر، يمكن لنا تقسيمه إلى أربعة عهود، هي على الترتيب كما يلي: (1-1) عهد الأقاليم المستقلة
وفي هذا العهد: بدأ سكان الوادي الأول يستقرون ارتباطا بالأرض؛ زرعا وتفليحا، فكان أن نتج عن ذلك استقرار سكاني، تبعه بالضرورة قيام المدن المستقلة، تلك المدن التي اتخذت كل منها إلها تعبده وتتقرب إليه، تهلع إليه وقت ضيقها، وتضع تقدماتها بين يديه، شاكرة مجلة وقت سعتها . ويبدو أن هذه الآلهة كانت آلهة طوطمية، ارتبطت بأشكالها الحيوانية البدائية، بحيث تركت هذا الأثر الحيواني في أجيالها التالية.
ولم يمض وقت طويل، حتى اقتضت الظروف الجغرافية والاقتصادية، أن تتقارب هذه المدن لتتوحد مندمجة في أقاليم؛ لتؤلف كل مجموعة من المدن إقليما متسعا، يتميز بحدوده التي رسمتها الطبيعة، ولتغدو عاصمته أهم مدينة فيه، ويصبح معبود هذه المدينة هو المعبود الرئيسي للإقليم.
وواصلت العوامل الجغرافية والاقتصادية - مع دفع مكثف من العوامل السياسية والاجتماعية - عملها، في توحيد الأقاليم معا في حكومات كبيرة قوية. ونحو إدماج الأقاليم إن سلما أو حربا؛ كان لا بد أن يحدث إدماج للأرباب، حتى يقف من بينها إله واحد لمجموعة الأقاليم المتعددة، هو في الأصل إله الإقليم القوي أو الأكبر أو الظافر في المعركة.
وانتهى الأمر في هذا العصر فيما يرى «زيته
Sethe » إلى تجمع أقاليم الدلتا في مملكتين؛ إحداهما شرقية تحت راية الإله «عنجتي»، والأخرى غربية تحت زعامة الإله «حور» إله الغربيين الذي انعقدت له زعامة الدلتا كلها بعد توحيدها، بينما كان الصعيد قد خطا نحو الوحدة خطوات جبارة، انتهت بتوحيد أقاليمه تحت زعامة ربه الأكبر «ست».
5 (1-2) عهد الوحدة الأولى
ويحدث التاريخ بأنه على الحدود بين مملكتي الشمال والجنوب قد قامت نزاعات، تطورت إلى حروب شاملة، تصورها المصريون آنذاك حربا بين الإلهين العظيمين «حور» إله الشمال، و«ست» إله الجنوب، مسجلة في التاريخ انتصار الإله «حور» على غريمه الصعيدي «ست»، وتقوم بين الإقليمين وحدة لا يكتب لها البقاء طويلا، ولا يلبث الصعيد أن ينفصل عن وحدته مع الشمال، كما لو كان مقدرا لهذه الوحدة القسرية، المفروضة بالقوة العسكرية، أن تفشل في الاستمرار. (1-3) عهد الوحدة الثانية
ولم تهدأ الأحوال تماما، فعاد طموح الشمال ليدفع بالجيوش مرة أخرى نحو الجنوب؛ في محاولة ثانية لفرض سلطانه وسيطرته، لكن الراية هذه المرة كانت معقودة لإله جديد، بدت سيادته واضحة في ذلك العهد، هو الإله آتوم إله مدينة «أون
Iwnu »،
6
وهو نفسه الإله الذي أصبح اسمه «آتوم رع
Atum-Ra ».
7
ويبدو أن هذا الإله قد سجل لعباده نصرا جديدا على الإله الصعيدي «ست» غريم سلفه «حور». ومرة ثانية يحدث التاريخ بأن الوحدة المفروضة بالقسر والإلزام لا تدوم، فينفصل الصعيد مرة ثانية. (1-4) عهد الوحدة الثالثة
وبدا واضحا أن تمرد الصعيد الانفصالي هذه المرة، لم يقتصر على مجرد الانفصال، بعد أن تمرس جنوده بفنون الحرب والقتال، بل تعدى ذلك إلى دحر الشمال، ثم غزو أراضيه بقيادة ملكه «نعرمر مينا
Narmr Mena » الذي استطاع أن يسيطر تماما على الشمال بعد أن كسر شوكته الحربية للمرة الأولى والأخيرة؛ ليتنفس التاريخ عن إعلان الوحدة الثالثة.
8
لكن الملحوظة الهامة هنا هي أن «قادة العسكر الصعيدي لم يحملوا هذه المرة راية إلههم القديم «ست»، وإنما راية إله الشمال، غريمهم القديم «حور»»، ولعل تفسير هذا الأمر الغريب يعود - في ظننا - إلى أن سيادة «حور» على المملكة المتحدة في عهد التوحيد الأول، جعلته يستقر في القلوب؛ ليزيح من وجدان الجنوبيين إلههم القديم «ست»، ويحل محله. وبمرور السنين، نسي الجنوبيون أن «حور» إله غريب وارد، وغابت صفته كإله مغتصب غاز، ولم يبق له في القلوب سوى صفته القدسية، ويبدو أن ما يصدق على الغزاة من البشر، غالبا ما لا يصدق على الغزاة من الآلهة، وهو أمر اعتيادي تكرر عبر العصور التاريخية، وفي دول وحضارات أخرى متعددة. ثم ألا يؤمن المصريون اليوم بإله جاء مع غزو بادية العرب المسلمة لمصر؟!
وقد نذهب في تفسير استقرار الأمور وهدوء الأحوال واستمرار الوحدة، إلى أن ذلك ربما يرجع أول ما يرجع إلى حكمة حتمتها سياسة الجنوب بعد خبرته أيام تجارب الوحدة السابقة؛ فالتاريخ العقائدي يقول: إن «حور» قد توحد مع «آتوم رع»،
9
فيحتمل أن الجنوبيين قد قدروا أن خير وسيلة للسيطرة ليست القهر بسلاح العسكر، بقدر ما هي التوسل إلى استغلال العواطف الدينية، لتحقيق وحدة طوعية، فلم يجعلوا من إلههم «حور» الإله الرسمي والوحيد، وإنما أدمجوه مع إله الشمس «آتوم رع»، بحيث يبدو كما لو لم يكن هناك غالب ولا مغلوب.
ويغلب على الظن أن هذه الحكمة قد آتت ثمارها؛ فلم ير الشماليون في سيطرة الجنوب غضاضة، لا سيما وأن إلههم الأكبر «آتوم» هو من يحكم الملك باسمه، وإذا كان قد توحد مع الإله الجنوبي «حور» فليس أحب إليهم من هذا؛ فهم لم ينسوا بعد أن «حور» كان إلههم القديم، ولم يزل له في القلوب المكان المكين!
وهكذا أصبحت الوحدة التي قادتها حكمة الصعيد، هي الوحدة الأخيرة، وتحولت إلى أساس وقاعدة راسخة لقيام الحضارة المصرية، تلك الحضارة التي رآها الباحثون أعظم الحضارات القديمة على الإطلاق. (2) عصر التأسيس
10
ورغم عدم وجود المدونات في هذا العصر، مع قلة المصادر وندرتها، فإنه يمكن القول بإيجاز: إن هذا العصر كان عصر إرساء الأسس السياسية والدينية، والاجتماعية والفلسفية، التي قامت عليها شوامخ الحضارة المصرية فيما بعد. (3) عصر الدولة القديمة
ويشار إليه أيضا بالعصور المنفية؛ نسبة إلى استقرار فراعنته في مدينة منف، ويبدأ تاريخيا بقيام الأسرة الثالثة التي أسسها زوسر حوالي عام 2870ق.م، وينتهي بسقوط الأسرة السادسة حوالي عام 2880ق.م، وبذلك تكون قد استمرت مسيطرة على الجهاز الحكومي في مصر، ما يقرب من خمسمائة عام، وقد امتازت بما شيد فيها من الأهرام العتيدة التي بلغت زهاء الثمانين هرما، حتى سمي عصرها بعصر بناة الأهرام. كما امتازت بأن وحدة البلاد ظلت متماسكة دون ضعف حتى بداية الأسرة السادسة، وكانت ذروة حضارتها في منتصف الأسرة الرابعة، وبالتحديد في عصر «خوفو» وخلفائه.
أما أهم أسرها لهذا البحث، فهو بوجه خاص الأسرة الخامسة والأسرة السادسة، وترجع أهمية الأسرة الخامسة إلى كونها كانت من صنع رجال الدين (الأونيين)، فاصطبغت لذلك بصبغة دينية مذهبية واضحة، حيث ازداد نفوذ كهنة «أون» أصحاب الإله «رع» خلال الأسرة الرابعة، وانتهى الأمر باستيلائهم على الحكم، وتأسيس الأسرة الخامسة، وقد ظهر ذلك في بردية يرجع تاريخ مخطوطتها إلى أواخر الدولة الوسطى، وإن كان الأثريون يرجعون تاريخ تحريرها إلى عهود أقدم. وتروي البردية نوعا من الأسطورة، يحكى في شكل رواية، أن ساحرا عرض على الملك «خوفو» بعض سحره، ثم قص عليه من نبوءاته، أن «روج جدت» زوجة كاهن «رع» الأكبر، ستلد ثلاثة ملوك، يعودون ببنوتهم إلى الإله «رع» مباشرة، وأنهم سيحكمون البلاد.
ويوضح هؤلاء الأثريون: أن هذه القصة قد أشاعها كهنة رع الأونيون، بعد استيلائهم على العرش وتأسيسهم الأسرة الخامسة؛ لتدعيم سلطانهم على البلاد، بادعاء نسبهم السلالي للإله «رع» الأعظم آنذاك! ويكشف ذلك النقاب عن اعتبار حكام مصر منذ ذلك الحين أبناء ل «رع»، وحتى نهاية التاريخ القديم، بعد أن كانوا يعتبرون أبناء الإله «حور».
11
ويبدو أن انتزاع كهنة رع للعرش، قد سبب نوعا من الصراع فيما بينهم وبين كهنة الإله «بتاح»
12
إله منف، وانتهت المسألة مؤقتا إلى وراثة السدة الملكية لكهنة «رع»، بينما احتفظ أتباع «بتاح» بوراثة مركز الوزارة ورياسة القضاء.
13
وقد بدا سوء الطالع ملازما لهذه الأسرة، منذ أن ظهرت عليها أمارات الضعف، بينما أخذ الأمراء من حكام الأقاليم يحتكرون مناصبهم لأسرهم بشكل وراثي، مع عجز الملوك عن كبح زمامهم، كما كان يفعل فراعنة الأسرة الرابعة، كما بدأ يظهر لون من ألوان المجاعة، يدل على خلل اقتصادي واجتماعي خطير، بدأ يستشري في الدولة.
14
إلا أن مآثر هذه الأسرة، أنه في منتصفها تقريبا - فيما يرى البعض - بدأ تسجيل متون الأهرام، التي تحمل أسرار المصريين العلمية، وقدراتهم العملية، ونظراتهم الفلسفية والعقائدية، كما أن لعقيدتها الدينية، وظروفها السياسية، وحالتها الاجتماعية، آثارا كبيرة وخطيرة في عقيدة الخلود، كما سيأتي بيانه في حينه.
أما أهمية الأسرة السادسة، فتعود إلى أنها كانت مليئة بالانقلابات والتطورات العقدية والفلسفية، تلك التطورات التي سبقت أو لحقت أحداثا سياسية خطيرة، وأنواعا مختلفة من الصراع؛ أهمها الصراع السياسي، ثم الاجتماعي، فالديني. نفصلها على الوجه التالي: (3-1) الصراع السياسي
وقد بدأ في عرف المؤرخين بمنتصف الأسرة الخامسة تقريبا، بين الملوك وبين حكام الأقاليم، ويرى «جاردنر
A. H. gardiner »: أنه كان نتيجة لتضخم ثروة النبلاء إلى الحد الكافي لأن يصبحوا منافسين للملك، سواء في القوة أو في النفوذ، فأمسوا ملاكا للأرض الإقليمية التي بدءوا حكاما عليها،
15
بعد أن كان للملك وحده - وليس لأي فرد أيا كان شأنه - حق التصرف فيها.
16
وقد أدى تضخم ثروة النبلاء إلى ضعف المركزية الملكية، بحيث اعتبره «إريك بيت
Eric peet » كما اعتبره «جاردنر
Gardener »، «الداء الذي أدى في النهاية إلى سقوط الدولة القديمة، وانهيارها في منتهى أسرتها السادسة.»
17
ويرى المؤرخون احتمال أن يكون سبب ارتفاع شأن النبلاء إلى هذا الحد، راجعا في بدايته إلى عطف من الملوك على النبلاء، فمنحوهم بعض القيم الاعتبارية والإمكانات المادية، وسمحوا لهم بتوارث مناصبهم في حكم الأقاليم، أو أنهم اضطروا إلى ذلك اضطرارا، بحيث انعكس ذلك على مكانتهم السياسية، وأدى إلى احتفاظ كل حاكم بإقليمه كمملكة خاصة به، بل وكون كل منهم جيشا محليا يتناسب مع إمكانات إقليمه، حتى وصل الأمر إلى حد أنهم منعوا موارد أقاليمهم عن العاصمة الملكية.
18
وتصور إحدى القصص المسجلة في الأسرة الخامسة، مدى ما وصلت إليه حال الملك، مقابل ارتفاع شأن نبلائه، فتقول: إن النبيل «رع ور» كان في ملابسه الرسمية، وتصادف أنه كان بجوار مولاه الملك «نفر اير كا رع» أو «أوسر خعو كا كاي»، فأصابت عصا الملك ساق النبيل عفوا، فذعر الملك، واعتذر بشدة عما بدر منه. وطلب أن يسجل اعتذاره رسميا على حجر يوضع في قبر «رع ور» بجبانة الجيزة؛ لتقرأه الأجيال المقبلة!
ومثل هذه القصص كثير، وهي تكشف - فيما يتصل بعلاقة الملك بأتباعه - عن مظاهر جديدة لم تكن معهودة من قبل؛ فقد بدأ الملوك يهبطون من علياء ألوهيتهم، وأخذوا يحرصون على اكتساب رضا وعطف رعاياهم النبلاء.
وكانت النتيجة الطبيعية لذلك ضعف الحكومة المركزية، وانحسار نفوذها تماما مع نهاية حكم الملك «بيوبي/بيومي الثاني»، الذي حكم أطول مدة حكمها ملك في التاريخ؛ فقد بلغت مدة حكمه زهاء الأربعة والتسعين عاما، فشاخ شيخوخة طويلة، اعتبرها الأثريون ذات أثر حاسم في ضعف الحكومة المركزية، حتى لم يتجاوز نفوذ خلفائه العاصمة وما جاورها مباشرة، «وإن كان نجيب ميخائيل يذهب إلى أن هذا الضعف قد سرى إلى ملكية الدولة القديمة منذ الأسرة الخامسة،
19
وهو تأكيد له في الظن ما يبرره كما سيأتي بيانه.» (3-2) الصراع الاجتماعي
وقد اشتعل أواره - فيما يذهب المؤرخون - بين السادة الإقطاعيين من حكام الأقاليم النبلاء وبين جماهير الشعب، وقد اختلفت الآراء في تفسير معناه، وتوقيت بدايته الصحيح، فهناك من يأخذ برأي المؤرخ المصري «مانيتون
Manethon »، مثل «جاردنر»، ويرى أنه اتخذ شكل فوضى، مصحوبة بسفك للدماء جاءت نتيجة لسقوط الملكية في الدولة القديمة. وهو يعني بالدولة القديمة الأسر من الثانية حتى السادسة، دون اعتبار الأسرتين السابعة والثامنة داخلتين فيها؛ أي إن الصراع لم يبدأ في رأيه في الأسرة السادسة، وإنما بعد سقوطها، وأنه استمر في رأيه بصورة متقطعة أو مستمرة حتى نهاية الأسرة الحادية عشرة، فيكون قد بدأ حوالي عام 2050ق.م، وانتهى عام 1990ق.م، مستمرا حوالي ستين عاما، تقريبا،
20
ويؤيد هذا التوقيت «سليم حسن»،
21
و«نجيب ميخائيل»،
22
اللذين جعلا الأسرة السادسة بمنجاة من هذا الصراع؛ على اعتبار أنه لم يبدأ إلا بعد سقوطها، بل إن «نجيب ميخائيل» يدفع بهذا الصراع زمنيا مدة أطول، فيقول: إنه «امتد إلى قرنين من الزمان أو ثلاثة.»
23
ويستند هؤلاء في توقيتهم إلى إصابة التاريخ المصري بانقطاع مفاجئ بعد الأسرة السادسة، مما يعني حدوث أمر جلل، أدى إلى مرور التاريخ المصري بمنطقة الظل طوال الفترة التي استغرقها هذا الصراع.
هذا بينما يذهب آخرون إلى أن أحداث «هذا الصراع الاجتماعي بين طبقتي الأجراء والنبلاء، قد بدأت فعلا خلال حكم الملك «بيوبي الثاني»؛ أي: قبل سقوط الأسرة السادسة فعلا»، ومن هؤلاء «عبد الحميد زايد» الذي أشار إلى أن نهاية الأسرة السادسة قد شهدت بداية هذا الصراع فعلا.
24
ويعضد هذا الرأي «عبد العزيز صالح» الذي يشير إلى أن الحكيم «أبي أور/أبيور» - الذي صور هذا الصراع في أشعاره - قد ذهب به الحد إلى مقابلة الملك وتحديه، مفترضا أن هذا الملك كان «بيوبي الثاني».
25
ويسلك نفس الدرب «إتيين دريتون وجاك فاندييه» اللذان أكدا أن هذا الملك «قد أتعس شيخوخته ثورة اجتماعية ليست في الواقع إلا النهاية المنطقية للتطور، الذي بدأ في عهد الأسرة الخامسة»
26
بمعنى أن هذا الصراع لم يكن وليد ظروف حكم هذا الملك بالذات، وإنما كان نتيجة لتراكمات ترسبت بعد تفاعلها في الأسرة الخامسة.
أما الاختلاف حول تفسير معنى هذا الصراع وطبيعته، فقد اتخذ أحد اتجاهين: اتجاه يرى أنه كان فترة من الفوضى والغموض والظلام، وانفلات لعرى الأمن؛ بسبب سقوط الحكومة، وعدم قدرتها على ضبط أمن البلاد، واتجاه يراه ثورة طبقية حقيقية قام بها الشعب ضد مضطهديه.
ومن أصحاب الاتجاه الأول «عبد الحميد زايد»، الذي لم يره ثورة؛
27
استنادا لنظريته في شيوع الديمقراطية في أواخر الدولة القديمة، وأن حكام العصر المتوسط لم ينكروا على الناس حرية الكلام.
28
كذلك تذهب «إليزابيث رايفشتال» - مستندة إلى «فرانكفورت» - إلى أن هذا الصراع «لم يحدث أبدا نتيجة لانتفاضة شعبية»
29
كما يذهب في نفس الاتجاه - مع بعض الاعتدال - كل من أندريه إيمار، وجانين إبوايه.
30
بينما يمثل أصحاب الاتجاه الثاني بعض المؤرخين؛ أمثال «نجيب ميخائيل» الذي وصف هذا الصراع بأنه كان «ثورة تأكل ما تلقاه»،
31
و«جاردنر» الذي لخص هذا الاتجاه في تحديده لمضمون هذه الفوضى في قوله: «وهناك ما يدعو إلى احتمال أن الفوضى التي ظلت حتى الأسرة الحادية عشرة، أنها صورة لثورة حقيقية»،
32
و«إتيين دريتون وجاك فاندييه» اللذان لم يجدا غضاضة في تفسير أحداث هذا الصراع على أنها نوع من أنواع «العمل الثوري.»
33 (3-3) الصراع الديني
واتخذ فيه أتباع ديانة «رع» موقف الدفاع، في صراع عقائدي عنيف اشتعل على جبهتين؛ جبهة الإله «بتاح» إله مدينة «منف»، وجبهة العقيدة الشعبية وإلهها «أوزير
Osir »، أو كما نطقه اليونان «أوزيريس
Osiris ».
ومن المعروف تاريخيا: أن عبادة الإله «رع» تعد من أقدم العبادات التي ظهرت في مصر، فتعود أول إشارة تاريخية لها إلى عهد التوحيد الثاني - كما سلفت الإشارة - وكما يؤكد ذلك كثير من الباحثين،
34
حتى استطاع مع تأسيس الأسرة الخامسة أن يصبح الإله الرسمي للدولة، إلا أنه كان هناك إله قديم آخر، ساد في عهد سابق لسيادة «رع» على الدولة القديمة، هو الإله «بتاح» المنفي، الذي بدأ نجمه في السطوع مرة أخرى، حتى كاد أن ينزع «رع» من عرشه ليصبح هو إلها رسميا للأسرة السادسة، بعد أن عاد للإيمان به الملك «تيتي
Titi » أول ملوكها وتحرك «رع» للدفاع عن مكانته، فحدث الصراع المباشر بينه وبين «بتاح»، ذلك الصدام الذي استمر حتى أضعف كلا الإلهين تماما، مما أعطى الضوء الأخضر للإله الشعبي «أوزير» ليتطاول، فيفتح على سيده رع جبهة جديدة في الصراع.
ولم تدم هذه المعمعة العقائدية طويلا؛ فقد توارى «بتاح» المنفي مهزوما أمام «رع» الأوني، ولكن بعد أن خرج «رع» من الصراع منهوكا ضعيفا، ذلك الضعف الذي كان عاملا حاسما في انتهاء الصراع لصالح الإله «أوزير»، فاستطاع أن يحقق انتصاره الكامل مع نهاية الأسرة الحاكمة السادسة.
وبذلك تضافرت أحداث الصراع الداخلي الثلاثة؛ لتعجل بنهاية الأسرة السادسة، التي عجل بها أكثر ال «عامو حر يوشع»، أو بدو الرمال، الذين بدءوا يتوافدون من فلسطين على الشمال الشرقي للبلاد، ليثيروا فيه الاضطراب والفزع،
35
وكانت النتيجة الحتمية أن تسقط الأسرة السادسة؛ لتجر معها الدولة القديمة بكل أمجادها. (4) العصر المتوسط الأول
36
وقد أعقب نهاية الأسرة السادسة مباشرة، ويشير «بترى
» إلى أن مصر تعرضت في بدايته لغزوات متفرقة من بدو الشرق، حتى وصلوا إلى مصر الوسطى،
37
بينما يشير «نجيب ميخائيل» إلى غزوة أخرى جاءتها من الجنوب النوبي،
38
في نفس الوقت الذي يشير فيه آخرون إلى غزو غربي أتاها من الصحراء الليبية،
39
فأضحت مصر كالأسد الجريح الذي تحول إلى فريسة منهوكة، يتناوب نهشها جياع الصحارى وضواريها.
ويرى الباحثون أن الصراع الاجتماعي المشار إليه آنفا، قد تصاعد حتى وصل ذروته في هذا العصر، مما حدا ببعضهم إلى وصفه بأنه كان «ثورة طبقية بمعنى الكلمة، وانفجارا لمراجل الغضب الشعبي تحت الظلم الاجتماعي والامتيازات الطبقية، التي جثمت على الصدور قرونا طويلة قبل الثورة»،
40
ولكنهم يشيرون في ذات الوقت إلى أن هذه الثورة لم تستطع التحول إلى نظام جديد، بل اقتصرت على هدم النظام القديم فحسب،
41
مما أدى بها - بتعبير «نجيب ميخائيل» - إلى «أكل نفسها بعد أن قضت على كل شيء، ولم يبق أمامها ما تأكله.»
42
واستمر حال البلاد على منواله هذا زهاء خمسين عاما أخرى، حكمت خلالها البلاد - حكما صوريا - أسرتان من بقايا سلالات الدولة القديمة الغابرة؛ هما الأسرتان السابعة والثامنة، حتى تمكن نبلاء «نن نسوت
Nen Neswet » من تجميع شتات الأقاليم المحيطة بهم، وضمها لإقليمهم، ثم اتجهوا شمالا نحو العاصمة ليقضوا تماما على بقايا التفريخات الملكية القديمة، ويضموا إليهم الدلتا، بل واستطاع «أخيتوي» أحد قوادهم، أن يحقق قدرا من الاستقرار والأمن، وأن يخفف من الفوضى والجرائم، وأن ينصب نفسه ملكا في «نن-نسوت» مسجلا في التاريخ قيام الأسرة التاسعة الحاكمة.
وقد اهتمت هذه الأسر ببث الروح الحربية في البلاد، واعتنت بمجنديها من الشبان، إلا أنه بات جليا أن فتوحات «أخيتوي» قد توقفت عند «أسيوط» حيث كان حكام واست
43
قد استطاعوا بدورهم أن يجمعوا حولهم شعب الجنوب، وأن يكونوا لأنفسهم جيشا قويا، لم يستطع في البداية منازعة «نن-نسوت» سلطانها القوي؛ إلا أنه لم يمض وقت طويل حتى أعاد التاريخ سيرته، وعلى الحدود عادت الحروب بين الشمال والجنوب؛ لتذكرنا بحروب الزمان الغابر بين الإلهين «ست» و«حور»، وكما حدث في سالف الأزمان أعادت الأيام حكايتها عن انتصار الشمال على الجنوب في جولاته الأولى، فانتصر «أخيتوي» الثالث - أو ربما الرابع - على «منتوحتب الأول
Monthohotep I » زعيم الجنوب الواستي، وأغرى ذلك النصر الشمال نحو نصر ثان، فتوغلوا في الجنوب حتى استولوا على المدينة المقدسة «أبيدوس
ABYDOS »
44
حوالي عام 2065ق.م، بعد أن ألحقوا بها الكثير من الضرر والأذى، الذي ربما كان سببا مباشرا في تذمر الشعب؛ لأن أبيدوس لم تكن مدينة عادية، إنما كانت مقر إله الشعب أوزير.
وقد شجع هذا النصر «نن-نسوت» لتوسيع نشاطها الحربي، فاتجه جنودها نحو الدلتا، ونجحوا في تطهيرها من ال «عامو حر يوشع» إلى حد بعيد، فأبعدوا الغالبية، وكسروا شوكة البقية.
ولم يطل الأمر بالعهد الننسوتي، فأخذت الأسرة العاشرة تفقد استقرارها من عهد ملكها «أخيتوي الخامس»،
45
بعد أن بات ظاهرا أنه قد خسر جولته أمام صلابة «واست» الصعيدية؛ لينتهي الأمر كما انتهى في غابر الأزمان لصالح الجنوب، فتسجل الأيام انتصار «منتوحتب نب جبه رع» أو «منوحتب الأول»،
46
بعد أن دحر الشمال حوالي عام 2134ق.م، منهيا بذلك العصر المتوسط الأول بتوحيد الشمال مع الجنوب، بعد أن استمر نحو قرن ونصف من الزمان، ومقيما الأسرة الحادية عشرة أولى أسرات الدولة الوسطى. (5) عصر الدولة الوسطى
ويبدأ تاريخيا بقيام الأسرة الحادية عشرة التي أسسها «منتوحتب» عام 2134ق.م على وجه التقريب، لينتهي عام 1580ق.م بنهاية الأسرة الثانية عشرة، تلك الأسرة التي أسسها «أمنمحات الأول» عام 1991ق.م؛ وبذلك تكون قد استمرت في الحكم حوالي مائتين وخمسين عاما.
وتقول المصادر: إن حكام الأسرة الحادية عشرة قد أخذوا بسياسة مرسومة، استفادوا فيها من أحداث الماضي، فحددوا سلطات نبلاء الأقاليم، وركزوا سلطان الحكم في عاصمتهم «واست»،
47
إلا أنهم على ما يبدو لم يتمكنوا تماما من تحقيق هذه المركزية التي أرادوها فيما يرى «إريك بيت»،
48
لكنهم استطاعوا تطهير البلاد من بقايا أعدائها، خاصة بعد الحملة التي جردها «منتوحتب نب تاوي رع» أو «منتوحتب الرابع» آخر ملوك الأسرة الحادية عشرة؛ لطرد بقايا الغزاة، «وعقد لواء جنودها العشرة آلاف لوزير حربيته «أمنمحات»»؛ لردع المتسللين إلى البلاد والقضاء عليهم.
ويشير أكثر من مؤرخ وباحث، إلى احتمال كون هذا الوزير أمنمحات هذا هو نفسه «أمنمحات سحتب أب رع» المعروف باسم «أمنمحات الأول»، مؤسس الأسرة الثانية عشرة، بعد أن استغل رياسته للجند؛ للإطاحة بحكم مليكة، والقضاء على شأفة أسرته، والاستيلاء على عرشه. ويعلن «برستد» رأيه في ذلك صراحة فيقول: إن أمنمحات «قد اغتصب الملك قهرا»،
49
ويذهب معه باحثون آخرون، يؤكدون أن أمنمحات هذا كان وزيرا قويا في عهد منتوحتب الرابع، آخر ملوك الأسرة الحادية عشرة، واستطاع أثناء وزارته أن يركز بين يديه سلطات كبيرة، ويشرف على شئون الدولة إشرافا فعليا، ولم يلبث أن انتهز وفاة منتوحتب الرابع، وأعلن نفسه فرعونا على البلاد، تحت اسم «أمنمحات الأول»،
50
كذلك نجد «نجيب ميخائيل»
51
من المؤيدين لهذا الاتجاه بقوة.
ومما يدعم هذا الرأي، تلك النبوءة التي شاعت إبان حكم «أمنمحات الأول»، والمسماة «نبوءة الكاهن نفرتي.» تقول النبوءة:
سيأتي ملك من الجنوب يدعى أميني،
ابن امرأة من تو-سي،
طفل خن نخن،
سوف يتسلم التاج الأبيض،
ويلبس التاج الأحمر،
والناس في زمنه سيكونون سعداء.
إن ابن أحدهم
سيخلد اسمه إلى أبد الآبدين.
52
وقد كانت هذه النبوءة مدعاة لأن يرى «أنصار ظهور المخلص الاجتماعي، أن حلمهم قد تحقق فيما يختص بظهور الملك العادل»
53
بعد عصر الإقطاع الطويل المظلم.
ويرى المؤرخون أن هذه النبوءة من صنع أتباع «أمنمحات»؛ ليظهروا فرعونهم الجديد أمام أفراد شعبه، في هيئة المخلص الموعود، والمنقذ المنتظر. وكي يوهموهم بأن العناية الإلهية قد تخيرته من الأزل؛ قاموا بإرجاع الوثيقة إلى عهد «سنفرو
senefru » في أوائل الدولة القديمة؛ لتكون تبشيرا بالزعيم المنقذ قبل مولده بقرون طويلة.
54
وإن هذا الأسلوب ما كان ليتبع من قبل مع الفراعنة السالفين إلا نادرا، ولأسباب؛ أهمها: أن يكون الملك الجديد من غير سلالة ملكية أصيلة، مما يجعل الاقتناع به عند البعض أمرا مشكوكا فيه، وخاصة بين كهنة الآلهة الذين يعتبرون الملك دائما من نسل إلهي، ولا يرون في حكم الأشخاص العاديين سوى علامات ونذرا لنهاية الدنيا، وزندقة وكفرا.
ويوضح «جاردنر» هذا المعنى بقوله: «إن النسب غير الملكي لأمنمحات وضح بما فيه الكفاية؛ لأن عبارة - ابن أحدهم - كانت طريقة معتادة للإشارة إلى رجل طيب أصيل، لكنه غير نبيل المولد.»
55 (6) العصر المتوسط الثاني
56
يقول التاريخ: إن هذا العصر بدأ باضطرابات داخلية شديدة، وتميز بقصر فترات حكم ملوكه، التي تراوحت ما بين سنة وثلاث سنوات، وقصرت أحيانا حتى بلغت يومين أو ثلاثة!
57
حتى إنه مرت على البلاد ست سنوات كاملة، دون ملك يمكن أن يرضى عنه الجميع.
58
وانتقلت مقاليد الحكم إلى ملوك وثبوا على العرش واحدا تلو الآخر، لم تلعب الوراثة أو صلات القرابة بينهم دورا واضحا، ولم يستطيعوا - إلا قليلا - إعادة الاستقرار إلى البلاد، فاستمرت في انهيارها، وفسدت الإدارة، واضطرب الأمن،
59
حتى استطاع أحدهم وهو عند «نجيب ميخائيل»: «مغتصب للعرش، من عامة الشعب»،
60
أو هو بتحفظ عند «عبد العزيز صالح»: «رجل من خاصة الشعب»،
61
يدعى «نفر حوتب
Nefer Hotep » أو «حغ-سخم-رع»، استطاع أن يصل إلى إمساك زمام البلاد، والسيطرة على الاضطرابات، واستعادة وحدتها ، وإخضاع أعالي النوبة، حتى بلغ نفوذه أعلى الشلال الثالث.
62
وعلى عادة الحكام من غير ذوي الدم الملكي الموروث؛ تعمد «نفر حوتب» أن يظهر تقواه الدينية، وعلمه وحكمته، أمام أفراد شعبه؛ ليؤكد أنه لا يقل عن ورثة البيوت المالكة القديمة محافظة على الدين والتراث، فسجل باسمه نصا طريفا، تحدث فيه عن رحلته الشاقة إلى مدينتي أون وأبيدوس المقدستين؛ «في سبيل تمجيد الإله الشعبي أوزير»،
63
إلا أنه بموت «نفر حوتب»، عادت الإضرابات من جديد، ولحقه عدد من الملوك الشعبيين،
64
وبدت على البلاد علامات الانهيار، عندما ظهر الخطر الأكبر على الحدود الشمالية الشرقية، ممثلا في تلك القبائل البدوية التي استطاعت أن تدخل مصر وتحتلها قرابة قرن ونصف من الزمان، تحت اسم «شيوخ البدو» أو «البدو الرعاة» أو «الهكسوس».
65
واضطر المصريون لدفع الجزية للملك الهكسوسي، طوال فترة الاحتلال القاسي، مع بعض محاولات ثورية متكررة هنا وهناك، أجهضها الهكسوس أولا بأول، عدا تلك التي قامت في الجنوب؛ ليقوم على رأسها «قادة ملوك مصر بالاختيار الحر»،
66
فاستطاعوا أن يحافظوا على استقلالهم، بعيدا عن متناول الغزاة، ثم بدأوا بشن غارات متقطعة مستمرة على الهكسوس
67 - كرا وفرا - حتى إذا ما تمكنوا من بنيانهم جيدا، انطلقت عزماتهم تحريرا، وانتظم حول الملك المختار «كامس» كل نبلاء الصعيد!
68 «وصدق ظنه في سواد شعبه، فهرع إليه أهل الشرق والغرب كما قال، وأمدوا جيشه أينما حل أو ارتحل بالمئونة والزاد ...»
69
واستطاع جيش الصعيد الشعبي أن يحرر البلاد بأسرها تماما في عهد «أحمس بن سقنزع» ثالث ملوك التحرير، الذي انطلق بجيشه ليقضي على فلول الغزاة نهائيا، وليؤسس بذلك الأسرة الثامنة عشرة المصرية، أول أسر الدولة الحديثة، وأعظم إمبراطوريات هذا الزمان، بعد أن واصلت الجيوش تقدمها؛ لتطوي سوريا في ثنايا طيها للأرض مطاردة للهكسوس.
70 (7) عصرا الدولة الحديثة، والانحلال
وعصر الدولة الحديثة هو عصر الإمبراطورية المصرية،
71
التي عمرت ما يزيد على ستة قرون متواصلة، حافظت خلالها على استقلال البلاد الكامل دون شائبة، واستطاعت خلال أربعة قرون منها أن تكون السيدة المطلقة لدول الشرق القديم، وأعظمها طرا بلا منازع.
وقد بدأ تأسيس هذه «الإمبراطورية» بعد أن حقق «أحمس بن أبانا» انتصارات رائعة في مطاردته للهكسوس، فتتبعهم حتى «زاهي»،
72
مما أدى فيما تلا ذلك من أحداث، إلى استيلاء العسكرتاريا المصرية على العرش، وكان أبرز هؤلاء الملوك العسكريين «أمنحوتب الثاني»، الذي عرفه التاريخ بالقسوة والعنف الشديد مع أعداء البلاد، وباللين والحب التسامح مع بني جلدته المصريين،
73
و«تحوتمس الثالث» الذي استولى على الحكم عام 1468ق.م؛ ليخرج بعد أشهر قليلة من عامه هذا على رأس جيوشه، فيحتل «قادش» كبرى مدن شرقي المتوسط آنذاك، ويواصل تقدمه حتى يتوج انتصاراته بعبور الفرات.
74
فمثلا يقول «أكيزي
Akizzi » أمير «قطنا
Katna »: - حمص حاليا - في رسالته: «سيدي، أنا خادمك هنا، أتبع سنة سيدي ولا أحيد عنه أبدا. لقد صارت هذه الأراضي ملكك منذ آبائي الذين خدموك؛ فمدينة قطنا مدينتك، وأنا عبدك. سيدي، حالما يصل إلي جنودك وعجلاتك الحربية، سرعان ما يقدم لها الغذاء والشراب، والبهائم والأغنام، والعسل والزيت؛ هكذا نقابل جنود جلالتك وعجلاتك، أيها الملك.» أو ما يقوله أمير آخر: «سيدي ومليكي، ومعبودي وشمسي، أنا خادمك أبي مالك
Abimilki ، أتشرف بأن أسجد بين يدي سيدي سبع مرات، وسبع مرات أخر؛ فأنا «الأديم تحت خفي سيدي الملك»، سيدي، أنت الشمس الساطعة على الأرض كلها كل يوم ...»
وجاء في خطاب آخر: ««أنا الأرض التي تطؤها قدماك»، والمقعد الذي تجلس عليه، والمسند الذي تضع عليه قدميك.» وغلا بعضهم في إخلاصه، فكتب إلى جلالته يقول: «أنا كلبك»، بينما كان بعضهم يسبغ على نفسه شرفا عظيما، بتلقيب نفسه «سائس جلالة الملك.»
على أن السياسة الداخلية لحكام الأسرة الثامنة عشرة لم تستمر على منهاجها الجديد، فعادت حمى الوراثة الملكية إلى الظهور من جديد؛ لتتمسك هذه الملكيات الجديدة بما استمسكت به سوالفها من مركزية واسعة، وحق الحكم الإلهي والوراثة المقدسة بالتناسل عن الآلهة.
75
وحتى يتمكن هؤلاء الملوك شعبيو الأصل من تدعيم ملكياتهم؛ لتصبح وراثة مقدسة، ونظرا لأنهم في حالات كثيرة لم يكونوا سلالات ملكية الدم، وإنما قيادات شعبية، أو عسكرية انقلابية؛ فقد لجئوا إلى المنطق الأكثر فعالية مع الجماهير - أقصد الدين - فسارع كل منهم إلى تأكيد بنوته المباشرة للإله، بترويج رجال الدين لوحي يؤكد تجسد الإله كروح في جسد الملك الأب، أو مناسلة الإله مباشرة لأمه؛ لتنجب ذاته القدسية وكان أشهر قصص أبناء الآلهة المباشرين، قصص «... حتشبسوت، وتحوتمس الثالث، وتحوتمس الرابع، وأمنحوتب الثالث».
76
كما بدا أن سيادة كبار الموظفين ورؤساء الكهنة والوزراء، قد بدأت تستعيد ما فقدته من سيطرة بعد اضطرابات العصرين المتوسطين الأول والثاني، كما بدأ نظام الإقطاع يعود مرة أخرى في شكل منح للعسكر المخلصين للتاج، والذين كثيرا ما ساهموا في وصول قوادهم للعرش،
77
وانتهى الأمر لما كان عليه في الدولة القديمة؛ مما أدى مرة أخرى إلى سوء العلاقة بين الشعب وأجهزته الحكومية.
وتصور هذه الحالة نصوص كثيرة؛ منها كمثال النص التالي:
ألا تذكرون حالة الفلاح الذي واجه مسألة تسجيل ضريبة الغلة؟ بعد أن كانت الأفعى قد ذهبت بنصف الحبوب، والتهمت فرس الماء الباقي؟! إن الفئران وفيرة في الحقول! والجراد يهجم، والأبقار تلتهم، وعصافير الدروي تحمل النكبات، والذي يتبقى على البيدر يقع في أيدي اللصوص، والثور، مات وهو يدرس ويحرث ... والآن يحط الكاتب على ضفة النهر ليسجل ضريبة الغلة، ومعه حراس يحملون الهراوات، ورجال الشرطة نوبيون، يحملون قضبان النخيل ويقولون له: سلم لنا الحبوب، على الرغم أنه ليس هناك أية حبوب! ويضرب الفلاح ويوثق، ثم يرمى في بئر، ورأسه إلى أسفل، في حين أن زوجته وأولاده تكون قد قيدت بالأغلال أمام عينيه، وأولاده مكبلون بالأصفاد، ويتخلى عنه جيرانه، ويلوذون بالفرار ...
78
ويبدو أن الحالة أصبحت تشبه الوضع الذي أدى للصراع الاجتماعي في نهاية الدولة القديمة؛ مما أدى لظهور الخلخلة والاضطرابات في أواخر عهد «أمنحوتب الثالث»، وزاد من تردي الأحوال ولده «أمنحوتب الرابع»
79
المعروف باسم إخناتون، الذي تفرغ لدعوته الدينية الجديدة، تاركا أوضاع البلاد داخليا وخارجيا تسير من سيئ إلى أسوأ، حتى حكم البلاد ملكان من خارج الأسرة الثامنة عشرة، بعد أن عز وجود وريث شرعي قوي الشكيمة، وهما يمثلان مرحلة انتقالية بينها وبين الأسرة التالية لها، وهما «آي» و«حور محب»، وكان هذا الأخير بالذات ملكا شعبيا، عسكري التربية، استطاع أن يمسك بزمام الأمور، وأن يضع قوانينه المشهورة، التي «أكد في مقدمتها أنه ابتغى أن يمحو بها أعمال النهب والعنف، وأنه أملى تشريعاته بنفسه على أهل بلاطه، وأنه اختار قضاته الإداريين من الجنود لتطبيقها، ممن يحسنون القول ويمتازون بالخلق الطيب، ويدركون خفايا الأمور، ويتبين من مراسيمه هذه: أن الضريبة أصبحت نهبا مشاعا لعدد كبير من الموظفين والعسكريين كانوا يغالطون دافعي الضرائب، ويجبونها سنويا لصالحهم، وأن جماعات الجنود كانوا يعتدون على سفن الغلال، وأن أصحاب المراكب غالبا كانوا يحرمون من أجورهم إذا أدوا خدمات للدولة، ففرض على المعتدين والمرتشين عقوبات رادعة تتمثل في الجلد بالسياط وجدع الأنف والنفي ...، ثم وضع أوامر تقضي بالمسارعة بمعاقبة المخالفين، والعمل على استرداد المسروقات، «وإعفاء صاحب الماشية من الضرائب المستحقة عليه إذا سرقت ماشيته أو نفقت. وكان حازما مع رجال جيشه على الرغم من أنه كان منهم»، فعمل على المساواة بينهم وبين غيرهم في الردع والعقاب.»
80 «بل ورفض حور محب فكرة التوريث الملكي»، فعهد بالحكم من بعده إلى قائده ووزيره «با رع مسو» الذي كان الرجل الثاني في حكومته، ذلك الذي عرفه التاريخ باسم «رمسيس الأول»، وبأنه الذي عاد بالحكم مرة أخرى إلى نظام التوريث؛ ليحكم من بعده ولده «سيتي» مؤسس الأسرة التاسعة عشرة.
81
وقد حافظت هذه الأسرة على قوة البلاد الخارجية، خاصة في عهد «مرنبتاح- 1224ق.م» الذي أعاد عهد الفتوحات، فذكرت نصوصه: «أنه أخضع القبائل الإسرائيلية وبلاد كاشي والحدود الليبية».
82
ورغم أن التاريخ يعتبر رمسيس الثالث آخر الملوك العظام، فإن الحالة داخل البلاد كانت متردية، فأضرب العمال في عهده مرتين، عندما تحول الدين لاستغلال الفقراء،
83
حتى سقطت الدولة الحديثة، وسقطت معها مصر في نهاية عهد الرعامسة، وبدأ عصر الانحلال، وتعرضت البلاد للغزوات المتتالية التي بدأها الفرس حوالي عام 525ق.م؛ ليتلوهم الإسكندريون الإغريق حوالي عام 332ق.م ؛ لتنتهي بالخضوع لغزو بدو الجزيرة العربية؛ ليسدل التاريخ أستاره على أعظم قصص الحضارة الإنسانية ، في عالم البشر قاطبة.
الفصل الثاني
استقراء التاريخ
إن الفلسفة تبدأ عندما يبدأ الإنسان يتعلم الشك، وخصوصا الشك في المعتقدات التي يحبها، والعقائد والبديهيات، أو الحقائق المقررة التي يؤمن بها ويقدسها.
ول ديورانت
إن الفكر ليقف مليا أمام بعض أحداث التاريخ المصري القديم؛ يتساءل دهشا، يبحث عن إجابات، وعادة ما لا يتوقف الفكر متأنيا إلا إزاء ما يثير استغرابه ودهشته، أو أمام ما قد يراه متناقضا أو مختلفا عليه، أو أمام ما قد لا يكون مقنعا أو منطقيا.
ولعل أهم ما يثير التساؤل في هذا التاريخ، هو: أحداث ما سمي بالصراع الاجتماعي في نهايات الدولة القديمة، وتكراره في نهايات كل من الدولتين الوسطى والحديثة، تلك الإثارة التي نتجت عن عدم استقرار أو اتفاق آراء المؤرخين حول:
تفسير معنى هذا الصراع: هل كان مجرد اضطرابات واختلال أمني، ناتج عن ضياع نفوذ الملكية بضياع المركزية، كما تذهب الأكثرية؛ أم كان ثورة جماهيرية طبقية حقيقية، كما تذهب الأقلية؟ وأي الرأيين أقرب إلى الصحة والسلامة المنطقية؟
وتوقيت هذا الصراع، هل حدث كما ذهبت الجمهرة الغالبة بعد نهاية الأسرة السادسة؛ أم قبل هذه النهاية؟
ونظرا لجوهرية هذا الأمر؛ فإننا نرى أنه لو أمكن تدعيم رأي من ذهبوا إلى توقيته إبان وجود الأسرة السادسة، فسيتغير تفسير هذه الفترة التاريخية كليا، أي: سيصبح هذا الصراع هو السبب المباشر لسقوط الدولة القديمة برمتها، وليس نتيجة لهذا السقوط كما ذهبت الجمهرة الغالبة، ولن يصبح مجرد اضطرابات أمنية وفوضى عامة، وإنما ثورة حقيقية كان لها - لا ريب - أعمق الأثر في تغيير التاريخ، وربما العقائد أيضا، إذا صدق حدسنا.
وهنا تبدأ الفلسفة بأخذ دورها في منطقة التاريخ؛ فالفيلسوف الألماني «هيجل» أعلن إيمانه بأن «المنهج السليم، والجدير بالبحث الفلسفي، هو: تناول التاريخ حينما يبدأ ظهور النزعة العقلية في الشئون الدنيوية»،
1
وفي هذا العصر الذي نحن بصدده، ظهرت - ولا شك - هذه النزعة العقلية بأجلى معانيها، عند عدد من حكماء العصر، مثل: آبي أور الشيخ الحكيم، ونفر رحو، والفلاح الفصيح، وغيرهم كما سنرى، وحيث كان هم هؤلاء الأكبر هو: إعمال العقل في إيجاد حل لمشكلات عصرهم الدنيوية.
لذلك فلا مفر من العودة ثانيا إلى هذا العصر؛ نستنطق أحداثه الاجتماعية على طريقة «كولنجوود»؛ لعله يعطينا لهذه التساؤلات تفسيرات قريبة إلى منطق الفلسفة، الذي هو منطق التاريخ أيضا.
وتعليقا على الحالة الاجتماعية في عصر الدولة القديمة؛ يقول «إريك بيت»: «وكانت هوة واسعة تفصل هذه الطبقة - يقصد طبقة النبلاء - عن طبقة الفلاحين، الذين كانوا كالأرقاء في مزارع الملاك، وفيما يتعلق بأحوال العيش في عهد الدولة القديمة، فأنا أميل إلى القول بأن النبلاء وكبار الموظفين كانوا سعداء جدا، وأن الأجراء كانوا على جانب عظيم من الشقاء؛ ذلك أن هؤلاء لم يكونوا - فيما يلوح - أكثر من عبيد ملحقين بالضياع الكبيرة، ينتقلون من سيد إلى سيد مع الأرض، كأنهم جزء منها لا يتجزأ، وكانوا يجلدون بلا شفقة ولا رحمة لأقل هفوة.»
2
ويلوح لنا أن هذه الصورة لحالة مصر الاجتماعية، لم تقتصر على تلك الفترة التي ظهر فيها نبلاء الأقاليم في الأسرتين الخامسة والسادسة، وإنما كان هذا هو الحال منذ أمد طويل قبل ذلك، منذ السيادة المركزية المطلقة في الأسرة الرابعة، فيقول «فرانكفورت»: «كان العامة مقيدين بالأرض التي يحرثونها، وكان عليهم أن يقدموا نسبة كبيرة من منتوجهم كضريبة، وكانوا معرضين لأعمال السخرة، وكان قسم من الشباب في كل القرى والمزارع يجندون للجيش ... وإذا طرأت حاجات إضافية لتنفيذ واجبات خاصة ... فإنه كان ممكنا تجنيد السكان جميعا.»
3
وهكذا «كانت حياة الفلاح المصري هي المأساة الحقيقية؛ فهو يرث الشقاء عن أجداده، ولا يستطيع أن يتصرف في مستقبله، ولا أن يبرح الأرض التي ولد فيها. إنه مرتبط بالأرض كالجماد أو الحيوان، وتابع لسيده، بلا أمل في الخلاص.»
4
وكما سلفت الإشارة، فقد كان معروفا في هذه العهود أن الأرض ملك للفرعون وحده، أما خدام الأراضي من حراثين وحصادين وغيرهم، فكانوا طائفة من الخدم أو الأقنان التي شملت الجزء الأكبر من الرعية،
5
وكانت أقوال الملك أوامر حتمية، لا يسع الشعب أمامها إلا التسليم والخضوع، مهما بدت قاسية أو بغيضة لا تطاق.
6
وكثيرا ما ظهرت في نقوش الأسرتين الخامسة والسادسة صورة الملك ممسكا بالعصا يؤدب الفلاحين، وجباة الضرائب يسحبونهم على وجههم إلى قصر السيد؛ ليلقوا جزاء تقصيرهم في دفع ما عليهم من أموال، ولم تكن هناك جهة يمكن أن يلجأ إليها الفلاح ليحصل على حقوقه بعد أن ظهر النبلاء، وأصبحوا هم القضاة، فكانوا الخصم والحكم، المشرع والمنفذ في آن واحد.
7
ويمكنا هنا التكهن بأن أبشع صور العبودية كانت خلال الأسرة الرابعة بالذات؛ فكثير من الباحثين يشيرون إلى عمق الهوة التي كانت تفصل الملك عن شعبه خلالها،
8
ولا ريب أن هذه العبودية قد بلغت ذروتها حول الأهرام الكبرى أثناء بنائها، ونستنتج ذلك مما ذكره «هيرودوت» عن الملك «خوفو» صاحب الهرم الأكبر - في الأسرة الرابعة - أنه «انتهج سياسة العنف، وأغلق المعابد والأسواق؛ حتى يجبر المصريين على العمل في بناء هرم له»،
9
وما جاء عند «نجيب ميخائيل» أن المصريين باتوا يكرهونه ويمقتون ذكر اسمه.
10
وإن هذه الحالة الاجتماعية التي استغرقت ثلاث أسر من الدولة القديمة - الرابعة والخامسة والسادسة - تحمل من الموحيات معاني؛ أهمها:
ترجيح كفة القلة التي تذهب إلى تفسير هذا الصراع على أنه كان ثورة طبقية.
ترجيح كفة القلة الأخرى التي توقت موعد الصراع قبل سقوط الأسرة السادسة، وإن كان ترجيحا بحاجة لمزيد من الدعم.
وسعيا نحو محاولة التيقن من مدى صحة هذه الترجيحات؛ يمكن إلقاء إطلالة على ما تركه العصر من تراث أدبي، يمكن أن تكون قد ظهرت فيه صور لما دار فيه من أحداث؛ فقد كان محتما أن تصاحب أحداث الصراع الاجتماعي حركة فكرية، نطقت بها قطع أدبية رائعة، نسبها التاريخ لحكماء هذا العصر الشعبيين، وهي ترسم صورة حزينة قاتمة لما ساد البلاد من فوضى ودمار، ومن خلالها يمكن الحكم على طبيعة أحداث العصر. ومن أهم هذه القطع الأدبية: نصائح الحكيم «آبي أور»
11
أو الشيخ الحكيم وتحذيراته، الذي عاش في أواخر الأسرة السادسة، وكان له دور كبير في هذه الأحداث؛ مما دفع بعض المؤرخين لاعتباره «نبيا» ومصلحا ومبشرا ونذيرا، كما احتوى شعره على توصيات إيجابية للخروج بالوطن من أزمته، والتنبؤ بعصر ذهبي آت يحمل الإصلاح المنشود.
12
وبادئ ذي بدء، يمكنا أن نلمح في أبياته روحا ثورية واضحة، تتغشى مطالبه بالعدل الاجتماعي والديمقراطية، وإزالة الفوارق الطبقية، مع تأكيده على أن ما حدث كان نتيجة لتحالف الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية معا.
13
وإذا كانت الهزات التاريخية في رأي «بوركارت»
14 «لا تعتمد في مراحلها الأولى على المحرومين والمعدمين، بل تعتمد على أصحاب الأرواح الفعالة، وبفضل دورهم الريادي تتحقق البداية»، فيمكن اعتبار «آبي أور» أحد كبار الرواد في هذا العصر؛ إذ يصف كيف بدأت هذه الأحداث عمليا وفعليا، بإشارته من طرف خفي إلى سريان الإلحاد بين الناس، بقوله: «صار الرجل الأحمق يقول: إذا عرفت أين يوجد الإله، قدمت له القرابين؟» و«إن القصابين يذبحون الأوز، ويقدمونها للآلهة على أنها ثيران»! «وفي الحق أصبحت التقوى اسما فقط»،
15
وبعدها «قالت كل مدينة: دعونا نقصي العتاة من بيننا.»
16
ثم:
قال حراس الأبواب (بعضهم لبعض):
لننطلق وننهب. وأبى الغسالون أن يحملوا أحمالهم،
وتسلح صيادو الطيور بأسلحتهم،
وتترس أهل الدلتا بالتروس ...
17
أما القضاء الظالم، فقد نال نصيبه بأن:
ألقيت قوانين دار القضاء في العراء،
ووطئت بالأقدام في الشوارع،
ومزقها الغوغاء في الأزقة،
وأخذ العوام يروحون ويجيئون في دور القضاء الكبيرة.
18
وكان لدواوين الضرائب - التي طالما عانى منها الشعب - دورها أيضا؛ فقد «فتحت الدواوين، وسلبت كشوف الإحصاء، وأتلفت سجلات كتبة المحاصيل.»
19
ونفهم من كلامه؛ أنه بعد انتهاء الجماهير من الدواوين الرسمية، اتجهت إلى النهل من كل ما حرمت منه قبلا، فهوجمت مخازن الغلال، وفر أصحاب الأصل الرفيع، وامتدت يد البطش لكل من وقف في وجه الجماهير، واقتنى السوقة أموال الأثرياء وممتلكاتهم، حتى لو كانت بلا فائدة لهم، كأن يستولي الأصلع على قوارير العطور الزكية، أو كأن يحصل من يجهل الموسيقى على قيثار بديع.
20
واستطاع العجوز الحكيم أن يصل إلى الملك؛ في محاولة أخيرة لإيقاف الأحداث المدمرة، وليسمعه صوت الشعب، صارخا فيه: ... الكل آيل إلى الدمار ... ... إن ما يروى لك هو الباطل،
فالبلاد تشتعل،
والناس قد أهلكوا.
لديك وحي وبصيرة،
و«أسباب» العدالة، «ولكنك بعثت الفوضى في البلاد
مع الفتن
وليتك تذوقت بعض هذه المصائب»،
إذا لقصصت خبرها بنفسك.
21
ويبدو أن صاحب الجلالة لم يلق بالا إلى ناصحه، فعاد هذا خائبا إلى الجماهير، وكانت النتيجة ما صوره بقوله:
لقد أصبح الدم في كل مكان،
وأصبح مجرى النهر قبرا،
وغدا مكان التطهر فيه بلون الدم،
وإذا قصده الناس ليرتووا منه،
عافوا جثث البشر، وظلوا على ظمئهم إلى الماء ... وغصت التماسيح بما أصبحت تقتنصه،
بعد أن ذهب إليها الناس من تلقاء أنفسهم،
22
وأصبح الحزن يملأ قلوب أصحاب الأصل الرفيع.
أما الفقراء؛ فقد امتلئوا سرورا ...
23
ويضيف التاريخ: إن البلاد قد تحولت نتيجة لهذه الأحداث، إلى حالة متردية من التمزق والتفتت، حتى انتهك الغوغاء مقابر أعاظم الملوك، بل ومعابد الآلهة، فنهبت السوقة الأوقاف، وهشمت النقوش والمعابد وموائد القربان، ولم يستثن من الانتقام الرهيب، لا الجماد ولا البشر ولا القيم.
24
ولم يعد أمام العقلاء من القوم وحكمائهم، سوى ترقب الخلاص من هذه المهاوي، معلقين الآمال على رجل قوي صالح، يمكنه أن يصل إلى الحكم، ويمسك بزمام الأمور، ممنين النفوس بعدله وعطفه ورعايته، ويصف «آبى أور» رجل الشعب المنتظر بقوله:
إنه يطفئ لهيب الحريق الاجتماعي،
ويقال عنه: راعي كل الناس،
ولا يحمل في قلبه شرا،
وحينما تكون قطعانه قليلة العدد،
فإنه يصرف يومه في جمع بعضها إلى بعض.
وقلوبها محمومة.
25
ولم يكن الحكيم «آبى آور» هو الأديب أو المفكر الوحيد، الذي وصف لنا أحداث الصراع الاجتماعي؛ فهناك أيضا الحكيم «نفر رحو»،
26
الذي ينسب شعره زمنيا إلى أيام الدولة الوسطى، وإن كان به ما يدل في ظننا - ظنا له ما يبرره - أن نسبتها للدولة الوسطى نسبة مشكوك فيها، ونعتقد أنها قيلت لأول مرة إبان أحداث الصراع الاجتماعي، وإذا كان تسجيلها قد تم في عصر الدولة الوسطى، فليس هناك ما يمنع من كونها كانت معروفة إبان عصر الصراع، خاصة وأن كثيرا من قطع الأدب المصري لم تسجل كتابة إلا بعد عهدها بزمان، وهي حالة معروفة لدى الباحثين في تاريخ مصر القديمة.
يقول نفر رحو:
فؤادي، لطالما تألمت من أجل هذه الأرض.
التي نشأت فيها، «وقد أصبح الصمت نقيصة»؛
فثمة أمور يتحدث القوم عنها،
وقد ولى زمان الرجل الكفء،
فمن أين تبدأ؟
لا تراع «فؤادي»؛
فالأمر واضح أمامك! «وعليك أن تقاومه؛
فقد أصبح المسئولون عن البلاد
يأتون أمورا ما كان ينبغي أن تحدث»،
وتخربت الأرض وليس من يأسى عليها،
يتحدث الجميع عن الحب،
ولكن الخير اختفى ...
تناقصت الأرض،
ولكن الموظفين تزايدوا،
وجفت الأرض،
ولكن الضرائب تضخمت،
وقلت المحاصيل،
لكن المكيال اتسع،
ظهر الأعداء في الشرق «واقتحم القبليون أرض مصر»،
ولكن ما من مدافع يسمع (أو يجيب)،
تباعد (الإله) رع عن الناس. «لقد أصبح الكليل صاحب سلاح،
وأصبح القوم يبجلون من كان يبجلهم.»
27
وإن الباحث حين ينسب هذه الأبيات إلى عصر أحداث الصراع الاجتماعي، في أواخر أيام الأسرة السادسة، فإنه يستند إلى عدة شواهد؛ أهمها:
أن الأحداث التي يرويها نفر رحو لا يمكن أن تتفق بأي حال مع الزمن المنسوبة إليه؛ فهذا هو زمن «أمنمحات الأول» في الأسرة الثانية عشرة، وزمن «أمنمحات» بالذات كان أزهى عهود هذا العصر، وأكثرها استقرارا وسلاما، فكيف يمكن أن ينادي الحكيم «نفر رحو» بأن الصمت قد أصبح نقيصة، وأنه يجب مقاومة الظلم؟! ثم كيف يمكن أن يصرح بأن المسئولين عن البلاد يأتون أمورا إدا؟ في الوقت الذي تأتي فيه نهاية أبياته داعية لأمنمحات، متنبئة بأنه الحاكم العادل المنتظر؟! تلك النهاية التي تقول: «ولكن سوف يظهر ملك من أهل الجنوب يدعى أميني، ابن سيدة من تاس ... إلخ» - كما سلف، وهذا الجزء بالذات من شعر «نفر رحو» هو الذي حدا بالمؤرخين إلى نسبة الأبيات بكاملها لعهد «أمنمحات الأول». ثم كيف تصح هذه النسبة، بينما الحكيم يشير إلى تعرض البلاد لغزو بدو الشرق، الذين سبق وعرفناهم تحت اسم «العامو حر يوشع»، وهو الغزو الذي بدأ في نهايات الأسرة السادسة، وتم القضاء عليه في عهد المملكتين: الننسوتية والواستية، قبل عهد «أمنمحات الأول» بتسعين عاما تقريبا؟!
إن الأمور هنا قد تستقيم - في ظننا - بنسبة هذه القطعة الأدبية لعهد الصراع الاجتماعي، دون الجزء الأخير منها، والخاص بالدعاية «لأمنمحات الأول»؛ ذلك الجزء الذي نرجح أنه قد أضيف للقطعة أيام «أمنمحات» إضافة متعمدة؛ لإضفاء مظهر التنبؤ عليها، وحتى يكون هو المخلص الموعود، خاصة إذا كانت هذه القطعة معروفة جماهيريا، إبان الصراع الاجتماعي الذي سبق عصره بمائتي عام على الأقل.
وتأسيسا على ما رواه التاريخ، وما أتانا عبر أشعار الحكيم «آبي أور» والحكيم «نفر رحو»؛ يمكن القول بإيجاز: إن أحداث الصراع الاجتماعي، لم تكن مجرد فوضى وارتباك وسلب ونهب، وإنما كانت أحداث «ثورة طبقية حقيقية، واعية لأهدافها»، وجهت كل همها ضد الظلمة من الحكام والنبلاء الأغنياء. «وقد يخطر لنا هنا أن نذهب مذهبا بعيدا، جديدا، وهو: أن الثورة لم تكن موجهة فقط ضد نبلاء الإقطاع كما ذهب الباحثون، وإنما كانت موجهة ضد الملكية، بل والآلهة أيضا!» وإلا فكيف يمكننا أن نفهم خطاب العجوز «أبيور» للملك:
ولكنك بعثت الفوضى في البلاد
مع الفتن!
وليتك تذوقت بعض هذه المصائب؛
وإذن لقصصت خبرها بنفسك!
ثم كيف تأتى للعامة أن ينتهكوا مقابر الملوك ويدمروها، وهم من كانوا يمثلون الآلهة المقدسة؟! تلك التي غدت محل سخرية الثوريين، فذبحوا لها الأوز على أنه ثيران! ودمروا لها معابدها، أو ما بدا واضحا في تساؤل «الرجل الأحمق» أو «الرجل الثائر»: «إذا عرفت أين يوجد الإله، قدمت له القرابين!»
حقيقة لا يمكن فهم هذا كله، إلا على أنه ثورة واعية ذات اتجاهات إلحادية، لم تتجه فقط ضد الإقطاع، وإنما أيضا ضد الملكية والدين؛ مما يعني أنها قد بلغت اكتمال نضجها في هذا العهد، بعد عهود ظلام وصبر طويلة، ولم تكن وليدة ظروف التسلط الإقطاعي في الأسرتين الخامسة والسادسة، وإنما هي تمتد بجذورها إلى أيام الاستعباد في الأسرة الرابعة، وما تركه هذا الاستعباد محمولا في النفوس ليتأجج في الأسرة الخامسة ، ثم يتفجر في الأسرة السادسة. «بل ويمكن التكهن - تكهنا جديدا تماما - بأن بداية تمرد النبلاء في أواسط الأسرة الخامسة، لم يكن في حقيقته سوى مقدمات ونذر هذه الثورة»، ويكون المعنى هو: احتمال كون الثورة قد بدأت تنفيذ مخططاتها في الأسرة الخامسة بالتحالف مع حكام الأقاليم النبلاء كقيادة لها؛ استنادا إلى بعض المدونات التي توحي بأن «حكام المقاطعات أولعوا بالاستقلال، لكن يبدو أنهم كانوا في الغالب يحبون مقاطعاتهم حبا خالصا، وظهروا بمظهر المحسنين نحو رعاياهم.»
28
ويشير أحد النبلاء في متنه الجنائزي، إلى فخره بمحاولة حل مشكلات ثلاث، كانت هم الجماهير الكبير؛ وهي: مشكلة اضطراب الأمن، ومشكلة تطهير الترع القديمة وحفر ترع جديدة وإصلاح الأراضي البور، ومشكلة المجاعة والفقر.
29
وما كان يمكن أن يهتم نبيل بحل هذه المشكلات، ولا حتى بذكر ذلك - ناهيك عن أنه يفخر به - أو حتى أن نتمكن من فهم هذا الكلام، إذا لم يكن هناك تحالف بين القوى الثورية وبين القوى النبيلة، في بداية الثورة.
ويدعم هذه الرؤية أن هؤلاء النبلاء قد تمادوا «في عصيانهم، فكتب أحدهم نقوشا، افتخر فيها بأنه نجى بلده من ظلم واضطهاد البيت المالك»،
30
وما كان لنبيل أن يصرح بمثل هذا الكلام، مهما بلغت منزلته، أو يجرؤ على ذلك، لو لم يكن معضدا من ثورة حقيقية فعلية، وبسند قوي من رجاله ومن جيشه الذي كان لا بد أن يتكون بداهة من أولئك الرجال، حتى وصل الأمر بهذا التحالف الثوري، إلى حد قطع الموارد عن العاصمة، حتى عجزت عن تنفيذ أوامرها وممارسة سلطاتها.
31
وعليه يمكن القول: إنه إذا كان عصيان النبلاء، قد بدأ في الأسرة الخامسة، وأخذ مظهره في الأسرة السادسة، «أمكن أن يكون هنا التوقيت الحقيقي للثورة، فتصبح بدايتها النظرية في منتصف الأسرة الرابعة تقريبا، ثم بدايتها العملية بقيادتها من النبلاء خلال الأسرة الخامسة، ثم تفجرها الشعبي الكامل، في نهايات الأسرة السادسة»، بعد أن بات واضحا للجماهير أن النبلاء لم يظلوا على حالهم من عدالة الحكم ورعاية شئون الجماهير، فبعد ذهاب هيبة الملكية، وتحولها إلى اسم بلا كيفية، تحولت أسر النبلاء للاستئثار بخيرات الأقاليم، دون غالبية المحرومين من المواطنين، «مما يدعونا إلى افتراض أن هذا الوقت كان بداية الطلاق بين النبلاء والجماهير»، التي انطلقت تدمر بلا تمييز، لا تبقي ولا تذر؛ لتنال من النبلاء والملكية على حد سواء.
وبذلك نصل إلى استنتاج أن:
الصراع الاجتماعي كان ثورة حقيقية لا مجال للشك فيها.
أنها كانت موجهة ضد كل أنواع السلطة؛ ملكية، وإقطاعا، ودينا.
أنها بدأت عمليا وشعبيا قبل سقوط الأسرة السادسة، بل وكانت العامل الحاسم في هذا السقوط وسقوط الدولة القديمة برمتها، وأغلب الظن أن نذرها العملية، قد بدت في تقرير «مانيتون» «أن الملك «تيتي
Titi »» قد قتل بيد حراسه.
32
وبالإضافة إلى ما سبق من تدعيم لمذهبنا في أن الصراع الاجتماعي كان ثورة طبقية، سابقة لسقوط الأسرة السادسة، وسببا مباشرا لسقوطها، يمكن أن نورد نصين غاية في الخطورة والدلالة؛ أحدهما يبرز لنا أهم آراء الشعب، في نظام الحكم الذي يرجوه من عدالة وديمقراطية، والآخر يعطينا صورة للإنسان الثوري المصري ومبادئه، ويزعم البعض أنهما قد ظهرا بعد نهاية الثورة، وفي عهد حكم الدولة الننسوتية بالذات، وإن كان حول هذا التوقيت شك كبير.
ولنبدأ بالنص الأول المعنون ب «نصائح إلى مري كا رع»،
33
ويرى عبد الحميد زايد: أن هذا النص غالبا ما يكون «واح كا رع» المعروف باسم أخيتوي الثالث هو المؤلف المزعوم له، وجهه كخلاصة تجارب وخبرات إلى ولده ووريثه الملك «مري كا رع».
34
ويلاحظ المطالع لهذه النصائح روحا ديمقراطية تشيع فيها، تظهر الفرعون في صورة إنسانية رحيمة، لا صورة إلهية جبارة؛ فهو يتحدث عن ضعفه وندمه، كما يتحدث كل الناس، ورغم أن «برستد» يؤكد أنها «تحمل بين سطورها أدلة قاطعة تثبت أنها كتبت في العصر الذي تنسب إليه»،
35
فإن «جاردنر» يرى أنها لم تكتب قط قبل نهاية الأسرة الثامنة عشرة في الدولة الحديثة،
36
بعد توقيت برستد بثمانية قرون تقريبا. «وإن هذا الخلاف يفتح أمامنا باب الاجتهاد، لوضع احتمال بأنها قد وضعت في نفس الوقت الذي ظهرت فيه كل من أحاديث «إبيور» العجوز، و«نفر رحو» الحكيم الأدبية، أي في عصر الثورة»؛ كنصيحة وتوجيه غير مباشر للملك نحو الطريقة السليمة التي تمكنه من اكتساب رضا شعبه ومحبته، وأنها نسبت تلك النسبة المزعومة لأخيتوي الثالث - بتعبير «عبد الحميد زايد» - ذلك التعبير الذي يحمل نفس روح تشككنا في صحة نسبتها للعهد الننسوتي، خاصة إذا ما نظر إلى ما يسري فيها من روح ديمقراطية ثورية حقيقية، يستغرب أن تصدر عن ملك مثل «أخيتوي» الثالث «واح كا رع». ومرجع الغرابة ما جاء عنه في المدونات التاريخية التي وصفته بالجبروت والبطش وانعدام الرحمة، حتى وصفه المؤرخ المصري «مانيتون» و«أراستوستينيس» بأنه كان «أبعث للرعب من كل من تقدموه، وأنه كان يفعل الشر في مصر كلها»، وأنه «سام الشعب العذاب حتى أصابهم في عهده ما لم يصبهم من قبل في عهد غيره ...»
37
حتى أشاع الناس أنه قد «أصابه الجنون أواخر أيامه، وافترسه تمساح في النيل.»
38
ولو كان «أخيتوي» الثالث حقا هو مؤلفها، لكان منطقيا أن تكون حياته وسلوكه مع جماهير شعبه نموذجا واقعيا لها، ولما ثارت مدينة الإله الشعبي المقدسة ثنيس أو أبيدوس التي كانت وراء الصراع بينه وبين واست الصعيدية؛ للاستيلاء عليها، تلك الثورة التي أوعزت إلى «جاردنر»،
39
باحتمال كونها كانت إشارة لملوك الجنوب بالتقدم شمالا، والاستيلاء عليها، وما تلا ذلك من هزيمة «نن نسوت».
وعلى أية حال، فليس هناك ما يمنع مثل هذا الاحتمال الاجتهادي خاصة - وكما سلفت الإشارة - أن أغلب هذه المدونات، لم تدون في عصرها مباشرة، وإنما ظلت تنتقل شفاهة من جيل إلى جيل، حتى قيض لها من يدونها، بعد أن أضافت لها الأيام وأمزجة الرواة، وحذفت منها الكثير، ويبدو أن هذا ما دعا «جاردنر» إلى التعليق على هذه النصائح بأنها «مليئة بالرموز والألغاز والفجوات من كل نوع»،
40
لكن يمكن أن تستقيم المسألة بوضع هذه القطعة الأدبية زمنيا على حد سواء مع أدب الثورة.
وفي هذه القطعة يقول الملك المزعوم لولده المزعوم:
البشر رعايا الإله
خلق السماء والأرض بما يشتهون
وأجرى المياه دافقة
وأرسل لهم النسمات؛ كي يحيوا بها
هم أشباه له!
صدروا عن بدنه!
وهو يتجلى في السماء؛
ليلبي ما يرغبون فيه
ويخلق العشب
والأنعام
والطير والأسماك
حتى يقتاتون بها.
41
ثم اسمع: «لا تفرق بين ابن النبيل وابن فقير الأصل!
وتخير الفرد بكفاياته
قل الحق» في قصرك
يخشاك عظماء الأرض!
42
ثم: «الزم العدل» تخلد على الأرض.
43
لأن:
قوة المرء في لسانه
وإن الحديث الطيب
أقوى من الحرب والقتال ... ... ... ... ... ...
خذ بيد الحزين،
والبائس «ولا تظلم» أرملة! «ولا تقتل»؛
القتل لا يفيد.
44
ووسيلتك إلى سلامة عرشك هو أن:
لا تكونن فظا؛
لأن الشفقة محبوبة
وليكن أكبر أثر لك،
محبة الناس لك.
45
هذه بإيجاز أهم النصائح إلى «مري كا رع»، وهي مقتطفات تظهر بوضوح صورة الملك الذي كانت ترجوه الثورة الأولى على الإقطاع والملكية وتتمناه، منقذا ومخلصا ومحبا لشعبه.
أما النص الثاني فهو شكاوى الفلاح الفصيح، ويقع في 340 سطرا، ويتكون من تسع شكاوى، تشير كلها إلى إهمال الموظفين لواجباتهم، واضطراب الأمن، وضعف الملكية، وانتشار السرقات، وتفشي الغش والخداع، وانحراف القضاء وارتشائه. وينسب المؤرخون هذه الشكاوى إلى أديب من العصر الننسوتي، أو بالتحديد - فيما يرى «بريتشارد
James. B. Pritchard »
46
إبان حكم «نب كا رع/خيتي الثالث»؛ أي نفس الملك الذي زعم أنه صاحب النصائح إلى «مري كا رع».
وهذه الشكاوى قطعة أدبية رائعة، «تعبر - إلى درجة كبيرة - عن نضوج الوعي السياسي؛ فقد أوضحت بجلاء وبساطة أهم حقوق الإنسان، وربطت بين السلطة والمسئولية، بل واشترطت ضمنيا - لبقاء الحاكم على كرسيه - مدى تنفيذه لالتزاماته نحو شعبه»، وباختصار هي لسان ثوري عتيد في ثوريته.
وتتلخص قصة هذا الفلاح الثائر «خون أنوب»،
47
في أنه كان في طريقه من قريته «حقل الملح» بضواحي الفيوم، بتجارة متواضعة، إلى سوق المدينة للمقايضة، فمر على قرية «برفيفي»، وهناك احتال عليه نبيلها «تحوتي-نخت» - المنوب عليها من قبل ناظر الخاصة الملكية «مرو بن رنس» - وسلبه بضاعته ومتاعه وماشيته، فما كان من خون بطل قصتنا، إلا أن ذهب - ثائرا يهدد - إلى ناظر الخاصة الملكية، مقدما شكوى ضد نائبه اللص تحوتي؛ ليرفعها إلى الملك.
ولعل أبدع ما في شكاوى خون الثائر، أنه «لم يجعل شكاواه تعبيرا عن مشكلة خاصة به فقط، بل جعلها عامة شاملة»، تتناول حقوق كل الفقراء والمعوزين، كما لو كان مؤلفها قد وضعها مرتبة محبوكة على لسان بطل قصته عامدا؛ بهدف رفع الجور والعسف، ملخصا فيها كل آرائه الثورية في النبلاء والموظفين وأحوال المعوزين، بل وفي الحاكم نفسه، حتى بلغ من عنفه أن قال على لسان بطله «خون»، وهو يوجه حديثه إلى ناظر الخاصة الملكية:
إن كبار الموظفين يأتون السيئات
إن الذي ينبغي أن يستأصل الشرور،
إنما يرتكب هو نفسه المظالم
لقد وليت لتقضي فيما بين الناس من خصام
ولتعاقب المجرم
وما أراك تفعل شيئا،
غير أن تناصر اللصوص! «وقد أولاك الناس ثقتهم»
فملت في الحكم كل الميل «لقد وليت» أمر الناس؛
لتكون حصنا للبائسين
فحذار
أن يغرق البائس
في مائك الجارف
48
إن الذي يجب أن يحكم «تبعا للقانون»
هو الذي يأمر بالسرقة!
فمن الذي سيعاقب الخسة؟!
إن من يجب عليه إزالة الفساد.
هو المراوغ!
لقد أصبح الرجل مستقيما وهو أعوج.
ويرضي غيره بسوء حظه. ... ... ... ... ... ...
إنك معداوي فعلا،
لكنك فقط تعدي «من معه الأجر»!
49
ويصور المؤلف بطله في صورة المقدام، الذي لا يستسلم ولا يهرب خوفا؛ فرغم أنه لم يسلم من أذى الحجاب وإهانة الحراس، فإنه لم يتخل عن حقوقه، واستمر يصرخ بشكاواه، مصرا على إسماع الحاكم صوته، ورأيه فيه وفي حكومته كلها، مصورا في شكاواه مبادئ العدالة الاجتماعية والسياسية، التي كان يطمح إليها مفكرو عصره، ويرفع صوته بعد أن ضربه الحراس بالسياط بناء على أوامر الحاكم، رادا له الصاع صاعين، مناديه:
يا ابن رنس،
هكذا ضل ابن رنس طريقه
وصار بوجه أعمى لا يرى
وأصم لا يسمع
ضل ضميره طريقه
اسمع:
أنك بلدة بلا عمدة
كشركة بلا رئيس
كمركب بلا قبطان
إنك تريد رشوة
ومن يأتي بعدك سيفعل مثلك
لا تنهب ممتلكات الفقير
لأنك تعرف أنه ضعيف
لتسمع: «لقد وليت» لتسمع!
وتحكم بين المتخاصمين
لتعاقب اللص
لا لتصبح سندا للص
قد يثق فيك الإنسان
لكنك
مجرم !
إنك «قد عينت» لتكون سندا للمعوز
وحارسا له
كي لا يغرق
لكن انظر
إنك أنت البحيرة التي تبتلعه.
50
وإذا كانت هذه القطعة الرائعة قد ألفت فعلا في عهد أخيتوي الثالث، ولم تؤلف في عهد الثورة - وفي هذا شك كبير - فهي تدل دلالة قاطعة على أن الثورة قد أثرت على العقلية المصرية، وعلى منهجها في التفكير تأثيرا تقدميا كبيرا. ويبدو أن هذا التأثير لم يقف عند هذا الحد؛ لأن قصة تولي «أمنمحات الأول» عرش مصر لتوحي بأن هذه الولاية كانت قمة أهداف العمل الثوري؛ استنادا إلى شواهد؛ أهمها:
أن «أمنمحات» هذا لم يكن من سلالة ملكية، وإنما هو فرد من سواء أفراد الشعب، استطاع أن يثبت صلاحيات عسكرية أوصلته إلى تولي وزارة الحربية.
أنه انتمى باسمه «أمنمحات/آمون أم حية = آمون في الطليعة»،
51
إلى إله كان مغمورا حتى ذلك الحين هو «آمون
Amon »، مما يعني انتماءه لعقيدة تخالف عقيدة سادته، الذين كانوا ينتسبون إلى «منتو» إله أرمنت القديم، وقد ارتفع شأن آمون فوق جميع آلهة مصر وحتى نهاية عصورها التاريخية، ولعل تفسير ذلك - في ظننا - يكمن في أن رجال كهنوته، جعلوا من آمون «الروح لأوزيريس»
52
الإله الجماهيري الشعبي.
أنه اعتبر في نظر رجال الفكر، المخلص المنتظر للبلاد من عثرتها، وللشعب من ظلم نبلائه.
أنه هو الذي استطاع - في نظر بعض الباحثين - «أن يكسر نهائيا شوكة الحكام الإقطاعيين»
53 - وإن كان على هذا الرأي تحفظ كبير - واستنادا إلى ذلك يمكن التكهن بأنه كان رجل الشعب المنتظر، ولربما كانت القيادات الشعبية وحكماؤها، وراء الترويج له - كما في نبوءة «نفر رحو» - وتمهيد السبل له بكل الوسائل الممكنة؛ للوصول إلى الحكم.
وبالفعل؛ استطاع «أمنمحات» أن يجعل سني حكمه من أزهى عصور الدولة الوسطى؛ لتشمخ مصر برأسها في عهده مرة أخرى، إلا أن الأمور ما كانت لتسير دائما هينة، فيرى كل من «أندريه إيمار وجانين إبوايه»
54
أن هذا الإصلاح الذي حاوله «أمنمحات» كان إصلاحا أعرج.
ولعل مرجع هذا التصور يعود إلى أن إخضاع النبلاء بشكل نهائي، كان مسألة عسيرة، ومن ثم كان الحل - الذي بدا أن «أمنمحات» قد ارتضاه - هو السماح للنبلاء بقسط كبير من الاستقلال مقابل طاعته؛
55
ولهذا يرى «إيمار وإبوايه»
56
أن الخطر لم يقض عليه بالشكل الكافي، حتى عادت الأوضاع إلى صورة يصورها «إريك بيت» بقوله: «إن مركز الأجراء في هذه الدولة كان لا يفترق كثيرا عنه في الدولة القديمة.»
57
وهنا تتحدث الوثائق بأن مؤامرة قد دبرت في الخفاء لاغتيال حياة «أمنمحات الأول»، وأنها بلغت حدا بعيدا، حتى إن الجناة قد دخلوا عليه غرفة نومه، وهجموا على شخصه الملكي، مما اضطره أن يدافع بنفسه عن نفسه، وسمع صليل السيوف في القصر، فتنبه الحراس من نومهم، وهرعوا لإنقاذ مليكهم من الخطر الذي أحدق به.
58
ونظن أن القيادات الثورية التي كانت وراء «أمنمحات»، لم تعد ترضى عن سياسته إزاء النبلاء، واعتبرته خائنا لقضية الثورة، فقررت اغتياله، ويدل حديث «أمنمحات» وتأسفه على خيانة حلفائه الذين وثق فيهم على صدق هذا الظن؛ فهو يقول: «لقد أحسنت إلى المسكين، وأطعمت اليتيم، وتحادثت مع الوضيع كمحادثتي مع الأمير، ولكن كل من أكل خبزي، قام ضدي!»
59
وإذا كان «برستد»
60
يؤكد أن أفراد هذه المؤامرة، كانوا من أفراد حاشيته، فلن يتناقض ذلك مع ما احتملناه؛ لأنه من الطبيعي جدا أن يكون أفراد حاشيته هم من مهدوا له السبيل للحكم، وهم أنفسهم القيادات الشعبية الثورية، ومن الطبيعي أيضا أن يكون أول من يجب أن يتخلص منهم «أمنمحات»، هم هذه القيادات، وهذا ليس أمرا جديدا ولا غريبا في تاريخ الثورات؛ فها هو «بوركارت» يقول في معرض حديثه عن الهزات التاريخية بشكل عام: إنه «إذا نجح الانقلاب، وقضى على الاستبداد القديم وممثليه، تحدث أول ظاهرة تثير الذهول، وهي الخلاص من الرواد الثائرين وإحلال آخرين محلهم، وقد يرد ذلك إلى ضرورة القضاء على القوى المتصارعة على النفوذ، وتوحيد الجهود تحت قيادة واحدة.
وسرعان ما يظهر جيل آخر من القادة، يختلف عن الرواد الأوائل، من حيث نضجه وعدم حنقه على الأحوال التي أدت إلى الثورة. وتكثر المحاولات والأخطاء كما تكثر الضحايا، وتنتهي الأمور إلى أوضاع لم تخطر على بال أي زعيم أو مفكر مثالي، ويظهر نفوذ جديد، كما تظهر معسكرات متطاحنة جديدة. وتختفي أغلب الآراء المثالية، وتصبح طاعة السلطة الجديدة، هي أهم ما يرمي إليه أصحاب النفوذ الجديد.»
61
ورغم أن حديث «بوركارت» هذا يتناول الهزات التاريخية في الأمم الأقرب والأحدث، فإنه ينطبق في كثير من الوجوه على المرحلة التي تلت الثورة المصرية الأولى، فجاء بعد أمنمحات عدد من الملوك الضعاف؛ لأن «في النكسات التي تعقب الثورات التي أخفقت أهدافها، كثيرا ما يستسلم الناس، ويخضعون لأكثر الحكومات حماقة، ويرضون بأتفه مقابل، ويعتبرون أنفسهم سعداء إذا لم يؤد سوء الأحوال، إلى حدوث تدخل أجنبي.»
62
وانتهى أمر هؤلاء الملوك الضعاف بثورة ثانية، تميزت بعدد من الملوك الشعبيين، لم يستقر أحدهم في كرسيه أكثر من ثلاث سنوات، نتيجة لما خلفته الثورة من تمايز في الاتجاهات السياسية والعقائدية والحزبية والفكرية، وكانت نهاية كل ذلك حدوث التدخل الأجنبي بغزو «الهكسوس» للبلاد، مما قاد البلاد إلى مواجهة حربية كبرى ومريرة مع عدو أجنبي.
والحرب عند «بوركارت» «من العوامل الضرورية لتحقيق التقدم»،
63
وعند «هراقليطس» هي «أصل كل الأشياء»
64
وهي عند «لاسوكلس» «علة كل نمو ...»
65
فقد أدت معارك التحرير إلى وضع ثورات الشعب المصري في إطارها الصحيح، ودخل نظام الحكم - لأول مرة في تاريخ الإنسانية، إلى نظام الانتخاب الحر - لقادة التحرير، لكن لم تلبث رؤية «بوركارت» أن عادت لتثبت صدقها، ومع بداية عصر الرعامسة عادت الملكية الوراثية، ورضي الشعب «بأكثر الحكومات حماقة»، حتى اشتعلت نيران الغضب مرة أخرى، وأعاد التاريخ سيرته، وسقطت مصر للغزوات الأجنبية المتتالية، التي كان آخرها - في تلك العصور - الغزو العربي.
وإن هذه النهاية التي انتهت إليها الثورات الشعبية المصرية، ليست فريدة في تاريخ الشعوب. فيتكلم «بوركارت» مرة أخرى عن أسباب سقوط الثورات إلى مثل هذه النهاية - في حضارات أحدث - فيقول: «إنها تحدث لأسباب خمسة؛ أولها: الشعور بالإجهاد بعد الاندفاع في دوامة الأحداث المثيرة. وثانيها: أن جموع الشعب لا تشعر بالإثارة والحماسة إلا في البداية ، وتنصرف بعد ذلك، وتصاب باللامبالاة. وثالثا العنف بمجرد انطلاقه يؤدي إلى استيقاظ قوى خفية في النفوس، تعيد الناس إلى حالة الهمجية التي لا رابط لها، فينتهي الأمر إلى القضاء على مثالية الثورة في أول عهدها. رابعا اختفاء أقوى رجال أشعلوا الثورة بعد إعدامهم، أما من يخلفون هؤلاء الأقوياء، فهم غالبا من أوساط الناس. وخامس سبب هو أن الأحياء الباقين من ممثلي هذه الحركة، يصادفون تحولا داخليا عميقا؛ فبعضهم يرى الاكتفاء بالاستمتاع بالحياة، والبعض الآخر تتركز آماله في النجاة من مصير الثائرين.»
66
خاتمة ونتائج
وبنهاية هذا الباب، نكون قد خلصنا إلى وضع تصور شامل لتاريخ مصر الفرعونية، كان أهم ما يميزه عن تاريخ بقية الأمم القديمة، أنه كان صنعة الشعب، أكثر مما هو تاريخ ملوك، ويمكن هنا إيجاز أهم نتائجه فيما يلي:
أولا:
إن عقيدة الخلود والإصرار عليها، أديا إلى قيام ثورة شعبية كبرى في نهاية الدولة القديمة، تبعتها ثورات، وإن هذه الثورة الأولى جاءت نتيجة الظلم، الذي عاناه الشعب في بناء دار الخلود لملوكهم المؤلهين في الأسرة الرابعة وما بعدها.
ثانيا:
إن هذه الثورة لم تتم بعد سقوط الأسرة السادسة، ولم تكن مجرد فوضى أمنية، ناتجة عن انهيار المركزية الملكية، وعدم قدرتها على السيطرة على البلاد، وإنما هي بدأت قبل سقوط الأسرة السادسة، وكانت هي السبب الأول والمباشر في سقوط الأسرة السادسة، والدولة القديمة برمتها.
ثالثا:
ولأن هذه الثورة لم تكن مجرد فوضى عامة، فقد ظهرت لها أهداف محددة، واتجاهات واعية متعددة، صبت كلها في مصب واحد، رايته الخلاص من الظلم والطغيان على المستويين السياسي والاجتماعي.
رابعا:
إن الثورة حملت أيضا معنى الثورة على المعتقدات الدينية السائدة، التي كانت في حقيقتها ديانة ملوك، وديانة التسلط والقهر، ديانة التبرير للطغيان، وبالتالي كان لا بد أن تحمل الأفكار الثورية محاولات للبحث عن الخلاص الديني، وقد تمثل ذلك - كما سنرى - في ظهور آلهة جديدة، تهتم بالجماهير ومشاكل الفقراء والمغمورين ، أكثر مما تهتم بالملك وحكومته.
خامسا:
إن اكتشاف هذه الثورة، واكتشاف موعدها الأقرب إلى الصحة، أدى بالباحث إلى تصحيح بعض التواريخ الخاصة ببعض القطع الأدبية، مثل بردية «نفر رحو» والنصائح إلى «مري كا رع»، ذلك التصحيح الذي جاء نتيجة حتمية لتحكيم المنطق، مع دلائل وشواهد أدت بالباحث إلى ذلك التصحيح.
الباب الثاني
فلسفة الديانة المصرية
تأسيس
إذا صح أن «البحث محاولة لاكتشاف المعرفة، والتنقيب عنها وتنميتها وفحصها وتحقيقها بتقص دقيق ونقد عميق، ثم عرضها عرضا مكتملا بذكاء وإدراك؛ لتسير في ركب الحضارة العالمية، وتسهم فيه إسهاما إنسانيا حيا شاملا»؛
1
فهل يمكن تطبيق ذلك على البحث في ديانة مصر القديمة؟ لا شك أن الكلام شيء، والفعل شيء آخر، خاصة إذا كان هذا البحث والتقصي والعرض المتكامل، يتناول ديانة تشتمل على مجموعة عقائد مختلفة متضاربة، تشابكت وتداخلت - مع تضاربها - إلى الحد الذي أدى بكبار الأثريين مثل برستد إلى القول: إن هذا التشابك والتداخل «قد ترك لنا مشكلة صعبة الحل إذا نحن حاولنا فصلها من ذلك الاندماج؛ لتمييز كل عقيدة عن الأخرى»،
2
أو مثل ولسن الذي انتهى من دراساته إلى موقف أوضحه بتأكيده: «أنه لا يمكن التوفيق بين هذه العقائد المتضاربة المتنافسة فيما بينها.»
3
ورغم ذلك كله، فقد ولجنا باب هذا المضمار الخضم، ولوجه الحق، إننا لم ندرك مدى المعاناة الكامنة وراء مثل هذه الأقوال، إلا عندما بدأنا محاولات البحث عن الخطوط الفاصلة بين هذه العقائد؛ لتمييزها من بعضها البعض، بهدف إيضاح عقيدة الخلود مستقلة بارزة، فكانت هذه المرحلة من الدراسة أعقد مراحلها.
وليس في قبيل المبالغة التقرير: أن الباحث - أي باحث - لا يجد مصدرا أو مرجعا واحدا - كما لمسنا - يراعي هذه الخطوط الفاصلة مراعاة واضحة دقيقة، أو كتابا واحدا، تناولته اليد، يقدم عرضا يراعي خطوط الزمان التطورية، أو حتى قوانين الفكر المنطقية، لسير هذه الديانة عبر تاريخها الطويل، وكل ما يمكن العثور عليه عبارة عن عروض لكافة المذاهب والعقائد والآلهة، مختلطة متشابكة متنافرة في آن واحد، دون تحديد واضح، مما يؤدي بمن يريد البحث إلى متاهة من الدروب، بحيث كادت كل محاولات فهم التحديد الزمني لظهور أو اختفاء عقيدة بعينها، أن تصبح مسألة غير مجدية، ينذر الفشل بالسريان فيها منذ بداية نسجها؛ حتى إن التحديد الزمني الدقيق لم يكن له أي وجود في أي من المصادر والمراجع التي طالعناها دونما قصور أو تقصير، وكلها كان يحاور ويداور، ويرصد نصوصا لا تعني شيئا على وجه الدقة بالمرة، وكلها استخدم تعبيرات زئبقية غامضة للتحديدات الزمنية، مثل قديم، أو حديث، أو قبل، أو بعد، حتى فيما يتعلق بأكبر الآلهة المصرية؛ مثل الإلهين «رع» أو «فتاح».
وقد قسمت هذا الباب إلى فصول ثلاثة، تناولت في أولها أهم وأكبر الآراء الفرعونية، حول الوجود، كونا وكائنات، من حيث طبيعة هذا الوجود ونشأته وتكويناته، مع محاولة تفصيل ذلك منفصلا عن عقيدة الخلود، وفق خطة زمنية منطقية، بهدف بيان طريقة العقل البشري الفكرية في تلك العصور، ولماذا نعتبر هذا الفكر فلسفة، مع مقارنته بالفكر الديني والفلسفي للأمم المجاورة مكانيا، واللاحقة تاريخيا؛ سعيا وراء تقييم الفكر المصري، ووضعه في مكانه الصحيح إزاء تضارب الآراء حوله.
أما الفصل الثاني فقد خصصته لعرض عقيدة الخلود المصرية القديمة، مستقلة عن علائقها - قدر ما يمكنا - لبحث بداياتها الأولى وأسبابها، والسير بها سيرا يوافق تطور الزمن، ومنطق العقل، مع التوقف مع كل نقطة تطورية؛ لنستكشف أسبابها الحقيقية، ونتائجها.
بينما وضعت الفصل الثالث بكامله لإله الموتى أوزير، بعد الخروج من معاناة الآراء المتنافرة بشأنه؛ للوقوف على دوره وأثره في تطور عقيدة الخلود، ولم يكن السير مع عقيدة الخلود تطوريا ممكنا - في رأينا - دون تحديد دور هذا الإله، وتوقيت ظهوره بدقة، وتحديد موعد ارتباطه بعقيدة الخلود بالشكل الأقرب إلى منطق الأحداث والعقل. خاصة إذا علمنا أنه الإله الذي استطاع أن يرافق عقيدة الخلود حتى نهاية العصور الفرعونية.
الفصل الأول
فلسفة الوجود المصرية
إن الدين في الواقع، عند الأغلبية من الناس، يعني خلود الروح ليس إلا، وإن الله هو موجد هذا الخلود.
وليم جيمس
سعيا وراء البحث، عن أصول الديانة الفرعونية وأسسها وفلسفتها؛ نجد «عباس العقاد» يؤكد في دراسته لمفهوم الألوهية - في هذه الديانة - أنه في هذه العهود السحيقة، «وصل المصريون إلى التوحيد»،
1
وهو برأيه هذا ليس فريدا، فيبدو أنه بذلك إنما يسير على درب بعض ذوي التخصص، في الدراسات المصرية القديمة؛ لأن «برستد» قد سبقه وأشار إلى نفس المعنى، حيث بين «وقوع بعض الناس في الخطأ، فنسبوا إلى المصريين، أنهم عبدوا الحيوانات، ولكن الحقيقة أن ذلك لم يكن في أصل ديانتهم»،
2
وذهب معه «رودلف أنتس»؛ إذ أكد أنه قد «عرفت فكرة وجود الإله الأزلي الكوني، منذ أول بدء التاريخ المصري»،
3
وقد دعم هذا الرأي وعلا به أكثر «أحمد بدوي» بتأكيده: أن المصريين قد «عرفوا أن الله واحد لا شريك له»، بل إنهم «قد نزهوا الخالق عن طبيعة الأشياء»،
4
وعاضده في ذلك عبد الحميد زايد بقوله: «إن المصري القديم، منذ الدولة القديمة أو أبعد من ذلك، أراد أن يجعل فكرة الميلاد من إله واحد، ليس له كفوا أحد.»
5
ولكن؛
إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى هذه الآراء؟ وكيف يمكن أن تتفق مع ما تعلمه الجمهرة عن تعدد الآلهة المصرية، المطبوعة بأشكالها الحيوانية؟ وعلى أي أساس أو أسس، بنى هؤلاء آراءهم؟
وهنا بدا واجبا أن نحتكم إلى قوانين التطور، فنبدأ مع المناشئ الأولى للديانة المصرية القديمة، وليس هناك من شك في أن الديانة كانت لها في مصر القديمة أهمية كبرى، فلا يزعم زاعم أنه توجد قوة أثرت في حياة الإنسان القديم، مثل قوة الدين. ولقد اعتقد المصريون أن بلادهم قد حكمتها الآلهة في عصورها الأولى، وعليه فإن ملوكها ليسوا إلا وارثين لعروشهم وواجباتهم عن هذه الآلهة، وبالتالي فهم أبناء آلهة أو آلهة؛ ولذلك كانت الحكومات ذات طابع ديني قوي، حتى عرف عن المصريين - فيما روى هيرودوت - أنهم كانوا أكثر الأمم تدينا.
6
وكما سلف، فقد كانت المعبودات في مصر هي آلهة المدن، التي تميزت بأسمائها وأشكالها وأعيادها، وكان إله المدينة يعتبر عند سكانها أعظم من كل آلهة المدن الأخرى، ونتيجة للأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي أدت إلى توحد المدن في أقاليم، فقد ساد معبود كل إقليم على آلهة بقية المدن التابعة، فأصبح معبودا رسميا للإقليم كله، فكان بعض آلهة هذه المدن يغلب على أمره فيفقد أهميته، بينما كان بعضها الآخر يحاول سدنته التقريب بينه وبين إله العاصمة؛ لينال له من حظه نصيبا.
وبضم الأقاليم وتكوين الحكومات الكبيرة، زاد إدماج الآلهة، حتى انتهى الأمر في عصر فجر التاريخ إلى عبادة إلهين عظيمين - إلى جوار عدد غير قليل من الآلهة الأقل شأنا - وهما:
الإله حور:
إله إقليم الشمال (الدلتا) وقد سبق وعرفناه في ثنايا عرضنا التاريخي، ونضيف هنا أنه كان في الأصل «إله بحدت - دمنهور»
7
وهو إله لا يمكن الجدال حول أصله الطوطمي الواضح في رسومه القديمة؛ لأنه «منذ عصور ما قبل التاريخ حتى آخر عصور التاريخ المصري القديم، نجد الصقر أهم رمز لحور ...»
8
وقد صورته الرسوم في صورتين: صورة الصقر كاملة، وصورة إنسان برأس صقر، يمكننا أن نستنتج منهما اجتهاديا أنه قد صور في أول عهده في هيئة الصقر أو العقاب كاملة، ثم - وبعد عدة مراحل تطورية - أخذ هيئة جسد الإنسان، وإن ظل رأسه رأس الصقر، ويظن أن أتباعه هم أول من ربط الملكية بالآلهة، فاعتبروا الملك ولدا له، يحكم باسمه على الأرض، ثم توارث المصريون عنهم هذه العقيدة فيما تلا ذلك من عصور.
9
الإله ست:
إله الإقليم الجنوبي، وهو أيضا من أصل طوطمي، يتضح في رسومه البدائية الأكثر عتاقة من غيرها؛ حتى إن المؤرخين قد حاروا في تفسير شكله الحيواني، ما بين «الكلب السلوقي أو حيوان الأوكابي
Okapi
أو الخنزير البري أو حمار مرسوم رسما تخطيطيا ...»
10
وكان في الأصل إلها لإقليم نبت «أومبو
Ombos ».
11
وعندما اشتعلت المعارك الحدودية بين كلا الإقليمين؛ الشمال والجنوب، تصور المصريون أنها كانت معارك حقيقية بين الإلهين حور وست، وصاغوا حول ذلك كثيرا من الأساطير، ولم يلبث ست طويلا، حتى غاب من على مسرح الأحداث، بعد غزو الشمال للجنوب، وسيادة حور إله الشمال في عهد التوحيد. ولكن في عهد التوحيد الثاني، ظهر لإقليم الشمال إله جديد، هو آتوم إله مدينة أون. وفي عهد التوحيد الثالث، عقد بين الإلهين: آتوم الشمال الذي اندمج مع رع الشمس، وبين حور الذي أصبح إلها للجنوب؛ نوع من الوحدة الاندماجية، بحكمة صعيدية سياسية محنكة، فأصبح حور هو نفسه آتوم، وآتوم هو بذات عينه حور.
12
وكانت هذه هي أول آثار السياسة - التي وصلتنا - على الديانة المصرية القديمة، ذلك التأثير الذي بدا واضحا في قول المصرولوجي «رودلف أنتس»: إن «الديانة المصرية نتاج توحيد الأرضين، وخلق مملكة مصر العليا والسفلى 3000ق.م»
13
و«إن الملكية بعد أن كانت مرتبطة بهوروس (حور) وحده، ارتبطت حينذاك بالشمس أيضا، وأضيف لقب ابن رع، إلى لائحة ألقاب الفرعون الرسمية»
14
ومن المعلوم أن آتوم هو أول إله يظهر في صورة بشرية؛ فلم يعثر له أبدا على صورة طوطمية، بل ويغالي إرمان فيقول: إنه لم يعثر له على أية صورة من أي شكل، حتى في معبده الأكبر، في مدينته المقدسة أون،
15
مما يعني أنه كان إلها حديثا بالنسبة للسابقين ست وحور؛ تبعا لتطور العقل البشري الارتقائي - فيما نرى - وآتوم هو نفسه الذي حمل اسم إله الشمس فيما بعد، فكانت النتيجة أن تكون ثالوث قدسي من الآلهة، هو «آتوم-رع-حور»، الذي هو في نفس الآن إله واحد، الأمر الذي يدعونا إلى الظن بأن هذا الثالوث هو السلف الأول لعقائد التثليث التي ظهرت فيما بعد، سواء في مصر، أو في ديانات حوض المتوسط التالية لها زمانيا وحضاريا، «ويؤخذ من أبحاث الدكتور بلاكمان
Blackman
أن مناسك إله الشمس في عين الشمس، هي النموذج الذي وضعت على غراره المناسك في جميع المعابد المصرية.»
16
وبذلك توارت آلهة المدن المحلية القديمة، وانزوت في معابدها الصغيرة، بعد أن أصبحت غير كافية لتفسير الكون والوجود، على صورة يقبلها الجميع في الدولة المتحدة الكبرى، وإن ظلت باستمرار متحفزة لاقتناص أية فرصة ضعف تبدو على أي من الآلهة الكبرى.
لذا لم يكن غريبا أن يبتدع المفكرون من رجال الدين فلسفة ميتافيزيقية، تبحث عن تفسير للوجود وأصله، وجعلوا عناصرها من الآلهة التي سادت، بعد أن اعتبروها آلهة كونية، ولا عجب في هذا؛ فقد علقت قلوب المصريين وأخيلتهم بطبيعة بلادهم، فبدءوا يرون في الشمس والقمر، والأرض والسماء، والهواء والماء، آلهة يرهبون جانبها، ويقدسونها حيثما تكون. فتركوا لنا عدة تصورات للتركيب الكوني، كان أشيعها تصور السماء على هيئة امرأة منحنية على الأرض، أو بقرة ذات جلد تتغشاه النجوم، أسموها الإلهة «حت حور».
17
وكانت «حت حور» بطلة لأسطورة قديمة تقول: إن الإله «رع» قد أطلقها على البشر، بعد أن غضب على أفعالهم، ففتكت بهم فتكا ذريعا، لكنه عاد فندم على ما فعل، وأوقف المذبحة.
18
وكان لكهنة أون السبق في عملية التفسير الكوني، بعد أن عقدوا الصلة بين إلههم آتوم، وبين الشمس رع، فأضفوا عليه صفة كونية ليصبح «آتوم رع»، إلا أن ما يجب ملاحظته أن الدين الأوني «قد مر بتطورات فكرية كثيرة، ولم يسجله المصريون كتابة إلا بعد تأليفه بقرون طويلة»
19
ومع أن منف التي كان يعبد فيها إله آخر هو بتاح، قد سبقت أون إلى التفوق السياسي، فأصبحت عاصمة البلاد إبان حكم الأسر الأولى في الدولة القديمة، فإن أون تعد عند الباحثين المدينة المقدسة الأولى، ذات الشهرة الفكرية التي لا تضارع،
20 «وما من شك أن أصحاب رع كانوا يبشرون بدينهم منذ مطلع التاريخ المصري»،
21
حتى استطاعوا في الأسرة الخامسة «أن يصلوا العرش، وأصبح مذهبهم دينا رسميا للدولة، فرض على الشعب فرضا»؛
22
لذلك كان أثر أون في الحياة الدينية المصرية أكبر من أثر منف، فأصبحت قلب مصر الروحي، وساد إلهها، واجتذب آلهة منف إلى بوتقته ومداره،
23 «وظل رع يعتبر إلها يحكم ويسود كإله للدولة في مختلف العصور، إلا إذا استثنينا فترات قصيرة.»
وينسب عبد العزيز صالح
24
لمدينة أون المقدسة - نسبا صحيحا في ظننا - فلاسفة مبرزين في مجال الفكر الميتافيزيقي، كانوا هم أقدم مذهب فلسفي ديني، لتفسير الوجود ونشأته، حتى أصبحت أقوى المدن الفكرية في العالم القديم، في عصر الدولة القديمة، وكعبة لطالبي العلم من جميع أنحاء العالم ، وبالذات فلاسفة اليونان،
25
خاصة بعد أن استطاع كهنتها الاستيلاء على العرش، وتأسيس الأسرة الخامسة، بزعامة أوسركاف؛ ليصبحوا أصحاب الفضل الأول في كل ما عرفه العالم الحديث عن مصر الفرعونية، بعد أن طوروا أساليب الكتابة، وسجلوا معارفهم وعلومهم وفلسفاتهم داخل الأهرامات العتيدة.
ولعل أهم ما يمكن اعتباره لهؤلاء المفكرين نظريتهم في الوجود تفسيرا ونشأة؛ تلك النظرية التي يمكن صياغتها - بعد قليل من الترتيب والتنظيم - في التلخيص التالي:
في البدء
كان نون
Noun
موجودا وحيدا في الوجود
وكان نون محيطا أزليا مظلما
ومن نون برز الإله
إله الشمس رع آتوم
أي الكامل المتكامل
26
بقدرته هو وحده دون معين
لأنه كان «هو كل شيء في الوجود»
27
ثم.
اختار الكامل مدينة أون، دون سواها؛
ليجعل منها مركزا للخليقة كلها
وعلى تل فيها
بدأ إيجاد العالم من نفسه وذاته.
28
فنطق بأسماء أعضاء جسمه
التي شكلت الآلهة
29
وكان الأوائل منهم الإلهان:
شو
Chou
إله الهواء.
وتفنوت إله الندى والرطوبة.
وكي تتم عملية التكوين الكوني؛
فقد التقى شو بتفنوت بمشيئة رع آتوم،
وأثمر اللقاء عن إنجاب إله رابع هو:
جب
gheb
إله الأرض.
وهنا حانت الفرصة أمام شو،
ليقوم بعمل عظيم،
ففتق الأرض إلى قسمين عظيمين،
بعد أن كانتا رتقا.
30
وسوى قسمها الأعلى سماء،
هي الإلهة نوت
Nout .
ومن ثم؛
تزاوج كل من نوت وجب،
لينجبا من الأبناء أربعة:
اثنان من الذكور هما:
أوزير أو أوزيرس.
وسيت،
واثنتان من الإناث وهما:
الإلهة إيزي أو إيزيس
Isis
والإلهة نبت حت أو نفتيس
رعيلا أول يجمع بين الألوهية والبشرية،
كانت مهمتهم الكبرى التي قدرها لهم أبوهم آتوم
هي تعمير الأرض بالبشرية.
31
والوسيلة
أن يتزوج أوزير من أخته إيزي
ويتزوج ست من أخته نبت حت
لينجبوا كل الخلق
الذين «هم أشباه له
صدروا عن بدنه.»
32
هذا خلاصة ما أوردته المصادر، عن محاولات أصحاب الكامل آتوم رع، لتفسير النشأة الكونية والكائنية.
33
وإيضاحا لهذه النظرية الأونية، يمكن صياغتها بعد تخليصها من أسماء آلهتها الغريبة، مع قراءة المقاصد العقلانية التي قصدها أصحابها من خلال ما ضمنوه سطورها من معان، في التلخيص التالي:
في البدء،
لم يكن في الوجود سوى موجود واحد
هو الماء
ولم يكن ماء عاديا
بل محيطا عظيما أزليا
قديما
بلا بداية، وبلا حدوث في الزمان،
وأزليته إنما تعني أنه كان أول الموجودات،
وعليه فهو أصل الوجود والحياة
وهو المادة الأولى التي تكونت منها أشياء العالم المادي المحسوس
ومن هذا الماء
خرج الإله إلى الوجود بذاته
بقدرته هو وحده
فلا يوجد موجد له سواه
ولما كان الإله في الأصل مع الماء بشكل ما في الأزل
فمن البدهي أن يكون هو أيضا، أزليا أزلية هذا الماء
ولما لم يكن هناك موجود ظاهر القوة كالشمس
إذن
لا ريب أن الشمس هي عين هذا الإله
وبذا أصبح أصل العالم الأول
عنصرين أساسيين:
عنصر أول، هو الماء
وعنصر ثان خرج منه، هو النار
34
ولكن
كيف أمكن أن تخرج النار من الماء؟
إن هذا إنما يعني:
أن الأضداد قد ائتلفت في كينونة الوجود الأولى
ائتلافا لا تستطيعه إلا قدرة،
قدرة قادرة على جمع الأضداد؛
لأنها تضم في ذاتها هذه الأضداد:
الماء، والنار
وبالتالي
فقد حمل الوجود المتشكل منها
والصادر عنها هذه الصفة.
فجاء جامعا: الليل مع النهار، والخير مع الشر،
والسلام مع الدمار.
ومن هذه الذات الإلهية،
جاء فيضا وصدورا
عنصران جديدان، هما:
الهواء والندى، وكلاهما لازم لحياة الكون والكائنات؛
فهو تدبير لغاية،
غايتها توفير سبل الحياة،
وإمكانات الاستمرار للموجودات
وبإرادة هذه الذات الأولى،
التقى الهواء بالبخار؛
ليتكاثفا.
وليكونا معا عنصرا رابعا من عناصر الوجود
هو: التراب
وليكتمل الوجود بصورة سوية؛
فقد تسلل الهواء بين طبقات التراب،
فأحاله طبقتين منفصلتين
حمل إحداهما إلى الأعالي
فتكون العماد الخامس من أعمدة الوجود المنظور
وهو: السماء
وهنا تنتهي قصة التكوين الكوني في النظرية الأونية، لتبدأ - وفي إطارها - قصة التكوين الكائنية الحية، ممثلة بعدد آخر من الآلهة، ليسوا بالآلهة الكونية، إنما هم آلهة بشرية، لتفسير الوجود الكائني، تصورهم مفكرو أون على شكل أربعة من الآلهة البشرية؛ هم: أوزير وإيزي وست ونبت حت، نشئوا نتيجة طبيعية خالصة للتفاعل بين عناصر الكون؛ السماء بأمطارها ورياحها، وحرارتها، ومختلف ظواهرها، بالأرض وخصبها، وترابها ومياهها ، وإمكانيات الحياة فيها، وأصبحت مهمة هؤلاء البشر إنجاب الذرية البشرية، لتعمير الأرض بالإنسانية.
وحتى تكتمل فلسفة أون؛ لم يفتها وضع تفسير لوجود الكائنات الأخرى غير الإنسانية، فجعلت أوزير أحد الإخوة الأربعة رمزا للنيل، ولما كان المصريون يرون في النيل سر الحياة لكل الموجودات، نباتا أو حيوانا أو إنسانا، فقد أصبح أوزير تفسيرا سهلا لوجود هذه الموجودات.
وبذلك ألفت هذه المجموعة الإلهية الكونية والكائنية الحية، تسعة من العناصر، أطلق عليها كهان العصر «تاسوع أون»،
35
نسبة لمدينتهم المقدسة، أو ما نضع له اسما اصطلاحيا يسهل الدلالة عليه حين وروده هو: المجمع القدسي، ذلك المجمع الذي زعم الكهان، أن أعضاءه كانوا حكاما لمصر في أزمنتها الأولى، وأن رع كان زعيمه الأول، باعتباره كان الأب لكل أعضائه، وأن أوزير كان أهم هؤلاء الأعضاء، فقد اختص بأشهر وأقوى أسطورة مصرية، كان لها في الديانة تأثيرات كبرى وخطيرة، أخطرها أنه أصبح إله الحساب في العالم الآخر كما سنرى، ولا يوجد مصدر أو مرجع تناول أي جانب من جوانب حضارة مصر القديمة، إلا ولأوزير فيه مكان ومكانة؛ فقد ظلت أسطورته تسيطر على الأفهام، طوال العصور الفرعونية، «حتى عبرت البحر، فوصلت إلى بلاد اليونان»؛
36
لتصبح محل إيمان «في أوروبا بما يزيد على ألفي عام.»
37
لذلك يحسن الوقوف لعرضها بإيجاز؛ لنتابع بعدها دراسة الفلسفة المصرية في الوجود. مع ملاحظة أن هذه الأسطورة لم تتكون أبدا دفعة واحدة، إنما «استمر كل جيل يضيف إليها من خياله ما يوائم تصورات عصره، وما يزيد من تأثيرها في أذهان محبيها ...»
38
لذلك «فإن الفكرة التي تكونت عن أوزيريس في مصر، قد تباينت وفاقا للزمان، ووفاقا للمكان أحيانا.»
39
ويؤكد الأثريون أنها «لم تكن في أي مكان موضوع عرض مستفيض في نقوش المعابد والمقابر، لكنها كانت مقصد تلميحات عديدة فيها، يمكن منها استخلاص الأسطورة بأجمعها، ويمكن عمل مؤلفة من هذه التلميحات؛ بفضل العرض المتصل الذي تركه بلوتارخوس «بلوتارك»، وهذه الإشارات يحتويها على الأخص كتاب الأهرام ...»
40
وعلى سنة هؤلاء المصرولوجيين سنسير؛ لنصطفي أهم الأحداث المتناثرة لوقائع الأسطورة بين المصادر والمراجع المختلفة، ثم نعيد تركيبها في مجمل يلخصها كالتالي:
إن «أوزير الابن البكر لإله الأرض جب، وإلهة السماء نوت»
41 - وهو رمز الخير في الأسطورة - عندما «تزوج إيزيس وأصبحا زوجا مقدسا يحكمون مصر، لم تك مصر دولة متحضرة، وكان الأهالي صيادين رحل، لا يعرفون شيئا عن القراءة والكتابة، وليس لهم حكومات مستقرة. علمهم أوزيريس فنون الزراعة، والكتابة، وساعدهم ليحيوا حياة منظمة متحضرة، وشاركته زوجته إيزيس في أعماله.»
42
ويروى بلوتارك: أن أخاه ست - ويرمز للشر - حقد عليه وحسده على حب شعبه له، فقرر قتله، وأخذ سرا مقاس جسم أوزير، وصنع طبقا له صندوقا جميلا فاخر الزينة والزخرف، وأحضره إلى مأدبة أقامها لتنفيذ خطته الشريرة، وعندما أعجب الجميع بجمال الصندوق، وعد ست مازحا أن يعطيه هدية لمن يملؤه بجسمه، فأخذ الجميع يحاولون، لكن الصندوق لم يتفق حجمه مع أي منهم، حتى دخله أوزير، فأسرع ست وعصابته بإغلاقه عليه بالمسامير والرصاص المصهور، وحملوه إلى النيل وألقوه فيه، فمات أوزير، بينما نادى ست بنفسه حاكما على مصر. ولكن برستد يؤكد أنه «لا توجد لدينا أية وثيقة في المصادر المصرية القديمة، عن قصة الصندوق التي رواها بلوتارخ ...»
43
وبالرجوع إلى متون الأهرام نجدها تقول: «وصرعه أخوه ست على الأرض في نديت»،
44
وفي رواية أخرى تقول: إنه «قد طرحه أخوه ست على جنبه على الشاطئ الأقصى لأرض جحستي.»
45
المهم في الأمر؛ أن ست قد اغتال أخاه أيا كان هذا الاغتيال، فحزنت عليه حبيبته إيزي، وسارت تضرب في الأرض بحثا عنه، بصحبة «عنوب أو أنوبيس»
46
الابن غير الشرعي لأوزير، من أخته الثانية نبتحت/نفتيس، حتى عثرت عليه بعد أن ألقى البحر به على شاطئ مدينة بيبلوس الساحلية الكنعانية، وعادت به إلى مصر نائحة باكية، وأخفته ريثما تعد العدة لدفنه، فعثر عليه ست مرة أخرى، فجن جنونه، ومزقه إربا، ونثر أجزاء جسده في أرض مصر؛ كأن رمى بفقرياته في أبي صير بالدلتا، وبرأسه في أبيدوس، وبعضوه التناسلي في النيل حيث ابتلعته سمكة «القنومة
Oxythnque »،
47
وعادت الحبيبة المخلصة مرة أخرى ؛ لتجمع اللحم والعظم الممزق، وجلست تبكي على جسده «الطاهر»، وتستعطف الآلهة، فحزنت الآلهة عليه ورقت لحال «العذراء» إيزي، فقامت أمه نوت بإحياء رميم عظامه، «فقام من بين الأموات»، وساعتها حملت منه حبيبته بوحيدهما حور، وقامت الآلهة برفع الناهض من بين الموتى إلى السماء، جسدا حيا، ليصبح إلها لمملكة الغرب - مملكة الموتى - تعويضا له عما لحقه من أذى.
ولما كبر حور، قرر الثأر لأبيه واسترداد عرشه، ولكن ست تنكر في هيئة خنزير أسود، وهاجم حور فجرحه واقتلع منه إحدى عينيه،
48
ولكن حور عاد فانتصر على عمه، واسترد عينه وقدمها لأبيه تضحية وعرفانا بالوالدية، ونظرا لأن ست كان قد طعن في شرف العذراء وشكك في شرعية بنوة حور لأوزير، أمام المحكمة الإلهية التي انعقدت لوضع حد لهذه الحرب الدموية، وتكونت من آلهة أون الكونية الخمسة، تحت زعامة رع؛ لتقضي بين المتخاصمين؛ فقد دفعت إيزي ادعاء ست وتشكيكه في عذريتها بقولها لهيئة المحكمة الإلهية: «أنا إيسه، ربة الشهرة والقداسة، وإن من هو في أحشائي، هو غرس أوزير حقا»
49
وأيدها الكامل آتوم رع بإعلانه: ««أنها حملت وهي فتاة»، وهو غرس أوزير فعلا»،
50
وبعد مداولات عدة أعلنت الآلهة قرارها قائلة: «اعهدوا بمنصب أوزيريس لابنه حوريس، ولا ترتكبوا ظلما كبيرا، وإلا فإني سأغضب، وستسقط السماء على الأرض.»
51
وبموجب حكم المحكمة الإلهية، أصبح أوزير يعرف بأنه «رب أصحاب اليمين»،
52
بينما أصبحت العذراء الطاهرة إيزي تعرف باسم «الأم المقدسة»،
53
بعد أن تأكد أن حملها بولدها كان من «روح أبيه»
54
الإله، بطريقة إعجازية؛ ليكون ذلك ثالوثا مقدسا، يشكل أضلاعه «أبا وابنا وروحا قدسا»؛ ومن ثم خضع ست لقضاء الآلهة الأونية، بل واعترف بحور حاكما على البلاد، ووضع على رأسه التاج المقدس، واعتلى عرش مصر من نسب شريف، يعود بشرفه لبنوته للإله الشهير أوزير، وعليه فقد أصبحت سلالة نسله من ملوك مصر، سلالة من الآلهة المقدسة.
55
ومع بداية العصر المتوسط الأول - عصر الثورة الأولى - أصبحت مأساة أوزير وآلامه تمثل كل عام على مسارح العبادة في مدينته المقدسة عبيدو أو أبيدوس حيث دفن رأسه. تمثل استشهاده وموته وقيامته من بين الموتى، في «عيد للقيامة مجيد»، وأصبحت عبيدو لعبيده، مكانا طهورا مقدسا، وقبلة يحج إليها الناس؛ تبركا بالشهيد، حتى أسماها لسان حال العصر: «اباتون (عبادون/المؤلف) أي الحرم.»
56
وأصبح الجميع يتمنى أن يدفن عند موته إلى جوار قبر «الحبيب الشهيد»،
57
حيث أقيمت تماثيل السيدة العذراء إيزي، وهي تحمل ولدها لتعطيه ثديها،
58
وبلغت قدسية أبيدوس حدا حرم معه تحريما باتا على أي إنسان «أن يقرع الطبول، أو يغني على صوت الجنك أو الناي، وليس لأحد أن يطأه في أي وقت.»
59
ولأنها الحرم؛ فقد حرم بها «صيد الطيور والأسماك»،
60
ويوم الاحتفال بعيد القيامة المجيد، كان «لا يجوز لأحد أن يجاهر فيه بصوته.»
61
هذه بإيجاز أهم أساطير المدرسة الأونية التي تعد من أقدم فلسفات الوجود ونشأته، لكنها على أي حال لم تكن الفلسفة الوحيدة في هذا الزمان؛ فقد كانت هناك مدرسة الإله بتاح، إبان حكم الأسرة الأولى في الدولة القديمة، والتي بلغت شأوا عظيما، قبل أن يسقط إلهها في صراعه مع رع في نهاية الأسرة الرابعة، ولبتاح فكر وفلسفة لها ثقلها وأهميتها، وأثرها الذي لا يمكن أن يتغاضاه البحث النزيه، وكان صاحب دور لا يمكن إنكاره في تطوير الفلسفة المصرية في الوجود، والارتفاع بها وترقيتها، تطويرا كان له مداه البعيد ومده، وأثره العميق، لا في فلسفة المصريين فحسب، بل وفي فلسفات الأمم الأخرى المجاورة.
و«بتاح» هو في النطق السامي «فتاح»، اسم يحمل في رأي الثقات معنى «الفتح»
62
أو هو بتعبير أكثر دقة وتحديدا إنما يعني «الصانع أو الفتاح أو الخلاق.»
63
وكان دخول الفتاح إلى مجال التفلسف، يعود بالتأكيد إلى رغبة أتباعه، في كفالة زعامة الفكر والدين لمدينتهم منف؛ تدعيما لزعامتها السياسية، «فأدلوا بسهمهم في تفسير وتعديل المذهب القديم، الذي نادت به عين شمس المجاورة لمدينتهم، ثم خرجوا على الناس بمذهب جديد، يصطبغ بالمعنوية أكثر مما يصطبغ بالمادية، ردوا فيه خلق الوجود وما احتواه، إلى قدرة عاقلة مدبرة آمرة، وتمثلوا هذه القدرة في معبودهم بتاح نفسه، وأكدوا أنه أوجد نفسه بنفسه، وأنه أبدع الكون ومعبوداته، وناسه وحيوانه وديدانه، عن قصد منه ورغبة.»
64 «بفكرة فكر فيها القلب،
65
ونطق بها اللسان.»
66
أي إن سبيله كان هو سبيل «الفكر ثم الكلمة»، أو بتعبير عبد العزيز صالح:
ب «فكرة
تدبرها قلبه
أو عقله،
وأصدرها لسانه،
فكان من أمر الخلق ما كان.»
67
وذلك على اعتبار «أن كل الأشياء كانت في علم الخالق بتاح، قبل أن يخلقها»،
68
وبعد أن خلق الدنيا ومخلوقاتها، على عرشه «استراح ...»
69
فأصبح هو فتاح العليم مقدر الأقدار.
وبهذه النظرية التي طرحتها تصورات المدرسة المنفية، في نصوص أغلبها - في رأي المؤرخين - «مصطلحات فلسفية»،
70
استطاع بتاح أن يكون ذا أثر قوي، أثرى الفكر المصري وفلسفته في الوجود، من حيث تأكيده على سبق الفكر للوجود، أو بأن «الماهية سبقت الوجود»، فظل قائما إلى جوار النظرية الأونية في الوجدان والعقول، رغم أن الأيام قد مالت عنه مبكرا إلى رع، بعد أن تدخلت أحداث السياسة، لتضع أقدارها أتباع رع على سدة الحكم، في الأسرة الخامسة وما تلاها، وولت أيام بتاح، ولم يعد للظهور سوى مرة واحدة، أيام الأسرة التاسعة عشرة؛ ليومض ومضة الرحيل الأخيرة.
وظل رع قويا حتى قيام الدولة الوسطى، وحتى ظهور إله جديد هو آمون، إلا أن رع كان قد بلغ من القوة حدا، لم يستطع معه آمون سوى الاندماج فيه؛ ليصبح آمون إله الدولة الرسمي حتى نهاية العصور الفرعونية، ولكن تحت اسم آمون رع، ويقول جريفث: إن آمون كان مجرد «إله محلي، مغمور الشأن، خامل الذكر، في طيبة في عهد الدولة القديمة، ثم علا شأنه وكبرت مكانته، مع قيام الأسرة الثانية عشرة، فإذا به يصبح من فوره آمون رع، ويصبح له معبد عظيم، فلما كان عهد الإمبراطورية، دان القوم لآمون رع رب الحاضرة الملكية، واعتبروه نصير الجيوش الفرعونية، وواهبها الظفر والغلبة، حتى غطى على سائر الأرباب في مصر»
71
ويضيف د. محمد أنور شكري أنه قد «أسبغ عليه كهنته ما كان يتصل بالإله رع من عقائد وتصورات»،
72
وأصبح ما «كان يحكى عن إله الشمس من أساطير، ينسب كذلك إلى آمون، فهو قد قام بمحاكمة حوريس وست في الصالة، بوصفه رئيس التاسوع الأكبر»
73
أو المجمع القدسي، فيما يقول «إرمان» وبهذا المعنى ظل رع صاحب السيادة الرسمية حتى النهاية، لكن باسم «آمون رع».
وتوضح إليزابيث رايفشتال معنى الاسم آمون بأنه «الواحد الخفي»،
74
الذي لا تدركه الأبصار، فجاء اسمه فتحا فلسفيا جديدا، يضاف لفتوحات الفلسفة المصرية في الوجود؛ فقد تنزه به عن الكثرة وعن التحديد بالشكل والمكان والزمان والإحاطة، فأصبح إلها مجردا لا تدركه الحواس، رغم ما حل بفلسفته من ترد في عصور مصر المتأخرة، فبدءوا بتصويره في أشكال آدمية وحيوانية. «وثمة ترنيمة بديعة تستوقف النظر، في التسبيح بمجد آمون رع ... على أنه هو في جوهره الشمس، وحورس الأكبر، وخنومو
Khnumu
بادئ الخلق، وبتاح إله منف الصانع المتقن، منها:
أيها الموجد الذي لا موجد له
أيها الواحد الأحد
الذي يطوي الأبد
75 ... ...
أنت الأم البارة
بالآلهة والبشر
الصانع الدءوب الخالد ...
والراعي ذو القوة والبأس
يرعى رعيته.
وقبل ذلك بقرن من الزمان، ورد على لسان أحد الشعراء، يسبح بحمد آمون:
سبحانك يا بارئ البرايا كافة
أنت واحد سبحانك
لكن أيديك كثيرة
يا من لا تأخذه سنة
طوال الليل، والناس رقود
البار برعيته؛
يتحرى لهم الخير.
76
وعلى لوحة تذكارية، كتب «نب رع» رسام آمون؛ لأجل «نخت آمون» الذي رقد مريضا، مشرفا على الموت بسبب خطيئته:
بالرغم من أن العبد اعتاد ارتكاب الخطيئة،
فإن الرب
من شأنه الرحمة؛
لأن رب طيبة، لا يصرف كل يومه غاضبا،
فإذا غضب؛
فإن ذلك الغضب لا يدوم طويلا،
بل يلتفت إلينا
في شفقة
إن آمون
يلتفت إلينا بنفسه.
77
ومع مجمع أون القدسي، برئاسة رع، ثم آمون رع، ومع الإله أوزير أحد وأهم أعضاء هذا المجمع، ومع بتاح الخالق بالكلمة، لا يفوتنا هنا أن نقف وقفة قصيرة، مع إله آخر ظهر إبان صولة آمون رع وسلطانه، هو الإله آتون؛ لما يوليه الباحثون من اهتمام بالغ.
وآتون هو إله الفرعون «إخناتون»، وقد كان قصير العمر والأجل، ظهر لينطفئ سريعا، بل لقد عده أهل مصر، فترة زندقة ومروق لموقفه الرافض للأسطورة الأوزيرية والعالم الخالد، وقد بدأ ظهوره مع هجرة الفرعون إخناتون، من مدينة أجداده واست؛ ليشيد لإلهه عاصمة جديدة هي «أخيتاتون» ورغم ما أثير من ضجة حول هذا الإله، فإنه بمنظار البحث الرزين المتأني، لم يضف شيئا جديدا إلى فلسفة رع أو آمون رع، سوى كونه كان في نظر عابديه الإله الواحد دون أتباع في مجامع قدسية، منزها عن الشريك والضد، منفردا بوحدانية مطلقة،
78
مع صبغه بالصبغة العالمية، التي نتجت تلقائيا كنتيجة للأحداث السياسية، فما كانت مصر في عهد الدولة القديمة، لترى في الكون كونا سواها، أما في عصر الدولة الحديثة التي ظهر فيها إخناتون بإلهه آتون، فقد كانت مصر في حال غير الحال؛ فهي مصر، الإمبراطورية التي استطاعت يداها أن تمتد؛ لتجذب إلى ملكها أركان المعمورة المعروفة آنذاك، وكان طبيعيا في ظل وضع سياسي كهذا أن يجعل إخناتون إلهه إلها عالميا واحدا، أحق بالعبادة من سائر الآلهة الأخرى، الدائرة في فلك الإمبراطورية.
وعلى أية حال فإن إخناتون لم يجن من توحيده المطلق، وتصوفه الذي اشتهر بسببه، سوى الخراب والدمار له ولدولته ولأمته، التي أخذت في الانهيار، لتضيع منها إمبراطورتيها، ويبدأ أتباعها في الانفصال عنها، بل والتطاول على حدودها.
ومن الجدير بالذكر أن كل الآلهة التي تابعت «رع» سيد المجمع القدسي، قد أخذت عنه أيضا فكرة التثليث والتتسيع عدا آتون؛ فقد «انتشرت فكرة التثليث بين المعبودات على توالي الزمن، وأصبح لكل مكان بالقطر تثليث ثانوي مقدس، ركب منه بعد ذلك تتسيع على الطريقة المعروفة آنفا»،
79
فأصبح للإله بتاح زوجة تسمى سخمت، وابن يدعى نفرتم،
80
ولآمون زوجة تدعى موت، وابن يدعى خنسو،
81
بينما شكل خنوم «صانع البشر من صلصال كالفخار» عدة ثواليث؛ أهمها «في إسنا ثالوث مع ست. ونت
Neith ، وفي الفنتين مع إلهتي الشلال عنقت
Anoukis
وست.»
82
وهكذا بات واضحا أن فكرة التوحيد المطلق، لم تكن سوى حالة عارضة واستثنائية في تاريخ مصر القديمة وديانتها أيام آتون وفي ديانته هو بالذات، ولعل ذلك هو السبب الذي حدا ببعض الباحثين إلى القول بوصول المصريين إلى التوحيد، أو لعل السبب كان السيادة الأولى التي حظي بها رع في الدولة القديمة، والتي أدت بالآلهة الأخرى إلى حمل اسمه، والاتصاف بصفاته، فاعتبروا رع هو هذا الإله الواحد.
ويتضح هذا المعنى في حديث العقاد الآنف الذكر، فهو يردف قائلا: «وبقيت أسماء الإله الواحد متعددة، على حسب التعدد في مظاهر التجلي المتعددة لذلك الإله»،
83
ثم يعدد أسماء كثير من الآلهة التي اندمجت في رع، لكنه لا يعتبرها آلهة متعددة اندمجت في إله واحد، إنما هي - على حد زعمه - من «مظاهر التجلي المتعددة لذلك الإله»، وهو رأي فيه مفارقة واضحة مع واقع الحقيقة التاريخية، فأصبحت المسألة عنده تشبه ما عليه عقائد الناس اليوم، حيث تؤمن كل طائفة بإله خاص، تزعم أنه إله جميع الطوائف الأخرى بحسبانه الإله العالمي.
ولذلك يمكن الميل إلى آراء أكثر تطابقا مع واقع الأمور ومنطقها، كرأي كل من إيمار وإبوايه، حيث يقولان: إنه قد «حدث ولا سيما لأسباب سياسية، أن قاربوا التوحيد، وإن لم يتوصلوا إليه بالفعل أحيانا، وقد حصل ذلك في حالة حصوله، مكرا وخداعا، بإخضاع الآلهة الآخرين لإله محلي، جعل لهذه الغاية أعلى منهم شأنا وسلطانا، فمن الجلي أن تعدد الآلهة كان أمرا أساسيا، ولم ترض عنه غالبية المؤمنين بديلا.»
84
لذلك ينبه كل من إتيين دريتون وجاك فاندييه، على «أنه يجدر ألا نعتقد بأن عبادة الأسرة الخامسة للشمس كانت شاملة مانعة ... ففي معابد رع ذاتها ما يشهد بعبادة حر ... وحت حر ... إذ إنه لا التوحيد
Mono theisme ، ولا رئاسة إله على آخرين
Henotheisme ، قد استطاعا البقاء في مصر قط، كدين للدولة»
85
أي إن عبادة ثالوث رع (رع وحور وحت حور) لا يمكن اعتبارها توحيدا بالمرة.
وإن كان هذا لا يعني التقليل من شأن ما تركه فكر مصر الديني، فهناك على الأقل أقدم فلسفتين في تفسير الوجود ، في المدرستين الأونية والمنفية، واللتين جادت بهما قرائح أتباع الإلهين رع وفتاح، وما كانا ليصلا إلى عصرنا، أو أن ينالا هذا الشأن الكبير في مصر القديمة، لولا المقدرات السياسية، التي حتمت سيادة كل من مدينتي منف وأون خلال عهدين متعاقبين، من عهود السيادة في الدولة القديمة، بحيث استطاعتا أن تتمتعا بشهرة واسعة، طغت تماما على قصص وتفسيرات كثيرة، لم يكتب لها البقاء والصمود أمام مدرستين مدعومتين بالقوة السياسية.
إن النظرة المقارنة، لنظريتي مدرستي أون ومنف، مع عقائد وفلسفات الأمم التي جاورت مصر في ذاك العهد وتماست معها ثقافيا، وما تلاه من عصور؛ لتوضح مدى التشابه الشديد بين فلسفات المصريين، وبين فلسفات الشعوب المجاورة في حوض المتوسط، وعقائدها في الوجودين: الكوني والكائني، شبها يبلغ الحد الكافي لإلقاء بذور التكهن في العقل، باحتمال يذهب إلى اعتبار الفلسفة المصرية الأصل الأول والأصيل لعقائد هذه الأمم وفلسفاتها.
وقد راود هذا الاحتمال عقول كثير من المفكرين، فمنذ وقت مبكر، أكد المؤرخ «ديوجين لارتيو
Diogenes Laertius » في القرن الثاني الميلادي، على أن الشرقيين وبخاصة المصريين، هم أول من تفلسف،
86
وهو نفس رأي كثير من المفكرين القدامى مثل «فيلون» اليهودي، و «كليمنت
CIement » السكندري.
87
ورغم أن الحذر العلمي يستوجب القول: بأن الأمر لا يزال حائرا بين النفي والإثبات، في تأثير المصريين على الفلسفة اليونانية، فإن هذا الحذر ذاته يستوجب أيضا، التأكيد على «أن الكلام عن معجزة يونانية ليس من العلم في شيء؛ فالقول: إن اليونانيين قد أبدعوا فجأة، ودون سوابق أو مؤثرات خارجية، حضارة عبقرية في مختلف الميادين، هو قول يتنافى مع المبادئ العلمية، التي تؤكد اتصال الحضارات وتأثيرها بعض ببعض، على حين أن لفظ المعجزة، يبدو - في ظاهره - تفسيرا لظاهرة الانبثاق المفاجئ للحضارة اليونانية، فإنه في واقع الأمر ليس تفسيرا لأي شيء، بل إنه تعبير غير مباشر عن العجز عن التفسير.»
88
ويرى ثقات الباحثين في الميدان الفلسفي «أن عوامل الاتصال بين اليونانيين والشرقيين القدماء، كانت أقوى مما كنا نتصوره، وكل كشف تاريخي جديد يؤكد، بشكل متزايد، أن اليونانيين كانوا مدينين بكثير للسابقين عليهم من الشرقيين، لا سيما وأن الاتصالات بين هاتين المنطقتين لم تنقطع لحظة واحدة.»
89
ويذهب فؤاد زكريا إلى أنه «لا جدال في أن المكان الذي ظهرت فيه أولى المدارس الفلسفية والعلمية اليونانية، هو في ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين الحضارة اليونانية، والحضارات الشرقية السابقة، فلم تظهر المدرسة الفكرية الأولى في أرض اليونان ذاتها، إنما ظهرت في مستوطنة أيونية، أي في أقرب أرض ناطقة باليونانية إلى بلاد الشرق، ذوات الحضارات الأقدم عهدا، وهذا أمر طبيعي؛ لأن من المحال أن تكون هذه المجموعة من الشعوب الشرقية، قريبة من اليونان إلى هذا الحد ... دون أن يحدث تفاعل بين الطرفين»، إلا أن المشكلة الكبرى في هذا الصدد، هي أن الأدلة المباشرة على الاتصال العلمي قد فقدت»
90
ولهذه الأسباب، يمكن بمقارنة سريعة لمس موضوع التشابه بين الفكر المصري، وبين ما تلاه عند اليونان، لمسا خفيفا؛ للتدليل على الأقل على سبق المصريين الزمني، للوصول إلى أهم المبادئ، التي اعتبر اليونانيون بسببها أول المتفلسفين، مع الإشارة إلى أوجه التشابه الواضحة، بين ما وصل إليه المصريون حول تفسير ونشأة الوجود، وبين الفكر الديني للشعوب المجاورة مكانيا، والتالية زمانيا.
على الصعيد الفلسفي انتهت محاولات الفيلسوف اليوناني «طاليس» في بحثه عن المادة الأولى التي تكون منها العالم، إلى اعتبار الماء هو هذه المادة، وقد اعتبره الفيلسوف «أرسطوطاليس» أول من تفلسف لهذا السبب بالذات، وهذا ما وصل إليه المصريون قبله بآلاف السنين، بتأكيدهم أنه «في البدء لم يكن في الوجود سوى نون، وكان نون محيطا أزليا مظلما.»
وكان غريبا ألا يلاحظ الباحثون أن الشخص الذي اعترفوا بأنه أول من أدخل الهندسة إلى اليونان، منقولة عن المصريين، أنه هو نفسه أول من تفلسف لقوله بالماء كمبدأ أول للأشياء، رغم أن «أرسطو يشير إلى أن طاليس عندما يقول بالماء كمبدأ أول للأشياء، ربما يكون متأثرا بالأساطير القديمة القائلة بأن أصل الأشياء هو الماء، خصوصا القائلة بالمحيط، كما أن أرسطو يقترح أن يكون طاليس متأثرا بالأساطير المصرية عن أصل الخليقة »،
91
وكان ينصح تلاميذه دائما ب «أنه من الخير أن نستأنس برأي الذين تقحموا البحث في الوجود وفلسفوه قبلنا»،
92
فمن كانوا هؤلاء إذا لم يكونوا هم المصريون؟ بل ويعترف بأن المصريين قد وصلوا إلى البحث النظري المجرد، وهو مقياس التفلسف عنده.
93
لذلك بدأ الباحثون يؤكدون على «أن اليونانيين ليسوا أول من بدأ الفلسفة والعلم والتجريد، ولم يعد مقبولا الرأي القائل بأصالة الفكر اليوناني، وبأن اليونان هم أول من بدأ العلم النظري والفلسفة، ويقوي من عدم القبول هذا ما قدمته حضارات وادي الرافدين «والنيل»، من إنجازات في مجال العلم والمجالات الأخرى. ومن تحليل طبيعة الميتافيزيقا اليونانية - وهي جوهر الفلسفة عند اليونان - يمكن القول: إنها لم تكن إلا صياغة جديدة، بألفاظ ومصطلحات ظاهرة العقلانية والعلمية، للموضوعات الميثولوجية نفسها التي كانت سابقة على ظهور الميتافيزيقا اليونانية»،
94
ويذهب مع هذا الرأي كثير من المحدثين، أمثال «ري» و«ا.ب. ألكسندر» و«ديورانت»، و«ميلهود»، و«سارتون»،
95
بينما يلخص «جاردنر» هذا الاتجاه بعبارة بليغة واضحة تقول: «إن فلاسفة اليونان الأوائل مثل طاليس وفيثاغوراس، قد قبعوا كتلاميذ عند أقدام الكهنة المصريين.»
96
ولا يقتصر الأمر على طاليس أو «فيثاغوراس»؛ فالمدرستان «الأفلاطونية» و«الأرسطية»، لم تكونا أول من أشار إلى منطقية الوقوف عند علة أولى، في سلسلة العلل، هي علة ذاتها، بعد أن وضح هذا المعنى في المدرسة الأونية المصرية، باعتبارها رع سيد المجمع القدسي هو هذه العلة، ولا علة سواه، بل ويذهب المحدثون إلى التأكيد صراحة على أن «سولون» و«أفلاطون» بشكل خاص، قد تتلمذوا على جامعة عين شمس الأونية، ومن طلائع طلابها، ويعتبرون الفكر الأوني جامعة، صدرت العلم والمعرفة إلى كل دول العالم القريبة في هذا الزمان،
97
وقد اعترف أفلاطون خاصة «بفضل الحضارة الفرعونية على العلم والفكر اليوناني، «وأكد أن اليونانيين إنما هم أطفال بالقياس إلى تلك الحضارة القديمة العظيمة»»،
98
هذا عدا كثير من الروايات التاريخية التي «تحكي عن اتصال كبار فلاسفة اليونانيين وعلمائهم بالمصريين القدماء، وسفرهم إلى مصر، وإقامتهم فيها طويلا لتلقي العلم.»
99
وغني عن الإيضاح والشرح، أن تصورات أفلاطون عن العالم الآخر الخالد، أو ما أسماه «عالم المثل»،
100
لا تخرج عن نفس التصورات المصرية القديمة لهذا العالم، والتي سيأتي بيانها، كذلك لم يكن كلام «هراقليطس» عن قيام جوهر التكوين على الضدية في التركيب؛ كلاما جديدا في تاريخ الإنسانية،
101
فهذا هو نفسه ما أكدته العقلية المصرية، باعتبارها العالم قد تكون أصلا من أزليين، هما الماء «نون» والنار «رع». وإذا كان الرواقيون قد أخذوا «اللوجوس
logos » الهيراقليطي، واعتبروه كلمة خالقة سرت في الكون، كنفحة قدسية منحته الوجود والحياة؛
102
فقد كانت المدرسة المنفية صاحبة هذا الاتجاه من قبلهم، وقد أكدت بوضوح أن العالم قد جاء خلقا من عدم، بالإبداع، عن طريق الكلمة الخالقة، التي فكر فيها بتاح، ونطقها فكان الوجود. بل ويمكن - دون تطرف أو انحياز - اعتبار الآلهة التسعة في المجمع القدسي، مع إضافة حور بن أوزير، أصلا مباشرا لتلك الفكرة التي نادت بها مدرسة «أفلوطين» الأسيوطي الصعيدي،
103
صاحب مدرسة الإسكندرية المنسوبة لليونان، رغم مصريتها المكانية والفكرية إلى حد بعيد، والتي تقول: إن هذا العالم جاء فيضا وصدورا من ذات الله؛ العقل الأول، على شكل عشرة عقول، يشرف كل منها على إدارة فلك من أفلاك السموات، بينما يشرف آخرها العاشر أو الفعال على فلكنا الأرضي،
104
وهذا العاشر كان في فلسفة أون هو «حور» الملك الذي ينوب عن العقل الأول في ملك مصر، وكانت مصر هي كل الدنيا في التصور القديم، بينما كان وجود العالم كله في هذه الفلسفة الأونية، فيضا وصدورا على شكل عقول أو آلهة تسعة.
ومن هذه اللمحات الموجزة، يتأكد سبق المصريين للفلسفة اليونانية، في أهم منجزات هذه الفلسفة.
أما على الصعيد الديني، فقد بات واضحا أن الفكر المصري، قد امتد في موجة مد بعيده؛ ليغطي الفكر العقائدي لكل حوض المتوسط، ويؤثر فيه تأثيرا بقي حتى يومنا هذا، وبخاصة في عقائد العبريين،
105
الذين تأثروا بهذا الفكر أيما تأثر، وفي العقيدة المسيحية من بعدهم،
106
وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن إيراد بعض أوجه الشبه بين ما ورد في قصة التكوين المصرية، وبين ما ورد في بعض الديانات الأخرى التالية لها في المنطقة.
بالمقارنة ؛ حول ما طرحه الفكر المصري، تصورا لنشأة الكون كله من الماء، نجد نفس التصور لدى العقائد الأكدية والبابلية - في بلاد الرافدين - حيث اعتبروا الماء أو الإلهة «تيامات» كانت الخضم الأول في الكون، وهو نفس المعنى الذي أكدته العقائد العبرية، فيقول الكتاب المقدس: «وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه»،
107
ومما لا يحتاج إلى بيان، أن العبريين بالذات قد تأثروا بالفكر المصري، وأن هذا الأمر وارد ورودا قويا؛ نظرا لبقائهم في مصر الفرعونية فترة ليست بالقصيرة، قبل رحيلهم في رحلة التيه إلى فلسطين.
وإذا كان شو قد فتق الأرض إلى قسمين «سماء وأرض» في القصة الأونية، بعد أن كانتا رتقا، فإن هذا ما أوردته ملحمة الخلق الأكدية؛ فهي تقول: إن «مردوك» قد «شقها كما تشق الصدفة إلى قسمين، وثبت نصفا وجعله سقفا سماء»
108
وعن هذه الأسطورة، «أو ربما عن المصريين مباشرة»، أخذ الكتاب المقدس العبري قوله: «وقال الله: ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد، والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك، ودعا الله الجلد سماء.»
109
ولعل قصة الصراع بين أوائل البشر على الأرض، في الديانة المصرية، بين أوزير وست، هي نفس القصة التي وردت بالكتاب المقدس تحت اسم هابيل وقايين،
110
آباء البشر، وكما قتل ست أخاه أوزير، قتل قايين أخاه هابيل.
هذا، وقد اعتقدت عقائد الرافدين في العقيدة المصرية المنفية، حول الخلق بالكلمة، فها هي أسطورة التكوين الأكدية تخاطب الإله مردوك قائلة: «مر بالغرق أو الخلق، يكن ما تأمر به، افتح فمك تتلاشى قطعة القماش، تكلم ثانية فتعود القطعة كما كانت.»
111
وقد أخذ العبريون نفس الفكرة، فتقول نصوصهم: إن الله عندما كان يريد خلق شيء ما، كان يقول: ليكن كذا، فيكون،
112
وهي نفسها الفكرة التي أخذها المسيحيون، فيؤكد كوك أنه «من مثل هذه البدايات البسيطة - يقصد رأي مدرسة منف في الخلق - نشأ مذهب الكلمة
Logo
الذي نجده في الإنجيل الرابع يوحنا»، وقد كانت المسيحية بوجه خاص، أكثر الديانات تأثرا بالعقائد المصرية، كما يحتمل جدا - كما سبقت الإشارة - أن يكون بتاح هو الفتاح في النطق العبري، خاصة أن سفر التكوين قد أكد أنه بعد خلق السموات والأرض، استراح الله من عناء عمله في اليوم السابع، كما استراح بتاح من قبل.
أما بالنسبة للدين اليوناني، وباختصار فقد اعترف «هيرودوت» صراحة بأن «الآلهة المصرية هي الأصل الذي نبعت منه آلهة اليونان.»
113
هذه بإيجاز أوجه الشبه الواضحة بين فلسفة المصريين القدماء وعقائدهم، وبين فلسفات الشعوب المجاورة وعقائدها، وقد قصدنا بها مجرد الإشارة والتنبيه، لا البحث والتأكيد المفصل، فهذا ما يخرج عن نطاق البحث، ونتركه لمن يستطيع دراسته بتعمق أكثر، من الباحثين على هذا السبيل، ولم يكن الهدف عندنا سوى تقييم الفلسفة المصرية القديمة وديانتها من حيث الأصالة فيها بالقياس إلى مشابهاتها.
الفصل الثاني
عقيدة الخلود المصرية
إن الدين في كل عصر ومكان، وسيلة من وسائل تثبيت عروش الملوك والحكام.
د. عبد الحميد زايد
رغم كل ما قدمته مدرستا أون ومنف، لتفسير نشأة الوجود المحسوس كونيا وكائنيا، فقد ظل هذا العالم المحسوس - بشكل عام - عالما زائفا لا يمكن الاطمئنان إليه، بعد أن وجد هؤلاء أن الفناء يدب في أحيائه وجماده، مهما طالت أو قصرت مدة بقائها، مما جعل هذه التفسيرات أحد وجهي الديانة المصرية، فقد رأت الحكمة المصرية أن الوجود لا يمكن أن يكون هو هذا الوجود الفاني المتغير فقط، وإنما الوجود وجودان أو عالمان، عالمنا هذا المادي المحسوس، وهو عالم زائل فان لا بقاء له، وعالم آخر تشكل مواصفاته والإيمان به وبوجوده؛ الوجه الآخر والأكثر قوة في الديانة المصرية القديمة.
ولما كان الوجود قد تشكل أصلا من الأضداد، فمن البديهي أن يكون هناك عالم آخر يضاد بوجوده عالمنا المحسوس، فيتصف بالخلود مضادة لعالمنا الزائل. وإلى هذا العالم الخالد، لا بد سيرحل الناس بعد موتهم، مما جعل الاعتقاد في الخلود أساس الديانة المصرية ، ولبها وجوهرها، فيؤكد المؤرخ «ول ديورانت» على أن أهم ما كان يميز الدين في مصر القديمة «توكيده لفكرة الخلود»،
1
بل لم نجد باحثا واحدا على الإطلاق ممن طالعنا، لا يعتبر هذا الأمر مسلمة وبديهية، ويؤكد الباحثون على أنه «لا يوجد شعب - قديم أو حديث - بين شعوب العالم، احتلت في نفسه فكرة الحياة بعد الموت المكانة العظيمة التي احتلتها في نفس الشعب المصري.»
2
وقد رأى المصري القديم في ظاهرة الموت أمرا مفزعا ومخيفا، يجب اجتنابه بأي صورة أو شكل، مما حدا بهذا العقل إلى وضع تصور شامل لحياة أخرى خالدة من بعد الموت.
وقد رأى المؤرخون: أن المصري لم يترك لنا تصورا شاملا واحدا أبدا، وإنما تصورات مختلفة متضاربة متناقضة؛ فقد «تعددت تخيلات المتفقهين في تعيين عالم المخلدين، فتخيله بعضهم في جوف الأرض حيث يدفن الناس فعلا، وتوهمه بعض آخر في الغرب على وجه الإطلاق، ثم رجاه بعض ثالث في السماء حيث الرفيق الأعلى ...»
3
أو كان يمكن للميت «أن يصبح رع المتهادي في مركبه متجولا عبر السموات، وفي الوقت ذاته يمكن أن يصبح المرء أوزيريس أو واحدا من رعاياه، وقد يكون ممكنا كذلك أن يلتحق بمجرة ملكية كنجمة في السماء، ولكن كان من الممكن جدا بعد كل هذا، أن يستمر الإنسان في العيش داخل قبره، متمتعا بأطايب هذه الدنيا التي زود بها هناك، وأن يخرج من قبره بشكل أو بآخر من الأشكال، ليستنشق الهواء ويمتع النظر بأرض مصر الجميلة، وكان معظم المصريين يميلون إلى الأخذ بهذه النظرية الأخيرة؛ نظرية الوجود المستمر داخل الأضرحة.»
4
وحاول بعض المؤرخين تفسير هذا التضارب، أو التخفيف من حدته «فقسموا آراء المصريين فيما سيحصل للإنسان في الحياة الأخرى إلى مذهبين؛ فأهل المذهب الأول اعتقدوا أن الباقي في الإنسان هو الجسم اللطيف المسمى كا، وأن لا بد له من الموت مرة ثانية في جوف الأرض؛ ولذا تطلبوا أن يفعل لهم بعد الموت ما يجلب لهم الفرح والغناء، قائلين: إنه متى ترك الجسم كا وحيدا، اعتراه الجوع والظمأ، وتبعته حيوانات فظيعة تتهدده بموت آخر يؤدي لفنائه، فمتى تليت عليه الدعوات، وأقيمت عليه الصلوات بإتقان وانتظام؛ نال بواسطتها الغرف والمأكولات والخدم والحرس، فيحفظونه من تلك الحيوانات الفظيعة المهددة له بالفناء ... وأهل المذهب الثاني يعتقدون انتقال الروح إلى الدار الآخرة ... هنالك حياة نعيشها تختلف سعادتها وشقاوتها، بالعمل الذي جناه الإنسان في دار دنياه، أو أن الروح قبل أن تستقر على حال، لا بد وأن تعرض أولا للحساب»
5
ولكننا نذهب إلى أن اختلاف تصورات المصريين، التي رآها هؤلاء المؤرخون، واعتبروها خليطا غير منظم ولا مفهوم، يعود في الأساس إلى أن هؤلاء قد تناولوا الموضوع في مجمله، بادئين بالنهاية لا بالبداية، فاختلط أوله بآخره، دون أن توضع في الاعتبار، المراحل التطورية التي يحتمل أن يكون هذا الاعتقاد قد مر بها، والعوامل والظروف التي كانت وراء كل خطوة تطورية.
وسعيا وراء وضع تصور شامل ومفهوم للاعتقاد المصري القديم في الخلود؛ يجب إعادة النظر في كل المتراكمات التي تركها المصري عن عالمه الآخر، وتفحصها بمنطق تطوري، يربطها بالأحداث التي أدت إلى ذلك التطور، والسير خطوة فخطوة مع خطوات عقل المصري القديم، في سبيل الوصول إلى تصور عالم آخر، وهذه هي مهمة الفلسفة أكثر مما هي مهمة التاريخ. متبعين في ذلك منهجا لا يرهق القارئ، فلن نتعرض لكل هذه التصورات المختلطة المتنافرة، وإنما سنفصلها بترتيب تصاعدي تطوري من البدء، ليتحمل الباحث وحده هذا العناء دون قارئه.
وفي البداية يمكن القول بأن المعتقد الأخروي المصري القديم قد أخذ في نشأته صورة تدريجية بدأت «اعتقادا ساذجا بوجود عالم سفلي للأموات، مآل كل الناس إليه حتما»،
6
وإن كان «لا يعرف متى بدأت العقيدة تنتشر بهذا الشكل بين الشعب المصري، على أنه مهما يكن من أمر، فإنها ترجع إلى زمن بعيد.»
7
كما لا «تسمح الشواهد الأثرية في حد ذاتها، بتكوين فكرة إيجابية عن ديانة المصريين، في الحقبة الأنيوليتية (عصر فجر التاريخ) ... وأقصى ما في الأمر ما اكتشف في البراري من جبانات الحيوانات، حيث دفنت باحترام بنات آوى، وثيران وكباش وغزلان بين الحصر ...»
8
ويقول كل من درايتون وفاندييه: «تدل الترتيبات المعدة في المقابر على اعتقاد في البعث؛ إذ يمكن الاستنتاج من وضعهم التغذية بالقرب من الجثث، وكذلك من وضع لوازم الزينة والأدوات أحيانا، أنهم كانوا يحسبون أن الموتى يعيشون في قبورهم، يتغذون فيها، ويحتاجون إلى العناية الجسمانية، ويباشرون أعمالهم المختلفة.»
9
إلا أننا نظن أن فكرة الخلود قد اقتصرت في شكلها البدائي هذا على تصور مؤداه أن الميت يعيش بشكل ما في قبره، لكن دون أن يأخذوا في اعتبارهم - في هذه المراحل المبكرة - بفكرة البعث كما نفهمها اليوم، ثم تطورت الفكرة إلى القول بالعالم المظلم تحت الأرض، حيث يذهب الميت إليه من خلال مدخل ما في الجبال الغربية، حيث رأوا الشمس تغرب هبوطا فيه كل يوم، فأصبح الغرب رمزا على الموت، وإن كانت فكرة الخلود في القبر قد ظلت مسيطرة إلى حد ما، إلى جوار العالم السفلي؛ استنتاجا من قول إليزابيث رايفشتال: «لقد شيد ملوك مصر المتحدة القدماء أضرحة فخمة لإقامتهم الخاصة بعد الموت، في حين أنهم لم يقيموا للآلهة سوى أماكن متواضعة»،
10
مما يدفعنا إلى الظن بأن المعتقد الأخروي كان صاحب الأولوية على المعتقد الإلهي، وأن المسألة الهامة كانت هي الإنسان وتحقيق آماله ورغباته، قبل أن تكون مسألة تتعلق بمدى القدسية الدينية أو الاعتبارية للآلهة.
وقد رأى «رودلف أنتس» أنه قد «نتج عن التطور المرموق للقبور والشعائر الجنائزية في مصر - خلال الألف الثالث ق.م - نمو واسع النطاق لفكرتين أساسيتين: كانت الأولى عقيدة أن الأموات يواصلون بعض أشكال الوجود الطيفي، يمكن أن يكونوا به مصدر خطر أو خير لأخلافهم الأحياء، كما كانوا أنفسهم فيه عرضة لمختلف الأخطار. وكانت الفكرة الثانية، ما أظنه الدافع البشري الطبيعي لإمداد المتوفى بما يخصه وما يحتاج إليه، وما كان يحبه على الأرض، حتى يتمتع به ويستخدمه طالما وكيف استطاع. ولقد نشأ تطور هاتين الفكرتين الأساسيتين في «المقر الملكي، وليس في أي منهما أن الروح أو النفس البشرية خالدة»»،
11
مما يعني أن الفكرة في بدايتها لم تكن قد وصلت بعد إلى معنى الخلود، وإنما كانت المسألة فقط «أن الموتى يقيمون في مقابرهم ...»
12
ويبقون فيها، أو على شكل أطياف في عالم تحت الأرض، والأهم أن ذلك الخلود البدائي قد اقتصر على الملوك فقط، بينما لم يكن للشعب هذا الحق بعد.
وإن الاعتقاد البدائي بشأن المصير بعد الموت، كان مسألة شائعة بين شعوب العالم القديم بشكل عام، فشعوب وادي الرافدين عامة «كانوا يتصورون أن الموتى يعيشون في مكان مقبض تحت الأرض، مليء بالظلام والتراب، يذهب إليه الناس جميعا لا فرق بين صالح ومجرم.»
13
وأطلقوا على هذا المكان «البيت الذي لا يعود داخله»
14
ورسموه في خيالهم «تحيط به أسوار سبعة، لكل سور منها باب واحد.»
15
ومعروف «أن هذا اللون من التفكير قد ساد العالم القديم؛ فالتوراة لم تشر إلى الجنة والنار، أي الحساب والثواب والعقاب، إلا متأخرا؛ حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، أما قبل ذلك فهناك شيول أرض الظلام.»
16
كما اعتقدت المسيحية أن الروح «ستذهب حالا بعد الموت إلى المكان الذي دعاه يسوع الهاوية؛ لتنتظر دينونة الله.»
17
المهم؛ أن ديورانت
18
يرجع هذه النشأة البدائية لفكرة الخلود الفرعونية إلى أسباب؛ أهمها طبيعة الأرض المصرية ذاتها، فيقول معضدا من برستد وبقية الأثريين: إن الفلاح المصري كثيرا ما كان يرى «الحبة التي بذرها قد نبتت واخضرت وآتت ثمارها، ثم زرع من تلك الثمار حبة أخرى، فتكررت معجزة الحياة، ففكر في تلك الحياة المتجددة التي لا يمكن أن تموت موتا نهائيا»؛ لأنه «إذا أمكن أن يحيا أوزير النيل، ويحيا النبات كله بعد موتهما، فإنه في مقدور الإنسان أيضا أن يعود إلى الحياة بعد موته، وكان بقاء أجسام الموتى سليمة بصورة تسترعي النظر في أرض مصر الجافة، مما ساعد على تثبيت هذه العقيدة، التي ظلت مسيطرة، إلى أن انتقلت منهم إلى الدين المسيحي.»
19
وكان سبب الموت في رأي المصري القديم، هو أن هناك قوة خاصة - كانت تلازم الإنسان في حياته - قد فارقته، وكانت هي سر الحياة، وهي قوة يمنحها له رع عند ميلاده،
20
سماها ال «كا
KA »، وهي صورة أو نسخة طبق الأصل من صاحبها، إلا أن الأثريين يؤكدون على أنه «ليس من الواضح لنا، وربما لم يكن واضحا بالنسبة للمصريين القدماء أنفسهم، كيف كانت حالة الكا أثناء الحياة، ولا الدور الذي كانت تلعبه ...»
21
وهنا يكمن السر في مسألة تقديم الطعام والقرابين إلى الموتى في القبور؛ فهذه ال «كا» كان يجب أن تظل حية في نظر المصري القديم بعد موت صاحبها؛ لذلك اتخذ المصريون وسائل عدة لتسهيل هذه المهمة، فقاموا بتحنيط الأجساد، حتى تحل الكا في الجسد عندما تريد، مع تمثال للميت يشبهه تمام الشبه، يوضع في مكان أمين؛ حتى يمكن للكا أن تجد فيه القسمات الشخصية، التي قد تفقدها الجثة بمرور الزمان، بل وبدءوا بوضع الأثاث المنزلي مع جثمان الميت في القبر، حيث سيعيش عالمه الآخر، ثم استمروا في إمداد القبر بشكل دوري بالطعام؛ لأجل المحافظة على حياة «كا» الميت.
ويشير «ماسبيرو
Maspero » إلى أن كل ما كان يعلمه المصريون عن الكا، لا يزيد على «أنه متى ما دخل القبر، استقر وعاش فيه بحياة يكاد لا يشعر بها، فلا يفارقه إلا طلبا للزاد والقوت، فإذا خرج من جدثه هام في القرى، وألقى بنفسه على المأكل والقاذورات، وحسد الأحياء وتعمد الانتقام منهم؛ لسبب اعتزالهم عنه، فيأخذ في مهاجمتهم وتعذيبهم وإصابتهم بالأمراض! ومن هذه الأجسام اللطيفة ما يضر الناس بدون داع ولا سبب، فتحمله ردائيته الغريزية على الفتك بذوي القربى.»
22 «وإلى جانب هذه الكا التي ظلت دائما كائنا غامضا غير محدد، فكر المصريون في الروح، وكانوا يسمونها با،
23
وهي إذ كانت تترك الجسد وتنفلت منه عند الموت؛ فقد تخيلوها عادة على أنها طائر، وربما تمثلوا الميت المبكي عليه بين الطيور التي تستقر على الأشجار، التي غرسها بنفسه من قبل.»
24
ولأن مسألة تطور أفكار المصريين حول ما بعد الموت، قد ارتبطت أساسا بالملكية، وأن الملك وحده كان صاحب الحق في التحنيط والدفن، وحياة القبر، أو حياة عالم الأموات البدائي؛ فقد ظهرت فكرة «البا
BA » أو الروح، لتظل بالذات شيئا خاصا بالملوك فقط في بداية الدولة القديمة، حتى إن «النبلاء لم يكن لهم هذا الحق»،
25
مما يعني أن عامة الشعب والنبلاء ما كانوا يملكون هذه الروح أو البا، وبحيث نفهم أن تطور هذه الأفكار البدائية نحو فكرة الخلود، قد بدأ قاصرا على الملوك، «أما فيما يختص بجماهير الشعب فلسنا نملك أي دليل على الاعتقاد الخاص بحياتهم بعد الموت» بتأكيد الأثري ولسن.
26
ويعضد ولسن في ذلك؛ الأثري المصري سليم حسن بقوله: «من الحقائق الغريبة في بابها، والتي يجب معرفتها عن معتقدات الشعب في عهد الدولة القديمة؛ أنه لم يرد في المتون الجنازية عامة، إشارة إلى روح الفرد العادي با وقرينته كا مدى حياته، كما أنه لا توجد صورة لأيهما في النقوش والرسوم حتى بعد الموت، وهذا خلاف ما نعرفه عن الملوك؛ إذ إن روح الفرعون با وقرينته كا، مرسومة على الآثار في حياته وبعد مماته.»
27
ويفهم من ذلك أن التصورات المصرية حول عالم الخلود قد أخذت خطوة تطورية، فبدأ الشعب يدخل المرحلة الجنازية، لكن دون أن يكون له الحق في الحياة من بعد الموت؛ لأنه بدون «كا»، وبدون «با» بوجه خاص وهي سر الخلود كما سنرى فيما بعد.
ولا يفوتنا قبل الانتقال إلى هذه المراحل التطورية الجديدة، أن نشير إلى أن المصري في عصر فجر التاريخ، قد اعتقد في آلهة خاصة لعالم الموتى، والتي كان أهمها «أنوبيس»، «إله مدينة كاسا في مصر الوسطى، وكان يمثل في هيئة رجل له رأس ابن آوى، وفي المؤلفة الشمسية كان يعد ابنا لرع.»
28
ويبدو أنه كان الصورة التطورية للإلهين الجنازيين «وب وات
Ophis » إله موتى أسيوط، وكان يمثل على هيئة الذئب كاملة،
29 «وخنتي أمنتي
Khent Amentiu » إله أبيدوس، وكان على هيئة ابن آوى الكاملة، ومع هؤلاء كان «سكر
Sokaris »، إله جبانة منف،
30
الذي اشتق من اسمه اسم سقارة الحالية.
ويمكننا استنتاجا القول: إن الآلهة الجنزية الأقدم كانت وب وات، وخنتي أمنتي، إذا أخذنا بالحسبان أشكالهم الطوطمية الحيوانية الكاملة، بالنسبة لكل من أنوبيس وسكر اللذين أصبحا ذوي أجسام آدمية، ولم يحتفظا من الطوطمية سوى بالرأس الحيواني، كما أن وب وات، وخنتي أمنتي، كانا من آلهة الملكيات القديمة، وظهرا في عواصم هذه الملكيات، صاحبة المصلحة في الارتباط بآلهة جنزية، بينما يمكن اعتبار أنوبيس وسكر آلهة أحدث عهدا بعد أن انتقلت العواصم الملكية من الجنوب إلى الشمال، فارتبط أنوبيس بديانة رع الأوني، فأصبح ابنا له، بينما ارتبط سكر بالإله بتاح المنفي، وانتهى بالاندماج فيه. وفي المراحل التالية بعد الصراع بين رع وفتاح - والذي اختفى فيه فتاح - انتهى بالطبع سكر، بينما بقي أنوبيس مع رع المنتصر، ولكنه هو الآخر بدأ يتخلف درجات عن رع، الذي أصبح في الأسرة الخامسة هو المطلق، وإن ظل أنوبيس مرتبطا به كراع للمقابر فقط.
ويبدو أن فكرتي: عالم تحت الأرض المظلم، والبقاء في القبر والخروج منه أحيانا في هيئة الكا، قد سارتا جنبا إلى جنب، حتى عصر التأسيس والأسر الأولى من عصر الدولة القديمة، إلا أن الاستمرار في الوجود من بعد الموت، قد بدأ يظهر بمنطق هذا العصر على شكل مقاومة للبلى المادي، فاتجهت الأذهان إلى بناء المنشآت التي لا تبلى، كما لو كانت القوة والضخامة، هما السبيلين الوحيدين إليه، فكان أن تركوا لنا أهراماتهم الكبرى، مع فن التحنيط الرائع؛ للمحافظة على الجثة أطول مدة ممكنة، وإلى جوار الاستمرار في القبر، بدأت في هذا العهد تسود فكرة أن الجميع بلا استثناء سوف يذهبون غربا، أي: إلى المهامه المظلمة تحت الأرض، ولم تعد المسألة قاصرة على الملوك فقط.
ونرجح أن التطور الجديد لفكرة الخلود - الذي حولها من مجرد تواجد في القبر إلى خلود حقيقي فيما بعد - قد بدأ كالعادة مع مدرسة أون الفلسفية، فما كان ليرضيهم هذا المصير لملوكهم، خاصة وأنهم قد أصبحوا في الأسرة الخامسة، هم هؤلاء الملوك أنفسهم، فبدأوا يبحثون عن مصير أفضل، مما قادهم إلى وضع نظرية فلسفية ميتافيزيقية في الخلود، قصرت هذا الخلود على الملوك دون الشعب، ويمكن أن نتصور منطقهم قد سار على الشكل التالي:
إذا كانت الآلهة خالدة
وإذا كان سر خلودها هو: طبيعتها الإلهية،
وحيث إن الملوك هم «أولاد رع»؛
31
أي أبناء الإله،
فهم لا شك إذن؛ قد جمعوا إلى جانب
الطبيعة الإنسانية الطبيعة الإلهية «وباعتبار هذه الطبيعة الإلهية: •••
طبيعة خالدة؛»
إذن، يكون منطقيا استنتاج أن:
الملوك أيضا خالدون.
ويكون منطقيا أن يقتصر الخلود بمعناه الحقيقي على «فرعون وحده»؛
32
لأنه ابن الشمس الخالدة التي لا تموت، و«كما تذهب الشمس لتستريح كل ليلة، وتعاد ولادتها كل صباح»،
33
كذلك إذا ترك الملك هذه الدنيا، فلا شك أنه «تعاد ولادته لسعادة أبدية»
34
أما «عامة الشعب مأواهم الأرض»؛
35
لأنهم لا يملكون الطبيعة الإلهية الخالدة، وهنا أعلنت متون الأهرام بيقين لا يهتز:
إن الملك «لا يموت على الأرض بين الناس»؛
36
لأن «الناس يفنون وأسماءهم تمحى»،
37
بعكس الملك الذي «يصعد إلى السماوات.»
38
بل وأخذت هذه المتون تصر على إيضاح هذا المعنى، بالتفرقة بين الملك الذي يحوي الطبيعة الإلهية، وبين البشر العاديين، فتقول:
إن ماء (أي نسل) الملك تيتي
في السماء،
وشعب تيتي
في الأرض.
39
أو تخاطب الملك قائلة:
إن ماءك مأواه السماء،
أما الآلاف
فمأواهم الأرض
40
أو:
إنك تدخل أبواب السماء،
التي حرمت على المواطنين.
41
أو:
لقد فتح لك مصراعا أبواب السماء،
وانفرجت لك أبواب السماء،
وهي التي تصد الناس بعيدا عنها.
42
أو:
تفتح للملك المزلاج
إلى باب السماء،
المحرمة على الناس.
43
وهنا يمكنا القول بأن هذه الطبيعة الإلهية بالذات، هي ذلك الشيء الغامض الذي أسموه البا أو الروح، ويدعم ذلك ما سلف من القول بأن البا شيء يخص الملوك فقط، دون سائر الناس.
وإن الاعتقاد بأن الخلود مسألة خاصة بالآلهة فقط، لم يكن فيما يلوح قاصرا على مصر فقط، فنجد نفس التصور في عقائد شعوب الرافدين، حيث اعتبروا الخلود مسألة خاصة بالآلهة فقط، أما الموت فقد كان من نصيب البشر، فتقول أسطورة «جلجامش
Gilgamesh »: «عندما خلقت الآلهة الإنسان قدرت عليه الموت، بينما احتفظت لنفسها بالخلود»،
44
وهذا الاعتقاد في الخلود بمعناه المطلق والقاصر على الآلهة، وضع المصريين أمام خيار وحيد، فكي يكون الإنسان خالدا؛ فلا بد أن يكون إلها ، وكان هذا أيضا فيما وجدناه في عقائد الرافدين من تصورات؛ فقد زعموا أن هناك إنسانا واحدا قد نال التأليه؛ لذلك فهو الوحيد الذي نال الخلود من بين البشر، وهو «يوتانا بشتم
Utanapishtim » بطل أسطورة الطوفان وصاحب الفلك المعروف، الذي يحتمل أن تكون قصته قد انتقلت للكتاب العبري المقدس تحت عنوان «طوفان نوح».
45
ويمكن القول: إن هذا المنطق ليس غريبا، حتى على بعض الديانات الكبرى الحالية؛ فقد كان هذا الأساس الفلسفي الذي تصورناه لظهور فكرة الخلود المطلقة المصرية، هو نفسه الأساس الذي قام عليه جوهر الخلود في الديانة المسيحية، بل جوهر المسيحية برمتها؛ فقد تصور هؤلاء أنه قبل مجيء المسيح لم يكن هناك خلود، وإنما كان جميع الناس صالحا وطالحا يذهبون إلى عالم الظلام السفلي الذي أسموه الهاوية أو شيول، ولكن بمجيء المسيح، واستشهاده، وعودته للحياة، وذهابه خالدا لعالم السموات؛ لوجود الطبيعة الإلهية فيه إلى جانب الطبيعة الإنسانية، أو بتعبيرهم أن لاهوته لم يفارق ناسوته ولا لحظة واحدة، فإنه قد كتب الخلود لكل من يؤمن به، حيث سيصبح المؤمنون به بمثابة أبناء له يخلدون مثله؛ لذلك يؤكد المسيحيون ويصرون على ترديد هذا المعنى عندما ينادونه: «أبانا الذي في السموات».
46
أما كيف سيكون هذا الخلود الملكي المصري، فهذا ما يجيب عليه المتخصصون، فيرون أنه كان «خليطا من الأفكار والخيالات، فكان يعتقد أن الميت في قبره يأكل ويشرب، وأنه بين حاشية الشمس في نفس الوقت»
47 «وأنه لم يكن لدى المصري فكرة واضحة عن عالم خلوده، فظن البعض أنه يعيش بين نجوم السماء، واعتقد آخرون أنه يجلس على الأشجار بين الطيور، على حين اعتقد البعض أنه يظل فوق الأرض حيث تستقر عظامه.»
48
ويلخص برستد ما يراه هؤلاء في تصور المصريين لعالم الخلود، فيقول: إن المصريين قد «نسج خيالهم نسيجا معقدا، ضم من الألوان ألف لون، بحيث صار غير قابل للاندماج في وحدة متماسكة متجانسة. فنرى الملك مرة معتليا عرشه، ومرة أخرى نجده يهيم في حقول البردي طالبا القوت، ثم يظهر في بعض الجهات في مقدمة سفينة الشمس، وفي مرة أخرى يظهر كأنه أحد النجوم الثوابت، قائما في خدمة إله الشمس »،
49
وهذه الصورة الأخيرة كانت مما دعا برستد إلى القول بآخرة نجمية،
50
تشكل مذهبا إلى جوار مذهب الآخرة الشمسية الأونية، وتلخيصا لكل هذه الآراء يمكن القول: إن المصري القديم قد تصور الملك بعد الموت.
يجلس على مقدمة سفينة الشمس.
يحيا بين نجوم السماء كأحد نجومها الثوابت.
يجلس على الأشجار بين الطيور.
يظل في قبره حيث عظامه مستقرة.
سيعيش في قبره يأكل ويشرب يعتلي عرشه حتى بعد الموت.
يهيم في حقول البردي طالبا القوت.
ولفهم هذا الخليط المتنافر، الذي أصر الباحثون على تنافره؛ تجب العودة مرة أخرى إلى موضوع الكا، والبا.
لقد اعتقد المصري القديم، أن الإنسان ينقسم إلى قوى ثلاثة مندمجة معا، تنفصل عن بعضها البعض بالموت، وهي:
الجسد الإنساني، أو الشخصية الإنسانية الاجتماعية، أو ما يمكن الاصطلاح على تسميته ب «الأنا».
الروح، وظلت بالنسبة للمصري القديم شيئا غامضا، غير محدد، أسماه ال «با».
51
قوة ثالثة عجيبة، هي كائن يشبه الأنا تماما، بل هي صورة منه، وإن كانت صورة لا مادية، ومهمتها حمايته من المخاطر أثناء حياته، وصحبته إلى القبر بعد مماته، وتتردد عادة ما بين القبر وبين ظاهر الأرض، وأطلق عليها اسم الكا.
52
وقد كان لمصرية الباحث، ومعاشه بين بقايا هذه المعتقدات في ريف مصر الحالي، فضلها إلى حد كبير، في فهمه لبقايا مثل هذه الأمور، وسعيا نحو إيضاح هذا الفهم، يمكنا القول: إنه حتى اليوم لا يزال رجل الشارع في الريف المصري، يعتقد اعتقادا جازما بأن للإنسان قوى ثلاثة هي:
الجسم المادي، أو الشخصية الاجتماعية؛ أو ما اصطلحنا على تسميته: الأنا.
الروح؛ وهي من الموضوعات التي لا يخوض بالحديث فيها، باعتبارها أمرا غامضا، وأنها من أمر ربه؛ نتيجة لتأثير العقيدة الإسلامية، وهي بالضبط نفس الكائن المصري القديم الغامض، الذي أسماه الأسلاف البا.
القرينة أو الأخت: وهي قوة تحمي الإنسان من المخاطر أثناء حياته، فتحميه من الإصابات الخطرة عند التعرض لحادث مفاجئ، وتظل معه حتى تصحبه للقبر بعد موته، وقد تتردد ما بين القبر والأماكن التي كان يغشاها الميت في حياته، خاصة إذا كان قد مات بحادث أو غيلة، فإنها تعود في هذه الحالة بغرض الانتقام وإقلاق راحة أعداء الميت،
53
وفي هذه الحالة يطلق عليها العامة اسم عفريت الميت، أو روحه - مجازا - فهو لا يعني بها الروح أبدا، فالروح (با المصريين القدامى) تصعد إلى السماء بمجرد الموت ولا تعود للجسد إلا بالبعث - في المعتقد الإسلامي - أو «تذهب إلى حضرة المسيح، وتمكث هناك منتظرة القيامة»
54 - في المعتقد المسيحي - أما القرينة فهي لا تخرج عن كونها ما أسماه أسلافهم بالكا.
55
وإن معنى التسمية الحالي لها، ليفيد نفس المعنى، فكلمتا القرينة أو الأخت، إنما تحملان من المعاني، معنى التشابه مع الأنا، وهذا بالضبط ما كانت تعنيه «كا» الأسلاف.
وعلى ذلك، يمكن إعادة ترتيب النصوص القديمة، في ضوء الفهم الحالي لأجزاء الشخصية الإنسانية، باعتبار هذا الفهم ما هو إلا نفس التصور القديم، لعل الصورة عن عالم الخلود الأوني، تصبح أكثر تسلسلا وترابطا وانضباطا.
فإذا كان المعتقد الحالي، يرى أن الروح تترك الجسد بمجرد الموت، حيث تصعد إلى السماء ولا تعود إلا بالبعث، فإن متون الأهرام كانت تؤكد أن «روح الفرعون كان يسبقه إلى السماء»،
56
أي إن باه كانت تسبقه إلى الملكوت السماوي، وهنا بداية التفسير لما وصف بالتضارب والاضطراب؛ فذلك يفسر تصوير النصوص للملك الميت جالسا فوق مقدمة سفينة الشمس، ويكون الجالس هنا هو با الملك أو روحه، وليس الملك بأناه الجسدية. ويصبح تأكيد النصوص على أن روح الملك تستقر في السماء بين النجوم؛ هو تأكيدا وإصرارا على إبراز الاعتقاد بصعودها إلى السماء، بوضعها بين أوضح مظاهرها المحسوسة، وهي النجوم، وعليه فلم تكن النصوص تقصد الملك بأناه، وإنما بروحه أو باه.
وإذا كان المعتقد الحالي يرى أن القرينة أو الأخت تظل على الأرض، تتردد بين القبر وبين الأماكن التي كان يغشاها الميت في حياته، فإن النصوص القديمة صورت الميت في قبره يأكل ويشرب، أو يهيم في حقول البردي طالبا القوت أو يعتلي عرشه، وكان هذا ما حدا بالباحثين إلى رؤية التضارب والتنافر فيها، لكن الأمور تستقيم بربط القديم بالحالي، فتصبح هذه الأفعال ليست أفعاله، وإنما هي أفعال قرينته أو أخته، أو ما أسماه القدماء الكا، التي تشبهه تماما؛ وبذلك لا يكون الملك بأناه هو من يفعل هذه الأفعال بعد موته، إنما هي كاه، ويكون طبيعيا جدا أن ترسم على الجدران وهي تقوم بهذه الأعمال في هيئة الملك وصورته وشكله، بل إن هذا ما تراه العقيدة الإسلامية فعلا، فترى أن «الروح بعد مفارقتها للجسد يكون الموت، وتبقى هي مدركة تسمع من يزورها وتعرفه، وترد عليها السلام.»
57
وبذلك يكون الموضوع قد أصبح أكثر معقولية وانضباطا، فيصبح الميت في قبره، بينما تصعد باه إلى السماء، وتظل كاه تحوم بين القبر والأرض.
وهنا ينبه ولسن إلى خطأ شاع حينا، مفاده أن المصريين كانوا يؤمنون بتناسخ الأرواح البشرية بعد الموت، في كائنات أخرى كالحيوانات، وقد كان مصدر هذا الخطأ - في رأيه - هو اليونان والرومان، في المراحل المتأخرة من تطور العقيدة، ويقول: إنه «نتيجة لسوء فهم العقائد الخاصة بالموت، بشأن مجال المتوفى وما لديه من قوى، يصبح المصري بعد موته آخ - أي شخصية ذات أثر فعال - وكانت مقدرته على اتخاذ أية هيئة يريدها ليصبح حرا في الحركة، أو ليزور الأرض، أو من أجل سروره لا غير، جزءا من قدرته بعد الموت، فكان يتخذ شكل زهرة اللوتس، أو شكل الصقر، أو هيئة أي كائن حي؛ فلهذا حوى كتاب الموتى رقى سحرية تمكن الإنسان من اتخاذ تلك الأشكال، ولكن ذلك كان أمرا موضوعيا ومؤقتا، ويتوقف على مشيئة المتوفى، ولم يكن ذلك أبدا تناسخا للأرواح، ولم تخرج روح الميت مباشرة لتحل في حيوان من الحيوانات، وتظل فيه حتى ينتهي أجل ذلك الحيوان، فالاعتقاد المصري اختياري، ولأجل غرض مؤقت، وكان غريبا على الإغريق غرابة تامة، فلا عجب إذا رأيناهم يسيئون فهمه.»
58
المهم أنه حتى بداية الأسرة الخامسة، كان الخلود قاصرا على الملوك فقط؛ تأسيسا على منطق كونهم كانوا آلهة يملكون الطبيعة الخالدة، وجمع هذا الخلود بين عالمين، عالم القبر وما حوله، وعالم السماء بصحبة الإله الأعظم للمجمع المقدس، رع الأوني؛ بناء على تقسيم المكونات الإنسانية اللامادية إلى كا، با. ولكن الغريب في بابه، أن عقيدة الخلود قد أخذت في هذا العهد خطوات تطورية سريعة وخطيرة، ظهر خلالها الإله أوزير ظهورا قويا، انتهى به إلى خلع رع الأوني عن عرش الآخرة نهائيا، وليحل محله كحاكم للموتى، في الوقت الذي بدأت فيه جماهير الشعب بغزو عالم الملوك الآخر؛ «لتتوافق هذه التطورات المتلاحقة والخطيرة للعقيدة الأخروية زمنيا؛ مع توقيت بداية الثورة الشعبية الأولى التي أدت إلى انهيار الدولة القديمة، مما يدفعنا إلى افتراض وجود رباط يربط ما بين الثورة الشعبية، وبين دخول الجماهير إلى عالم الخلود، وبين ظهور أوزير كإله للعالم الآخر، وبين تطور مفهوم هذا العالم تطورا ارتقائيا وسريعا». وسعيا وراء الكشف المأمول عن الرباط بين هذه العناصر الأربعة؛ نظن أن هذا الرباط المتفرع من الجهات الأربع، تتمركز عقدته الجامعة لأطرافه في الإله أوزير ذاته؛ ذلك الإله الذي أصبح منذ هذا العهد، وحتى نهاية العصور الفرعونية، صاحب العالم الآخر وإلهه الأعظم بلا منازع، الأمر الذي يدفعنا دفعا إلى الوقوف مع هذا الإله؛ لنبحث ماهيته وتوقيت ظهوره، وأثره أو تأثره بأحداث عصره، ودوره في تطور عقيدة الخلود في مصر القديمة.
الفصل الثالث
مشكلة الإله أوزير
من الصعب اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت، ولا أعتقد أنه من الصواب والحكمة، أن نعتنق آراء لا تستند إلى أدلة بينة أو علمية.
برتراند راسل «ذهب كثير من العلماء، إلى أن عبادة أوزير تمثل تقدما هاما في الديانة المصرية، وأنه كان لها آثار خلقية عظيمة»
1
خاصة بعد أن أصبح أوزير هو إله العالم الآخر؛ عالم الخلود.
2
ويعتبر إرمان أن السبب في ذلك، إنما يكمن في تفاصيل «قصته، وعلاقته بالحياة والموت»،
3
بعد أن قام من بين الأموات جسدا حيا.
ولكن؛
متى ظهر أوزير في أفق الديانة المصرية؟ ومتى تميز كإله للعالم الآخر؟ تلك المميزات التي دفعت إرمان لسؤاله المتشكك دون وصول إلى إجابة شافية: «هل كانت تلك المميزات معروفة عنه في عصوره الأولى؟
أم أنها ظهرت وتكونت على إثر قصته المشهورة؟»
4
ونضيف إلى تساؤله: وهل كان أوزير إلها قديما «قدم الوادي»
5
كما يذهب إجماع الباحثين تقريبا؟ أم أنه كان إلها حديثا، ومتى تكونت قصته المشهورة تلك؟
يبدي اثنان آخران على الأقل من كبار الباحثين؛ شكهما حول قدم أوزير، وهما «رودلف أنتس» و«هنري فرانكفورت
Henri Frankfort »، ولكن دون أن يعطيا أية إجابات شافية حول قدمه أو حداثته، فيكتفي فرانكفورت بإثارة الشكوك، حول مدى الحقيقة، في عضوية أوزير في المجمع القدسي من بداية الأمر، فيقول:
إنه يوجد هناك فرق واضح عميق بين الأرباب الأربعة الأخيرة؛ «أوزير وست وإيزي ونبت حت» والخمسة السابقين؛ «رع آتوم وشو وتفنوت وجب ونوت»، فآتوم وشو وتفنوت وجب وتوت يمثلون الكون، وأسماؤهم توضح عناصره الأساسية، وعلاقتهم المشتركة تتضمن قصة الخلق، لكن الأطفال الأربعة لجب ونوت (أوزير وتوابعه) ليسوا متعلقين بأية صفة كونية، وإنما هم يمثلون الخيط الواصل ما بين الطبيعة والإنسان.
6
ثم يبرز فرانكفورت تشككه أكثر، عندما يتساءل:
إن أوزير لم يكن مثل بتاح، وإنما كان ذا درجة أقل، وأية منطقة من الطبيعة لم تكن له خالصة، فهو حال في الأرض لكنه ليس ذاتها، وهو عضو بالمجمع القدسي، لكنه ليس رئيسه، والنيل له إلهه الخاص حابي، والحبوب لها آلهتها الخاصة أرنوتت، وحتى قوة التناسل، كان يمثلها إله آخر هو مين،
7
فأين موقعه بين الآلهة القديمة المعروفة؟
ويلفت أنتس بدوره نظرنا - دون أن يعطينا أية إجابات شافية، أو أي يقين - إلى أن القصة (يقصد قصة التكوين الأونية/المؤلف) بأسرها، إنما توحي بأن هناك «فجوة وسط الرواية»؛ فالقسم الأول رواية كونية، خاصة بالكائنات الكونية المصورة في أشكال إنسانية، والقسم الثاني قصة إنسانية.
8
بل ويعلن شكه في قدم الآلهة جب ونوت وأوزير معا، مؤكدا:
أن هذه الأسماء، لا تبين أي صلة من «فجر التاريخ» للآلهة الثلاثة.
9
فأين يقف أوزير وتوابعه - بتعبير فرانكفورت
10 -؟ هل كانوا كأبطال للأسطورة الأوزيرية، معروفين إبان عصر فجر التاريخ مع أعضاء المجمع القدسي الكونيين، أم أنهم ظهروا في مراحل تالية ، ثم أضيفوا للمجمع نتيجة لأحداث حتمت ذلك؟
الحقيقة؛ أننا لم نجد دون هؤلاء المتشككين، سوى اتجاه واحد بدا مسلما تماما بقدم أوزير، قدم المجمع القدسي، بل قدم التاريخ المصري ذاته، مستندا إلى عدد من الشواهد، يمكن بعد تجميع شتاتها المتناثر في المصادر، أن نخرج بالتلخيص التالي:
إن أسطورته قد استندت إلى ذكريات تاريخية، وبخاصة أحداث صراع ولده حور، مع عمه الشرير ست، التي تتجاوب مع أحداث التوحيد الأولى بين الشمال والجنوب،
11
وقد استندت ألوهية الملك - وهي مسألة قديمة جدا - إلى ما جاء «في الأساطير: أن آلهة التاسوعين حكموا الواحد تلو الآخر على الأرض في مصر ذاتها، قبل أن يعرجوا إلى السماء، وقد ترك أوزير - آخر الآلهة العظام - الملك لابنه حور، ومن هذا الأخير تحدر في زعمهم كل ملوك مصر، وبناء على ذلك يكون حق الملك قائما «على طبيعته الإلهية، التي كانت تنتقل إليه مع الدم»»؛
12
لذلك فإن «الملوك الذين حكموا الشمال والجنوب في العصر الهليوبوليتاني، أعلنوا أنفسهم بوصفهم أتباعا لحور»
13
وإن «تاريخ مصر يبدأ عادة بملك موحد هو منى (مينا). ومنى يعتبر حور سلفه البعيد؛ فهو من أتباعه، يحكم باسمه، وبحق تناسله منه»،
14
وبالتالي يصبح أوزير وهو أب حور، أقدم من هذا الزمان، باعتبار أنه قد «انعقدت الهيمنة للإله حور في بداية الأسرات.»
15
إن أو أبيدوس - مركز عبادة الإله أوزير حتى نهاية العصور الفرعونية - قد «انتقلت إليه في «زمن قديم جدا عبادة» أوزيريس، من مكان عبادته الأول (بوسيريس، أبو صير حاليا) بالدلتا، كما يذهب رانكه وإرمان.»
16
إن أهم أبطال الأسطورة الأوزيرية بعد حور وست هي الإلهة إيزي، وتعد «من أقدم آلهة فجر التاريخ» عند الباحثين، «ومعنى اسمها الكرسي، كانت في الأصل إحدى إلهات السماء، منشؤها الدلتا وربما في «بوتو-إبطو»، وكانت تمثل في هيئة امرأة تحمل على رأسها كرسيا، هو العلامة الهيروغليفية لاسمها، «أو قرنين ملتويين يضمان قرص الشمس»»
17
إن بردية تورين قد أوردت أسماء الآلهة المصرية، مبتدئة بالإله جب «ثم أوزيريس وست وحوريس، وتبع ذلك بعض الآلهة الأقل شأنا .»
18
إن الأساطير القديمة أكدت «أن الآلهة الأوزيرية الخمسة قد ولدت أيام النسيء، (انظر مثلا:
) «وفي هذا دليل ملحوظ على قدم أسطورة أوزيريس»، وعندما ابتدع التقويم عام 4241ق.م، كانت هذه الآلهة معروفة في هليوبوليس «أون».»
19
وكانت هذه الدلائل من القوة، بحيث ألقت في روع الباحثين الظن بأن أوزير ربما كان ملكا حقيقيا حكم على مملكة مصرية متحدة في عصر فجر التاريخ،
20
حتى قيل «إن أوزير عاش يحكم 28سنة.»
21
ولكن!
إذا كان كل هذا صحيحا، فكيف نفسر ما ورد عنه في مصادر أخرى تقول: إنه في «الأسرة الرابعة قامت ديانة جديدة انتشرت أخيرا في جميع أرجاء مصر، هي ديانة أوزير»
22
وبعدها أخذ «اللاهوت الأوزيري في الانتشار بصفة واضحة منذ الأسرة الخامسة»،
23
حتى أصبح أوزير إلها للعالم الآخر «عندما حدث الصدع العظيم، بتداعي القوة الملكية عند نهاية الدولة القديمة»
24
وسقوط الأسرة السادسة، إلى أن بلغ كمال عظمته «أيام الدولة الوسطى.»
25
ثم كيف نوفق بين القول بقدمه قدم التاريخ المصري، وألوهيته للعالم الآخر، وبين ما كانت تؤكده متون الأهرام بأن رع هو «رب الآخرة»؟!
26
أو كيف يمكن التوفيق بين إجماع الآراء القائلة بقدمه، وبين حقيقة تاريخية مؤكدة؛ وهي «أنه ليس هناك مصدر أبعد من الأسرة الخامسة يشير لأوزير»؟!
27
وأمام هذا التضارب والتعقيد الشديدين، يمكن القول: إنه في مقابل كل الدلائل على قدم أوزير، فقد أمكننا أن نجمع مجموعة من الحقائق التاريخية الهامة، هي على طرف النقيض منه، وبها يمكننا أن نرجح كفة المتشككين في قدمه، «مما يسمح لنا بوضع المسألة كلها قيد البحث من جديد، في محاولة لبيان التوقيت الأقرب لليقين، حول موعد ظهور أوزير وربوبيته للخلود.»
وسعيا وراء هذا الهدف؛ نضع فرضين حول هذه المسألة لا ثالث لهما، وهما:
أن يكون أوزير قديما فعلا قدم الوادي، لكنه ظل منكورا مغمورا، حتى ظهر بفعل ظروف جديدة طرأت في الأسرة الرابعة ثم أدت لعلو شأنه في الأسرة الخامسة، حتى سيطر في السادسة، وساد مع بداية الدولة الوسطى، كما سلف في المصادر.
أن يكون أوزير إلها حديثا ، لم يبدأ وجوده على صفحات التاريخ الديني الفرعوني فعلا، إلا مع الأسرة الرابعة وما تلاها.
ومبدئيا لن يكون الجزم برأي في الفرض الأول ممكنا، على اعتبار أنه ليس لدينا أي مصدر عن أوزير، أبعد من الأسرة الخامسة، وأي بحث وراء ذلك سيكون ضربا من التخمين والجهد الضائع؛ لذا نستبعد هذا الفرض، ولا يبقى سوى الفرض الثاني؛ لنخوض به التجربة النظرية - إذا جاز التعبير - لنتثبت من صحته أو بطلانه.
وأول عقبات ستصادف اختبار هذا الفرض، هي أدلة الباحثين على قدم أوزير؛ ولذلك فيجب الوقوف لإجراء عملية تحليل اختبارية نظرية؛ لبحث مدى أصالة هذه الأدلة، ومدى صمودها أمام التجربة، بادئين بالدليل الأول.
يستند الدليل الأول، على تجاوب أحداث الصراع بين حور بن أوزير وبين عمه الشرير ست، ذلك الصراع الذي روته الأسطورة الأوزيرية، مع أحداث الصراع القديم بين شطري مصر شمالا وجنوبا، أيام التوحيد الأولى، والذي رآه عقل العصر صراعا بين إلهي الإقليمين حور وست. ولعل هؤلاء الباحثين قد اعتبروا أوزير قديما استنادا إلى قدم هذين الإلهين، وهما بطلان أو قطبان من أقطاب أسرته؛ في أسطورته التي انتشرت في أواخر عهد الدولة القديمة.
ونحن إذ نسلم مبدئيا بقدم الإلهين ست وحور؛ لأن أمرهما لا يقبل جدلا، فإن الذي يجب إيضاحه في هذا المقام، هو أنه ليس من الضروري أن يكون تشابه الأسماء فقط دليلا على أن حور وست إلها التوحيد، هما حور وست إلها الأسطورة، وبالتالي لا يكون ذلك دليلا على أن حور وست إلها التوحيد، هما حور وست إلها الأسطورة، وبالتالي لا يكون ذلك دليلا على قدم أوزير، خاصة أن ما وصلنا عن أحداث التوحيد الأولى، لم يأت مطلقا بأي ذكر لأوزير، ولم يظهر له أي دور في توحيد شطري مصر، وإذا كان ست إلها شريرا في الأسطورة، فإن المصادر تؤكد أنه «لم يكن يعد في متون الأهرام شريرا»،
28
مما يدعونا إلى افتراض أنه غير ست إله الشر في الأسطورة، أو أنه هو نفسه، لكن صفة الشر لم تلصق به إلا بعد صياغة الأسطورة في نهايات الدولة القديمة، وهذا يعني حداثة ست الشرير أو ست الأسطورة، بالنسبة لست التوحيد؛ قياسا على ما جاء في متون الأهرام.
كذلك فإن حور بالذات لم يكن إلها واحدا منذ بداية التاريخ المصري وحتى نهايته، حتى يمكن اعتباره دليلا على قدم أوزير كأب له، فقد «ظهرت ثلاث صور رئيسية للإله حور»: (1)
حور الأكبر «حاروريس»
Apohpcs . (2)
حور ابن إيزه (حورس إيزه)
Apachacs . (3)
حريوقراط (حور الطفل)
Apthokaths .
29
بل ويقرر نجيب ميخائيل أنه «كان هناك حوالي 12 إلها حوريا آخر»،
30
وأهمهم «حرخنتي آرتي، وحر آختي، وحرم آخت، وحرنج أتف، وحرسما تاوي»
31
وبنظرة فاحصة بين كل هذه الحور «يمكن التفرقة بين حور الأكبر (إله التوحيد القديم) وحور المولود في أخبيتي (حور بن أوزير في الأسطورة)»
32
فبينما نجد «منذ عصور ما قبل التاريخ الصقر أهم رمز لحور»،
33
فإنه كبطل للأسطورة الأوزيرية، قد صور «في صورة إنسانية كاملة.»
34
وبمنطق التطور الارتقائي للعقل، يمكن القول بأن الصورة الإنسانية لحور هي الأحدث بالنسبة لصورته الطوطمية كصقر، أي يصبح «حور بن أوزير»، هو الأحدث بالنسبة إلى «حور الأكبر إله التوحيد القديم.» ويؤكد إرمان هذا المعنى بقوله: «وليس من شك أنه لا علاقة بين حورس المسمى كنشتاوي معبود أثريبس في الدلتا (حور الأكبر)، وبين حوريس سبودو (حور بن أوزير).»
35
ويشير أنتس لنفس الفرق مؤكدا: أن الحورين «كانا متميزين أحدهما عن الآخر منذ زمن نصوص الأهرام»،
36
ويعلنها عبد الحميد زايد، صريحة بقوله: إن «حور ابن إيزيس غير حور الأكبر»
37
بحيث يمكن القول: إنه ليس هناك علاقة ما بين الحورين إلا في تشابه الاسمين، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار، رأي إليزابيث رايفشتال، بأنه «منذ السلالة الخامسة، يبرز هورس «حور» «بصفة جديدة»، على أنه ابن أوزيريس»،
38
بمعنى أنه قبل هذا الوقت لم يكن كذلك.
وبذلك يكون دليل قدم أوزير المستند إلى قدم حور، دليلا غير كامل السلامة والصحة، بعد أن تبين خلطه بين حور بن أوزير وحور الأكبر، ويستتبع ذلك انهيار سنده الثاني القائم على اعتبار ملوك مصر أبناء لحور، فحور هنا سيكون حور الأكبر، لا حور بن أوزير.
ويجدر هنا التنبيه على ملاحظة خطيرة، وهي أن أوزير بصفته إلها للموتى، ستتضارب مع حقائق تاريخية مؤكدة، إذا اعتبرناه قديما، وهي أنه في عصر فجر التاريخ، وفي عهود الأسر الأولى للدولة القديمة، ساد عدد من آلهة الموتى هم: «وب وات»:
إله الموتى في أسيوط، وكان أحيانا إلهين باسم وب وات، ويعد أقدم آلهة الموتى المصرية طرا؛ باعتبار أن «أوائل المعابد قد شيدت على شرف الإله وب وات.»
39 «أنوبيس»:
إله الموتى الأوني، وقد ظل هذا الإله بالذات ذا شأن، حتى نهاية العصور الفرعونية، وقد بلغ قمة مجده عندما اعتبرته العقيدة الملكية ابنا لرع. «سكر»:
إله الموتى في منف وقد ذاع صيته، حتى أصبح ابنا للإله فتاح، وانتهى بالاندماج فيه. «خنتي أمنتي
Khentamentiu »:
أول إله للموتى في أبيدوس عندما كانت عاصمة لمصر في عهود التوحيد الأولى، ويعني اسمه «أول أهل الغرب، وهم الموتى.»
40
هذه أهم آلهة الموتى التي عرفت حتى قيام الأسرة الرابعة، وليس بينها واحد باسم أوزير، بل ولم يرد اسم أوزير حتى مع بداية سيادة رع؛ حيث كان لدى رع ولد يرعى الموتى هو أنوبيس، ولا في عهد السيادة المنفية الفتاحية، حيث كان لبتاح ابن يرعى الموتى هو سكر، ولم يكن له مكان حتى في أبيدوس التي قيل: إنها مدينته المقدسة؛ فقد كان إله الموتى فيها في هذه العصور القديمة، هو الإله خنتي أمنتي أول الغربيين.
إذن، فماذا حدث حتى اختفت كل هذه الآلهة؟ أو لماذا توارت في الظل بعد أن غيرت وظيفتها؟ وما هي العوامل التي أظهرت أوزير كإله أوحد للموتى؛ ليصبح هو ال «خنتي أمنتي» الوحيد في أبيدوس، وتبيت أبيدوس مدينته المقدسة حتى نهاية العصور الفرعونية؟! علما بأن أبيدوس كانت حكرا للإله خنتي أمنتي، وكان تاسوعها يتألف من «إلهين باسم خنوم، ثم تحوت، ثم إلهين باسم حوريس، وإلهين باسم وب وات»،
41
دون أي ذكر لأوزير؟!
إذن ، لا بد أن هناك حدثا خطيرا - لم يسجله التاريخ غفلة أو قصدا - جعل الأقدار تلعب بمقدرات آلهة الموتى القديمة جميعا؛ لتضع مكانها إلها واحدا للموتى هو أوزير، فقد أخذ نجم سكر بالأفول عندما ظهر في المدونات «التي تلت الأسرة الرابعة»، مختلطا بالإله أوزير، وكانت هذه أول مرة يظهر فيها لأوزير ذكر، حتى أكد الأثريون أنه «كثيرا ما كان يتعذر على الشخص أن يتفهم أي الآلهة يعنون؛ أيقصدون الإله سوكاريس (سكر) أم أوزيريس»،
42
بل وصل الأمر إلى أن «اندمج سوكاريس في أوزيريس»،
43
ولما كان إله منف هو بتاح، فقد اندمج الثلاثة «كأقانيم في ثالوث قدسي» إلهي واحد، هو «بتاح، سوكاريس، أوزيريس».
44
أما الإلهان وب وات، فقد تحولا في الأسطورة الأوزيرية، إلى تابعين لأوزير، يتقدمانه في المعركة؛
45
لتغيب صفاتهما كإلهين للموتى، ليحل محلهما أوزير في ذلك المقام.
هذا؛ بينما انتهى أنوبيس - أخطر آلهة الموتى وأشهرهم، وصاحب الحول والطول والأعياد السنوية المجيدة
46 - أسوأ نهاية؛ فقد تغلب عليه أوزير،
47
وأصبح في الأسطورة الأوزيرية مجرد «ابن غير شرعي لأوزير ونبت حت»،
48
فارتفعت الأسطورة بشان أوزير لتجعله أبا لأنوبيس، وتصبح أية محاولة لإعادة أنوبيس لمكانته السابقة عقوقا للوالدية، وهبطت بشأن أنوبيس، وأهدرت قدره بعيب في نسبه؛ بإرجاعه إلى بنوة غير شرعية لأوزير، رغم أنه أقدم من أوزير - ولا شك - قدما وضح فيما ورد بالأسطورة الأوزيرية ذاتها، فعندما مات أوزير غيلة بيد أخيه الشرير ست، أرسل الإله رع ولده أنوبيس إله الموتى؛ ليرعى أوزير ويعنى بجثمانه.
49
وكشأن كل آلهة الموتى القدامى مع أوزير؛ كان شأن خنتي أمنتي أول الغربيين؛ لأنه «سرعان ما حل محله أوزير، واندمج فيه.»
50
وتأسيسا على ذلك؛ فلن يكون لدينا سوى تفسير واحد لما حدث من لعب بمصير هذه الآلهة العريقة، وهو أن الإله أوزير؛ لم يكن له وجود قبل الأسرة الرابعة، وأنه عندما ظهر، ظهر قويا ومدعما، بحيث استطاع أن يلغي هذه الآلهة جميعا، ودفعة واحدة، وخلال أمد قصير، حتى «برز على سائر آلهة الموتى»،
51
واستحق أن يلقب وحده ب «خنتي أمنتي سيد ابجو»،
52
أول أهل الغرب سيد أبيدوس.
ولعل هذا الاختبار النظري لأول الأدلة على قدم أوزير، قد أثبت حتى الآن حداثة أوزير؛ قياسا على آلهة الموتى القدامى، ولما يزل فرضنا تحت التجربة.
وتبقى عدة تساؤلات؛ أهمها: كيف غدا أوزير سيد أبيدوس دون منازع؟ ونظننا قد وجدنا الإجابة فيما جاء بكتابات المصرولوجيين حول قبر أوزير؛ فقد اكتشف أخيرا أن «قبر أوزيريس كان في حقيقته قبر الملك زر
Zer
من الأسرة الأولى ...»
53
وهو خليفة مينا موحد القطرين، وكان يعرف أيضا باسم «جر»
54
وباسم «خنت»، «ومن العجيب أن مقبرة جر، قد مرت بها أحداث لم تتح لغيرها؛ فلقد ظن المصريون أن أوزير قد دفن في هذه البقعة، فحجوا إلى قبره وقدموا القرابين وأقاموا الأنصاب حوله، وبنوا في العصر المتأخر سلما يؤدي إلى المقبرة، وأودعوا فيها تابوتا من الجرانيت، على غطائه صورة الإله، لابسا تاج الوجه القبلي، يحمل العصا والصولجان.»
55
ولعل السبب في ذلك هو أحد أسماء «جر» الثلاثة، أقصد الاسم «خنت»؛ فقد «حدث اللبس بينه وبين خنتي أمنتي؛ أي سيد الغربيين، وخنتي أمنتي كان إلها قديما لجبانة أبيدوس، اغتصب أوزير مكانه، والخلط بين خنت (جر) وخنتي أمنتي، نجم عنه خلط آخر بين خنت وأوزير.»
56
أما متى حدث ذلك؟ فهذا ما جاء في كتابات الباحثين عفوا، دون أن يؤدي بهم ذلك إلى النتيجة التي وصلنا إليها باعتبارهم قد سلموا ببديهية قدم أوزير، فيقول برستد في معرض حديثه عن عدد من مقابر الموتى في عبيدو/أبجو/أبيدوس: «إنه بعد انقضاء «نحو ألف سنة» على دفنهم، نسي القوم تاريخ تلك المقابر، وتفرسوا في مقبرة زر، أحد ملوك الأسرة الأولى، فظنوها مقبرة أوزيريس»
57
وبحسبة بسيطة نجد تقدير برستد «ألف سنة» يأخذنا من الأسرة الأولى؛ ليلقي بنا في عهد بناء الأهرام، أو الأسرة الرابعة على وجه التقريب، وهو التاريخ الذي أبدينا ظننا حول كونه أقرب التواريخ الصحيحة لظهور أوزير.
مضافا إلى ذلك ما أكده نجيب ميخائيل بأن الملك جر لم يعرف باسم خنت إلا «ابتداء من عهد الدولة الوسطى»
58
ذلك العهد الذي سجل سيادة أوزير الكاملة، مما يعني أنه قبل ذلك لم يكن هناك مجال للخلط بين جر وأوزير، وبالتالي لم تكن أبيدوس مقرا لأوزير، أو لم يكن أوزير قد ظهر بعد وانتشر.
ولما كان تقدير نجيب ميخائيل بعيدا بعض الشيء؛ فقد سجل عبد الحميد زايد تحفظه بهذا الشأن، مرجحا أن ذلك ربما يكون قد حدث قبل الدولة الوسطى بقليل، وهذا أيضا يذهب بنا مرة أخرى إلى عهد بناة الأهرام، ويضحي تحديدنا لزمن الأسرة الرابعة كتوقيت لظهور أوزير، تحديدا مدعما أكثر من أي وقت آخر.
وبالإضافة إلى كل ما أسلفناه من شواهد تقطع - في رأينا - بحداثة أوزير، فلدينا شاهد آخر واضح الدلالة، على أنه لم يكن لا هو ولا أتباعه أعضاء بالمجمع القدسي الأوني الملكي، منذ تكوين هذا المجمع، إنما هم دخلاء عليه، دخلوه نتيجة لظروف جدت على مسرح الأحداث، ويتضح المقصود فيما حدث من صراع بين عقيدة رع الذي اعتبرته الديانة الملكية الرسمية رب الآخرة الأعظم، وبين عقيدة الإله أوزير،
59
وهو صراع لا معنى له لو كان أوزير أحد أعضاء هذا المجمع من الأصل ومنذ العصور القديمة، بينما يصبح صراعا مفهوما لو نظرنا إلى أوزير وأتباعه كآلهة حديثة، ظهرت كمنافس للعقيدة الرسمية، مما حدا بها إلى الوقوف من هذه الآلهة الجديدة موقف العداء، وأن تدخل معها هذا الصراع الذي ترك آثاره مسجلة على متون الأهرام،
60
حتى «إنه لا يزال توجد بعض نصوص واضحة، لا يتطرق إليها الشك، ترجع إلى عصور كان فيها أوزير، يعتبر عدو الموتى،
61
وهذه النصوص تشتمل على تعاويذ، كان الغرض منها منع أوزير وأقاربه من دخول الهرم - وهو قبر شمسي - بقصد سيئ»،
62
حتى أسمتهم المتون «عصابة أوزير.»
63
ويبدو أن السبب الذي أدى في النهاية لدخول أوزير وأتباعه المجمع القدسي، يعود إلى ما بلغه أوزير من علو الشأن والقوة بين العقائد، حتى اضطر كهنة الديانة الملكية بما عرف عنهم من «حرصهم على أن يكون لإلههم السيادة في البلاد»،
64
وخشية على إلههم الذي كان لم يزل بعد منهكا من صراعه مع بتاح؛ اضطروا إلى التنازل عن موقفهم الصلب، وإدخال أوزير وجماعته إلى المجمع القدسي؛ إنهاء للمشكلة، وتتضح رؤيتنا هذه فيما تركه لنا التاريخ؛ فهو يؤكد أن أوزير «لم يكن أصلا إلها شمسيا»؛
65
أي لم يكن ضمن المجمع القدسي؛ بدليل أن متون الأهرام قد تضمنت «تعريضات مستقبحة بهذا الإله، وتهجمات مباشرة أحيانا على آلهة أسرته»
66
بل وبها بعض النصوص التي لا تخرج عن كونها مجموعة من الشتائم القبيحة، فنعتت ست بالخصي، وإيزي بالمنفوخة من العفونة، أي من الحمل السفاح، ونبت حت بداعرة بلا رحم،
67
ولكن «في الوقت الذي كانوا يجهزون فيه متون الأهرام، كانت سمعة أوزير قد انتشرت إلى حد بعيد جعلت منه عظيما، يتحتم إدخاله في هذه التعاليم والطقوس الجديدة»،
68
وعلى الرغم من أنه بين «هذه النصوص ما يرجع تاريخه إلى ما قبل حكم الأسر، فإن بعضه قد غير وبدل بمرور الزمن؛ كي يتمشى مع عقيدة أوزيريس، وإن لم يكن له بها علاقة بالمرة.»
69
ولكن تنازل العقيدة الملكية كان محدودا؛ بحيث دخل أوزير وأتباعه المجمع كأتباع تالية لآلهته الكونية الكبار، وليسوا كأعضاء أساسيين فيه، ويشير كل من إيمار وإبوايه إلى هذا المعنى، بتأكيدهم أنه «لم يقم الكهنة بأي جهد لإحلاله في المقام الأول، بل حاول بعضهم - على نقيض ذلك في عهد الإمبراطورية القديمة - أن يحاربوه مداورة، عن طريق بعض الإلهات من أسرته، ولم يدخلوه إلا على مضض في هامش مذاهبهم اللاهوتية ...»
70
وكانت نتيجة هذا التنازل أن «حرفت متون الأهرام في بعض أجزائها»!
71
لهذا الغرض بالذات، وكانت النتيجة «ارتفاع نفوذ أوزيريس وانتشاره، على حساب عقيدة رع»
72
لينتهي كما سنرى إلى اغتصاب مكانه، والحلول محله، كما سبق وحدث مع آلهة الموتى السابقين.
وإذا كان القول بقدم أوزير، يستند إلى دليل قدم إيزي حبيبته؛ باعتبارها عند الباحثين من إلهات فجر التاريخ؛ فإن دخول هذا الدليل لمجال التحليل، يوضح أن فيه نوعا من الالتباس، نتج فيما نظن عن الخلط بين إيزي وبين إلهة أخرى، اشتهرت في عصر فجر التاريخ باسم حت حر أو حتحور أو هاتور «إلهة أفرود يتوبوليس - القوصية - ودندرة وسيدة المقاطعات السادسة والعاشرة والرابعة عشرة، وكانت تحمل على الرأس قرنين عاليين على شكل قيثارة، يضمان بينهما قرص الشمس، وقد جعلوها حسب الثواليث أما للإله حر»
73
الأكبر، إله التوحيد القديم، ويبدو أنه بظهور أسطورة أوزير، وحتى يعطي المؤمنون بأسطورته، بعض الأصالة للإلهة إيزي، ألقوها في مرآة القديم، حيث كانت هناك صورة حت حر، وقد ألقي في روعهم أن إيزي ليست سوى حت حر، خاصة أن هذه الأخيرة كانت أم الإله حور الأكبر، وإيزي بدورها أم لإله يدعى حور من حبيبها أوزير، فقاموا بوضع تاج حت حر - القرنين وقرص الشمس - فوق تمثال إيزي، فجاء هذا الخليط ليشكل شركا سهلا للباحثين؛ ليقعوا في الخلط القديم، ويظنوا أن إيزي إلهة من إلهات فجر التاريخ، عندما يرون تماثيلها تملأ الوادي منذ فجر التاريخ وقد حملت التاج المقدس، وهذا بالضبط ما أراده عباد إيزي من ألوف السنين.
وبذلك لم يبق لنظرية قدم أوزير السائدة، سوى دليل أيام النسيء التي سميت بأسماء أعضاء الأسرة الأوزيرية، وهو من الأدلة التي لا تقوم على سند يقيني؛ فمن المحتمل جدا أن يكون المصريون قد عرفوا أيام النسيء منذ فجر تاريخهم، لكنهم لم يسموها بالأسماء الأوزيرية إلا في مرحلة لاحقة، أي بعد الظهور الأوزيري؛ خاصة وأنه ليس هناك من دليل واحد قديم من فجر التاريخ، يسجل هذه الأيام بأسمائها الأوزيرية.
وهكذا يكون فرضنا قد تدعم، «ولا يبقى منطقيا سوى رفض القول بالقدم، والتسليم بالحداثة، رغم خطورة هذا الأمر وجدته التامة على البحوث التاريخية في مصر القديمة».
خاتمة ونتائج
وهكذا يمكن إيجاز أهم النتائج والاكتشافات، التي انتهى إليها الباب الثاني، في العناصر التالية:
أولا:
إن الديانة المصرية القديمة، وبخاصة ديانتي مدرستي رع الأونية وفتاح المنفية، قد سبقتا إلى أبرز النظريات الفلسفية في الميتافيزيقيات وجودا وألوهية، قبل ظهور الفلسفات اليونانية بقرون طويلة، كما كانتا السابقتين إلى أبرز النظريات التي تعتبر أعمدة للديانات التي تلت العصور الفرعونية في حوض المتوسط الشرقي.
ثانيا:
إن أهم ما كان يميز الديانة المصرية القديمة، هو عقيدتها في الخلود، بل وإن الخلود كان هو عماد هذه الديانة بكليتها، وبدون هذا الاعتقاد فإن الديانة المصرية لا يكون لها أي معنى.
ثالثا:
إن عقيدة الخلود المصرية، قد بدأت مرتبطة بالملكية، واعتبر الملك هو صاحب الحق الأوحد في الخلود دون سائر البشر؛ لامتلاكه الطبيعة الإلهية التي انحدرت إليه عبر نسله الإلهي.
رابعا:
إن هذا الاعتقاد قد دخل مراحل تطورية؛ بدأت تصورا ساذجا بالخلود في القبر، ثم أخذت خطوة ارتقائية دخل بها الشعب دار الخلود، ولكن في مهامه مظلمة تحت الأرض، لا فرق فيها بين خير وشرير، بينما ترفعت بالملك عن هذه المهامه، وأدخلته السماء بجوار أبيه الأكبر رع، دون أية مقاييس خلقية نسبية بين ملك وملك، وأصبح الأمر لو تصورناه بالفهم الحالي: أن السماء كانت جنة للملوك، أما تحت الأرض فكان مقر بقية البشر الموتى.
خامسا:
إن هناك أدلة قوية - وهذا أهم اكتشافات هذا الباب - تثبت أن الإله أوزير إله جديد حديث، لم يكن هو ولا أفراد أسرته الأسطورية، ضمن المجمع القدسي في بداية تكوين هذا المجمع، وإنما كان ظهوره نتيجة ظروف معينة بدأت في عهد الأسرة الرابعة، أي العصر الذي بلغت فيه معاناة الشعب أقصاها في بناء الأهرام لملوكه، وهذا المعنى يعود بنا إلى بداية الثورة المصرية الأولى التي أنهت عصر الدولة القديمة، وبربط ظهور أوزير ببداية الثورة، يتضح احتمال أن يكون أوزير هو الإله العادل، الذي بحث عنه العقل الجماهيري، ليستبدله بالآلهة القديمة.
الباب الثالث
عقيدة الخلود المصرية عبر مراحلها التطورية
تأسيس
أبدا؛ لم تكن وقفتنا السالفة مع الإله أوزير، مسألة عبثية واستعراضية، إنما كانت خطوة منهجية لازمة وضرورية؛ لمعرفة أهم الخطوط العريضة التي اتبعتها عقيدة الخلود الفرعونية، في مسارها التطوري؛ خاصة إذا علمنا أن أوزير كان لدى الباحثين دائما، هو الإله المعني بأي حديث عن العالم الفرعوني الخالد؛ باعتباره هو رب الخلود، رغم تضارب ذلك مع حقيقة مؤكدة، هي أن رع كان رب العالم الخالد.
والغريب أن أحدا ممن طالعنا لم يحاول أن يضع تفسيرا منطقيا أو مفهوما لهذا الأمر، وكان أسهل مخرج من هذه المحاولة ، هو لجوء الباحثين إلى ما يسمونه بالتضارب أو التناقض بين النصوص المصرية وبعضها، حتى إن التأكيد على تنافر أو تناقض العقلية المصرية القديمة مع ذاتها، كاد يكون لدى الباحثين عرفا ومسلمة.
ولكن؛
هل يجوز لنا بدورنا أن نسلم مثل هذا التسليم بعد ما اتضح لنا، وبعد ما تكشف - في الفصول السالفة في ضوء المنطق التطوري - من أن هذا التناقض لم يكن في العقلية المصرية القديمة، بقدر ما كان ناتجا عن سوء فهم الباحثين لنتاج هذه العقلية؟ حقيقة؛ إن نجاح استخدام المنهج التطوري في الفصول السابقة، إنما يدعونا إلى عدم التسليم بمذاهب الباحثين تلك، بل ورفض هذه المذاهب، وعليه فلسوف نحاول فك ما أسموه تشابكا أو خلطا، في ضوء نفس المنهج والمنطق الذي اتبعناه في الفصول السابقة.
هذا، علما أن العرض السالف لخطوات العقلية المصرية التطورية، في بحثها عن عالم الخلود، لم يكن بهذا الشكل في أي مما طالعناه، كما لن يكون في بابنا هذا بدوره.
ولعل أهم الاختلافات بين عرضنا، وبين عروض من طالعناهم بهذا الصدد، هو تأجيلنا لبحث الدور الأوزيري في تطور عقيدة الخلود المصرية - رغم أنه أول ما يقع عليه النظر في كل ما تناولته اليد من مراجع - وكان تأجيلا له هدفه ومغزاه المنهجي، فكان لا بد أن يسبق الحديث عن دور أوزير في عالم الخلود، تحديد التوقيت الأقرب إلى الصحة لظهور الإله أوزير وماهيته الحقيقية، وفي ضوء هذا التحديد يمكن أن يصبح الأمر أكثر وضوحا ومنطقية، ما دام أوزير قد أصبح - نهاية الدولة القديمة وحتى نهاية العصور الفرعونية - هو إله العالم الخالد.
كما أن الكتب التي طالعناها - في غالب أمرها - تبادئنا بالحديث عن يوم بعث وحساب أمام موازين إلهية عادلة، دونما تحديد واضح لزمن ظهور فكرة البعث والحساب، وأسبابه، وهو أمر تحاشينا حتى الآن الإشارة إليه؛ نظرا لارتباطه بالإله أوزير دون غيره، بينما كان قدم أوزير عند الباحثين، مدعاة لخلط لا مزيد عليه؛ لأن قدمه إنما يعني قدم فكرة البعث والحساب، ويعني معاصرته للإله الملكي رع، وكانت النتيجة تضارب المسألة أمام الباحثين حول البعث والحساب، ما بين رع وأوزير، ولكننا بوقفتنا مع أوزير، نكون قد استطعنا أن نحدد التوقيت الأقرب إلى الصحة، في ظهور كل خطوة تطورية، صاحبته كإله للعالم الخالد.
ولعل أهم ما تركته كتابات الباحثين من غوامض حول عقيدة الخلود الفرعونية، ما يمكنا إيجازه - مصاغا في التساؤلات التالية:
أولا:
ما هو السر في تربع أوزير على عرش العالم الخالد؟ ومتى حدث ذلك على وجه التقريب؟ وإلام صار دور رع في هذا العالم؟
ثانيا:
ما هي الأسباب التي أدت لظهور القول بيوم للبعث والحساب؟ وما هي التصورات التي وضعها العقل المصري لما سيدور في هذا اليوم؟ وما هي المقاييس الخليقة التي وضعها لهذا الحساب؟ ومتى ظهرت هذه الأفكار عن يوم البعث والحساب.
ثالثا:
ما الذي عناه كبار الأثريين مثل ديورانت وبرستد وولسن بإشارتهم لتأثير العقائد المصرية في العقل البشري، وامتداد هذا التأثير حتى يومنا هذا؟ وهل يعني ذلك أن هناك أحداثا أو ظروفا معينة قد أدت إلى إكساب العقائد المصرية - وبخاصة عقيدة الخلود - صفة العالمية، مما أدى لاستمراريتها حتى اليوم؟ وإذا كان ذلك صحيحا فكيف حدث؟ وأين يمكن البحث أو الكشف عنها في معتقدات عصرنا الحالي؟ هذه ثلاث مجموعات من الأسئلة، سنحاول الإجابة عليها بنفس الترتيب تقريبا عبر فصول ثلاثة هي - بعد هذه المقدمة - على النحو التالي:
الفصل الأول:
الجماهير تغزو عالم الخلود.
الفصل الثاني:
الردة والاحتواء.
الفصل الثالث:
تطور عقيدة الخلود وسيادتها العالمية. هذا، مع خاتمة بأهم النتائج العامة التي انتهت إليها هذه الدراسة في بحثها عن أثر الأحداث السياسية والاجتماعية، في نشوء عقيدة الخلود الفرعونية وتطورها.
الفصل الأول
الجماهير تغزو عالم الخلود
إن الانفعال الحق، هو الذي يتجه إلى كل ما هو جديد، لا إلى مجرد الخلاص من كل ما هو بال عتيق؛ فهو يؤدي إلى استيقاظ قوى غير متوقعة في الأفراد، بل هو يؤدي إلى تغير نظرة الناس إلى الآلهة ذاتها.
بوركارت
انتهت الفصول السابقة إلى اكتشاف ثورة عارمة شملت البلاد، بدأت نظريا إبان بناء الأهرامات الكبرى، في عهد الأسرة الرابعة، ثم ظهرت نذرها العملية عندما بدأ تمرد النبلاء في الأسرة الخامسة، واستقلالهم بأقاليمهم عن العاصمة الملكية، حتى تفجرت شعبيا تفجرا شاملا، في عهد بيوبي/بيومي الثاني، آخر ملوك الأسرة السادسة.
وفي غمرة هذه الأحداث، ظهر - مصاحبا لها - في الأسرة الرابعة، إله جديد هو الإله أوزير، الذي أخذ يقوى ويشتد منذ أواسط الأسرة الخامسة، إلى الحد الذي دخل به إلى الأهرام؛ ليسجل مع أتباعه في متونها، إلى جوار سيد الآلهة رع الأوني وينتهي إلى السيادة الدينية على كل أرجاء مصر، في عصر الدولة الوسطى.
وهنا بالضبط نرى أعظم أسرار الثورة، وأكبر الآثار التي تركتها أحداث السياسة والصراع الاجتماعي على الديانة المصرية؛ لأن المعنى يصبح: إن الثورة النظرية في الأسرة الرابعة، لم تكن سوى عقيدة أوزير ذاتها، ظهرت كنوع من الاحتجاج أو التمرد السلبي، في عصر عمل فيه كل الأفراد في أعمال السخرة؛ لبناء مقر خلود الملك، وكان منطقيا أن تتمرد الجماهير، وأن تنتشر بين جموعها الأفكار الثورية.
ولما كانت الدولة القديمة لا تزال في عنفوان جبروتها ومجدها؛ فقد اتخذت هذه الثورة مظهرا سلبيا في اعتناق عقيدة تخالف العقيدة الحكومية، وكان طبيعيا أن يصنع خيال الحكماء الشعبيين في وقت المحنة والمظلمة، إلها يشاركهم محنتهم ومظلتهم، فيموت غيلة وعسفا، وتنطبع الأسطورة الأوزيرية بطابع جديد كل الجدة على الفكر المصري، فتحول كل همها نحو الفقراء ومشاكل العوز والحاجة، وآمال الدهماء وطموحاتهم، بل أضفت على الطبقة الفقيرة كل القيم الخلقية النبيلة، بينما سلبتها من الطبقة الغنية الممتازة، وفي ثنايا أسفار الأسطورة الطويلة أحداث تزايدت وتراكمت بمرور الزمان، وباختلاف الأحداث، لكنها بشكل عام تظهر هذا الاتجاه بشكل يتضح تدريجيا وبإصرار، فمثلا عندما سقط الطفل الإلهي حور صريع السم، هرعت به أمه إيزي تبحث عن ملجأ ومأوى ومداو، فأوصدت المرأة الغنية أبواب قصرها في وجه الأم ووليدها المحتضر، مصورة ذلك بكل الخسة الممكنة، ولم يعد أمام الأم الإلهية إلا أن «استصرخت أهل المناقع القريبين منها، فواساها فقراؤهم، وهرعوا إليها بقلوبهم، وتركوا بيوتهم.»
1
وتلقت الطفل امرأة فقيرة، وفتحت له وللأم أبواب حظيرتها، وخففت عن الأم محنتها، وسهرت على الطفل حتى عوفي - مع تصوير موقف كل الفقراء بصورة خلقية سامية رفيعة - وبينما تقوم العقارب بلدغ ابن الغنية البخيلة حتى الموت، تتخذ الإلهة إيزي قرارها واضح المعاني ف «تكافئ الفقيرة المضيافة، وتلقي درسا على الثرية البخيلة، فأمرت هذه الأخيرة أن تتنازل عن ثروتها لصالح الفقيرة التي وسعتها في حظيرتها، ثم عقبت على مصير البخيلة بقولها للسامعين:
انظروا.
لقد ابتلعت لعابها،
لدغ طفلها،
وخسرت مالها؛
لأنها «لم تفتح لي بابها».»
2
ولعل هذا التحدي السافر، والمناداة بمبدأ توزيع الملكيات الكبيرة لصالح الجماهير الفقيرة - إن صح التعبير - يقال هنا لأول مرة في تاريخ الإنسانية، مصحوبا بالتهديد والوعيد، لكل من لا يؤمن بآلهة الشعب وبأوامر هذه الآلهة، التي ظلت تصدر طوال سرد الأسطورة، لصالح الجماهير المطحونة فقرا وقهرا، وتأجيجا للنفوس الموتورة؛ صور خيال الحكمة الشعبية الظلم والاستبداد بصورة بشعة؛ لينتهي أسوأ نهاية، فينتصر أوزير المظلوم في ختام الجولة، ليعبر ذلك عن أنه مهما قامت دولة الظلم وطال عهدها فلسوف تنهار وتزول؛ لأن الآلهة قدرت أن ينتصر الحق على الظلم، ويقهر المقهور قاهره.
وتأصيلا للإله الجديد؛ فقد عادوا به إلى الماضي السحيق، وأكدوا أن ولده حور ليس سوى حور الأكبر؛ إله التوحيد القديم، وأن أمه إيزي ليست سوى تلك المرسومة نقشا على جدران المعابد القديمة، ذات القرون الحاوية لقرص الشمس حت حور، وأن أوزير هو الملك العادل الصالح الذي حكم بالمحبة بين الناس ثمانية وعشرين عاما من المساواة والرخاء والسلام، واطمأنت القلوب إلى عقيدتها، فهفت النفوس إلى الإله الشهيد وإلى عدله، فكان أن بدأ «الانتظار لملك منقذ، لشخص يحل فيه رع الحقيقي.»
3
وحيث إن حلول رع الحقيقي، كان في الثالوث الأوزيري المقدس، أو في أوزير بوجه خاص، فقد بدأت تسري بين الجماهير عقيدة جديدة، ملخصها «فكرة عن أوزير ومجيئه؛ ليصلح كل شيء»،
4
وبالتالي سجل المنطق من خلال الأحداث التاريخية، «ولأول مرة، ظهور عقيدة المخلص المصرية».
وإذا كان أوزير قد صعد إلى السماء إلها من بعد موته، فلا ريب أنه كان من الأصل إلها.
ولكن؛
لماذا يأتي إله إلى الأرض، ويترك نفسه ليقتل ظلما وعدوانا؟
لا ريب أن هناك دافعا قويا، ومعنى كبيرا، وراء مجيء الإله، هو بالمنطق وحده «خلاص البشر، وفداء لهم»، وحملا لخطيئاتهم عنهم، فلا ريب أنه كان «الفادي الأعظم»، وعليه لا يمكن القول بظهور عقيدة المخلص دون ربطها بعقيدة «الفداء»، وإذا كان أوزير قد جاء من قبل ليقيم دولة العدل والمحبة والمساواة، فلا ريب أنه سيعود «ليصلح كل شيء» فهو قد غادر فعلا؛ لكن ليعود، وعليه لا بد أن يقوم المنطق مستمدا من الفكر مداده، سادا ثغرات لم تملأها الوثائق، بوضع عقيدة «الرجعة من السماء»، إلى جوار عقيدتي المخلص والفداء، كثالوث مترابط لا توجد واحدة منها - منطقيا - مستقلة عن الأخريات.
وسرى الإيمان بالعقائد الثلاث إلى القلوب النازفة، كالبلسم المداوي؛ فامتلكها، ولكن لا ليهدئها؛ بل ليشعلها، فكما أن حور ابن الله لم يرض بالظلم وثار وحارب الظلمة، حتى أعاد الحق إلى نصابه، فقد وضع بذلك سنة يجب احتذاؤها، فالآلهة لا تأتي الأمور عبثا، إنما لحكمة كبرى تتبع، وهنا عين الحكمة، فلكي يعود الحق لا بد من ثورة وحرب. هكذا قررت الآلهة، وهذا ما يجب أن يكون. ولما انتهت العقول إلى هذه القناعة، دخلت العقيدة الأوزيرية صراعا علنيا مع العقيدة الملكية، في نهاية الأسرة الرابعة تقريبا.
ويلخص سليم حسن ما حدث خلال تلك الفترة المرتبكة من تاريخ العقيدة المصرية بقوله: إنه «عندما حدث الصدع العظيم عند نهاية الدولة القديمة، وجدنا المذهب الأوزيري الذي كان بلا شك «مذهب عامة الشعب»، أخذ ينمو وينتشر، ويزداد قوة على قوة، ونفوذا على نفوذ، مما وسع هذا الصدع، وسمح لأفكار الشعب الدينية ومعتقداتهم، أن تندفع إلى الخارج، وتأخذ في الظهور في صورة حمم ملتهبة؛ على أن الشعب لم يكتف في أي مكان من البلاد، بحرية «التعبير عن معتقداته وصلواته الخاصة»، بل طالب بحق التمتع بالجنة السماوية التي وعد بها الملوك، فأجيب مطلبه بعد حرب شعواء، قلبت خلالها كل الأنظمة الاجتماعية رأسا على عقب.»
5
وبغض النظر عن توقيت سليم حسن للثورة وأسبابها، ودون استباق للأحداث، يمكن القول: إن المرحلة التطورية التالية لمعتقد الخلود، قد جاءت مصاحبة لحدثين خطيرين:
الثورة بكل أحداثها المتلاحقة.
ظهور الإله أوزير بعقائده المختلفة:
عقيدة القيام من الموت.
عقيدة المخلص للبشرية.
عقيدة الفداء.
عقيدة الرجعة من السماء.
وإن هذه المرحلة، قد بدأت بدخول أوزير وتوابعه إلى المجمع القدسي، عندما لجأ كهان الملكية في أون إلى مداراة الخطر الناشئ، برفع الإله الشعبي لمرتبة الآلهة الكونية، وإدخاله مع توابعه إلى المجمع القدسي؛ ليسجل إلي جوار رع الأوني في متون الأهرام، ليتحول المجمع القدسي من خمس آلهة كونية إلى «تسع آلهة، تجمع اللاهوت مع الناسوت أو الألوهية مع البشرية»، ولعل في ذلك ما يفسر لنا دهشة وتشكك إرمان وفرانكفورت وأنتس، السالف الإشارة إليها، وهو ما لخصه محمد أنور شكري بقوله: إن الأسطورة الأوزيرية قد انتشرت «انتشارا واسعا، وقد اضطر كهنة عين شمس في بداية الأمر إلى مقاومتها، لكنهم اضطروا آخر الأمر إلى «التوفيق بينها وبين عقائدهم»، وضم أوزير ومن تبعه من الآلهة إلى آلهتهم؛ وبذلك تألف التاسوع العظيم.»
6
ورغم أن كهنة الملكية لم يضعوا أوزير وتوابعه في مرتبة مساوية للآلهة الكونية (رع وتوابعه)، وإنما ضموهم تحت سيادتهم كأبناء لرع؛ ضمانا لسيادته، ورغم أنهم استطاعوا بذلك أن يبعدوا من الأذهان فكرة المنافسة بين أوزير ورع، على اعتبار أن أوزير ما كان ليخرق أقدس التقاليد المصرية في إجلال الآباء، وإلا ما استحق التقديس كإله، رغم هذا؛ فإن دخول أوزير وتوابعه المجمع القدسي الأوني، يشير إلى هزيمة سياسية وعقائدية ودينية صريحة، منيت بها الملكية أمام شعبها، واعتراف واضح بهذه الهزيمة.
وكان لا بد من بعض التعديلات في الديانة الملكية، بعد دخول أوزير المجمع القدسي؛ كي يظل رع صاحب القداسة الأولى، وتظل أون صاحبة السيادة والسلطان، وكانت هذه التعديلات بداية لسلسلة من التنازلات والهزائم لديانة الملكية، وللملكية ذاتها، بدأت في الأسرة الرابعة بدخول أوزير المجمع، ثم تلاها انتشار واسع للعقيدة الجديدة بين أفراد الشعب؛ ليجيء ثاني تنازل خطير، باعتراف الديانة الملكية بعالم للموتى يذهب إليه أفراد الشعب، ليعيشوا تحت الأرض في مملكة يحكمها أوزير،
7
إلا أنه لم يكن عالم خلود، بقدر ما كان عالم أطياف غير محددة الماهية، حتى ذهب الباحثون إلى القول: إننا «لا نعلم شيئا في عهد الإمبراطورية القديمة، عن المصير المحدد للفقراء بعد موتهم، ولكن نرجح أنه كان ضعيفا جدا.»
8
ويبدو أن ذلك كان ناتجا عن أن العقلية المصرية، ما كانت - حتى هذا الوقت - لتتطاول إلى حد تصور المساواة مع الملك، أو حتى مجرد التفكير في أن الخلود جائز للعامة كما هو جائز للملوك؛ فلا شك أن ألوهة الملك كانت ولا تزال حصنا منيعا أمام مجرد التفكير في هذا الأمر، في وقت سادت فيه قاعدة تقول: إن الخلود من حق الآلهة فقط بحكم طبيعتها، وهي طبيعة غير موجودة في البشر، بحيث كانت هذه الطبيعة الإلهية قلعة مدرعة للملوك، تلغي أي تفكير في المساواة؛ لأنه لو خلد الجميع لتساوى الجميع.
أما كيف بدأت مطالبة الشعب بحق الخلود؟ ومتى تحقق له ذلك المطلب؟ فهذا ما تجيب عليه أحداث الثورة الشعبية في منتصف الأسرة الخامسة تقريبا؛ فقد بدا جليا أن الهدوء الذي تلا دخول أوزير إلى المجمع القدسي، لم يكن سوى هدنة مؤقتة، ثوى خلالها الجمر الثوري تحت رماد من الهدوء الظاهري، بينما كانت العقيدة الأوزيرية تسري باللهيب بين الجماهير، التي وجدت بغيتها في حكام الأقاليم من نبلاء وأشراف الأسرة الخامسة، فقام هؤلاء - كما سلف
9 - بتجميع هذه الجماهير في أقاليمهم بوجه الاستبداد الملكي، بحيث استطاعوا أن يستقلوا بأقاليمهم عن العاصمة، ويناوئوها السلطان، بل وأن يقتحموا عالم أون الخالد عنوة واقتدارا، دون أي مبررات منطقية، أو تفسيرات عقائدية، اللهم إلا منطق القوة واليد الباطشة وحدهما. فاستطاع أوزير بذلك أن يتحول من الجانب السلبي إلى الجانب الإيجابي، ومن النظرية إلى التحقيق الواقعي للثورة، وكانت أهم نتائج هذه الأحداث المتلاحقة تباعا هي:
إنزال مركز الملك، والصعود بمركز النبلاء على المستوى الواقعي بعد وقوفهم في وجه الملكية كقوى مستقلة ذات سيادة.
بدخولهم العالم الخالد أوقفوا الملك معهم على قدم وساق، و«بدأت الملكية تفقد الكثير من قداستها وألوهيتها، ولم يعد يفصلها عن الشعب فاصل كبير»،
10
ومن ثم «أصبحت فكرة المساواة مقبولة من الناحية النظرية.»
11
وكما سلف، فقد وضح أن اقتران المد الثوري الأوزيري بالنبلاء، جعل هذا المد محدودا؛ فالنبلاء كقوة محافظة، لم يكن في مصلحتها القضاء كلية على سيادة رع لحساب أوزير، وإلا أعطت الجماهير سلاحا ذا حدين؛ حد باتجاه الملكية، وحد باتجاه النبلاء أنفسهم. وبذلك كان تمرد النبلاء وتكوينهم إقطاعات قوية في وجه الملكية - اعتمادا على القوى الشعبية وعقيدتها الأوزيرية - مجرد مرحلة انتقالية من الحكم المطلق إلى الثورة الشعبية الشاملة، بل إن تمرد النبلاء واستطاعتهم تحقيق ذلك واقعيا، جاء كسرا لمعنى قدسي وشرخا كان لا يمكن تصور إمكان حدوثه - في العقلية الجماهيرية - فيما قبل، وكان الشرخ الأكبر هو دخول هؤلاء النبلاء العالم الخالد، فنسفوا بذلك نظرية الخلود الإلهية من أساسها أمام أنظار الجماهير، ولم يعد الخلود كامنا في الطبيعة الإلهية وحدها، وإلا ما خلد النبلاء قط.
ورأت الجماهير كل الآمال في السيادة والعدالة والمساواة تتبخر أمامها، عندما استتب الأمر لحكام الأقاليم، فأخذوا يستغلون قوتهم في الضغط على الجماهير، والإثراء على حسابها بعسف وإرهاب، تجاوز كل ما حاق بالناس من قبل، وبدأت الثورة الشاملة فعلا تتحول لتصبح تدميرا لا محدودا، حتى قطعت الجماهير الجائعة الطرق على الأثرياء، واقتحمت العصابات المسلحة أقدس الأماكن الأونية، حتى الأهرام لم تمنعها قدسيتها من الثوار،
12
ولم يصبح العالم الخالد شيئا مخيفا، فاقتحموا على الموت سكونه، وسلبوا الراقدين في سبات الأبدية ثروات أصبح الأحياء الجياع أولى بها من أموات ماتوا تخمة وشبعا.
وقد شجع ذلك على ظهور اتجاه ثوري جديد ذي ميول متطرفة، أخذ جانب التشكك، ثم التحرر، فالإلحاد التام بكل المقدسات. أخذ مظهره فيما سلف من تهجم وتهكم على الآلهة،
13
أو ما جاء على لسان الفلاح الفصيح، عندما صاح فيه النبيل النهاب قائلا: «لا تكن كثير الضوضاء هكذا يا فلاح، ألا ترى أنك في منزل إله السكون»، فرد عليه بعنف يحمل معنى هذا الاتجاه، صارخا: «أتضربني وتسرق متاعي، ثم تريد أن تحرم فمي من مجرد الصياح؟! إذا؛ «يا إله السكون، هل لك أن تعيد لي ممتلكاتي؟ إذا فعلت فسوف لا أصيح حتى لا أزعجك».»
14
وقد اقترن هذا الإلحاد المتحدي للغيبيات، برفض الاعتقاد بخلود العنصر الإلهي، وبالعالم الخالد ككل - ما دام عالما ملكيا خالصا - وضح في قطعة أدبية رائعة تسمى أغنية العازف على الهارب، استطاع صاحبها المجهول، أن يلقيها قنبلة بكل الجرأة الثورية المطلوبة - في حفل ملكي مهيب، أمام المقابر الهرمية الهائلة؛ يقول ذلك الثائر المتحدي في مقطع منها:
تأمل مساكنهم هنالك؛
فإن جدرانها قد تهدمت، «ولم يأت أحد من هنالك»
ليحدثنا كيف حالهم
ليخبرنا عن حظوظهم؛
حتى تطمئن قلوبنا،
إلى أن نرحل نحن أيضا
إلى المكان الذي رحلوا إليه، «ولم يعد إنسان ثانية»
ممن رحلوا إلى هنالك ... ... ...
في الأرض التي تحب الصمت ... ... ... ... فلا يوجد إنسان يعود ثانية.
15
وكالمعتاد؛ لم يقدر لهذا الاتجاه المتطرف الاستمرار وسط تمسك الجماهير بعقيدتها الجديدة، التي غلبت على السواد الأعظم، بحيث يمكن وصف هذا الاتجاه الغالب بمصطلحات اليوم بالراديكالية.
واستنادا للأوزيرية؛ ما كان الأمل ليخبو في النفوس التي تؤمن بأن شريك المظلمة أوزير، قد قام من بين الموتى؛ ليحمل المعنى المضمر، بأن الحال لن يستمر على حاله، وما دام الأمر كذلك، فلن يخبو الأمل في الخلاص من ربقة الاضطهاد، كما قام أوزير، وعندها سيسود السلام والإخاء والمحبة في الأرض.
ولكن
من أجل من سيعود أوزير؟
لا ريب؛ من أجل شركاء المظلمة؛ من آمنوا به، من آمنوا بأنه انتصر على الشر، من آمنوا بأنه انتصر على من ظلموه، والأهم من هذا كله من آمنوا بأنه انتصر على الموت، وكوفئ على صلاحه بالخلود!
وهنا يقف الفكر مليا ليتساءل مع نجيب ميخائيل: كيف كان القوم يفكرون؟ إذا «لم يعد الملك أفضل من الرعية، فلم لا يصبح أفراد الرعية مثل أوزير كذلك؟ ولم لا يصبحون جميعهم كذلك؟ ولماذا لا يكافئون إذا أحسنوا العمل كما كوفئ أوزير؟ وبماذا يزيد عنهم الملك حتى ينال النعمى في الحياتين؟ هكذا سيطر التفكير في أوزير في هذه الفترة على النقوش، وود كل أن يصبح مثله إذا انتهى أجله.»
16
ولما كانت الأسطورة تقول: إنه قد «أجريت على جثته لأول مرة المراسم التي تؤمن بالبعث والحياة الأبدية»،
17
أفلا يمكن إذا أجريت تلك المراسم على غيره من الأموات أن تؤمن لهم نفس الامتيازات؟ وإذا كان الملك قد ادعى أنه ابن الإله رع، أفلا يكون من الإيمان بالإله أوزير بديلا للبنوة؟ أو هو البنوة ذاتها؟
وهكذا؛ وعلى ما يبدو، أخذت التساؤلات بالعقلية المصرية تلف حول فكرة الخلود، وكيف يمكن أن يناله الجميع، حتى انتهت إلى أن الإيمان به هو بنوة له، وأن أوزير قد كتب الخلود بخلوده لكل من آمن به، ولكل من آمن بأنه «قد قام من بين الأموات؛ لذلك فبمجيء أوزير قد أبطل الموت»، وعندما ترسخت هذه القناعة في النفوس، وجدنا المقابر تنتشر بطول البلاد وعرضها، للجميع بلا استثناء، وكما كان للملوك متون أهرام، فقد أصبح للشعب متون توابيت وكتاب موتى، سجلت كل تصورات الشعب لآماله في عالم الخلود.
وفي هذه المتون الشعبية، وفي بعض القطع الأدبية، بل وفي متون الأهرام نفسها التي عدلت لتماشي الأوضاع الجديدة، نجد كل النصوص تؤكد أن أوزير أبا حور المناضل، هو أب لكل المناضلين الذين آمنوا به؛ فهو حقا وصدقا «أبانا الذي في السموات»، وأخذت النصوص تخاطبه بالأب، بينما تخاطب الميت بأنه هو أوزير ذاته، فتقول إيزي للميت الصاعد من الأرض إلى السماء:
سعيد من يرى «الآب»
وتقول نفتيس:
طوبى لمن ينظر إلى «الآب»
إلى أبيه،
إلى «أوزيريس»
حينما يصعد إلى «السماء»
بين النجوم،
بين المخلدين.
18
ولما كانت البا أو الروح أو الطبيعة الإلهية في العقيدة القديمة هي سر الخلود، وكانت ملكية خاصة للملك، تحدرت إليه عبر سلالته الإلهية، فقد أصبحت - إلى حد ما - مشكلة محيرة للعقل المصري في ظل الوضع الجديد؛ لذلك «التجأ القوم إلى كل أنواع الحيل والاحتفالات الدينية؛ ليصبح المتوفى با عند موته»،
19
فلا شك أنه إذا آمن الإنسان بأوزير فسينال البا أو الطبيعة الإلهية
20
وعند الموت، فإن أوزير سوف «يجعل جسده يضيء، كأجساد أهل السماء»،
21
فيصبح نورانيا كالآلهة. بينما خصص الفصل الثاني من «كتاب الموتى» الجماهيري، لتأكيد الطبيعة الإلهية للميت المؤمن، فيقول الميت عن نفسه:
إني آتوم،
وأنا الذي كنت وحيدا.
وإني رع
عند أول ظهوره.
وإني الإله العظيم خالق نفسه،
والذي سوى أسماءه،
رب الآلهة ...
22
وحتى يستطيع الميت أن ينال البا؛ فقد كان واجبا عليه أن يتطهر أولا، و«يتعمد» بالماء؛ ليؤكد بعد ذلك في متنه الجنازي:
إن خطيئتي قد أقصيت عني،
ومحي إثمي
ولقد طهرت نفسي
في تينك البحيرتين العظيمتين
اللتين في إهناس
23
وكان نتيجة هذه التطورات السريعة، أن تلاحق القوم يتسابقون من كل حدب وصقع في الأرجاء المصرية، لزيارة رب البيت أوزير، والطواف حول بيته في أبيدوس؛ لتصبح زيارة قبر الحبيب الشهيد بمرور الأيام حجا وفريضة إجبارية، على كل من استطاع إليه سبيلا، ومن ثم أصبحت السنة المستحبة هي الدفن في أبيدوس، بجوار البيت العتيق. وفي أبيدوس وحيث البيت المعمور، ووسط الحشود المتجمعة تطوف بالبيت سبعا خاشعات، ظهرت لأول مرة في التاريخ البشري «مسرحية الآلام»، أو أسرار أوزير، وهناك أيضا تطورت فكرة العماد، فكان المؤمن يتلقى العماد من الكهان، «بصب الماء على جسده،
24
وبرش الماء على الأجساد تكثر البركات، ويتذكر المؤمن دماء الشهيد، ويتناول قطعا من القربان الممزق، تذكره بالجسد الطاهر الذي مزقه الشرير ست، ورغم أن هذه كلها كانت طقوسا حياتية، إلا أنها أيضا كانت زادا أخرويا، وهذا جانبها الأهم، فعندما يذهب الميت إلى عالم الخلود معمدا، فسوف «يدعى للقيام بعملية تطهير بالماء يصب فوق البدن، أو بالاستحمام في البحيرة المقدسة، الواقعة في الحقول المباركة»
25
وبعدها سوف «يغتسل مع رع في بحيرة ياور، ثم يجفف حورس جسده».
26
وقبل الاحتفال العظيم، كان الكهان يرتلون أناشيدهم، حليقي الرءوس، بثياب بيض، أمام لوحة قدسية للإلهة إيزي وهي ترضع طفلها اليتيم حور ابن الإله أوزير، وتحيط برأس كل منهما هالة مستديرة؛ رمزا لأصل حور الشمسي في العقيدة الملكية القديمة؛ لتبدأ بعد ذلك الاحتفالات في أواخر شهر ديسمبر، أي في الوقت الذي يتفق ومولد الشمس!
27
ويستمر الاحتفال من الأيام ثلاثة متواصلة، تمثل فيها المأساة يوم مات أوزير غدرا، ويوم البحث عن جثته، واليوم الثالث يوم عثر على جثمانه الطاهر، وصحا في بعث مجسد؛
28
ليطلع على صفحة التاريخ أكبر الأعياد المصرية الدينية، عيد القيامة المجيد»؛ تذكرة بقيام «الفادي» الأعظم من بين الأموات، وصعوده إلى السماء بعد موته بأيام ثلاثة، ليجلس عن يمين عرش أبيه السماوي رع. وهكذا، وكما عاد أوزير للحياة خالدا، فقد كتب بخلوده الخلود الأبدي لكل من يؤمن به، في عالمه الذي أخذ في الانتقال التدريجي من تحت الأرض إلى السماء، حيث أصبح أوزير في العصور التالية، هو سيد العالم السماوي الخالد بلا منازع.
ولما استقر الإيمان بذلك في القلوب، انتشر القوم ينشرون مقابرهم في كل الأصقاع، بينما أخذت «متون توابيتهم» و«كتاب الموتى» صيغا كمتون الأهرام السالفة، وآمن الجميع بخلود الجميع، وتدعيما لمبدأ المساواة هذا بين العظيم والوضيع، انتشر بين الناس خطاب غريب جديد في نوعه، نسبوه إلى الإله رع، حتى يكون اعترافا كاملا بحقوقهم، من قبل إله الملكية، يقول فيه:
لقد خلقت أربعة أشياء عظيمة
داخل بوابة الأفق؛
خلقت الرياح الأربع
التي يستطيع أن يستنشقها كل إنسان كزميله،
الذي يعيش زمانه،
هذا هو العمل الأول ...
وخلقت الفيضان العظيم. «وللفقير فيه حق، مماثل لحق الرجل الغني»
وهذا هو العمل الثاني.
وخلقت كل رجل مثل زميله،
ولم آمر بأنهم يعملون في السوء،
ولكن قلوبهم هي التي أفسدت ما قلت،
وهذا هو العمل الثالث.
وجعلت قلوبهم تفكر دائما في الغرب ... (أي في العالم الآخر بعد الموت)
وهذا هو العمل الرابع.
29
والجدير بالذكر في ثنايا هذا العرض، الإشارة إلى أن المراحل التطورية التالية لعقيدة الخلود الشعبية، قد تداخلت مع عقيدة الخلود الملكية بقيام الدولة الوسطى، حين حظيت عقيدة أوزير باعتراف كامل من الملكية، إلا أن التطور عند هذا الحد، قد أخذ منحى آخر اصطبغ بالمصلحة الملكية مع المصلحة الشعبية في نفس الوقت، ومحاولات كهان الملكية للحد من سيطرة الأفكار الشعبية الثورية، على مفهوم وماهية عالم الخلود.
وكان نتيجة دخول عقيدة الخلود مرحلتها التطورية الجديدة، من خلال مصالح ومفاهيم طبقتين متباعدتين تماما، هو فيما نرى السبب الجوهري الذي أدى إلى التضارب الذي رآه الباحثون في عالم الخلود، والذي لم يكن في حقيقته تضاربا، بقدر ما كان تداخلا لعالمي الخلود الملكي والشعبي، ليركبا معا هجينا غريبا، خلط بين الخلود الملكي الروحاني بالاتحاد مع الشمس أو الإله رع بركوب مركبه السماوي، وبين الخلود المادي الذي طمح إليه الشعب، وقد أدى هذا بدوره إلى اختلاط التصورات حول مكان الخلود، مما يجعل التساؤل: أين مكان الخلود الشعبي؟ مسألة عديمة الجدوى ومضيعة للوقت والجهد، تذكرنا باستحالة برستد، بعد أن تداخل العالمان؛ السفلي الشعبي، والعلوي الروحاني الملكي، فجاءت المسجلات مازجة بينهما مزجا كاملا، وكل ما يمكن قوله هنا يدخل تحت التساؤل عن التصورات الشعبية لعالم الجماهير الخالد؛ لقد كان العالم السفلي تحت الأرض بالنسبة لجماهير الشعب، هو عالم الخلود البدائي، وعند الثورة انتقل إلى السماء مختلطا بنعيم الملوك السماوي، مصبوغا بكل الآمال التي رجاها الدهماء في عالمهم الخالد.
ففي بداية المرحلة التطورية للخلود الشعبي، كانوا يعتقدون أن الميت «يذهب إلى حقول أياور، حيث ينمو الشعير والقمح إلى ارتفاع سبعة أذرع، وأنه يحرث الأرض ويحصد المحصولات، فإذا أدركه التعب في المساء، جلس تحت شجرة الجميز،
30
ولعب الشطرنج أصحابه ورفاقه.»
31
ومن خلال هذه الطموحات الشعبية، تنتقل هذه الصورة فجأة إلى العالم السماوي، فتقول النصوص: إنهم سوف «... يعيشوا مخلدين في حقل الفيضان السعيد، أي الحدائق السماوية، حيث توجد الوفرة والأمن على الدوام»،
32
بينما يقول قائل للمتوفى: «إن أبواب السماء مفتوحة لجمالك، إنك تصعد وذنبك مغفور»،
33
وبجانب القول بالسماء كمقر للخلود، فإن النصوص تعود دائما بتصوراتها إلى العالم السفلي ، كما جاء في كتاب الموتى - بعد مرحلة تطورية - أن الميت سيكون له «مقره أمام الإله العظيم وهو يخرج إلى حقل ياور، يدخل ويخرج في العالم السفلي، ويسكن حقل ياور، ويقيم وقتا في حقل «الطعام»، ذلك المكان الفسيح، ذو الرياح الكثيرة، حيث هو هناك قوي ممجد، «ويشرب ويحب»»،
34
أو كما في القول: إن الميت سيهبط «للعالم السفلي المظلم، وإلى هذا المكان سوف تنتقل حقول البهجة والسرور وغابات البردي.»
35
وظاهر أن الجماهير قد وضعت في عالمها كل مشتهياتها التي حرمت منها قبلا، ولم تنس أن تؤكد في كل صورة من صور عالمها الخالد التي وصلتنا، على أهمية الطعام بأنواعه، مثل قول الميت: لسوف آكل «سائر «أطعمة» سيد الأبدية، وأتلقى «غذائي» من «اللحم» الذي على مائدة الإله العظيم.»
36
هكذا انتهت المسألة بخلط كامل بين عالم السماء وعالم تحت الأرض، مع تصورات مادية حسية بحتة لعالم الخلود الجماهيري، بل وصل الأمر بهم حدا تصوروا فيه أن الوصول للعالم الخالد، لا بد وأن يمر أولا من الجيزة، حيث الأهرامات العظيمة، أول رموز الخلود وأكثرها إيحاء به، «فترينا أحد خرائط العالم الثاني أن من يدخل مملكة الموتى، ممن يكونون في المكان المقدس «روستاو» بالقرب من «الجيزة»، فإنه يجد أمامه سبيلين مفتوحين يؤديان به إلى مملكة الأبرار ... إلخ.»
37
وروستاو هذه «كانت عالما سفليا»،
38
و«هذا الاسم كان بادئ الأمر يطلق على جبانة منف، منذ الدولة القديمة، وكان يطلق بنوع خاص على جبانة «الجيزة» القريبة من منطقة الأهرام.»
39 «وزاد الشعب في صورة مقر الأبرار، فتصوره كأنه مجموعة من الجزر «تحيط بها المياه المختلفة»، وتسمى إحدى هذه الجزر حقل «الأطعمة»، وهي بهذا تدل على أن الطعام فيها وفير، ومن ثم يستقر فيها الآلهة والمخلدون، وأزكى منه شهرة حقل ياور، وهو حقل الإسل الذي ظل المصريون حتى عصورهم المتأخرة، يعتبرونه مقر الممجدين، ومما لا يحتاج لبيان أن المصريين قد تصوروا «هاتين الجنتين» على شاكلة بلادهم نفسها؛ إذ يغمرها الفيضان، ويزدهر فيها الزرع بما يوفر للموتى طعامهم، وفي الشرق من السماء ، «شجرة الحياة» التي يعيشون عليها، والتي يغذي ثمرها الأبرار أيضا، وإلى جانب ذلك؛ فإن إلهات السماء تزود الميت بطعام أصرح طهرا وبراءة».
40
وتقول النصوص:
إن الميت في مقر الخلد
يتلقى نصيبه مما في شونة الإله العظيم
ويلبس من «الثياب» ما لا يفنى،
وله من «الخبز والجعة» ما يبقى أبدا،
وهو يأكل خبزه وحده
طعامه بين الآلهة،
41
وشرابه النبيذ.
42
بل وسوف
تكون له نساء حسناوات،
يتمتع بهن، «ويقوم بكل المهام»،
التي كان يقوم بها على الأرض.
43
وهكذا تحولت صورة عالم الخلود بعد الثورة، بخطوات تطورية ثورية سريعة، نحو عالم مادي يحقق كل الرغبات والشهوات والنوازع البشرية، وهو منطق طبيعي للأمور؛ قادت إليه ظروف المجتمع وأحواله السياسية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار مشتهيات الجياع وأمانيهم.
الفصل الثاني
الردة والاحتواء
إن الفقهاء قادرون على تبرير أشنع الجرائم الأخلاقية.
بوركارت
في ظل العقيدة الشمسية، ظل الملك هو صاحب الحق الأوحد في الخلود، طوال عهود عصر الدولة القديمة؛ باعتباره حاصلا على الطبيعة الإلهية الخالدة، بالوراثة عبر نسله الطويل، الذي يعود به مباشرة إلى الإله رع، الذي اصطفى «روج جدت» من بين العالمين زوجة له؛ لينجب منها ملوك الأسرة الخامسة. ويتأتى خلود الملك بصعود روحه أو باه إلى السماء فور موته؛ لتخلد هناك اندماجا مع إله الشمس «يركب مركبه»، بينما يخلد الجسد على الأرض بفضل عمليات التحنيط البارعة.
ولم يستمر هذا الفهم للخلود طويلا؛ فقد بدأ النجم الأوزيري بالصعود والتعالي، بتعالي الأصوات الثورية، حتى بلغ شأنه العظيم إبان الأتون الثوري الكبير، الذي أنهى الدولة القديمة بإسقاط أسرتها السادسة.
وكان للصعود الأوزيري، وللهيب الثوري، آثار بعيدة المدى في عقيدة الخلود الملكية؛ فقد بدأ رع يتراجع أمام الزحف الأوزيري، حتى باتت محاربة العقيدة الأوزيرية معركة خاسرة، فبدأت متون الأهرام خطتها الاحتوائية السالفة، بإدراج أوزير وأتباعه في المجمع القدسي.
وباستمرار التعالي الأوزيري، استمر التراجع الملكي، حتى أصبح دمج العقيدتين غير كاف، فبدأ أوزير ابتلاع رع شيئا فشيئا، عندما انتشر الاعتقاد بعودة أوزير من السماء، لتخليص البلاد من البلاء، في هيئة ملك عادل، فأخذت المتون تؤكد لشعبها عن كل ملك يرحل، أنه لم يكن سوى الإله أوزير بذاته، كان متجسدا على الأرض، وأنه قد جاء من السماء ليخلص الناس ويحكم بينهم بالمحبة والسلام، وعليه فقد كان الملك الراحل - حقا وصدقا - هو المخلص أوزير بذاته، ومثالا لذلك قول المتون في خطابها للملك الراحل «يونس
Unis ».
أيها الملك يونس،
إنك لم ترحل ميتا،
لكنك رحلت حيا؛
لأنك «تجلس على عرش أوزير»،
وصولجانك في يدك ...
أه يا آتوم!
إن الذي هنا «هو ابنك أوزيريس»،
الذي منحته الحياة، «ثم الخلود»؛
هو الخالد،
كذلك الملك يونس خالد،
هو لا يموت،
كذلك الملك يونس لا يموت،
هو أبدي،
كذلك الملك يونس أبدي.
1
ويبدو أنه مما دعم هذا المعنى للملكية، أن الأسطورة الأوزيرية سبق وأكدت أن أوزير أنجب حور، وأن حور كان ملكا على مصر من بعد أبيه الشهيد، ونتيجة للخلط بين حور بن أوزير، وبين حور الأكبر؛ فقد انبثقت الفكرة القائلة بأن الملوك يعودون بالبنوة إلى رع عبر ولده أوزير عن طريق السلالة الحورية، وعليه لم تعد أسماء ملوك أواخر الدولة القديمة تنسب إلى رع كما كان يحدث مع أسلافهم أضراب «خف رع» و«منكاو رع»، وإنما أصبح الملك «يتحول إلى أوزير»
2
ويصبح هو أوزير بذاته، وكان أبرز هؤلاء الملوك الأوزيريين، ذلك الذي قضت الثورة على عهده، الملك «أوزير بيبي»!
3
ولعل القول بأن الملك هو أوزير، كان من أوضح ما دخل من تعديلات على العقيدة الملكية نتيجة الثورة، وأبرز مؤشر على مدى التنازل الذي قدمته الملكية لشعبها، «فأصبح الملك هو أوزير، الذي سبق ونال من الشتائم الملكية ومن التسفيه والتحقير ما لم يزل مسجلا داخل متون الأهرام إلى يومنا هذا، جنبا إلى جنب مع التعديلات التي جعلت من الملك الميت ذات عين أوزير». هذا رغم أن استقراء المقاصد الملكية ومنطقها من وراء هذا التعديل، إنما يوحي بأن فلسفة أون جعلته تعديلا ملكيا بالدرجة الأولى؛ ليؤدي لنتائج تلزم بالضرورة عن مقدمات، تخدم كلها الأغراض الملكية، يمكنا أن نتصورها كالتالي.
إذا كان أوزير إلها ينتسب ببنوته إلى رع
فالملك إله أيضا؛ لانتسابه بالبنوة إلى رع
وإذا كان أوزير قد قام من الموت خالدا
وأنه خلد لامتلاكه الطبيعة الإلهية الوراثية الخالدة
فإن أبناء رع من الملوك خالدون لنفس السبب
وهذا لا يعني شيئا للشعب، بقدر مغزاه للملكية •••
وتكون النتيجة المنطقية
إذا كان أوزير إلها
لأنه ابن إله يملك طبيعة الآلهة الخالدة،
وإذا كان الملك إلها
لأنه ابن إله، يملك طبيعة الآلهة الخالدة
إذن
لا شك أن الملك هو ذات نفس أوزير.
وتكون النتيجة الملكية المقصودة، أن يتحول الإجلال والتقديس الشعبي لأوزير إلى الملك؛ ما دام الملك هو أوزير بذاته.
ونطرح هنا رؤية جديدة في كون هذه الفكرة قد تطورت تطورا كبيرا؛ نتيجة لاختلاطها بعقيدة التثليث التي سادت العقلية المصرية منذ أقدم عصورها، وهي وإن كانت رؤية جديدة، فإن لها ما يبررها في حدود المنطق، ففيما قبل عهد الأسرات، ساد الاعتقاد بأن الإلهة حت حور أو هاتور زوجة للإله حور الأكبر، وفي نفس الوقت كانت أما له،
4
فشكلت مع حور ثالوثا كان فيه هو الأب وهو الابن إلها واحدا، وفي تثليث آخر «مثل حوريس ثالوثا يتكون من الملك السماوي والملك الأرضي والصقر»،
5
وهذه المرة أيضا كان حور أبا وابنا وصقرا في آن واحد، فشكلت الأقانيم الثلاثة فكرة إله واحد هو ذاته الآلهة الثلاثة.
وبعد ظهور الأسطورة الأوزيرية وانتشارها جاء حور فيها باعتباره «الإله الابن في ثالوث أوزير، وإست (إيزي)، لكنه في إدفو كان في نفس الوقت الإله الأب والإله الابن في صورتين مختلفتين في التشكيلة؛ حوريس، حت حور، حوريس جامع الأرضين»،
6
وهذه التشكيلة الأخيرة لتوحيد حور الإله مع حور الملك، هي تشكيلة ملكية واضحة؛ لأن حور المقصود هنا هو حور الأكبر إله التوحيد القديم. «وفي الألف الأخيرة ق.م بدأت الفكرة بالربط بين أوزيريس وحوريس؛ الأمر الذي كان واضحا في الفكرة بأن الملك إنما كان حورس وأوزيريس معا.»
7
ومن هذا كله مضافا إليه تأكيد نجيب ميخائيل بأن العقلية المصرية قد آمنت بأن «حور يعتبر أوزير الذي «أعيدت ولادته»»!
8
يمكنا القول بأن هذا الخلط بين إله السماء وبين إله الأرض، أو بين أقنوم الأب وأقنوم الابن، أو بين الإله خالص الألوهية وبين الإله الأرضي الجامع للناسوت مع اللاهوت، قد جاء نتيجة محاولة القول بأن الملك الفرعون هو نفسه الإله، حالا على الأرض بعد ميلاده من جديد، جاء من السماء إلى الأرض ليعيد إليها السلام، فانسحب هذا الاعتقاد على أوزير ورع؛ باعتبار أوزير ابنا لرع، وعلى حور وأوزير؛ باعتبار حور ابنا لأوزير، وعلى الملك ورع؛ باعتبار الملك ابنا لرع، وبالتالي فهو نفسه أوزير، وعلى الملك وحور؛ باعتبار الملك هو حور، وحور هو ابن أوزير، فيصبح الملك ابنا لأوزير، وبالتالي فهو أوزير، أو ابن أوزير، أو بتعبير أصرح هو «الله وابن الله في آن واحد».
وفي تقديرنا أن حكام الأقاليم كان لهم دور كبير فيما دخل من تطور على عقيدة الخلود، عندما اشتدت شوكتهم وقويت، وهبط مركز الملك، مما أدى بهم إلى الحصول على كثير من امتيازات الملك الدنيوية والأخروية؛ حتى إنهم استخدموا متون الأهرام في توابيتهم تحت اسم «متون التوابيت»؛ ليحصلوا عن طريقها على الحياة الخالدة، بحيث أدى ذلك في النهاية إلى أن أصبحت الآخرة حقا مشروعا لكل من يملك من المال والجاه ما يؤهله لشراء تابوت مكتوب، أو تسخير رجال الدين للحصول على الطبيعة الإلهية؛ عن طريق أوراد تتلى على جثته؛ ليتحول إلى با عند موته،
9
وكانت أهم ظاهرة فيها تلقيب الميت بلقب أوزير؛ أملا في أن ينعم في عالمه الآخر بما نعم به ربه أوزير؛ رجاء أن يخلد فيه مثل خلوده.
10
ومما ساعد على دفع العجلة التطورية لعقيدة الخلود الفرعونية، أحداث الثورة الحقيقية، وانتشار الأفكار الإلحادية، التي شككت في جدوى المقابر الضخمة، والعتاد المادي، والتحنيط المتقن، خاصة وأن هذه المقابر لم تجدها عظمتها نفعا، حين تعرضت في عصر الثورة الجماهيرية للسلب والنهب والتدمير، في وقت لم يستطع فيه السلطان الملكي أو سلطان النبلاء، المنهارين تحت الضربات الثورية، منع ما يحدث من تدمير لامحدود لكل المقدسات، رغم محاولات تحاشي ذلك بالاعتراف للشعب بالخلود، مما جعل ذلك، في رأينا، هو السبب المجهول في ظهور فكرة جديدة كل الجدة في أفق الديانة المصرية وعقيدتها في الخلود؛ هي فكرة «حساب» أفراد الشعب الثائرين بعد موتهم علي ما يأتونه من خطيئة في حق الآلهة وحق الموتى، فما دام حساب الثوار دنيويا قد أصبح مسألة عسيرة فليؤجل إلى ما بعد في عالم الخلود.
وتستند رؤيتنا في توقيت ظهور فكرة الحساب إلى ترجيح محمد شكري
11
أن يكون سبب تعرض المقدسات للتعدي والنهب، هو السر وراء فكرة ظهور «الخطيئة»، وما تستدعيه من حساب وجزاء، وقد وضحت الفكرة بجلاء عندما بدأ حكام الأقاليم من أمراء الأسرة السادسة المنهارة أمام المد الثوري، يحذرون كل من يعتدى على ممتلكاتهم ومقدساتهم وقبورهم بأنه «سيحاكم على أفعاله أمام المعبود الكبير»،
12
ومثال ذلك ما جاء مسجلا على قبر آنتي نبيل دشاشة:
أما من جهة كل الناس الذين سيعملون السوء
ضد هذا (يريد القبر/المؤلف)، فإنهم سيحاسبون
على ذلك أمام الإله العظيم، «رب الحساب».
13
ولما كانت فكرة الحساب ملكية النشأة والفكر، لتحقيق أغراض الطبقة العليا من القوم، فقد كان طبيعيا أن يكون هذا المعبود الكبير رب الحساب هو رع إله الملكية المنهارة، وهو بالطبع من سيكون «رب المحاسبة في الآخرة»،
14
وهكذا لم تترك الحكمة الملكية عالم الخلود منحة للجماهير دونما أي مقابل، بل وضعت للخلود شروطا صارمة، ولم تعد مجرد الشهادة لأوزير بأنه إله كافية، كما لم يعد كافيا الإيمان بخلوده وانتصاره على الموت حتى يخلد المؤمن مثله، وإنما كان على المؤمن أن يستعد للحساب بأن يتصف بنفس صفاته؛ العدل، والمحبة، وسلامة الخلق، والسلام، وأهم من ذلك كله «طاعة الملك» الذي هو أوزير بذاته.
ويؤيد وجهة نظرنا في كون فكرة الحساب كانت ملكية الأصل، ما يمكن استنتاجه من بعض المتون الملكية؛ فهناك ما يوحي بأن تطبيق الفكرة في بدايتها قد اقتصر على حساب الجماهير فقط، ولم يتناول شخص الملك، فالنص المذكور آنفا عن الملك يونس يتابع قائلا:
هو أبدي،
كذلك الملك يونس أبدي
هو «لا يحاسب»،
كذلك الملك يونس «لا يحاسب»!
15
ولكنا نجد بنفس النص، وإثر ذلك مباشرة:
ولكنه «يحاسب»!
كذلك الملك يونس «يحاسب»!
16
ولا يكون هناك أي معنى لهذا التناقض فيما نرى، سوى أن تكون فكرة الحساب بعد انتشارها، قد أضحت في عرف الجماهير حسابا للجميع دون استثناء، فأضيفت الفقرة الأخيرة للمتون، كغيرها من الإضافات التي نتجت عن أحداث الثورة؛ لتسجل خطوة تطورية أخرى لعقيدة الخلود الفرعونية، ويدل على ذلك ما جاء في المتون: أنه كان «على الملك المتوفى أن يثبت أنه ابن الإله ووريثه»،
17
أي كان عليه أن يثبت أحقيته في الطبيعة الإلهية قبل أن يسمح له بدخول الملكوت الخالد، وكى يثبت ذلك فعليه أن يثبت أولا - كأي فرد عادي - أنه كان طاهرا بلا خطيئة. أما كيف كان السبيل إلى ذلك؟
الإجابة تأتي من المتون واضحة تقول: بما أن «إله الشمس هو رب العدالة، وطعامه هو الحق، إذن فالملك مسئول أمام رع أن يكون عادلا في كل أعماله»،
18
وهذه هي الطهارة المطلوبة، ومن بعدها أصبحت أفكار «العدالة والحق والصدق أقوى من سلطان الملك نفسه»،
19
فسجلت المتون على قبور الملوك ما يمثله النموذج القائل:
لا توجد سيئة اقترفها الملك بيبي.
20
وهذه الكلمة ذات وزن في نظرك يا رع!
21
ومن جهة أخرى، فيبدو أن الحكماء الشعبيين قد وجدوا في فكرة الحساب، فرصة أخرى تدعم منطقية الخلود للجميع؛
فإذا كان الحصول على الطبيعة الإلهية
مرهونا بمراعاة العدالة والحق والصدق؛
إذن يمكن لأي شخص يراعي العدالة
والحق والصدق،
أن يحصل على الطبيعة الإلهية الخالدة.
ويؤيد رؤيتنا لهذه الخطوة التطورية، ما جاء في النصوص الأدبية والجنائزية التالية بحيث لم يعد يخلو أثر فرعوني من الإشارة إلى الحساب، وأن الخلود حق للجميع، فيقول الفلاح الفصيح لابن رنسي:
إن العدالة تبقى للأبد
وعندما يدفن الإنسان ويوضع تحت التراب
فإن اسمه «لا يزول» من على الأرض؛
لأنه «سيذكر بصلاحه»،
وهذا مبدأ من كلام الرب
22
أقم العدل
لرب العدل؛
23
لأن «العدالة» أبدية
24
نفذ العقاب فيمن يستحق العقاب،
هل يخطئ «الميزان»؟!
25
بينما يقول الملك المزعوم أخيتوي، لولده المزعوم مري كا رع :
إن فضيلة الرجل المستقيم
أحب من ثور الرجل الظالم؛
إنك تعلم أن محكمة القضاة،
الذين يحاسبون المذنب،
لا يرحمون الشقي يوم مقاضاته،
ولا ساعة تنفيذ «القانون»؛
26
لأن يوما واحدا
قد يبقى أثره إلى الأبد،
ورب ساعة واحدة تنفع للمستقبل.
27
وقد تلقف النبلاء - بوجه خاص - هذه الفكرة، كما سلف؛ ليحققوا هدفين؛ الأول الحصول على الخلود بتأكيدهم على قبورهم مراعاتهم للعدالة، والثاني أن يثبتوا للجماهير الثائرة أنهم سند لها، بل إن بعض هذه المدونات كاد أن يكون توسلا واسترحاما للجماهير؛ طلبا لرضاها، كما لو كان الخلود قد أصبح مرهونا بمدى رضا هذه الطبقة الثائرة، انظر مثلا ذلك النبيل القائل:
إني لم آخذ قط ما يخص إنسانا آخر، «ولم أظلم» أحدا ممن يتمتعون بأملاكهم.
28
أو ذلك المتزلف قائلا:
لقد أعطيت خبزا للجائعين،
وألبست كل من كان عاريا.
29
أو ما سجله أميني حاكم إقليم الوعل بمصر الوسطى، على قبره يناشد الثوار، مؤكدا أنه قد توخى العدالة المطلقة في إقليمه، وأنه تنزه عما يأتيه أصحاب السلطان بقوله المسترحم:
لم أسئ إلى ابنة مواطن قط؟
ولم أزجر أرملة،
ولم أقس على مزارع،
ولم أبعد راعيا،
ولم أحجر على عمال ريس الأنفار،
في مقابل الضرائب المستحقة عليه،
ولم أميز عظيما على فقير،
وتجاوزت عن متأخرات المزارعين.
30
وبذلك أصبح معيار الفضيلة ومقياسه حقا وصدقا وعدالة، لكن مع الجماهير، وأصبحت معاملة الدهماء هي المقياس والقسطاس السليم للحصول على الخلود من عدمه، ولعل هذا بالذات أخطر الأطوار التي دخلتها عقيدة الخلود الفرعونية إبان تطورها، وأصبح الجميع يقفون على قدم المساواة أمام المحكمة الإلهية؛ ليثبت كل منهم مدى أحقيته في الخلود، ولم يبق فلسفيا سوى مشكلة: كيف سيتم هذا الحساب؟ وهنا يظهر أن الفقهاء قد عادوا إلى الأسطورة الأوزيرية يستوحونها إجابة، وكانت الإجابة السهلة - فيما نرى - كما يوحي منطق الأحداث والمدونات: كما حوكم أوزير من بعد موته أمام المحكمة الإلهية، ألم يقم أوزير من بين الموتى؟ أولم تحي الآلهة عظامه وهي رميم؟ إذا فلن تعي الآلهة بإعادة رميم الموتى حيا مرة أخرى، ولأول مرة يؤدي هذا المنطق في تاريخ البشرية إلى ظهور الاعتقاد في البعث الجسدي لكل البشر، عظيمهم ووضيعهم، من بعد الموت للحساب، وهنا سجلت المتون خطابها للميت قائلة:
إن الإلهة نوت سوف «تعطيك رأسك، وتجمع
لك أعضاءك، وتضع لك قلبك في جسدك.»
31
وحينها سوف تبدأ للبا مهمة جديدة، فستعود وتتلبس بالجسد مرة أخرى،
32
ففي يوم البعث العظيم «يجب أن تتحد الروح مع الجسد من جديد، وأن تجد باب القبر مفتوحا.»
33
وإن تصور اتحاد الروح مع الجسد، إنما يعني تصور عودة البا من السماء إلى الميت في قبره على الأرض؛ لذلك تتابع النصوص موحية بالخطوات التطورية المتلاحقة؛ لتؤكد للميت أن الآلهة سوف تقف «من حولك وتناديك: قم، قف، فتصحو»!
34
وهنا؛ فإن الميت «يصحو ثانية، في بعث مجسد»،
35
بل ويصحو شابا قويا حتى لو كان قد مات شيبا، فالمتون تؤكد أنه سوف «يبعث في شباب عصري على نحو ما كان من قبل»،
36
وأنه سوف «تتجدد قواه عائدا إلى الشباب.»
37
إلا أن أهم ما يجدر الوقوف عنده خلال هذه المرحلة التطورية لعقيدة الخلود الفرعونية، إيضاح تأثير سياسي واجتماعي آخر خطير إلى حد بعيد، أدى في النهاية إلى القضاء على العقيدة الأونية على المستوى الملكي، وإحلال العقيدة الأوزيرية الشعبية محلها على المستوى الرسمي.
ويوضح كل من إتيين دريتون وجاك فاندييه المقصود هنا بقولهما: و«عندما تلقت العقيدة الشعبية فكرة المحاكمة في الآخرة، نسبتها إلى الإله المعتبر لديها دون سواه؛ إله الأموات العظيم أوزير، وعند ذلك تطورت فكرة محاكمة أوزير، التي تنتظر كل إنسان بعد وفاته لتحاكمه على تصرفاته وفقا لقواعد الأخلاق»، وهكذا «انعقدت الصلة بين محاكمة الميت على أعماله ومحاكمة أوزيريس»،
38
وترتب على ذلك «أن أصبح الميت ينعت بأنه الصادق الصوت، أو المبرأ، على نحو ما قضت محكمة رع لأوزيريس، وكان يعني بذلك أن الميت قد حوكم وبرئ، على نحو ما حوكم أوزيريس، على أن أوزيريس قد غدا سيد مملكة الموتى، وأصبح يشرف على حساب الميت؛ ليقضي بدخول جنته»،
39
وأضحت «المحكمة تتألف من تاسوع الآلهة العظمى، ويرأسها أوزير»؟
40
و«صار من المتبع عادة منذ بداية الدولة الوسطى، أن يضاف إلى اسم كل متوفى نعت المبرأ»،
41
أو «ماع خرو.»
42
وهنا يقول برستد: إن «... رفع أوزير إلى منصب قاض، فليس إلا صبغا لوظائفه بالصبغة الشمسية؛ على أساس القضاء الشمسي السائد في متون الأهرام؛ إذ نجد في تلك المتون أن «أوزير قد صعد بالفعل فوق عرش رع السماوي، ثم نراه الآن يستولي على كرسي القضاء الخاص برع»، وبتلك الكيفية صار إله الشمس، والمتصرف الخلقي العظيم، الذي يحاكم أمامه الجميع بمقتضى العدالة.»
43
وهكذا بات واضحا أن الإرادة الشعبية قد انتصرت تماما على المستوى العقائدي، بجلوس أوزير على عرش رع، ويضيف كل من دريتون وفاندييه قولهما: «إن حدثا سياسيا آخر؛ هو انشقاق طيبة، قد جاء يقضي بانتصار أوزير انتصارا كاملا»؛
44
فقد دخلت مدينة أبيدوس الأوزيرية المقدسة، تحت سيطرة حكومة طيبة الواستية، مما جعلها تضمن الولاء الشعبي لها، فقضت - كما سلف - على حكومة نن سوت، ثم استطاع أمنمحات الأول وزير دفاعها أن يصعد على عرش مصر، معضدا بحكماء الثورة ورجالها، ليؤسس الأسرة الثانية عشرة؛ لتدخل مصر بعد ذلك مرحلة جديدة تماما، «حيث أصبح كرسي الحكم قائما بإرادة الشعب»، وأصبح استمرار الحكم أو نهايته، مرهونا برضى هذه الإرادة أو سخطها، وقد دللت على ذلك الأحداث التي تلت صعود أمنمحات العرش، فقد صعد معه إلهه المغمور آمون، والذي كان نسخة جديدة من رع، حتى إنه تسمى «آمون رع»، ولما رأى الثوار في ذلك ردة عن المبادئ العقائدية للثورة، فقد قامت المحاولة الانقلابية لاغتيال أمنمحات، بعد أن حاول رجاله إجهاض الثورة على المستوى الفكري أو العقائدي الفلسفي، فزعم «أهل المعرفة من رجال طيبة أن آمون هو الروح لأوزيريس، وقالوا: إن جسد آمون يوجد في الدنيا السفلى»،
45
ويصبح المعنى أنه لن يكون هناك حياة لأوزير بدون آمون، والقضاء على آمون قضاء على أوزير، وعليه فلا حياة أخرى لكل المؤمنين به إذا قضي على آمون.
وتقريبا بين إله الملكية وشعبه، فقد أخذت الأدعية المسجلة تقول:
يا آمون،
أصغ لمن يقف وحيدا في المحكمة، «فقيرا
وخصمه غني»،
فتضطهده المحكمة،
ولكن آمون يستحيل بنفسه إلى وزير أول؛
ليجعل الفقير فائزا؟!
فيتضح أن الفقير على حق!
وينتصر الفقير على الغني.
46
وهكذا أخذت محاولات تلبيس آمون بأوزير، بتأكيد أن آمون هو راعي الفقراء قبل الأغنياء؛ فهو «الذي يعطي الخبز؛ لمن لا خبز عنده»،
47
وهو «وزير الفقراء.»
48
إلا أن كل المدونات التالية، قد جاءت قاضية تماما بانتصار أوزير، وأوضحت بجلاء، أن آمون ظل إلى حد بعيد إله دولة ودنيا فقط، بينما ظل أوزير حتى النهاية، هو إله العالم الآخر، وإله الحساب للجميع بلا استثناء. وتدل على ذلك كل مدونات ومصورات العصور الفرعونية التالية، التي سجلت كجنازيات ملكية وشعبية على حد سواء، والتي تصور أوزير دون غيره، كقاض أعلى لمحكمة الحساب الأخروية؛ بمعنى أن الشعب قد فضل أن يكون إله الحساب إلها مواليا له، وتمكنت الإرادة الشعبية من أن تفرض نفسها، وأن تجعله إله الحساب للجميع ودائما، محافظة بذلك على عقيدتها الثورية حتى نهاية العصور الفرعونية.
أما متى سيكون موعد البعث والحساب؟ فنظن أن العداء الذي استحكم بين الفكر الثوري وبين الفكر التقليدي المحافظ، قد حدا بكل منهما إلى تحذير الآخر بهذا اليوم الموعود، فبينما يحذر الفلاح الفصيح سادته بقوله: «احذروا؛ لأن يوم الآخرة يقترب»
49
نجد الملك أخيتوي يؤكد نفس المعنى بقوله: «لا تثق في طول السنين؛ فإنهم - أي الآلهة - يعتبرون الحياة مجرد ساعة واحدة، والإنسان سيبعث من بعد موته، وهناك ستوضع أعماله بجواره أكواما، وسيكون هناك الخلود الأبدي، لن يشكو منه سوى من كان متهورا! لكن من يصل هناك بلا خطيئة، سيصبح إلها، يخطو بحرية كآلهة الأبدية.»
50
وعلى ذلك فليتأكد كل إنسان أيا كان «أن الزمن الذي يقضيه على الأرض، إنما هو طيف خيال فحسب، وعندئذ يقال لمن يصل إلى الغرب: مرحبا.»
51
ويبدو أن القوم قد اكتفوا بتحذير بعضهم البعض، بهذه التلميحات التي تؤكد قرب يوم الحساب؛ لأن تحديد موعده بدقة أمر صعب، فهو أمر يخص الآلهة وحدها، وهو سر من أسرارها؛ ولأن الزمن الإنساني يختلف عن الزمن الإلهي، فحياة البشر على الأرض بطولها ليست في عرف الآلهة سوى ساعة واحدة، وأن معرفة ما يقابل هذه الساعة من ساعات البشر يشكل معادلة صعبة، وغير ممكنة بالطبع.
وقد أشارت متون الأهرام إلى ما سيحدث في هذا اليوم من كوارث فلكية تصيب العالم بدمار شامل، فقالت: إن «السحب تظلم، والنجوم تمطر الأرض، والأقواس تترنح»،
52
وبعدها «يفتح باب السماء»! ومن هذا الباب السماوي سيدخل كل البشر إلى قاعة الحساب الإلهية، التي أفاضت النصوص في وصفها، كما أوضحتها بالرسوم الملونة، ولعل أهم هذه الرسوم صورة ضخمة، تتضح من وصف إرمان القائل «في الصورة نرى بهوا كبيرا، سقفه بلهب النيران، وعلامة الحق، وفيه «مقصورة يجلس فيها أوزيريس» على عرشه، ومن أمامه رمز أنوبيس وابنه حورس، وآكل الموتى وهو حيوان خرافي - تمساح من أمام، وأسد من وسطه، وفرس نهر من الخلف - وفي أعلى الصورة؛ أي في مؤخرة البهو، يجلس اثنان وأربعون قاضيا، ومن أسفل، أي الجزء الأمامي، «الميزان العظيم يوزن فيه قلب الميت»، وتستقبل آلهة الحق الميت وهو يدخل البهو، ومن ثم يأخذ حورس وأنوبيس قلبه، ويتحققان بالميزان إن كان أخف من علامة الحق، ويسجل تحوت كاتب الآلهة النتيجة على لوحة، ثم يخبر بها أوزيريس.»
53
ويعلق برستد قائلا: «ومن الظاهر طبعا، أن أولئك الاثنين والأربعين قاضيا، ليسوا إلا أسماء مخترعة، وهم يمثلون الأقسام الإدارية التي تتألف منها البلاد المصرية، ولا شك أن الكهنة ألفوا تلك المحكمة من اثنين وأربعين قاضيا؛ قصد الإشراف على أخلاق المتوفى، من أي ناحية من أنحاء البلاد، حيث يجد المتوفى نفسه يواجه قاضيا على الأقل، من بين أولئك القضاة، قد جاء من البلدة التي كانت موطنا له، فيكون ذلك القاضي على علم بسيرة ذلك المتوفى المحلية، وبذلك لم يكن في إمكانه أن يخاتله أو يغشه.»
54
وفي البند الخامس والعشرين بعد المائة، من كتاب الموتى الشعبي، يسجل للميت ما يجب قوله عند الوصول إلى قاعة العدل؛ كنوع من إبراز حسنات الميت وإيضاح صلاحه وتقواه، وإنكاره لأي خطايا يحتمل أن يكون قد ارتكبها في حياته الدنيا، وتسمى بالاعتراف الإنكاري أو السلبي، ولكنها في الحقيقة لا تحوي أي اعتراف، بل هي في مجملها تنصل من كل الأوزار المحتملة، وتؤكد هذا المعنى إليزابيث رايفشتال بقولها: «إن الاعتراف السلبي بحد ذاته، تعويذة أو ضرب سحري، أكثر منه اعتراف صادر عن شخص نادم.»
55
ويشرح برستد ذلك بقوله: إن سلطان محكمة الآخرة «ما لبث أن مسخ مبكرا، بالعوامل السحرية التي جاءت في كتاب الموتى، الذي «ألفه كهنة المعابد للكسب منه»؛ إذ زعموا فيه أن يكون وسيلة تساعد الميت على التخلص من العقوبة، بمخادعة وتضليل ذلك القاضي الرهيب»،
56 «وكانت مناظر المحاكمة في الآخرة، ومتن إعلان البراءة، تنسخ بكثرة على صفحات البردي؛ يقوم بنسخها الكتبة، ثم تباع لكل الناس، ولا يكتب اسم المتوفى، بل يترك مكانه خاليا؛ ليملأه المشتري بعد حصوله على تلك الوثيقة، وعلى ذلك كان في إمكان كل إنسان مهما كانت أخلاقه في الحياة الدنيا، أن يستولي من الكتبة على شهادة تقول بأن فلانا - الذي ترك اسمه خاليا - كان رجلا فاضلا.»
57
ومثالا من هذا الاعتراف السلبي أو الإنكاري، يقول الميت في البند المذكور من كتاب الموتى، موجها كلامه إلى أوزير:
السلام عليك يا إلهي العظيم،
يا رب العدالتين،
لقد أتيت إليك يا سيدي،
لقد حضرت لأشاهد جمال وجهك،
أنا أعرفك وأعرف اسمك،
وأعرف أسماء الاثنين والأربعين قاضيا.
انظر،
لقد أتيت لك وكلي عدالة،
لقد نبذت الغش؛ لأجلك أنت،
أنا لم أرتكب شرا ضد الناس،
أنا لم أسئ معاملة الحيوانات،
أنا لم أرتكب ذنبا في مقر الحق،
أنا لم أعرف الخطيئة،
أنا لم أكفر بالآلهة،
أنا لم أوذ رجلا فقيرا
ولم أفعل ما تكرهه الآلهة،
أنا لم أتسبب في مرض أحد،
أنا لم أتسبب في بكاء أحد،
أنا لم أحرض على القتل،
أنا لم أتسبب في معاناة أحد،
أنا لم أبخل بقرابين المعبد،
أنا لم أتلف خبز الآلهة،
أنا لم أدنس نفسي،
أنا لم أزور في كيل الحبوب،
أنا لم أطفف الموازين ...
أنا طاهر (أربع مرات)!
أنا لم أرتكب شرا،
أنا لم أسرق،
أنا لم أكن حقودا،
أنا لم أقتل بشرا،
أنا لم أكذب،
أنا لم أثر الفتن،
أنا لم أعتد،
أنا لم أزن،
أنا لم أكن واشيا، «أنا لم أترك فمي بلا زمام
أنا لم أسبب ذعرا
أنا لم أكن محبا للشغب»
أنا لم أتبع هوى قلبي،
أنا لم أكن مخادعا «أنا لم أكن مندفعا،
أنا لم أكن سفيها ضد الملك» ...
58
وبالمنطق الذي تمليه الأحداث، ويوحي به النص؛ يمكن الزعم بأنه رغم وضع الملكية لمبدأ الحساب، كترهيب وترغيب للقوى الشعبية، فقد ظل إيمان الجماهير بأوزير وقيامته من الموتى، شفيعا كفيلا بضمان الخلود، والخروج من الحساب بالبراءة، وقد استطاع الكهان أن يستغلوا هذا الفهم ويدعموه، كطريقة «للكسب المقدس»، فباعوا للجماهير هذه الاعترافات الإنكارية أو صكوك الغفران - إن جاز التعبير - لينال بها الميت ما يريده من سعادة في عالمه الآخر، فمسخت عملية الحساب، ولما يمض على ظهورها بعد وقت قصير.
وفي ظل الملكية الجديدة، أخذت فكرة الحساب في النمو والتطور، وحتى لا يصبح مجرد الإيمان بأوزير، وسيلة سهلة لدخول الجميع إلى عالمه الخالد؛ فقد بدأت المتون تتحدث عمن لا يخرج بريئا من الحساب، ورغم التضارب في مصير المذنبين، فقد وضح أنها كانت كلها مصائر مما لا يبهج أو يسر، فمن «لم تثبت براءته، فإنه لا يدخل مملكة أوزيريس، ويظل في قبره يضنيه الجوع والعطش، أو يلتهمه ملتهم الموتى»
59
أو قد يمزقه قضاة المحكمة بسيوفهم،
60
أو قد ينتهي أمر الروح المذنبة، بالإلقاء «في العذاب، وفي النهاية تباد»،
61
وقد يقول أوزير للمذنب: «اذهب عني أيها الشرير إلى الجحيم؛ لتلاقي أشد أنواع العذاب! أيها القضاة، اقتلوه بسيوفكم، وتغذوا الآن من لحمه، وأنتن أيتها الأرواح الشريرة، اضربنه بالحديد، واحرقنه بالنار، وأنت يا عمعم الوحش المفترس، قطعه إربا، وتغذ من أحشائه، فليفن جسمك أيها الخاطئ، ولتعدم نفسك، وليشطب اسمك من سفر الحياة، وقد جعلتك غنيمة للأفاعي، وفريسة للوحوش الضارية! وأنتم يا زبانية جهنم، اسحبوه على وجهه إلى الجحيم، واقطعوا رأسه على خشبة العار، ومزقوا جسده كل ممزق، وألقوه في أتون النار.»
62
وهكذا جاءت المحاولات الترهيبية للخاطئين، ولم يعد كافيا أن يؤمن الإنسان بأوزير لينال سعادة الدار الآخرة، فأوزير بذاته سوف يطرده من حضرته، ويحكم عليه بصنوف وأشكال متعددة من العذاب، إذا كان خاطئا.
ويبدو أن فكرة تعذيب الخاطئين، قد جاءت «في زمن متأخر على وجه التحقيق»، كما يرى إرمان
63
في ظل الملكيات المتتالية، بعد أن كان عقاب المذنب حرمانه فقط من الخلود، ويدعم رؤيتنا في كون فكرة العذاب فكرة ملكية بدورها، أن العذاب قد نسب في النهاية إلى إله الملكية آمون، الذي تكفل بأحد جوانب الحياة الخالدة، وهو تعذيب المذنبين في حساب الموازين؛ ترهيبا وتخويفا لمن يفكر في العصيان الثوري بحيث يكون التأديب، دنيويا وأخرويا، تأديبا ملكيا.
والنصوص تؤكد أنه في يوم الحساب، سوف «توزن الأعمال، فمن خفت موازينه ألقيت روحه في الجحيم، وكان غذاؤه وشرابه القاذورات، وتسلطت على روحه الثعابين والعقارب، فتلدغه وتعنفه حيث ذهب، وهكذا يستمر في العذاب الأليم، إلى أن يلحقه الفناء.»
64
وإن المذنب «سينزلق إلى مكان الإعدام «لآمون رع»، سيد الكرنك، إنه لن يدعهم يشبعون في وظائفهم، وسيلقى في لهيب الملك يوم مقته، وسينفث تاجه النار على رءوسهم، وسيغرقهم في البحر حيث تختفي أجسادهم»،
65
بينما تسجل الأدعية لآمون ابتهالها: «أنت آمون رع، الذي يعدل الأرض بإصبعه، والذي كلمته أمام القلب، «فيجعل النار مأوى لمن يرتكب الخطيئة».»
66
بينما وضعت أمام الجميع عقبات وصعاب، لا يمكن لغير المؤمن الصالح اجتيازها، وأهمها «الصراط»؛ ذلك الطريق الضيق الرهيب، الذي كان على كل ميت أن يعبره فوق بحر من النار، ومن كان صالحا عبره بسلام ووصل إلى بر الخلود بأمان، ومن كان مذنبا هوى في الجحيم، وقد جاء ذلك في «إحدى خرائط العالم الثاني، وإن من يدخل مملكة الموتى، ممن يكونون في المكان المقدس روستاو، بالقرب من الجيزة، فإنه يجد أمامه سبيلين يؤديان به إلى مملكة الأبرار؛ أحدهما طريق الماء، والآخر طريق الأرض، وكلاهما يتعرجان، غير أنك لا تستطيع أن تعرج من أحدهما إلى الآخر؛ لأن بينهما بحرا من النار، وهناك كذلك طرق جانبية، وإن كان لا ينبغي لك سلوكها؛ لأنها تؤدي بك إلى النار، أو هي طرق بديلة ملتوية، وقبل السير في أحد هذين السبيلين، «يجب أن يمضي الميت من باب النار».»
67
وبالإضافة إلى عقبة الصراط، هناك عقبة المحيط الكبير، الذي ينبغي عبوره للوصول إلى النعيم الأوزيري؛ لأن «هذه الحقول الفردوسية، لا يمكن الوصول إليها، إلا باستخدام صاحب المعبر، ولم يكن هذا الشيخ الطاعن في سنه يقبل في قاربه إلا الرجال والنساء، الذين لم يرتكبوا في حياتهم ذنبا ما.»
68
وقد نصت المتون على ذلك بتأكيدها أن «نوتي حقل ياور هذا، لا ينقل غير الرجل القويم، والذي وجد مقسطا أمام السماء والأرض.»
69
ويبدو أن هذا الترهيب قد أدى لنتائج إيجابية؛ فقد «أصبحت المحاكمة فيما بعد أوائل الدولة الحديثة - حوالي 1600ق.م - لا تقتصر على حصر تفصيلي لكل المخالفات الخلقية، وإنما صارت امتحانا خلقيا قاسيا، بل معيارا شاملا للقيمة الخلقية لحياة كل إنسان»،
70 «وإن آخر تطور خلقي عظيم في الديانة المصرية، حدث فيما بعد، نشأ على ما يظهر «خارج المعابد، بعيدا عن ديانة الحكومة» إذاك - 1300-1000ق.م - وكان ذلك التطور يرمي إلى الشعور «بالخطيئة»، أي اعتراف المؤمن بحقارة نفسه، مع امتزاج ذلك بالثقة الشخصية في رحمة الله، وعدله وعنايته الأبوية.»
71
وقد ظهر هذا التأثير فيما ترك من كتابات، كما في هذا المثال من «أدعية وصلوات وتعاويذ، من شأنها أن تهدئ من غضب أوزير ...
أيا من يعمل على سير جناح الزمان،
يا من تسكن في كل خفايا الحياة،
يا من يحصي كل كلمة أنطق بها،
انظر!
إنك تستحي مني، «وأنا ولدك»،
وقلبك مفعم بالحزن والخجل؛
لأني ارتكبت في العالم من الذنوب،
ما يفعم القلب حزنا!
وقد تماديت في شروري واعتدائي.
ألا فسالمني،
ألا فسالمني،
وحطم الحواجز القائمة بيني وبينك،
أو مر بأن تمحى كل ذنوبي،
وتسقط عن يمينك وعن شمالك،
أجل،
امح شروري،
وامح العار الذي يملأ قلبي،
حتى تكون أنت، وأنا،
من هذه اللحظة،
في سلام.»
72
وإن هذه الأدعية التي يعترف فيها الإنسان بشروره فعلا، ولا يتنصل منها كانت خطوة رائعة، سجلها العقل الجماهيري المصري عن قناعة بما يقول وبما يؤمن، فعندما ظهرت بدعة الحساب والعذاب، في ظل السلطان الملكي، أمكنه التغلب عليها بصكوك الغفران، ولكن بعد مرحلة تطورية طويلة، دخلت فيها مصر عدة محن؛ محنة عصر الإقطاع الثاني، والثورة الثانية، وغزو الهكسوس، بدأت تظهر هذه القيم الخلقية الرائعة، بعيدا عن سلطان الحكومة، فظهرت كأبدع ما تكون بعد أن جاءت بقناعة وتفهم، ودون جبر من سلطان، حتى أصبح المصري القديم يرى خطاياه حاجزا بينه وبين ربه، وهذا كان من الشقاء إلى الحد الذي دفعه ليسجل المتن المذكور، وبذلك أخذت فكرة القرب من الإله مكانها الكبير، بجوار فكرة النعيم السماوي، ولم يعد الإنسان يطلب فقط البعد عن العذاب والحصول على النعيم، بل والقرب من الإله بإرضائه ورضاه.
وكان لهذا التطور أثره في فكرة المحاكمة؛ فقد جاء في بردية آني، اعترافات غاية في السمو الخلقي، فها هو يقول لربه أوزير: «إني لم أنطق كذبا «على علم مني»، وإذا كان ذلك قد فرط مني، «فإني لن أكرره ثانية»، دعني أكن من أصحاب الحظوة، من أتباعك.»
73
ويعلق برستد على هذا التطور بقوله: «قد أضفى مذهب أوزير على الأخلاق الفاضلة قوة عظيمة في نظر الشعب، ومع أن بابه كان مفتوحا على مصراعيه ليدخله الناس، فإنه كان من واجب الجميع أن يبرهنوا على أهليتهم لرضاء الإله أوزير من الناحية الخلقية.»
74
بل وجاء في بردية آني ما يشير إلى شهادة جوارح الإنسان عليه في الحساب إن هو حاول كذبا أو تلفيقا، ففي البردية «يدخل آني وزوجته القاعة التي يقرر فيها المصير، مطأطئ الرأس بهيئة تدل على الخضوع، ويطالب أنوبيس في الحال بقلب آني، والإشارة الهيروغليفية التي تدل على القلب ... موضوعة في إحدى كفتي الميزان، كما نرى في الكفة الأخرى ريشة، وهي الرمز الهيروغليفي الدال على الصدق أو العدالة أو الحق، ويخاطب آني قلبه في هذه اللحظة قائلا: يا قلبي الخاص بكياني، لا تقف شاهدا ضدي، ولا تعارض في المجلس، ولا تكونن حربا علي أمام رب الموازين، ولا تدعن اسمي يصير منتن الرائحة في المحكمة، ولا تقولن ضدي زورا في حضرة الإله.»
75
وبعد أن يعترف آني بذنوبه طالبا الرحمة، وبوزن القلب مع الريشة، أو الحسنات مع السيئات، يقول أوزير: «اسمع أنت هذه الكلمة بالحق، إني قد حاسبت قلب أوزير آني، إن روحه شاهدة عليه، وأخلاقه قد وجدت مستقيمة على حسب ما أظهره الميزان العظيم، ولم يوجد له أي ذنب، فيجيب الآلهة التسعة على الفور: ما أحسن ذلك الذي يخرج من فيك العادل! وقد شهد ذلك أوزير آني المبرأ من الذنوب، إنه ليس له ذنب، فلم نجد أنه قد اقترف شرا، وبعد أن يحكم له بهذا الحكم، يقود حور بن أوزيريس آني المحظوظ ويقدمه إلى أوزير، حيث يقول له في الوقت نفسه: إني آت إليك يا وننفر أوزير، وإني أحضرت لك أوزير آني، إن قلبه المحق يخرج من الميزان وليست له خطيئة، في أي إله أو إلهة، لقد حاسبه تحوت كتابة، وقد شهدت له الآلهة التسعة
76
شهادة عادلة جدا ...»
77
وفي هذه البردية الرائعة، نجد أيضا فهما جديدا لمعنى السعادة الأبدية الروحانية بجوار النعيم المادي المحسوس؛ فها هو إله الخلق آتوم رع يقول لآني: «سوف تحيا في راحة في نفس هذه الأرض الصموت، هي أرض لا تمارس فيها شهوات الجنس، ولكنك سوف توهب فيها نورانية عوضا عن الماء والهواء ومتعة الجنس، وسوف توهب فيها طمأنينة القلب عوضا عن الطعام والشراب»،
78
أو مثل ذلك ما يتضح في أمر الإله أوزير للميت البريء بقوله: «ليجلس عن يميني في الفردوس السماوي»،
79
وهذه غاية السعادة ومنتهاها بالقرب من الذات الأوزيرية العلية. هذا مع ملاحظة أن تلك الصورة النورانية للسعادة الخالدة، لم تلغ فكرة النعيم الجسدي التي ابتدعتها المخيلة الشعبية، بل ظلت معها جنبا إلى جنب في ظل الملكية، إلى نهاية العصور الفرعونية.
وبمتابعة الصورة الحسية للخلود، نجد من يخرج بريئا في الحساب، يذهب من فوره إلى مكان نعيم وسعادة أبدية، يسمى دوات،
80
وهناك سيجد «شجرتين عظيمتين»،
81
إحداهما «شجرة الحياة»!
82
وأهم معالم دوات قاطبة بيت الإله المعمور، أو «قصر السماء»،
83
وحول البيت سيعيش المبرءون سعداء في نعيم مقيم، تتضح مواصفاته من خلال خطاب النصوص للمتوفى المؤمن؛ قائلة:
إن روحك مقدسة
مع الممجدين،
والأرواح الفاضلة تتحدث معك.
لديك الماء،
ولديك الهواء،
ولديك مما تهوى الشيء الوفير،
وتدعى كل يوم إلى مائدة شراب،
وننفر أوزير.
84
وسوف يلبس الفائزون بالنعيم.
أحسن الملابس الكتانية
والأرجوانية،
ويأكلون التين،
ويشربون الخمر،
ويتضمخون بأحسن العطور،
85
فهناك:
لن يجوع واحد،
ولن يبلي.
86
وتبشر النصوص هؤلاء الأبرار وتعدهم بكل ما تشتهيه الغرائز في دوات، فتقول للميت:
إنك تطوف حول الأقطار،
ترى الأماكن الممتعة،
وتجد الأودية مفعمة بالماء؛
لغسلك وإنعاشك،
ثم تقطف أزهار البطاح،
وأزهار السوسن والزنبق،
وتأتي إليك طيور البرك
بالآلاف جاثمة في طريقك،
وعندما ترمي خطافك
يسقط منها ألف برنين صوته،
والعصفور الأخضر،
والسمان،
ويؤتى إليك بالجداء والكباش
المسمنة بالحبوب.
87
كما سيتمكن المؤمن من إشباع كل شهواته الجنسية «أين شاء، وحينما يشتهي قلبه.»
88
وفي بردية آني، نجده يسأله الخالق آتوم رع عن مدة خلوده، متسائلا:
آني: ولكن آتوم، ما مدى حياتي؟
آتوم: لقد قدرت لك ملايين الملايين؛
فهي حياة من ملايين،
وبعدها سوف أقضي على كل ما خلقت،
وتعود هذه الأرض إلى نون
مياه الطوفان،
كما كانت في المرة الأولى.
89
وتنتهي الدنيا، والخلق، ولا يبقى سوى وجه الرب ذي الجلال والإكرام.
الفصل الثالث
تطور عقيدة الخلود المصرية وسيادتها العالمية
أنا لا أدري، عندما أسمع أن إلها أو إنسانا، يريد أن يقصف عمري، أو يريد أن يغليني بالقطران، حتى إذا نضج جلدي بدلني جلدا غيره؛ ليزيد في عذابي، لا أدري كيف يمكني أن أحبه؟!
أسعد علي
استطاع الثالوث الأوزيري القدسي إذن أن يتحول من مجرد عقيدة ثورية إلى عقيدة ذات سيادة، فرضت نفسها على كل الطبقات، واستقطبت الجميع على حد سواء، وأصبح امتزاج الملك الحاكم بأوزير ضرورة ملحة في بعض الأحيان، كما يتضح في الحقبة التي تلت عصر الثورة الأولى، وما تلاها من ثورات وانتفاضات شعبية متلاحقة، ارتفع فيها إلى عرش الملك كثير من المنكورين بشكل متسارع، فكان أن حاول كل منهم إثبات شرعية حكمه أمام شعبه.
وفي ذلك يقول عبد العزيز صالح: «وعادة ما ازداد تمسح هؤلاء بالدين وكرامات آمون، كلما أحس أحدهم بشبهة يمكن أن تمس شرعية ولايته للعرش، وحينئذ يسارع إلى تأكيد تدخل آمون رب الدولة بنفسه في اختياره، أو يسارع بتأكيد بنوته المباشرة له؛ نتيجة لتقمصه روح أبيه حين أنجبه، وعبرت عن هذه الادعاءات أربع روايات للفراعنة: حتشبسوت، وتحوتمس الثالث، وتحوتمس الرابع، وأمنحوتب الثالث.»
1
ويضيف كل من دريتون وفاندييه قولهما: «بل يظهر أن فكرة تدخل الإله تدخلا مباشرا في إنسال الملك الجالس على العرش، كانت شائعة في عهد الأسرة الثامنة عشرة، وتعتبر تلك الفكرة امتيازا عاديا للملك؛ إذ تمثل النقوش في معبد الدير البحري عن حتشبسوت، ومعبد الأقصر عن أمنحوتب الثالث، مراحل الاقتران الإلهي، أي اجتماع آمون مع الملكة الوالدة، بعد أن يتخذ مظهر الملك الوالد.»
2
وبذلك - حسبما يذهب تفسيرنا - يبرز الملك ابنا لآمون رع؛ ليصبح هو أوزير، ابن رع العادل، بعد أن عاد لينقذ العباد، ويعضد تفسيرنا ما جاء من مرسوم الملك المؤله أمنحوتب الأول؛ فقد «كانوا يصورونه بصحبة والدته نفرتاري التي كانت تمثل بإيزيس؛ نظرا لكونها أم حورس الملك»
3
ومن الغريب أن سيادة التثليث الأوزيري، لم تنته أبدا مع ما انتهى من الآلهة المصرية، في نهاية الدولة الحديثة واحتلال مصر من الآشوريين، ثم الفرس، فالإغريق والرومان، فالتاريخ يؤكد هذا معلنا أن إلها واحدا قد «خرج من المحنة القومية أكبر شأنا مما كان؛ لأن مصيره لم يرتبط بأي نظام سياسي، ولأن أسطورته، وهي عزيزة لدى الشعب، تحمل في ذاتها تفسيرا لكل النزلات، وتسمح بكل الآمال؛ هو أوزير.»
4
ولما كان أوزير مع الآلهة المصرية الأخرى، قد سبق وانتشروا في بقاع الإمبراطورية المصرية - بحوض المتوسط الشرقي - قبل سقوطها، فقد زالت الآلهة المصرية في مجملها من هذه البلاد، بعد انهيار الإمبراطورية المصرية، لكن «إيزيس والطفل حورس، قد عاشا في مخيلة الشعوب هناك زمنا أطول من أي إله آخر.»
5
ولعل في هذا الوقت بالذات، تكمن الحلقة المفقودة حول تأثر الفلسفة اليونانية بالفلسفات الفرعونية، وبخاصة فلسفة أفلاطون الروحية الأخروية المثالية، وهو يعد أول من قال في بلاد اليونان، ولأول مرة في تاريخها، بعالم آخر خالد، بل وأقام عليه كل فلسفته في الوجود وفي المعرفة وفي الأخلاق.
6
ويوضح إرمان السر في استمرار الثالوث الأوزيري، في خيال الشعوب المجاورة بقوله: «لما جعلت حملة الإسكندر عام 332ق.م من الإغريق سادة البلاد ... الغالبية العظمى من الشعب قد ظلوا أوفياء لقومتيهم، أوفياء قبل كل شيء لعقيدتهم الموروثة عن الأجداد، ومع أن هذه العقيدة قد تأثرت على مر القرون بالروح الإغريقية، فإنها بقيت في الحقيقة على كل ما كانت عليه قبلا، وبدلا من أن تتقلص وتتقهقر، أخذت تبرز إلى الأمام، فقد وجدت الآلهة المصرية لها عبادا كذلك، من بين السكان الإغريق، مع فارق واحد، وهو أن الإغريق قد تحاشوا بقدر الإمكان استعمال أسمائها البربرية. وبلد كمصر في ذلك العهد، تحظى الديانة فيه بمركز السيادة، لا يمكن أن تحكم على الدوام إلا إذا كانت القوة الزمنية، على وفاق مع الزعماء الروحيين للشعب؛ ولهذا جعل الملوك الإغريق والأباطرة الرومان السلطة الدينية تحت حمايتهم؛ على أن تؤيد من ناحيتها السلطة الزمنية.»
7
وهكذا؛ وبعد أن كانت العقيدة الأوزيرية، عقيدة ثورية جماهيرية، بدأت تتحول إلى عقيدة سلطوية، بعد أن أجاد الكهان وسائل التحالف المقدس بين الملك الغاصب وبين ديانة الشعب، وكان أبرز من مهد لهذا المبدأ من الملوك الغزاة، ذلك السياسي الماكر الداهية، تلميذ الفيلسوف أرسطو، «الإسكندر الأكبر»، الذي ما إن وضع قدمه على أرض مصر وعرف هويتها الدينية والجماهيرية؛ حتى «نهج نهجا يختلف تماما عن نهج الفرس، فقدم ولاءه للآلهة الوطنية، ومن منف اتخذ الإسكندر طريقه في الفرع الغربي للنيل قاصدا كانوب؛ حيث شيد فوق شريط من الأرض الرملية، يقع بين بحيرة مريوط والبحر، مدينة إغريقية تحمل اسمه، هي مدينة الإسكندرية، ومنها مضى إلى واحة سيوة؛ «ليستلهم وحي الإله المصري آمون»، الذي كان الإغريق يشبهونه بإلههم زيوس.»
8
ولم يكن عجبا من السياسي المحنك أن يعقد مع الكهانة اتفاقا، وبموجبه أعلنوا للجميع أن نسبة الإسكندر لفيليب الثاني غير صحيحة؛ لأن الإسكندر في الحقيقة هو ابن الله الوحيد، والسر الحقيقي يكمن في أن أمه «أوليمباس قد خالطت الإله آمون»،
9
ومنه أنجبت الإسكندر طفلا إلهيا؛ لذلك فقد تعرف على وجهه القدسي فورا «كاهن آمون، «وحياه كابن للإله»»،
10
وحينها أعلن الإسكندر للشعب المصري إيمانه بالعالم الخالد؛ ولأنه ابن الله الحقيقي؛ فقد «أبدى رغبته بأن يدفن في واحة سيوة، وفي معبد أبيه آمون بالذات.»
11
وهكذا انسحب على الإسكندر ما سبق وانسحب على ملوك مصر الغابرين، فأصبح هو ابن آمون رع، وابن آمون رع ليس سوى «أوزير العادل»؛ لذلك فالإسكندر في حقيقته لم يكن سوى أوزير العادل، وأمه أوليمباس لم تكن في حقيقتها سوى البتول الطاهرة إيزي العذراء، «ومن ثم فهو في ذاته إله.»
12
مكررا بذلك قصة أوزير، العائد من السماء ليحكم بالعدل والمحبة والسلام؛ ليتمكن عرشه بلا قلقلة.
13
ولكن لتتمكن عقيدة مصر الأوزيرية من الخروج من حدودها الإقليمية، لتسود على بلاد الفاتح الغازي؛ فقد تكررت القصة الأوزيرية، مع خليفة الإسكندر بطليموس الأول، الذي أصبح بدوره أحد أضلاع المثلث القدسي؛ وذلك عندما «غدا ملكا على مصر، وفرعونا، وإلها في نظر رعاياه»
14
وهكذا جاء الأمر مع سلسلة البطالمة، فقد اجتمع الكهنة في الإسكندرية عام 238ق.م، وفي كانوب بالذات؛ للنظر فيما قدمه بطليموس الثالث وزوجته من إحسان للمعابد وكهنتها، فاكتشفوا أن الزوجين كانا زوجين من الآلهة؛ لأنهما «أحسنا للمعابد في البلاد، وزادا كثيرا في إجلال الآلهة.»
15
كذلك كان الأمر مع بطليموس الرابع، بعد أن أعلن الكهان بيانهم في نوفمبر 217ق.م، يصفونه بأنه كان حقا وصدقا ««حورس»، الممتلئ شبابا، القوي الذي نصبه أبوه ملكا، الذي امتلأ قلبه بقوى الآلهة، حامي الناس، المتفوق على أعدائه، الذي أسعد مصر وملأ معابدها نورا، «شبيه الشمس، سليل الملكين الخيرين؛ الذي حبته الشمس بالنصر»، صورة آمون الحسية ، الملك بطليموس الخالد، «حبيب إيزيس».»
16
ومع بداية عهد هؤلاء البطالمة، كانت بداية المجد الأوزيري الحقيقي، فمعهم غزا المعمورة المعروفة آنذاك، وساد عليها مع عالمه الخالد، ويمكن استنتاج ذلك من عرض ه. آيدرس. بل التالي: «وعلى عهد بطليموس الأول، ظهرت عبادة جديدة، هي عبادة سرابيس، التي قيل: إن الملك ابتدعها لتكون رابطة بين رعاياه الإغريق ورعاياه المصريين. والأبحاث المستفيضة التي قام بها فيلكن حول هذا الموضوع، لم تدع مجالا للشك في أن الإله الجديد، هو المعبود المصري أوزير أبيس في صورة هلينية ... ولدينا ما يدل على أن هذا الإله قد عبد في المنطقة المجاورة لمنف، وأن الإغريق أنفسهم اشتركوا في هذه العبادة قبل ظهور سرابيس، ويبدو أن كل ما قام به بطليموس، كان رفع هذا الإله المحلي إلى إله مركزي، وتصويره طبقا للعقائد الإغريقية ... في صورة رجل مثالي الجمال، في عنفوان قوته، على غرار الإله زيوس الإغريقي.»
17
ومن هنا يمكن القول: إن سيرابيس
Serapis
في حقيقته لم يكن سوى وليد هجين؛ نتيجة لتلاقح الفكرين؛ الكهنوتي اليوناني، والكهنوتي المصري، حول الآلهة الثلاثة «أوزير، أبيس، زيوس»، ويبدو أن ذلك قد تم على يد الكاهن مانيتون، استنادا إلى ما رواه أدولف إرمان حول حقيقة سيرابيس؛ فهو يؤكد أن سيرابيس قد أصبح «الإله الذي كان على الإغريق والمصريين على حد سواء أن يقدسوه، ومنذ ذلك الوقت أصبح سيرابيس الإله الرئيسي في مملكة البطالمة، وأصبحت الأيمان الرسمية تعقد على النحو التالي: باسم سيرابيس وإيزيس، والآلهة الأخرى، وكان مما يرضي الملك أن تشيد المعابد لسيرابيس في خارج مصر نفسها، ولنا أن نقدر أن هذا التأويل الجريء من مانيتون، لم يجد أية معارضة عند زملائه الكهنة؛ فقد كانت رغبة الملك كفيلة بإقناعهم، بأن سيرابيس لم يكن سوى أوزيريس أبيس، ومنذ ذلك الوقت كان سيرابيس هو التسمية الإغريقية لأوزيريس، وأصبح سيرابيس مذ ذاك إله الموتى وزوج إيزيس، وحل تماما محل أوزيريس، وكان أعظم معابد هذا الإله الجديد، يوجد في عاصمة البلاد بطبيعة الحال، أي في الإسكندرية»
18
تحت اسم السيرابيوم
Serapium .
وكان «سيرابيوم الإسكندرية على طراز إغريقي، وفي عهد تراجان، أوفدت بعثة إلى روما، فاصطحبت معها تمثال سيرابيس صانع المعجزات، وقد قام إلى جانب سيرابيوم الإغريق هذا سيرابيوم آخر، في صحراء منف، ومن هذا المكان خرجت عبادة أوزيريس أبيس؛ ولهذا ظل كعبة الحجاج من عباده.»
19
وبذلك أخرج الأباطرة الإغريق عبادة أوزير الشهيد والبتول إيزي، والعالم الآخر الخالد، من مصر إلى كل بقاع الإمبراطورية، تحت اسم «عبادة سيرابيس، والتي كان الغرض منها توحيد عقائد رعاياهم من إغريق ومصريين،
20
ويدل ظهور سيرابيس على بداية عقيدة جديدة، يمكن تسميتها بالعقيدة المصرية الإغريقية، وكانت دينا خليطا، لم يكن لينشأ إلا حينما تعيش جماعة من شعبين معا، على اتصال قوي.»
21
وهكذا كان ظهور العقيدة الأوزيرية وعالمها الخالد، بفعل ظروف سياسية وأحداث اجتماعية، وكان خروجها من مصر، بدفع من نوع جديد من هذه الظروف والأحداث، وكما خرج أوزير من مصر باسم سيرابيس، خرجت معه زوجته «إيزيس بإخلاصها لزوجها، وحبها لابنها»،
22
بعد أن «غدت أم الأشياء وسيدة جميع العناصر، والبداية الأولى للأزمنة؛ الإلهة العليا، ملكة الموتى، ورئيسة أهل السماء، المظهر الموحد للآلهة والإلهات، وهي على تعدد أشكالها واحدة، وشخص بذاته، واسمها الحق الملكة إيزيس، وهكذا نرى أن إيزيس ابتلعت جميع الآلهة التي كانت تعبد في أوروبا؛ فمن روما وإيطاليا، ومن البحر الأسود إلى البحر الأحمر، كانت السيادة في كل مكان للإلهة ذات الأسماء العديدة - فستون بلدا وقطرا وشعبا، كانوا يعبدونها على أنها الفضلى الجميلة الطاهرة المقدسة المتصوفة حبيبة الآلهة»
23
زوجة سيرابيس، وأحد أضلاع المثلث المقدس، والذي يمثل ضلعه الثالث حور، الطفل الإلهي المعجزة، ذلك الذي أصبح في النطق اليوناني حور بقراط أو هربوكراتيس «وكان يمثل بهيئة طفل سمين يمص إصبعه»،
24
وأحيانا كان يمثل «على هيئة المحارب الراجل، أو الفارس يقذف رمحه نحو عدوه، الذي يبدو أحيانا في هيئة التمساح من تحته، وذلك على نحو ما يبدو القديس جورج في الفن المسيحي»،
25
ولا زال يقدس حتى اليوم عند مسيحيي مصر، وتقام له الأعياد السنوية في قرية فرعونية قديمة صغيرة تدعى ميت دمسيس، تحت اسم الماري جرجس.
وفي كل بلاد حوض المتوسط - تقريبا - أقيمت الأعياد للثالوث المقدس، «وكان من بين الأعياد الكبيرة لإيزيس، عيدان تمتعا بشهرة خاصة، وكان أحدهما عيد نوفمبر (القيامة) الذي يظل ثلاثة أيام، يمثل فيها موت أوزيريس، والبحث عن جثته، ثم العثور عليها.»
26 «كذلك في رودس ولبوس وثيرا وأزمير، وفي أماكن أخرى في جزيرة ديلوس المقدسة، كان سيرابيس وإيزيس يعبدان على رأس غيرهما من الآلهة.»
27
كما سادت هذه العبادة المصرية على كل آلهة «أفريقيا الشمالية، وفي إسبانيا، وفي بلاد الدانوب وفي فرنسا، وحتى في إنجلترا نفسها نقوش تكرم إيزيس وسيرابيس، وكان لإيزيس ربوعها كذلك في مناطق جبال الألب وفي ألمانيا.»
28
وقد حاول الباحثون وضع بعض التفاسير لهذا الانتصار العالمي الذي حققته عقيدة أوزير وعالمها الخالد، يمكن بعد استقرائها إيضاح أبرزها فيما يلي: (1) الأسباب السياسية
كان ل «تأييد الملوك البطالمة وتشجيعهم، مساهمة كبيرة في هذا الانتشار للعقائد المصرية، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كان سيرابيس وإيزيس هما الإلهان الرسميان في دولتهم فعلا.»
29 «وقد ساهم حكم هادريان كثيرا في هذا التطور؛ فقد زار مصر ومعه الإمبراطورة ورجال البلاط، وكان من المتحمسين لهذه البلاد وآلهتها.»
30
ساعد الحكام المحليون بدورهم على هذا الانتشار الواسع؛ فقد «كان لمن يريد توكيد ولائه لملوك مصر الأقوياء، أن يقيم كذلك في بلده معبدا لآلهتهم؛ وبذلك وجدت هذه الآلهة، لأسباب سياسية، طريقها إلى قبرص، وصقلية وأنطاكيا وأثينا.»
31
أن الحضارة الهلينية، دخلت تجربة قاسية هي ما يسميه التاريخ بعصر الآلام (خاصة في فلسطين)، الذي كان نتيجة حتمية للنظام الطبقي الكريه؛ مما أدى إلى قيام الطبقة الفقيرة بثورة مسلحة، كانت ظروفها، وعوامل قيامها، كثيرة الشبه بظروف قيام الثورة المصرية في أواخر عصر الدولة القديمة، من حيث سيادة ملك إله، والفوارق الطبقية الهائلة، والظلم الاجتماعي، مما خلق مناخا مناسبا للإله أوزير؛ ليلعب دوره الثوري القديم مرة أخرى خارج حدود بلاده، مؤكدا وحدة القوى العاملة في العالم تحت رايته العقائدية، فكان أن «اتخذت الثورة المسلحة التي قامت بها الطبقة العمالية خلال عصر الآلام ضد السيادة الهلينية - فيما اتخذت - صورة دينية»
32
أو ما يمكن تسميته بمقولات العصر صورة أيديولوجية. (2) الأسباب الدينية «أدى انهيار العقيدة في آلهة الأولمب القدامى، إلى سقوط أهل روما والأقاليم فريسة سهلة لما تعلقت به أنظارهم من عقيدة المشرق، وانتشرت عبادة إيزيس في أرجاء الإمبراطورية.»
33
أن أهل اليونان وإيطاليا «كانوا جميعا يقاسون نقصا روحيا؛ فقد غدت الديانة القديمة بالنسبة لهم جميعا ميتة، ولم تستطع الفلسفة، التي كان يحاول أن يجد فيها المثقفون عونا لهم، أن تكون لهم بديلا كاملا.»
34
كما أدت الظروف الحضارية والاجتماعية وطبيعة النظم الحاكمة في هذا العصر إلى عصر الآلام، «ولم يكن ثمة مفر من أن تسفر تجربة عصر الآلام التي مرت بها الحضارة، والمهلة المؤقتة التي نالتها، ثم الانهيار الذي أصابها في النهاية، عن رد فعل قوي، من شأنه القيام برحلة روحية طويلة، انطوت على مشاق ومتاعب، انتهت بظهور السياسة على نحو يثير الدهشة والعجب»،
35
عندما وجد العالم المعذب عقيدة الخلاص والخلود الأوزيرية أو السيرابيسية.
إن الاستبداد العسكري والطبقي، والحكم الطبقي، في ظل الإمبراطوريات، قد أدى إلى «تشوق شديد إلى دين جديد، يخلص الناس من أدران الخطيئة، ويعدهم بحياة راضية يعوضون فيها شقاء الدنيا، وسرعان ما انتشرت عبادة سيرابيس، الذي شبه بالإله المصري أوزيريس ومعه إيزيس زوجة هذا الإله الأخير، وابنها حور أو هربوكراتيس. انتشرت هذه العبادة في أرجاء حوض البحر الأبيض المتوسط، حتى وصلت آخر الأمر إلى بريطانيا النائية في عهد الرومان»،
36
فلا شك أنها كانت «تقدم لأتباعها عزاء أخيرا في كافة المصائب، وكانت تمنحهم الإيمان بحياة أخرى أفضل، يقضونها في مملكة أوزيريس.»
37
إن أهم العقائد التي قدر لها أن تسود فترة من الوقت، وهي عقيدة الإله مثرا أو مثراس، قد «قضت بوجه قاطع بإبعاد النساء عن حظيرتها، غير أن ثمة آلهة أخرى هي التي أوفت بما كانت تدعو إليه الحاجة، هي الإلهة إيزيس، غير أنه ما إن انتشرت عقيدتها وذاعت، حتى زعم المؤمنون بها أنها ليست مجرد إلهة وطنية، بل هي الينبوع والأصل الذي نشأت عنه الحركة والحياة بمختلف صورهما، وإن الآلهة والإلهات التي تتعبد لها سائر الأمم، إن هي في الواقع إلا إيزيس بذاتها»،
38
وإن كانوا لا يعلمون. وكان طبيعيا ومنطقيا أن يتربع بجوارها في الأفئدة بقية أعضاء أسرتها، وعلى رأسهم أوزير أو سيرابيس، وإلى جانب ذلك أنها «لم تنهض بالعدل وحده، بل بالرحمة أيضا، وإلى جانب ذلك كانت هذه الآلهة قد عانت تجربة الألم والحزن، فهي لا تقدم يد العون فحسب، بل تقدمها مشفوعة بالرحمة والشفقة، ولقد لقيت عقيدتها رواجا عالميا، وأثار كهنتها، بثيابهم البيضاء، وأدواتهم المصرية الغريبة، الفضول والرهبة.»
39 (3) الأسباب الفكرية والفلسفية
يمكن لنا، بناء على ما أوردنا في الباب الثاني، إيجاز هذه الأسباب في سيادة الفكر الفلسفي في الأوساط الثقافية، وكان للفلسفة الرواقية، بوجه خاص، أثرها الكبير والبعيد، بعد أن اعتبرت الكلمة
Logos
هي سر الوجود، كما اعتبرتها مدرسة منف الفرعونية من قبل سرا للخلق والكينونة، وكان نداء الرواقية بفلسفتها الحلولية و«بالوحدة العالمية والإخاء العالمي»، ذا أثر كبير في أوساط المثقفين من مختلف البلدان الخاضعة لوحدة الإمبراطورية، وخاصة تأكيدها أن الإنسان هو قبس من الإله، ومظهر الإخاء إنما ينحصر في «سيادة المحبة» بين الناس؛ محبة في الله.
40
إن الرواقية قد قادت اتجاه الحركة الروحية؛ نتيجة لعصر الآلام الهليني، و«كان رائده وروحه الدافعة، الفيلسوف الرواقي بوسيدونيوس من أباميا
قرابة 135-51ق.م، وكانت دعوة بوسيدونيوس نبذ تلك الخلافات الفكرية التي استمتع بها فلاسفة العصر السابق، كما نادى، فيما يبدو، بالعودة إلى الإيمان، والاتكال أيضا على إله مستشرق.»
41
إن الفلسفة الرواقية لم تبلغ غاية اتجاهها الفلسفي إلا على الأرض المصرية، وبالتحديد في مدينة الإسكندرية، التي أضحت مركزا للإشعاع الفكري والفلسفي، بل وعلى يد الفيلسوف المصري الصعيدي النشأة، والذي عاش في كنف الإله الشرقي المطلوب، الفيلسوف إفلوطين
plationus ، وقد «استوعب إفلوطين المذاهب الخاصة بمختلف المدارس الفلسفية الهلينية التاريخية المعروفة، ونسجها في وحدة واحدة، بيد أن مهمة الفيلسوف الأولى، لم تكن تقوم في نظره على إنشاء الأعمال الفكرية، بل التطلع والتأمل، أما غاية التأمل وذروته ، فهي التجربة الصوفية، المتمثلة في وحدة النفس البشرية مع الله»،
42
وقد استتبع انتشار هذه الفلسفة في حوض المتوسط، خلق أرضية ملائمة تماما، تنساب عليها العقائد المصرية في أوساط المثقفين، بلا معارضة تستحق الذكر.
وقد استغل كهان الإمبراطورية انتشار هذه الفلسفات في الأوساط الثقافية، استغلالا دينيا سياسيا، فمزجوا بين الثالوث السرابيسي المقدس وبين فلسفة الكلمة الرواقية، مؤكدين أن الكلمة هي حور بن سيرابيس، استنادا لتماثيله التي تصوره «واضعا سبابته على فيه؛ علامة على أنه الكلمة.»
43
وبالتالي أصبحت الكلمة هي الله، وهي ابن الله، وهي من الله روح قدس يوحد الأقانيم الثلاثة في إله واحد، حتى إن الكلمة تحولت إلى ضلع من أضلاع المثلث المقدس؛ لتصبح معبودا تنتشر عبادته في آفاق حوض المتوسط مع الأب والابن، بعد أن صارت هي «العقل الخلاق السرمدي، الذي عرف فيه المفكرون الهلينيون منذ جيل أنكساجوراس
Anexagoras
الحقيقة المطلقة، الكامنة وراء مظاهر الكون، وعبدوها كذلك»،
44
وكانت النتيجة أن «أخذت الديانة المصرية تنتشر كذلك بين الطبقات العليا من الشعب.»
45
ونتيجة لهذه الأسباب مجتمعة، لم يعد «في الإمبراطورية الرومانية واسعة الأرجاء، مقاطعة واحدة، لم تعد تعبد فيها الآلهة المصرية، حتى استطاع ترتوليان أن يقول: إن «الأرض بأسرها» تعقد الأيمان اليوم باسم سيرابيس.»
46
وإذا كان أوزير قد ساد أرجاء المعمورة وكافة أنواع العبادات، وابتلع الآلهة الأخرى؛ فلا شك لدينا أنه قد استقطب كل الأساطير والروايات الدينية التي كانت تنسب إلى «السحرة الذين يجففون البحيرات بكلمة ينطقون بها، أو يجعلون الأطراف المقطوعة تقفز إلى أماكنها، أو يحيون الموتى.»
47
فأصبح هو الإله صاحب المعجزات الكبرى خاصة العلاجية منها، وقد ترك العباد كثيرا مما جمعوه حول ما «كان ينسب إلى سيرابيس من قصص الشفاء.»
48
وبهذه السيادة العالمية، طوى سيرابيس كل العبادات الأخرى، فاندمجت فيه، وامتلك هو كل ما كان ينسب إليها من أساطير، فأصبح هو صاحب «العشاء الرباني المصنوع على هيئة الصليب.»
49
بدلا من الإله ميثرا أو ميثهرا، وأصبح هو، بدلا من الإله ديونزيوس أو ديونيسيس، صاحب القلب المقدس، وابن الإله الأوحد، الذي قتله البشر، فحملوا إثم خطيئة عالمية لا يغفرها إلا الخلاص؛ بالإيمان به وبالتعميد، وبتعاطي جرعات من النبيذ تمثل روح ابن العذراء، فتسري فيه الروح الخالدة،
50
أو الطبيعة الإلهية، وأصبح هو، بدلا منه، الإله الوحيد الذي يمكنه تحويل الماء إلى نبيذ، وإطعام جمع غفير في القفر، بتحويل قليل الطعام إلى كثير، وإشفاء المرضى من كل نوع.
51
ونتيجة لهذا الدمج أو الابتلاع، لم تعد لائحة مجلس الشيوخ الروماني بتأليه الإمبراطور أغسطس - بعد موته - كصورة تجسدية للإله على الأرض، ولم يعد تلقيب المجلس له، ولا حتى تلقيب المفكر سنكا له بلقب المخلص؛
52
لم يعد كل هذا ذا أي معنى، بعد أن أصبح سيرابيس هو الصورة التجسدية للإله، وهو المخلص الوحيد. كما لم يعد قسم نوميروأتيكس «بأنه رأى رأي العين المخلص أغسطس يرتفع بعد موته جسدا حيا إلى السماء»،
53
لم يعد قسمه مشكوكا فيه؛ فما كان لإنسان أن يشك في واحد مثل نوميرو، إنما كان الشك الذي تحول يقينا، في هوية ذلك الذي ارتفع، والذي اكتشفت عقلية العصر أنه إنما كان سيرابيس وليس أغسطس، وأن كل ما في الأمر كان خدعة بصرية، وبصر نوميرو قد أوهنته الأيام.
كما لم يعد إيمان العصر الهليني الروماني، بأنه سيرى نيرون المتوفى، عائدا هابطا إلى روما من السماء، قبل أن يزول هذا الجيل،
54
لم يعد هذا الإيمان ملغى، بل إيمانا حقيقيا صادقا، لكن لن يكون الهابط هو نيرون؛ لأن الذي ارتفع كان سيرابيس، والمنطق يؤدي إلى الإيمان بأنه سيكون هو «الهابط العائد في هذا الجيل»؛ ليحكم الناس بالمحبة والسلام، «مثل الإله حداد
Hadad
إله الزوابع في دوليكي، آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير»؛
55
لأنه لا شك ليس حدادا، وأنه لا شك ليس البوذيستا في «الله الابن، منقذا ضحى بنفسه، وراعيا أمينا للقطيع البشرى الضال»،
56
وعليه لم يعد هناك مكان للإله الشهيد تموز، الذي ولد من عذراء وقام من بين الموتى، مع مكانة سيرابيس المتسامية علوا - خاصة بعد أن أصبح سيرابيس هو ابن الإله الذي نزف دمه في جذوع شجرة الصنوبر المقدسة، وليس الإله أتيس ابن العذراء نانا.
57
وهكذا تحولت مصر إلى كعبة للمؤمنين وللمفكرين، على حد سواء، من كل أرجاء الحواضر المعروفة آنها، وأصبح ثالوثها المقدس، رغم الاحتلال الأجنبي، سيدا على العالم؛ حتى بعد ظهور المسيحية بخمسة قرون كاملة.
58
أما أهم أفكار هذا الثالوث المصري التأسيسية فلم تزل لها السيادة في العقيدة المسيحية حتى اليوم.
النتائج العامة للبحث
النتائج العامة للبحث
وهكذا؛ يمكن القول إن أهم ثمار أو منجزات هذه الدراسة، إنما تتلخص في الاكتشافات التالية:
إن ما قيل عن تناقض أو تضارب العقلية المصرية مع ذاتها، إنما هو قول يجافي الحقيقة، ولربما كان صادرا عن سوء فهم وتقييم، أو هو تكاسل عن بذل العطاء الكافي من الجهد اللازم، للتحقق من قيمة ما أنتجته هذه العقلية، ومن ثم الحكم عليها حكما أقرب إلى السلامة والصحة.
وقد أدى تطبيق المنهج الاجتماعي التاريخي التطوري إلى بطلان المزاعم القائلة بالتضارب في منتجات العقل المصري القديم وإبداعاته، خاصة بعد ما تكشف لنا - بتطبيق هذا المنهج - من أن الديانة المصرية وفلسفتها الميتافيزيقية، كانت أسبق من الفلسفة اليونانية في اكتشاف أهم المنجزات التي اعتبر اليونان بسببها أول المتفلسفين، فوضعت أهم الأسس لأكبر نظريتين في الوجود؛ «نظرية الفيض، ونظرية الخلق بالكلمة»، وهما النظريتان اللتان ظلتا تتنازعان عقول الفلاسفة في مشكلة الوجود، طوال عمر الفلسفة الميتافيزيقية، من بدايتها القديمة، وحتى منتهاها في الفلسفات الحديثة، بل وفي المعاصرة كما يتمثل في الفلسفة المثالية الألمانية.
كما تكشف لنا أن تاريخ مصر القديمة لم يكن صنعة ملكية بقدر ما كان صنعة شعبية في المقام الأول، فقد ثبت أن أهم دعائم الديانة المصرية القديمة كانت عقيدة الخلود، التي ارتبطت في بداية عهدها بالسلطان الملكي، وأدت إلى قهر الشعب واستعباده، فكان أن أدت إلى قيام أول ثورة أيديولوجية في التاريخ ضد الملكية والإقطاع معا، بل وضد الدين الرسمي أيضا ، على اعتبار أنه كان يعبر فقط عن مصالح الطبقة الحاكمة وحدها. وقد أدت هذه الثورة بالعقول الشعبية إلى البحث عن الخلاص المادي والروحي حتى وجدته في الإله أوزير؛ الذي ثبت لنا أنه كان إبداعا شعبيا خالصا، حقق الشعب تحت رايته أهم انتصاراته التي بلغت حدا دخل معه الشعب إلى العالم الخالد، بعد أن كان هذا العالم قاصرا على الملوك فقط، وتحت رايته استطاع الشعب القضاء على النظام الأوتوقراطي الذي ظل سائدا لخمسة قرون متواصلة، وتحت رايته قضت الجماهير الثائرة على الأرستقراطية الدينية، بعد أن فتح أوزير أبوابه للجميع دون تفرقة، بل وخص الطبقة الفقيرة بشكل خاص بكل عنايته قبل أية طبقة أخرى، مما يجعلنا نقول: إن عصر الثورة المصرية في نهاية الدولة القديمة، كان بلا جدال عصر سيادة البروليتاريا، إذا جاز التعبير.
وكانت نتيجة كل هذه الأحداث، أن تصاعد أوزير الإله الشعبي حتى أصبح هو رب الخلود، وسارت عقيدة الخلود في ظله بخطوات تطورية حثيثة، حتى انتهت إلى القول بيوم بعث وحساب، وفق مقاييس خلقية رفيعة، كانت الأولى من نوعها في التاريخ، قبل أن يكتشف اليونان ذلك في المبحث الفلسفي المسمى بعلم الأخلاق أو الإثيكس.
كما أدى هنا التطور إلى ظهور عدة عقائد ارتبطت بأوزير إله الخلود، كان أهمها:
عقيدة القيام من الموت.
عقيدة المخلص.
عقيدة الفداء.
عقيدة رجعة الإله من السماء.
ورافق هذه العقائد طقوس دينية، كانت ضرورة لازمة للخلود؛ أهمها:
التعميد.
الحج إلى بيت الله، والطواف به سبعا.
احتفالات عيد القيامة المجيد.
وفي النهاية استطاعت عقيدة الخلود المصرية مع طقوسها وعقائدها الفرعية أن تخرج من مصر في ظل الإمبراطورية الرومانية، لتسود حوض المتوسط، بعد أن تحول أوزير إلى سيرابيس؛ لتسود على العقل البشري حتى انتهاء القرون الخمس الأولى لظهور الديانة المسيحية.
انتهى.
المصادر
مصادر ومراجع الدراسة العربية والمترجمة مرتبة حسب أسماء المؤلفين
(1)
القرآن الكريم. (2)
أدهم (د. علي): فلسفة التاريخ لهيجل، تراث الإنسانية، المجلد الخامس، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة. (3)
إرمان (أدولف): ديانة مصر القديمة، ترجمة د. محمد عبد المنعم أبو بكر، ود. محمد أنور شكري، مصطفي البابي الحلبي، القاهرة، د.ت. (4)
إرمان ورانكه (أدولف وهرمان): مصر والحياة المصرية في العصور القديمة، ترجمة د. محمد عبد المنعم أبو بكر، ومحرم كمال، البابي الحلبي، القاهرة، د.ت. (5)
آلار (ميشال): طريق إنسان المستقبل المنقذ، جمعه مع دراسات أخرى د. أسعد علي في كتابه «الطلاب وإنسان المستقبل»، بيروت، د.ت. (6)
الألوسي (د. حسام محيي الدين): بواكير الفلسفة قبل طاليس، المطبعة العصرية، الكويت، د.ت. (7)
أنتس (رودلف): الأساطير في مصر القديمة، ترجمة أحمد عبد الحميد يوسف، مجموعة أساطير العالم القديم بإشراف د. صموئيل نوح كريمر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974م. (8)
أنيس (د. عبد العظيم): العلم والحضارة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، د.ت. (9)
الأهواني (د. أحمد فؤاد): المدارس الفلسفية، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1965م. (10)
إيمار وإبوايه (أندريه وجانين): الشرق واليونان القديم، ترجمة فريد. م. داغر، وفؤاد. ح. أبو ريحان، المجلد الأول من تاريخ الحضارات العام، عدد مجلداته 7، دار عويدات، بيروت، 1964م. (11)
بدوي (د. أحمد): في موكب الشمس، عدد الأجزاء 2، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة الثانية، القاهرة، 1955م. (12)
بدوي (د. عبد الرحمن): ربيع الفكر اليوناني، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1958م. (13)
بدوي (د. عبد الرحمن): مناهج البحث العلمي، وكالة المطبوعات، الكويت، 1977م. (14)
برستد (جيمس هنري): انتصار الحضارة، ترجمة د. أحمد فخري، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت. (15)
برستد (جيمس هنري): فجر الضمير، ترجمة سليم حسن، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت. (16)
برستد (جيمس هنري): كتاب تاريخ مصر من أقدم العصور إلى الفتح الفارسي، ترجمة د. حسن كمال، وزارة المعارف المصرية، الطبعة الأولى، القاهرة، 1929م. (17)
بل (ه. آيدرس): مصر من الإسكندر الأكبر حتى الفتح العربي، ترجمة د. عبد اللطيف حمزة، دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت. (18)
بورت (دولا): بلاد ما بين النهرين، ترجمة مارون خوري، دار الروائع الجديدة، بيروت، د.ت. (19)
بيت (د. إريك): الحياة في مصر في الدولة الوسطى، ترجمة محمد بدران، المجلد الأول من تاريخ العالم، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، د.ت. (20)
بيت (د. إريك): حياة المصريين وثقافتهم في عهدهما الأول، ترجمة محمد بدران، المجلد الأول من تاريخ العالم، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، د .ت. (21)
تشارلز وورث (م.ب): الإمبراطورية الرومانية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1961م، (مترجم). (22)
توينبي (أرنولد): تاريخ الحضارة الهلينية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1963م، (مترجم). (23)
جراهام (بلي): سلام مع الله، ترجمة نجيب جرجور، مركز المطبوعات المسيحية، بيروت، د.ت. (24)
جريفث (ف. لولين): الانقلاب الديني في مصر، ترجمة عبد الرحمن صدقي، ودريني خشبة، المجلد الثاني من تاريخ العالم، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت. (25)
حسن (د. سليم): مصر القديمة، عدد الأجزاء 16، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1947م. (26)
حنفي (د. حسن): الدين في حدود العقل وحده لكانط، تراث الإنسانية، المجلد السابع، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة. (27)
حنفي (د. حسن): محاضرات في فلسفة الدين لهيجل، تراث الإنسانية، المجلد الثامن، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة. (28)
الخطيب (د. محمد عجاج): لمحات في المكتبة والمصادر، د.ش، بيروت، دمشق، الطبعة الثالثة، 1971م. (29)
دريتون وفاندييه (إتيين وجاك): مصر، ترجمة عباس بيومي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت. (30)
ديورانت (ول): قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، عدد المجلدات 11، عدد الأجزاء 22، الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1961م. (31)
ديورانت (ول): قصة الفلسفة، ترجمة محمد بدران، مكتبة المعارف، الطبعة الثانية، بيروت، 1972م. (32)
رايفشتال (إليزابيث): طيبة في عهد أمنحوتب الثالث، ترجمة إبراهيم رزق، لبنان، بيروت، 1967م. (33)
روبنسون (تيودور. ه.): إسرائيل في ضوء التاريخ، ترجمة عبد الرحمن صدقي، ودريني خشبة، المجلد الثاني من تاريخ العالم، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت. (34)
زكي (د. عزت): الموت والخلود في الأديان المختلفة، مطبعة كليوباترا، القاهرة، د.ت. (35)
زايد (د. عبد الحميد): أسماء مصر، مجلة كلية الآداب والتربية، جامعة الكويت، العدد الثاني، ديسمبر 1972م. (36)
زايد (د. عبد الحميد): التسجيلات المصرية القديمة لجيمس هنري برستد، مجلة كلية الآداب والتربية، جامعة الكويت، العدد الثالث، يونيو 1973م. (37)
زايد (د. عبد الحميد): مصر الخالدة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1966م. (38)
زايد (د. عبد الحميد): من أساطير الشرق الأدنى القديم، عالم الفكر، المجلد السادس، الكويت. (39)
زكريا (د. فؤاد): التفكير العلمي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978م. (40)
سابق (السيد): العقائد الإسلامية، دار الكتب الحديثة، الطبعة الثانية، القاهرة، 1967م. (41)
سعفان (د. حسن شحاتة): الموجز في تاريخ الحضارة والثقافة، مكتبة النهضة، القاهرة، 1959م. (42)
السقاف (أبكار): نحو آفاق أوسع، أو العقل الإنساني في مراحله التطورية، عدد الأجزاء 2، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ت. (43)
سلطان وإسماعيل (د. محمد السيد، ود. صادق جعفر): مسار الفكر التربوي عبر العصور، دار القلم، الكويت، د.ت. (44)
شكري (محمد أنور) وآخرون: حضارة مصر والشرق الأدنى القديمة، د.ش، القاهرة، ب.ت. (45)
شلبي (د. أحمد): كيف تكتب بحثا أو رسالة، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة السابعة، القاهرة، 1973م. (46)
الشنيطي (د. محمد فتحي): البراجماتية لوليم جيمس، تراث الإنسانية، المجلد الأول، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة. (47)
صالح (د. عبد العزيز): الشرق الأدنى القديم، الجزء الأول، الهيئة العامة للمطابع الأميرية، القاهرة، 1967م. (48)
العقاد (عباس محمود): الله، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية. (49)
على (د. أسعد): مجموعة ندوات بمعهد الآداب الشرقية، الجامعة اليسوعية، مؤسسة مكاوي، بيروت، 1975م. (50)
عويس (د. سيد): الخلود في التراث الثقافي المصري، دار المعارف، القاهرة، د.ت. (51)
فرانكفورت (هنري): فجر الحضارة في الشرق الأدنى، ترجمة نجيب خوري، مكتبة دار الحياة، بيروت، 1965م. (52)
فريد (فاروق): التاريخ الجامع لهيرودوت، تراث الإنسانية، المجلد الخامس، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة. (53)
القمني (د. سيد): الموجز الفلسفي، دار السياسة، الكويت، د.ت. (54)
كرم (يوسف): تاريخ الفلسفة اليونانية، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1966م. (55)
كمال (د. أحمد): بغية الطالبين في علوم وعوائد وصنائع وأقوال قدماء المصريين، الجزء الأول، مدرسة الفنون والصنائع الخديوية، القاهرة، 1309ه. (56)
كوك (د. ستانلي): آلهة السحر، ترجمة إبراهيم خورشيد، المجلد الأول من تاريخ العالم، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثانية، القاهرة، د.ت. (57)
متى (كريم): الفلسفة اليونانية، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1971م. (58)
محمود (أحمد حمدي): تأملات في التاريخ لياكوب بوركارت، تراث الإنسانية، المجلد الثالث، القاهرة . (59)
محمود (أحمد حمدي): فكرة التاريخ لدوبين كولنجوود، تراث الإنسانية، المجلد الأول، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة. (60)
ملحس (ثريا عبد الفتاح): منهج البحوث العلمية للطلاب الجامعيين، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية، بيروت، 1973م. (61)
موسى (محمد العزب): أول ثورة على الإقطاع، دار الهلال، القاهرة، 1966م. (62)
ميخائيل (د. نجيب): مصر والشرق الأدنى القديم، القاهرة.
الجزء الأول: دار المعارف، الطبعة الرابعة، 1963م.
الجزء الرابع: دار المعارف، الطبعة الثانية، 1966م.
الجزء السادس: دار المعارف، الطبعة الأولى، د.ت. (63)
الندوي (د. محمد إسماعيل): الأساطير الهندية، تراث الإنسانية، المجلد السادس، القاهرة. (64)
ولسن (جون): الحضارة المصرية، ترجمة د. أحمد فخري، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت.
مصادر ومراجع البحث اللاتينية
(1)
Breasted (J. H.): Ancient Records, V.3. (2)
Breasted: Development of the Religion and thought in ancient Egypt, New York, 1912. (3)
Erman: Die literatur der Aegypter, leipzig, 1923. (4)
Frankfort (Henri): Kingship and the goods, University of chicago press, Sixth impression, 1969. (5)
Gardiner (A. H.): Ancient Egypt, 1914. (6)
Gardiner: Egypt of the Pharaohs, oxford University press, London. (7)
Gardiner: The chester Beatty papyri, No. I, London, 1931. (8)
Gardin: the Defeat of Hyksos by Kamose, the carrnarron Tablet, No, I (J. E. A), III, (1916). (9)
Gunn & Gardiner: New Rendering of Egyptian texts (J. E. A, V, 1918). (10)
Jequier: Histoire de La civilisation Egyptinne, Paris 1923. (11)
Josophus: Cantra Apionem I. (12)
Lepage Renouf: On the true sense of important Egyptian word, in the Transactions of the society of Biblical archeology. VI (1978). (13)
Lieblein: Le mythe d’Osiris dans La Revue de L’Historie des Religions, Ix (1884). (14)
Maspero: Etudes de mythologie et d’archologie Egyptiennes, I, Paris, 1881. (15)
Moret: La Passion de’Osiris, dans Rois et dieux d’Egypte, Paris, 1916. (16)
Naville: La Religion des anciens Egyptiens, Paris, 1906. (17)
XIX. (18)
1969. (19)
Sandans (N. K.): The Epic of gilgamesh, Penguin books. (20)
Sharff: Der Histotorische Absehnitt der Lehre fuer Meri Ka Re, Mundren, 1936. (21)
Speelers: Traduction, index et Vocabulaire des textes des Pyramides, Bruxelles, S. D. (22)
Steirdorff: Die Ka und die grabstatuen, Ae. Z. 48 (1910-1911). (23)
Viry: La religion de l’ancienne Egypte, Paris, 1910. (24)
Wiedemann: Dasalte Aegypten, Heidelberg, 1920. (25)
Zayed (D. Abd El-Hamid): Abydos, general organisation forgovernment Printing affices, Cairo, 1963.
Bog aan la aqoon