Waxaan ku Arkay Riyada Hurdada
رأيت فيما يرى النائم
Noocyada
أهل الهوى
من فضلك وإحسانك
قسمتي ونصيبي
العين والساعة
الليلة المباركة
رأيت فيما يرى النائم
أهل الهوى
من فضلك وإحسانك
قسمتي ونصيبي
العين والساعة
Bog aan la aqoon
الليلة المباركة
رأيت فيما يرى النائم
رأيت فيما يرى النائم
رأيت فيما يرى النائم
تأليف
نجيب محفوظ
أهل الهوى
من فوهة القبو دائمة الظلمة، زحف على أربع، زحف في بطء وتخاذل المريض المتهالك. مد ذراعه إلى جدار بيت يتكئ عليه، ليقف في عناء مترنحا، تاركا تأوهاته المتقطعة تتلاحق في وهن. وفي صباح باكر مشرق بنور الربيع الصافي، والحياة تدب متدفقة في الحوانيت على الجانبين وفوق عربات اليد ونوافذ البيوت المتلاصقة العتيقة، والسماء تعلو فوق كل شيء سقفا من الزرقة الرائقة، بدا عاريا تماما، فلفت الأنظار، خاصة أنظار الأقربين، «نعمة الله الفنجري» تاجرة الخردة، «رياض الدبش» الكواء البلدي، و«حلومة الجحش» بياع الفول. تفرست نعمة الله في منظره من مجلسها فوق الكرسي الخشبي أمام وكالة الخردة، وجسمها العملاق ساكن في جلبابها الرجالي الأزرق، وتمتمت: يا فتاح يا عليم!
فقال رياض الدبش الكواء، وهو يتابعه بوجهه المغولي: وراءه حادثة من حوادث القبو.
فقال حلومة الجحش بجسمه القصير البدين ووجهه الريان: يفعلها الذئاب، ونتعب نحن بين «س» و«ج».
Bog aan la aqoon
واصلت نعمة الله تفرسها، حتى وضح في وجهها ذلك المزيج الغريب المكون من قوة مخيفة وأنوثة ناضجة مكشوفة، ثم قالت بنبرة خبير: ابن ناس!
تجلى الاهتمام في عيني الرجلين، فتبادلا نظرة معبرة ربطت ما بين الدكانين الواقعين في مواجهة الوكالة في الجانب المقابل، ثم حدجا القادم من المجهول بنظرة جديدة. إنه شاب في الحلقة الثالثة، ناعم البشرة، مهذب الملامح، أبعد ما يكون عن الوجوه الكالحة المعهودة، ثم قال رياض الدبش مداريا انفعاله: اعتداء وسرقة!
ومضى يتجمع حوله جمهرة من المشاهدين، ولكن نعمة الله نهرتهم فتفرقوا سراعا، وجاء مخلوف زينهم من أمام العيادة في الوسط، فتلقى الشاب بين يديه قبل أن يسقط فوق أديم الأرض عاجزا عن التماسك، ونادى عبدون فرج الله الشاب العامل في الوكالة، فأذنت له المرأة بتلبية النداء ، فتعاونا - مخلوف الممرض وعبدون - على حمله إلى العيادة. هناك أنامه مخلوف فوق كنبة وغطاه بملاءة، منتظرا قدوم الطبيب محسن زيان في ميعاده من الضحى. إنه رجل كهل فقد في الحرب ابنا في مثل سنه، ولا ينقصه العطف على أي شاب، رغم إيلافه مناظر العناء والمرض. ولما فحصه محسن زيان الطبيب البدين ذو النظرة الخاملة الطيبة، تمتم: كدمات في الرأس والجبين نتيجة ضربات شبه قاتلة، علينا أن نبلغ الشرطة.
فقال مخلوف زينهم بامتعاض: إنهم ذئاب القبو، وستغضب نعمة الله!
تبادلا نظرة تسليم واحتجاج، ثم تمتم الممرض: إنهم تحت حماية المرأة، وهم جنودها السريون عند الحاجة، ولا قبل لأحد بتحديها.
فشرع الطبيب في العلاج، وهو يقول: ما قيمة حياة تجري تحت رحمة امرأة كهذه!
ولم ينقطع ذكر الشاب الضحية في موقع وكالة الخردة. شغل حلومة الجحش بزبائن الفول، وراح غلام في دكان رياض الدبش يسخن المكواة فوق الجمر المتقد، على حين انهمك عبدون فرج الله في ترتيب ما تبعثر من إطارات السيارات القديمة وقطع الغيار المستهلكة والمحركات والمراوح البائدة. وسألت نعمة الله عبدون عن حال الشاب الذي شارك في حمله إلى العيادة، فلاح في وجهه الطويل الشاحب الضيق لاهتمامها به، وقال: سنسمع قريبا عن موته!
فحولت رأسها المكلل بشعر أسود مفروق مسترسل في ضفيرة غليظة ملتفة حول صفحة العنق، ونافذة في طوق الجلباب، إلى رياض الدبش قائلة: سمعت ما يقول ابن التربي عن الأفندي؟!
فتساءل رياض الدبش مستنكرا: الأفندي؟! - أفندي وحياتك، أفندي وابن ناس!
فدارى رياض غيظه بابتسامة ميتة، وإن جارى عبدون فرج الله في حنقه، أما نعمة الله فتساءلت: ولكن، ماذا جاء به إلى القبو؟
Bog aan la aqoon
فقال رياض منفسا عن صدره: وراء بنت من حريم الذئاب!
فقالت بحدة بصوتها الجامع بين الأنوثة والذكورة: مثله لا يجري وراء خنفساء! - المؤكد أن الذئاب هجموا عليه فضربوه ثم جردوه من كل شيء.
ولما رجع إلى الظهور في الحارة تبدى في صورة أخرى. رفل حافيا في جلباب قديم أهداه إليه مخلوف زينهم. لم يبق من آثار الحادث إلا ضمادة التفت حول رأسه كالعمامة، وبدلا من أن يذهب إلى حال سبيله، هام على وجهه في الحارة مثل كلب ضال، بنظرة خائفة مستطلعة تعكس من الداخل خواء وحيرة ولا تعرف لنفسها هدفا. ووقف أخيرا في مجال الرائحة الحريفة الدسمة البدائية المنتشرة من الطعمية في ابتهال ذليل. حامت حوله أعين كثيرة لرجال ونساء، سرعان ما هجرته في لا مبالاة، إلا عينين سوداوين ثبتتا عليه في إصرار وتماد. ولمست عذابه، فأمرت حلومة الجحش بأن يهدي إليه رغيفا وطعمية على حسابها. ورغم إشرافها على شحن ثلاث عربات بالخردة، ومراقبة عبدون فرج الله والمشترين، فقد تابعت التهامه للطعام بسرور وحشي، يكاد الشعر النابت في عارضيه ولغده أن يلتهم وسامة وجهه كما يلتهم هو الطعام. ترى لم لم يذهب إلى حال سبيله؟ وماذا يبقيه في هذه الحال الزرية البائسة؟ وبدافع من شعور فطري بالامتنان، تربع على الأرض غير بعيد من موقفها مسندا ظهره إلى جدار الوكالة الذي لاح له كمخزن لنفايات الحديد، وسألته باهتمام: اسمك يا جدع؟
فرفع إليها عينيه العسليتين في حيرة واضحة، ولم ينبس. فتساءلت كالمحتجة: أهو سر لا يذاع؟!
فتحولت الحيرة إلى صورة ناطقة للعجز، فقال لها رياض الدبش الكواء: الصبر، ألا ترين أنه لم يشف بعد مما به؟ - لحد نسيان اسمه؟ - ما زال غير موجود.
فرجعت إلى الشاب قائلة: اسمك؟ ... تذكر وأجب، من أنت؟ من أين جئت؟
فانقلب العجز عذابا، وتوجس خيفة. فقالت بحدة: قل أي شيء.
فغمغم مقهورا: لا أدري.
فرددت عينيها بين رياض وحلومة، قائلة: إنه يهزأ بنا.
فقال عبدون فرج الله وهو لا يكف عن العمل: دعيني أطرده بعيدا!
Bog aan la aqoon
فصاحت به: طردت العافية من بدنك!
ونادت مخلوف زينهم، فلما حضر الكهل سألته عن الشاب، فقال: إنه بلا ذاكرة!
فقالت بضيق: لم أسمع عن هذا المرض من قبل، هل يطول غيابه؟
فقال الكهل بعطف: لا أحد يدري، من ناحيتي فإني أسعى لدى الطيبين للتبرع بما يكفي لنشر صورة له في الجرائد كي يهتدي أهله إليه.
فقالت المرأة بغلظة: كف عن ذلك، ودع الأمر لي!
فرمقها الكهل بيأس، ثم قال: لك الجزاء الحسن عند الله.
ومضى نحو العيادة.
وأفسحت المرأة للشاب مجالا للعمل في الوكالة، معلنة بذلك اهتمامها به، فأقلع الجميع عن التفكير فيه إيثارا للسلامة، وراح يؤدي ما يطلب منه نظير طعامه وكسائه. وتجاهله عبدون فرج الله طاويا حقده في قلبه خوفا من المعلمة، ولكن الحقد عليه تفشى في قلوب كثيرة، في مقدمتها قلبا رياض الدبش وحلومة الجحش. توقع كلاهما دهرا أن عبدون فرج الله هو المرشح للنعيم، حتى زحف الفتى المجهول من القبو كالقدر، وتجلى رونق وجهه بعد الحلاقة، وشعر رأسه الممشط بعد إزالة الضمادة، كما ارتسمت رشاقة قامته في البنطلون القصير الكاكي والقميص الرمادي نصف الكم والحذاء الأسود الموكاسان. أما هويته المفقودة فلم تسترد، ومضت هوية جديدة بدائية تستكشف الوجود من حوله بدهشة ثابتة، مستهترة بالتقاليد والحياء والنفاق، لائذة بغرائزها المتحفزة. وتمنى له الحاقدون الشفاء لعله يختفي فجأة كما ظهر فجأة. أما نعمة الله الفنجري، المرأة الرائعة المخيفة، فكانت تحلم بمسيرة أخرى. سرتها نظراته النهمة البهيمية، ولغته الصامتة المكشوفة معا، وحومانه الحار الجنوني حولها بلا حياء، حتى قالت لنفسها: «لا بد من تهذيبه». قوتها الراسخة نفسها اهتزت حيال هوج انفعالاته الجامحة، فخافت أن يصيبها سوء مجهول بين يديه المندفعتين بعنف البراءة العمياء، وقالت لنفسها أيضا: «إني أخيف الرجال، ولكن لا أدري كيف أتعامل مع الزوابع.» بدا غريزة مجسدة تهيم في غابة من نفايات الحديد. وسمعت عبدون فرج الله يدعوه بالمجنون، فنهرته قائلة بنبرة آمرة: إنه يدعى «عبد الله»!
فتساءل عبدون: ألا ترين أنه لا يعرف دينا ولا ربا؟!
فشكمته بضربة في صدره أوشكت أن تطرحه أرضا، وسرعان ما عرف بعبد الله، ولكنها قلقت من حريته المطلقة المنذرة دائما بعواقب مجهولة. إنه لا يتورع عن مد يده إلى أي موضع خصب من جسمها، فترجعه جادة حذرة، رغم ظهورها بمظهر الرجال في الوكالة طيلة النهار، فكيف لو لمحها في منظرها الأنثوي الطاغي في مسكنها الناعم الخيالي فوق الوكالة؟! وخطر لها خاطر حكيم ادخرته لزيارة الشيخ «جابر عبد المعين»، إمام الزاوية الذي يتلقى منها المعونة له وللزاوية في أيام محددة. إنها تغطي طغيانها المخيف بنفحات كرم تسكت بها ذوي الألسنة القادرة، وتمارس في الدين طقوسا وثنية، فلا تأبى - رغم جبروتها - أن تؤنس وحدتها الداخلية بالأحجبة والتعاويذ. جالست الشيخ على أريكة قائمة في الجانب الأيمن من الوكالة بين تلين من قطع الحديد، وتراءى عبد الله وهو يعاون عبدون فرج الله في شحن عربة بالإطارات الملساء، ولمحت المرأة الشيخ وهو ينظر نحوه، فقالت: أعطيته عملا ورزقا.
Bog aan la aqoon
فقال الشيخ وهو في أعماقه يخافها ولا يحبها: الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. - ولكنه نسي الدين فيما نسي. - أعوذ بالله!
فقالت بإغراء: هذه هي مهمتك يا شيخ جابر. - يا لها من مهمة شاقة! - لا تكن طماعا. وحظك محفوظ، المهم أن تعلمه كيف يخاف، يكفي هذا.
أدرك لتوه أنها تريده على أن «يعده» لها. لعنها في سره واستغفر ربه، وقال لنفسه إنه ليس من حقه أن يسيء بها الظن استنباطا من نية لا يعلمها إلا الله، وإن مهمته في ذاتها خير يستحق عليه المثوبة. ودهش كثيرون عندما رأوا الفتى يساق كل عصر إلى الزاوية لتلقي دروس في الدين. وقال السذج إنها امرأة شريرة طاغية ما في ذلك شك، ولكنها لا تخلو من جانب خير. أما أمثال رياض الدبش وحلومة الجحش فقد فطنوا إلى اللعبة، وتساءل حلومة بحرقة: متى أراها فريسة للزمن؟!
كثيرون يعيشون بجراح دفينة حفرتها في قلوبهم أظافر المرأة. حظي من حظي منهم بالعشق حين جادت به، وتجرعوا الهجر حين هجرت. وعند ظهور فتى جديد يختال في أبهة النصر يتعزون عن الأسى بتربص النهاية المحتومة. إنها دائما تتربص هناك، لا دافع لها ولا مهرب منها. ولكن متى تخمد نيران تلك الشهوة المتأججة؟! وراحت تكافئ الشيخ جابر على دروسه بكرم، ثم تراقب الفتى وتنتظر ... ودخل في مقام من مقامات الحيرة، وتجلى التساؤل في عينيه، ولم تشأ أن تسأله حتى يبادرها بالسؤال، وقد سألها : أهو صادق فيما يقول؟ أعني الشيخ جابر عبد المعين؟
فقالت بحرارة: الصدق أعز ما يملك في هذه الحياة.
فاشتدت حيرته، ومضى يعرف الحياء، ويداري انفعالاته، ويأسف بعد ارتكاب الخطأ. وحثت هي الشيخ على أن يعفي الفتى من التعمق أو يكلفه بما لا يطيق. إنها تكره العارفين الذين يستشهدون عند كل موقف بما يناسبه من الآيات. إنها ترغب في امتلاك الشاب وتخاف تمرده، وعلمتها حياتها أن القليل من الدين مفيد أما الكثير منه فينذر بالخطورة والغم. وهي مرتاحة إلى نمو رغبته فيها وعذابه الدفين بالتردد والحياء والخوف بعد أن وسع قلبه الرغبة والعبادة في آن. وتمتم أمام شيخه: الله والجنة والنار.
فقال له الشيخ جابر: تدبر ذلك بعقل ناضج تجاوز الطفولة والصبا.
فتساءل في حيرة: والرغبات الجامحة من خلقها؟
فقال الرجل بضيق خفي: هذا هو امتحان الإنسان.
وعلم فيما علم بما ضاع من ماضيه. أي فرد يجهل مستقبله، أما أنا فأجهل ماضي ومستقبلي معا. ماض ليس بالقصير، وحفل ولا شك بأشياء وأشياء. ولم يفطن إلى جو الحقد الذي يلفحه إلا قليلا، فعدا عبدون فرج الله لم يشعر بعداوة مجسدة، ولم يفطن كذلك إلى أن نعمة الله ترصد اللحظة المناسبة لانتزاعه نهائيا من يدي الشيخ عبد المعين. ولكن قلبا واحدا ظل يخفق بالعطف عليه، هو قلب الممرض مخلوف زينهم. تسلل مساء إلى الزاوية، فصلى المغرب، ثم انتحى بالشاب ناحية عقب انتهاء الدرس. لمس التجهم المشوب بالقلق يغشى وجه الشيخ جابر، فغضب وقال له: اخش ربك وحده!
Bog aan la aqoon
فتساءل الشيخ بحدة: وأنت ألا تخشى المرأة أيضا؟ - يمكن أن تستمد من العمامة قوة، وليس لي ذلك.
فقال الشيخ: لولا المرأة ما كانت الزاوية!
فقال له بأسى: إنك تعلم أنها ترعاها من أجل الشيطان.
وأقبل على الفتى معرضا عن الشيخ، وقال: سوف تسترد ماضيك يوما ما، مظهرك يدل على أنك منحدر من أصل طيب، ولعلك كنت ماضيا في مهمة نافعة، لست من حينا، فماذا جاء بك إليه؟ والعمل المتاح لك اليوم لا يناسبك، فماذا كان عملك ؟
فتمتم عبد الله: لا حيلة لي الآن. - هذا واضح، المهم ألا تتورط في مأزق يتعذر الخروج منه إذا انقشعت الظلمات. - نعمة الله هيأت لي عملا ومأوى. - هي في الحقيقة نقمة لا نعمة! - لولاها ...
فقاطعه: إنها صاحبة خطة قديمة متجددة، سوف تهبك نفسها، فتظن نفسك سيد العالمين.
فتورد وجه الفتى وخانه السرور فأضاء به وجهه، فقال الرجل بحزن: لست الأول، ولن تكون الأخير، وسوف تلفظك حتما وبلا رحمة، فتتلاشى ساعات السعادة الزائفة في حمأة الهجر الدائم، وتنضم إلى ركب التعساء الكثيرين.
قلقت في عينيه العسليتين نظرة حائرة، ولكن موجة الفرحة القريبة الراقصة اكتسحت نذر المصير المخيف المجهول، فقال الرجل وهو يصارع الهزيمة: إنها قوية بلا حدود، حتى ذئاب القبو الذين اعتدوا عليك يخضعون لها، وعند الضرورة تزهق روح من يعاندها، هي السحر وكفى.
فتساءل الشاب احتراما لعطف الرجل: ماذا تريد مني؟ - أن تهجر الحارة في الحال. - إلى أين؟ - ستجد لك رزقا في مكان ما حتى تستعيد ذاتك.
صمت دون حماس، فتساءل الرجل بقلق: أوقعت في قبضة قدرك؟
Bog aan la aqoon
فأجابه بصمت ناطق واستخفته الفتنة، وشعر مخلوف زينهم أنه يجري بعيدا عنه، وأنه ينطلق نحو تجربته المهلكة بحماس دافق. تنهد الرجل، قام وهو يتبادل مع الشيخ نظرة حنق، ثم مضى وهو يقول للشاب: الله معك!
وهل الصيف بشخصيته الواضحة المتحدية، وتحت شمسه المحرقة سرى العنف في الحناجر واحتدم الخصام لأتفه الأسباب. واتهم عبدون فرج الله الفتى بسرقة قروش افتقدها، فانقض عليه يصارعه، لولا ظهور نعمة الله في اللحظة المناسبة وإنذارها عبدون بالطرد إذا عاود العدوان. وقررت المرأة كف الفتى عن دروسه الدينية اكتفاء بما حصل من قشور، فكثر الفراغ في حياته، كما كثرت الهموم، بات يخاف الله، ويخاف عبدون، ويخاف تحذيرات عم مخلوف زينهم، ويتساءل عن ماضيه الطيب والمهمة التي جاءت به إلى هذه الحارة العصبية، ويتساءل متى يبدأ العشق قصته، وماذا يمكن أن يقال عن المصير المحتوم، وألا يكون خسرانه أكبر إن تجنب التجربة المغرية ليتفادى من المصير المحزن؟! خاض فترة قلق، وتطلع إلى معلمته بنفاد صبر، وجزع لانهماكها في العمل وما يبدو من تجاهلها لحاله. غير أنها كانت قريبة منه أكثر مما يتصور، ومتغلغلة في تلافيف ذاته بقوة امرأة آسرة وأسيرة في آن. إنها رغم قوتها المعترف بها، وقدرتها الإدارية، وسطوتها الأسطورية، فريسة لخيالها المنطلق وعواطفها الجامحة. إنها تعشق حتى الموت، وعشقها داء لا دواء له، وعندما يرشح لها قلبها فتى من الفتيان فتهيم به وتجن، ولكن الخبرة ترسم لها وسيلة ظاهرها القوة واللامبالاة. توكد لديها أنها تعاني حال عشق جنوني لا نزوة طارئة فتأهبت للتجربة. لاذت بخلوتها الصغيرة بمسكنها الوثير المفروشة أركانه بالشلت الدسمة المكسوة بالأغطية الخضراء، يتوسطها وعاء نحاسي مجوف مليء نصفه بالبخور ونصفه الآخر بقصاصات منقوشة بالتعاويذ والأدعية والنداءات الخفية. ذرت قبضة من البخور في مجمرة ثم لهجت بابتهالات تستحضر بها ساحرها القديم الذي غادر الدنيا على عهد شبابها الأول. وشملت الظلمة المكان إلا لآلئ تتألق في الجمرات، وانتشرت رائحة البخور العميقة مفعمة بالابتهال والنداء. وحل بالظلمة وجود جديد، ثمرة للرغبة الحارة المستميتة، كحضور ذي وزن ملأ فراغ الخلوة بثقله غير المرئي، وسرعان ما انقشعت الوحدة وتلاشى الألم. تشجعت وهمست دون أن تجفف عرقها: أهلا بك يا «برجوان»!
فنفذ إلى أعماقها صوته المغلف بالموت: القبو يطيعك، الرجال يخافونك، شبابك حي.
فهمست بإشفاق: حل بي الجنون من جديد. - صاحبك أيضا مجنون. - قد يرجع إلى ذاته قبل أن أبرأ من عشقه! - إذا رجع نسي الماضي ولا حيلة في ذلك.
فقالت بتوسل: سحرك قادر على كل شيء.
فقال بضجر: أولى بك أن تحذري مخلوف زينهم.
فهمست بقلق: أعلم نواياه، ولكني أخاف أن أؤدبه بنفسي فأرعب الفتى.
فتنهد الظلام في استجابة، وتلاشى الحضور في الحال، فعادت إلى وحدتها، ولكن بقلب مترع بالثقة. وأقعد المرض الممرض مخلوف زينهم عن عمله في عيادة الطبيب محسن زيان. وعرف في الحارة أنه أصيب بروماتزم مفصلي شديد، غير أن الشيخ جابر عبد المعين قال لزوجته: إنه من عمل نعمة الله!
فقالت المرأة مذعورة: ليتك لم تش به.
فغضب الشيخ ولطمها على وجهها لطمة شديدة.
Bog aan la aqoon
وأراد عبد الله أن يعود الرجل الذي كان أول من كساه بعد عري، ولكن نعمة الله قالت له: لا أحب هذا.
ثم خففت من وقع أمرها، فقالت له: مسكني في حاجة إلى الخدمة، وقد اخترتك لذلك.
ونسي صاحبه وتساءل في سرور طاغ: «ترى هل انتهى العذاب؟!» وثمة باب في الوكالة يفتح على سلم للمسكن تسلل منه ليلا. استقبلته رائحة البخور وضوء مصباح كهربائي مثبت من أعلى الجدار. صعد في الدرج ووجدانه يسبقه يطمس بمحياه معالم المكان. في نهاية دهليز رأى بابا مواربا يشع منه نور، مضى إليه وتنحنح، جاءه صوتها الليلي الرخيم داعيا فدخل. لم ير من الحجرة سواها وهي مستوية على كنبة، مسندها مطعم بالصدف في جلباب حريري أبيض يخفي قسمات الجسد، ولكنه ينبئ عن عملقته بطريقة انسيابية تثير الخيال، وليس في الوجه المتسلطن أثر من زواق، ولكنه ينضح بأنوثة فوارة بعد أن خلعت قناع الذكورة الصارم الذي تتعامل به في الوكالة والحارة. والشعر الأسود ذو لون طبيعي لا يشي بأي تكلف كيماوي، دافئ بشباب راسخ. تركته واقفا في جلبابه الفضفاض، لم تخفف من ارتباكه بكلمة، كأنما لتمتحن أثرها فيه، ولترى لأي تكون الغلبة: الخوف أم الرغبة؟ ومن شدة حرجه انتزع عينيه منها ليلقي نظرة عما حوله، ولكنه لم ير سوى النظافة وكأنها تقوم بذاتها، وتنفس رائحة طيبة. قال: لعله وقت مناسب لتنظيف المسكن، ولكنه ليس في حاجة إلى تنظيف.
فصبت من إبريق مفضض في قدحين فوق خوان مطعم بالأصداف سائلا فاحت منه رائحة القرفة الممزوجة بالزنجبيل، وعادت تنظر نحوه. وبسريان الخمر غير المنظورة في دمه التصق بصره بها في جرأة السكران. وتمادى في انفعاله حتى اكتسح العواقب، واستسلم لتيار قوي دفع به نحوها كالقذيفة، وكالقذيفة راح يتنقل بين أبعادها وهي تتلقفه بحنان حار، ورضى آسر، واستجابة مستكينة وحماسية معا. وما لبث أن توج فوق عرش النشوة والسيادة، وامتلأ واقعه بعذوبة الأحلام. وتمنى لو استمر ذلك دون توقف، لو كان الحب ذا سياسة أخرى، لو أن السعادة لا يجرفها تيار الذكريات، لكنه وجد نفسه راقدا في حضن الفتور الجليل، يرى الأشياء لأول مرة. إنها حجرة أنيقة حقا؛ متوسطة الحجم، مزينة الجدران بسجاد صغير وبسملة مذهبة، تتوسط أضلعها كنبات وثيرة ذوات أغطية مختلفة الألوان ومساند مطعمة بالأصداف مموهة بالأمثال، مغطاة أرضها بسجادة حمراء في وسطها مجمرة كبيرة تحت مصباح كهربائي في قنديل. وسرعان ما انتقل من الفتور إلى القلق، حتى قالت له: نظرة عينيك لا تعترف بجميل.
فلثم خدها، وهو يقول ببراءة: أخاف النار!
فابتسمت قائلة بحنان: عندما تهب المرأة نفسها، فالعلاقة شرعية مباركة!
فمال إلى تصديقها بكل قواه، ورآها جديرة بالانقياد، أما هي فواصلت: منذ الساعة فأنت شريكي في البيت ووكيلي في الوكالة!
وتبدى في صورة جديدة، صورة المعلم الشاب بجلبابه الأبيض ولاثته المزركشة، وزهوه المتورد. وعمل عبدون فرج الله في ظله، مكرها على طاعة مرة كالسم، منطويا عن مقت وحسد كالنار. وشاركه في عواطفه الدفينة رياض الدبش الكواء وحلومة الجحش الفوال وآخرون. ولكن عبد الله تجاهل في نشواته العواطف الدفينة، وأقبلت السعادة كالشمس تنتشر أشعتها في جميع الأرجاء، فجذبت مسمعيه ضحكات السكارى والمساطيل، وأطربتها أنغام المزامير الراقصة وأغاني الراديو، وتصام عما عدا ذلك، حتى آمن بأن مهجره الجديد ما هو إلا موطن للسرور والرحمة، فشكر الحظ الذي ساقه من المجهول إلى القبو، واستخلصه من ماض لا يجوز أن يأسف عليه. وانغمس في الحب في الليالي المذابة في أقداح القرفة والزنجبيل الحاوية لنفثات السحر، الداعية لعوالم الخيال والذهول. وتكشفت نعمة الله عن معجزة لا نهاية لإبداعها وفنونها وأنغامها، ولا نهاية لقدرتها الخارقة في إشعال الحيوية وتفجير الطاقة، وخلق المسرات، وإشباع الكرامة، وإرضاء الغرور. انغمس في الحب حتى قمة رأسه، وتعلق بها حتى الجنون، وألهمته سعادته الإحساس بالدوام والخلود، فاقتنع بكل قواه بصدقها وإخلاصها ووفائها، وتطايرت أصداء ما قيل له عنها، فأنسيه وكأنه لم يكن. ونسي تماما القلق والتساؤل والحيرة والإساءات العابرة، فبدت جميعها كالأشباح الوهمية التي تفنى في ضوء الشمس الساطع. وقالت له ليلة في دعابة: أراك لا تتكلم إلا نادرا.
فتحير قليلا ثم قال: السعيد لا يجد ما يقوله إلا نادرا.
فابتسمت قائلة: كتب علينا ألا نسمع إلا ما يسوء!
Bog aan la aqoon
فقال ضاحكا: إني أثرثر، ولكن بغير لسان! - ألا توجد في قلبك رغبة؟
فقال بحماس: أن يدوم الحال.
فقالت بنبرة صدق: هو ما أوده أيضا. - إذن فلن يهدد دوامه شيء.
وصمتت قليلا، وهي تتفحصه ثم سألته: ألم يعد يهمك أن تعرف المجهول من حياتك؟
فهتف ضاحكا: أبدا، الحق أني أخشاه على حاضري. - وأنا أيضا مثلك.
وبعفوية تبادلا قبلة، ثم قال: ألا توجد وسيلة لحماية حبنا إذا انكشف المجهول؟ - هذا ما لا أدريه.
فتساءل بحرارة: ألا ترينه أقوى من أن يؤثر فيه شيء؟
فقالت بحماس: هو كذلك.
فاستوى حصنا منيعا من اليقين والطمأنينة خليقا بأن يصمد لأجن العواطف والترهات. وثمل بسعادته فلم ينتبه لجريان الزمن. في تلك الغفلة العذبة تلاحقت أيام الصيف لاهثة وتسلل الخريف بخطاه الخفيفة، ينفث في الجو أنفاسه الرقيقة ويخضب السماء بفرشاته البيضاء ويغزو القلوب بأنغامه الشجية. ومضت نيران العواطف المتأججة تخبو قليلا قليلا، ويحل محلها حب هادئ، موسوم بالاعتدال، متحرر من جنون الإفراط، مالك لوقت ينفقه في التعامل مع سائر أركان الحياة. وزحف ذلك التطور على الطرفين معا، الفتى والمرأة، فخلطا أحاديث الهيام بهموم الوكالة والحارة، واستأثر الجد بالحوار حينا فخلا من أية مداعبة، فانبثق التلاقي الحميم ثمرة للرغبة مرة، وثمرة للعادة أو دفعا للشكوك مرات، حتى تساءل عبد الله ما هذا الذي يحدث؟! بدا كل شيء بالقياس إليه - بخلاف المرأة - كأنما يحدث هكذا لأول مرة في تاريخ البشر. واسترق النظرات إلى المرأة الهادئة فساورته الشكوك، وازدحم أفقه بالفكر، ولمح يوما عم مخلوف زينهم وهو ماض نحو العيادة، فاستعاد تاريخه معه في لحظة. أدرك بكل سرور أن الرجل برئ من مرضه، فاندفع نحوه بتلقائية، ولكن الكهل صدمه بنظرة باردة رافضة وابتعد عنه في تجاهل تام، توقف متعثرا في ارتباكه، متذكرا ذنبه في إهماله حين مرضه، وتراجع إلى موقفه وهو يتلقى من أعين كثيرة نظرات لاذعة، شعر بأنه خسر صديقه الوحيد في الحارة. وانتبهت حواسه لما حوله من جديد، فقرأ الحسد والشماتة في أعين عبدون ورياض وحلومة. الجو مشحون بالكراهية والحسد. وتذكر تحذيرات زينهم فأوشك أن يفقد الثقة، وبدافع من تحد راح يقطع الحارة ذهابا وإيابا، ويختلف إلى المقهى بعض الوقت. وتتلقى أذناه كلمة من هنا وكلمة من هنا، لم يتصور أن تكون امرأته الشغل الشاغل للناس بهذه القوة. هل عشقتهم ونبذتهم جميعا؟! إنهم يخافونها بقدر ما يمقتونها وكأنما لا حيلة لهم قبالتها، وهي في نظرهم قوية، بل أقوى من جملة رجال أشداء، ولكن لا أهمية لقوتها إذا قيست بتمرسها بالسحر وتعاملها مع العفاريت، أو بتسلطها على ذئاب القبو الذين لا يتورعون عن القتل خدمة لها. ولا يكاد ينخدع أحد برعايتها للزاوية وشيخها أو برها ببعض الفقراء، ويرون في ذلك ستارا كاذبا تسدله على آثامها ورغبتها الشرهة في التحكم في الناس والأرزاق. وإذن فجميع مظاهر السرور في الحارة ما هي إلا قشور، أما الحقيقة فهي أنها تعيش في جو يموج بالخوف والحقد، تهدده في كل حين الذئاب والعفاريت، وتنحسر في الوقت ذاته عن ساعات لذة عابرة جادت بها المرأة المحترفة في غفلة من الزمن. أهذه هي نعمة الله حقا أم أنه خيال يشعله الحسد والحقد؟! ألم يجد حبها صادقا وعطفها شاملا وإخلاصها راسخا؟! وحتى الهدوء الذي آل إليه ألم يقع له نفس الشيء؟! هل يمكن أن يتهم هو بسبب من الاعتدال بعد الجنون بفتور الحب أو انقلاب العاطفة؟! ولكن من ناحية أخرى لم يتقرر له مصير غير مصير الآخرين؟! لم ينجو من الكأس التي تجرعها الجميع حتى الثمالة؟! وتلتقي عيناه بعينيها وهي منهمكة في العمل، فتبتسم إليه ابتسامة حلوة تمحق وساوسه فيشرق الأمل بنفسه من جديد. وتشجع في ليل ذلك اليوم الخريفي، وقال لها وهما يرشفان من قدحي القرفة والزنجبيل ويهيمان في ملكوت الأوهام الحانية: أتدرين ما يقال عنك في الحارة يا نعمة الله؟
فداعبت وجنتيه بأناملها، وقالت: لست غافلة عن شيء يهمني أبدا.
Bog aan la aqoon
فقال بامتعاض: ما أظلمهم يا نعمة الله!
فتساءلت في دعابة: أتراني ملاكا؟ - إنك عظيمة وطيبة.
فقالت بهدوء: ولكي أكون عظيمة وطيبة يجب أن أكون أحيانا حازمة وقاسية.
فتساءل، وهو يكتم وساوسه: لك تاريخ عجيب ولا شك؟ - طبعا، إني سليلة فتوات، كما كان أول زوج لي فتوة ... فنشأت قوية، ولكني كنت يوما وما زلت ذكية، فسلمت بانتهاء عصر الفتونة، غير أنه لا غنى عن القوة والذكاء. - أحقا تسيطرين على الذئاب؟ - نعم، إن لم أسيطر عليهم سيطر عليهم الآخرون، وحلت الفوضى.
فسأل بعد تردد: وهل تجيدين السحر أيضا؟
ففكرت قليلا، ثم قالت: هذا هو الاسم الذي يطلقه العجزة على الذكاء.
فقال بقلق: التعامل مع العفاريت أمر مخيف.
فتساءلت ساخرة: هل عثرت على عفريت في هذا البيت الجميل؟!
فتنفس بارتياح، وتساءل: لم لا تعيشين مثل الناس العاديين؟
فقالت بكبرياء: لأنني لست عادية!
Bog aan la aqoon
وساد الصمت حتى تجلت للسمع أصوات رقيقة للخريف في الخارج، وجعلت تلحظه باهتمام، فلما لاذ بالصمت قالت مستلهمة نظراتها النافذة في الأعماق: قل ما عندك، ما زال عندك ما يقال.
فضحك ضحكة قصيرة، وتساءل: أحقا تزوجت من كثيرين؟
فقالت باستهانة: نعم. - وهجرتهم أو أجبرتهم على الهجران؟! - نعم.
فتساءل وقلبه يخفق: ولكن لماذا؟
فقالت ببرود: لم أجد بينهم صالحا.
وراقبت وجومه قليلا، ثم همست في أذنه: أنت أول من أجد!
فرنا إليها غير مصدق، فقرأ الصدق في عينيها الجميلتين المتسلطتين، وهمس في أذنها: لا حياة لي بدونك يا نعمة الله. - ولا حياة لي بدونك.
فقال بحماس وحرارة: أخاف عليك حقدهم المنتشر.
فقالت ساخرة: لا خوف من حقد مصدره العجز. - كراهيتهم لي أيضا تلفحني في كل خطوة.
فقالت بوضوح: احذر أن تظهر خوفا أو قلقا.
Bog aan la aqoon
مضى يسترد الثقة والسكينة بين يديها، ولكن تبدد أمنه في الوكالة والحارة. استعاد حديثها كثيرا فلم يعرف الاستقرار قلبه، امرأة تثير عواطف شتى متناقضة، تلهم الحب والطمأنينة والخوف والشك، يراها في الوكالة شخصا آخر ... يرى رجلا قويا ومثالا للحزم والعنف أيضا. لا تقارب بينه وبين الأنثى التي تبهر الليالي في المسكن الناعم، وخطر له أن يسأل نفسه: «ترى هل وجد مثل هذه الحيرة في حياته المجهولة؟!» وكان يتذكر حياته الأخرى لأول مرة منذ أمد غير قصير، أكان أسعد حالا أم أتعس؟! أكان أرفع منزلة أم أدنى؟! أكان يحترق بغضب الآخرين أم نعم بسلام دائم؟! من أي جهة جاء؟ وأي جهة قصد؟! لكنه عبر ذلك بسرعة، وكاد ينسى كل شيء، لولا أن سألته في مجلس الليل: فيم تفكر يا عبد الله؟!
فأجاب بسرعة: لا شيء. - كنت في النهار كالمسافر.
وذابت إرادته تحت نظرة عينيها فاعترف لها بتساؤلاته. فنظرت إلى السقف المنقوش بزخارف متداخلة لا يعرف لها أول ولا آخر، وقالت: إنها أول إهانة أتلقاها منك.
فهتف بجزع: خواطر فارغة، ولكن لي عذر. - لا عذر لك. - تقبلي أسفي!
فتساءلت في عتاب: ماذا تريد أكثر مما أعطيتك؟ - لا شيء. - ولكنك تحوم حول تساؤلات عقيمة، وهذا هو الحمق. - نطقت بالحق. - لا تكن منافقا كالآخرين. - بل نطقت بالحق، وما أطمح إلا إلى دوام ما أنا فيه.
فقالت بحدة: ستعرف مجهول حياتك ذات يوم، وسوف تندم.
شعر بأنها امرأة محبة وغيور، ونعم ليلتها بسعادة صافية، وعندما ساد الظلام خطر بباله سؤال: «ترى ... هل الندم هو الجزاء الأوحد لمعرفة المجهول من حياته؟!» ولكنه رغم الظلام، وهبوط النوم، خاف أن تفضحه نظرتها النافذة، وانغمس في حياته بإصرار، وركز على سماع الأغاني والنكات، وتجنب ما استطاع نثار شواظ الغضب الهادر، وتمنى أن تمضي حياته هكذا أبدا. على أن الحياة مضت في طريقها على أي حال، وانتهى الخريف كما انتهى الصيف من قبل، وإن لم ينته في غفلة كاملة، ولا بنفس السرعة. ولكن الليل طال، وتلفعت بواكير الصباح بالظلمة، وزفرت الأبدان قشعريرة، وتأخر شروق الشمس حتى انقشاع الغمام، وجادت السماء بمطرة واحدة. وغير ملابسه الداخلية والخارجية، وتواصل التغيير فشمل أشياء كثيرة، تسلل التغيير في خطوات غير مسموعة، ولولا حساسيته ومخاوفه الدفينة لأفلت منه تماما، وزاد من قلقه أن التغيير ينبثق منه، من أعماقه، ففتر حماسه لمجلس الليل الذي لا يعد بجديد، وغدا الاستسلام للنوم ألذ من السهر، وتمنى لو كان له أصحاب يسامرهم في المقهى حتى منتصف الليل. وانطفأت بروق كثيرة تحت عباءة العادة الثقيلة، فاستيقظ الفكر وخبت شعلة العواطف والغرائز، وخاف أن يقف كالمتهم بين يديها، أن يتلقى من عينيها السوداوين نظرة ساخرة، ولكنه وجدها تسايره بارتياح وعفوية، وتشغل عن اللهو والزينة بالتفكير في العمل أو باستقبال بعض العملاء ثم يأويان إلى النوم آخر الليل مثقلين بالتعب، توقع منها مطاردة محرجة، فوجدها تغوص في العقل والهدوء واللامبالاة. وفجر ذلك قلقه ولم يطمئنه، ورأى فيه نذير شر، وصمم على افتعال العاطفة وبعث الرغبة المرهقة مهما كلفه ذلك من جهد جنوني، ولم يحظ ذلك من الطرف الآخر بعطف، فأعرضت عنه مرات في استياء لم تحاول إخفاءه، حتى قالت له مرة: دع الأمور تجري على سجيتها.
عند ذلك أضناه الحياء والألم، وندم على ما فرط منه من اندفاع جنوني أحمق، كأنما كانت كل ليلة هي ليلة الوداع. وبات ذلك الفتور شغله الشاغل، فنسي كل مأساة إلا مأساة الحب، هل يفقد هذه القوة العجيبة كما فقد الذاكرة؟ وهل يجري عليه ما جرى على أزواج نعمة الله السابقين؟! وجعل يقوم بعمله في الوكالة بعقل غائب ووجه نضب فيه معين السرور والمرح، ولحظ أن عبدون فرج الله يتابعه بشماتة، وأن نظرات رياض الدبش وحلومة الجحش تبرق بأضواء فرح شرير. ما أكثر الذين ينتظرون على لهف نهايته، ولكنه سيخيب الظنون ويبدع في مجرى الحوادث ما لم يبدعه أحد ممن سبقه، سيظل الفتى المرموق في هذه الحارة التي يحترف أهلها الشكوى والعويل وتردد أغانيها أنات الهجر والحرمان، وشعر بحاجته إلى صديق يشاوره، ولكن لا صديق، فمن يشاور؟! وخطر له الطبيب محسن زيان ... فذهب إلى العيادة فكان أول زائر في الصباح، قابله مخلوف زينهم كغريب، فقال له عبد الله: السماح من شيم الكرام يا عم مخلوف.
فقال له الكهل باستياء: إني أعلم متى ينسى أمثالك ومتى يندمون.
وغادره إلى حجرة الطبيب ثم عاد ليدعوه للدخول في جفاء ... نظر إليه الطبيب متفحصا ملابسه البلدية الصوفية الفاخرة وابتسم، ثم سأله: جئت من أجل ذاكرتك؟
Bog aan la aqoon
فأجابه بصوت مهموس عما جاء من أجله، وطرح الرجل عليه أسئلة بخصوص عمره وعمله والأسلوب الذي اتبعه في حياته «الزوجية»، ثم قال له: إنه الإفراط البعيد عن العقل ... والقلق النفسي ... تلزمك راحة جسدية ونفسية.
فهمس عبد الله: والدواء؟
هز رأسه نفيا، وقال: سيضرك أكثر مما يفيدك.
رجع إلى الوكالة مغتما، وهو يلعن الطبيب. وازدادت حاله سوءا، فحصر في ركن مظلم وغمغم لنفسه: «كأنه مصير لا مفر منه». وإذا بعبدون فرج الله يسأله: سلامتك، لماذا ذهبت إلى العيادة؟
فقال له بحنق: انتبه لعملك، متى كانت صحتي تهمك؟!
فقال الشاب متظاهرا بالجدية: سمعت الشيخ كافور يقول يوما: «لا يملك إنسان ما يستحق أن يحسد عليه حقا ...»
فصاح به: أنت كاذب، ولم يخل قلبك من الحسد ساعة واحدة.
وخيل إليه أن حكاية الاستشارة الطبية تلوكها ألسنة لا حصر لها، فازداد انحصارا في الغم واليأس، وغمغم لنفسه مرة أخرى: «كأنه مصير لا مفر منه». وفي هذه الدوامة المظلمة المنذرة بسوء المصير انساق بقوة إلى التفكير في المجهول من حياته، فقد يجد فيه المأوى إذا افتقد مأواه، وقد يجد فيه العزاء إذا عز العزاء. هذه الحياة المتاحة تتسرب من يديه كالماء، لم تعد حقيقة ثابتة، ولكنها حلم تحدق به يقظة الصباح القريب، وسوف يجد نفسه وحيدا منبوذا ضائعا إن لم يهتد إلى حقيقته الغائبة ... إنه صاحب حياة ماضية، تمثلت في أهل وعلاقات وأناس، تجسدت في حي من الأحياء القريبة أو البعيدة، وثمة عمل ارتزق منه، وربما زوجة وأبناء، وثمة هدف دعاه إلى المجيء إلى هذا الحي، وحدث ما دفع به إلى القبو حيث وقع له ما وقع ففقد كل شيء. ترى ما السبيل إلى الكشف عن تلك الحقائق الغارقة في الظلام؟! وقد سمع ما يقال عن نشر صور المفقودين في الصحف فلم لم يجد أحد في البحث عنه؟ وهل ينشر هو صورته باعتباره فاقد الذاكرة؟! تردد طويلا أمام هذه الفكرة لخطورة عواقبها ... أجل قد دار الحديث يوما في المقهى عن هارب تبحث عنه الدولة لتشنقه، كما سمع آخر يقرأ إعلانا لأسرة موجها لابن هارب تقول له: «يا فلان ... عد إلى أهلك، جميع طلباتك مجابة!» فإلى أي الفرعين ينتمي؟ وهل إذا نشر صورته انقضت عليه الشرطة أو تحققت أمنياته جميعا؟ ماذا يكمن وراء الباب المغلق؟! تراجع عن الفكرة وهو يزداد مرارة، وشعر - كما لم يشعر من قبل - بحاجته إلى الصديق، أو في الأقل المشير ... لم يفكر في نعمة الله التي مضت توغل في الغربة والبعد، حتى كاد ينكر المسكن تواجدهما معا تحت سقفه ... ومضى إلى العيادة، ولما رآه الطبيب محسن زيان تساءل باسما: من أجل الحب أيضا؟
فأجاب بضيق وهو يشير إلى رأسه: من أجل الذاكرة.
ففكر الرجل قليلا ثم قال: لو كنت تعيش في بيئتك القديمة بين أهلك لساعدك ذلك على الشفاء، ولوجدت في معلم ما أو شخص ما يوقظك من نومتك الطويلة، ولكنك مارست حياة تشجع على النسيان وتخاف اليقظة.
Bog aan la aqoon
فسأله يائسا: والعمل؟ - لعل إصابتك عضوية، ولعلها أكثر مما قدرت، وفي هذه الحال يستحسن أن تستشير أخصائيا، وربما أحالك إلى طبيب نفسي.
فقال بضيق: إنه مشوار طويل. - ويحتاج إلى إرادتك في جميع الأحوال، وواضح أن صحتك ليست على ما يرام، وسأكتب لك بعض المقويات كخطوة أولى.
ولبث في العيادة حتى غادرها الطبيب للغداء، فوقف قبالة مخلوف زينهم قائلا: إني مصمم على نيل عفوك.
فقال الرجل ممتعضا: لا ثقة لي فيك ولا في غيرك. - لا أحد يستحق الثقة كما قلت، ولكن كثيرين يستحقون العطف. - أنكرتني والشمس تشرق ورجعت إلي وهي تؤذن بالغروب. - اغفر لي ذنبي ومد إلي يدك.
فهبطت حدته درجات، وهو يسأله: ماذا تريد؟
ذهبا معا إلى المقهى، فأرسلا الصبي لإحضار غداء من شوربة العدس ولحمة الرأس، وجعل يحكي له ما استجد في حياته من شقاء، وختم حكايته بنصيحة الطبيب محسن زيان، وكان يحدجه طيلة الوقت بنظرة كأنما تقول له: «أرأيت عاقبة إهمالك لنصيحتي»، ثم قال: نهاية ابني الشهيد معقولة أكثر من نهاية أمثالك، ولكن لا فائدة من الرأي والمشورة، الجميع مصممون على تكرار الأخطاء حتى ولو لم يداخلهم أدنى شك في النهاية يستوي في ذلك من فقد ذاكرته ومن لم يفقدها، والآن خبرني علام عولت؟!
فقال عبد الله بضيق: طريق الطب طويل وباهظ التكاليف. - وغير مجد في هذه الحال بالذات. - والعمل يا عم مخلوف؟ هل أزور الشيخ جابر عبد المعين إمام الزاوية؟!
فقال بغضب: لا هو إمام ولا الزاوية زاوية، إنه رجل جاهل عينته نعمة الله لخداع السذج، وهي التي شيدت الزاوية من مال حرام للخداع أيضا، إنها لعبة مكشوفة ولن تجد عنده رأيا ولا شفاء، عدا بعض السور الصغيرة التي كان يرتلها في المقابر كلما جاء موسم دون أن يفقه لها معنى.
فقال عبد الله بقلق: ولكني أخشى عاقبة الإعلان عن نفسي في الصحف. - معك حق، فقد تكون أخطر مما تصورنا، ولكن عندنا الشيخ كافور، فهو من رجال الله. - أهو يستعين بالسحر والعفاريت؟
فقال مخلوف زينهم بازدراء: إني أتحدث عن كافور لا عن نعمة الله الفنجري.
Bog aan la aqoon
وكان كافور يقيم في بدروم البيت الذي يقيم فيه رياض الدبش الكواء البلدي، فبدا جو حجرته في لون الغروب أو الفجر، وعبق بشذا بخور طيب، وجلس الرجل في الصدر على أريكة قصيرة الأرجل على حين غطى سطح الحجرة بحصيرة مطموسة اللون، تربع مخلوف وعبد الله على الحصيرة أمام الأريكة بلا استئذان ولا تحية، وتفرس عبد الله في وجه الرجل فلم يميز ملمحا من ملامحه ولا حتى لون وجهه، وقال مخلوف: هذا ابن ضال من أبنائنا يدعى عبد الله.
فسأل صوت عميق هادئ رغم خفوته: ما اسم أمه؟ - لا يعرف أما ولا أبا.
فمد الشيخ يده، فهمس مخلوف في أذن عبد الله: ضع يدك في يده.
فصدع بالأمر وهو يتلقى قشعريرة هيبة أو خوف، وسرعان ما سرت من راحة الشيخ إليه برودة لطيفة أنعشته فتركز في أذنيه، ومضت دقائق نسي فيها كل شيء حتى ما جاء من أجله ، كأنما امتص الرجل وعيه كله، ثم تردد الصوت العميق الخافت، قائلا: ستعرف ما تسأل عنه في حينه بالتمام والكمال.
وسحب يده قائلا: اذهبا بسلام.
وغادرا المكان وعبد الله يراوح بين الأمل والخيبة، قال لصاحبه في الخارج: ظننت أنني سأسمع أكثر مما سمعت.
فقال مخلوف زينهم: كلامه بالقطارة، ثم إنك غير مؤهل لفهمه.
ولما رجع إلى الوكالة وجد نعمة الله تجالس شابا لم يره من قبل ... شاب في عز أبهة الشباب؛ جميل الوجه، رشيق القامة ... فهم من مجرى الحديث أن الشاب يقترح فتح فرع للخردة في الطرف الآخر من الحارة، وأنها تقترح عليه أن يكونا شريكين، ولفت انتباهه الحيوية التي تألقت في نظرات المرأة وهي ترنو إلى الشاب، مما ذكره بالماضي السعيد الذي ذهب ... وحانت منه التفاتة إلى عبدون فرج الله، فقرأ في عينيه الحادتين فرحة شماتة صارخة، فاشتعل قلبه بنار الغيرة. ومن موقفه الذليل مد بصره إلى رياض الدبش وحلومة الجحش، فطالع السخرية مجسدة فلم يشك في وساوسه، واقترحت عليه شياطينه حلا داميا، ولكن ضعفه المتصاعد أخجله، ولم يتبادلا في نهار العمل كلمة، ولما آويا إلى مسكنهما دعاها إلى المجلس، وأعد بنفسه القرفة والزنجبيل والمخدر ... توقع أن تتعلل بعذر ما، ولكنها استجابت له في برود، وفيما يشبه التحدي ... اضطرب لذلك أكثر مما سر، وزحف عليه خوف مجهول ... غاب عن الحاضر المتاح تماما، واكتشف أن ضعفه بات عجزا كاملا ... سحب نفسه إلى طرف كنبة واسترق إليها نظرة منكسرة، وتمتم: إنه الحزن ... وأنت السبب.
فقالت ببرود: إني بريئة والحزن بريء!
فقال بصوت متهدج: حديثك مع الشاب قتلني! - ما مر يوم إلا استقبلت فيه أشكالا وألوانا من الشباب!
Bog aan la aqoon
أدهشه صدق قولها، وقال معتذرا: لعلي مريض.
فقالت بثقة: الحق أنك انتهيت!
سرت الحقيقة في ذاته كالسم، فلم يشك في أنه انتهى، وأن حياته في جوارها توشك أن تنتهي أيضا، ولكن كيف يمكن أن تتنكر له بعد ذاك العهد الطويل من المعاشرة الحميمة والعواطف المتأججة والحب العميق المتبادل؟! ماذا تقول وماذا تفعل؟ وألا يخونها القول أو الفعل! أي كلمات لم تسمع من قبل سيشيعه بها هذا الفم المليء بالرغبات والحزم؟! وتسلل إليها بنظرة خجلى مشفقة، فبوغت بالتغير كأنه زلزال منقض بلا نذير، ها هو وجه جديد يطالعه بلا تردد ولا حرج ولا مبالاة ... يتجسد فيه الرفض والإنكار والقسوة، كأنما لا ماضي له ولا ذكريات، ولا وجدان ولا ضمير، ولا ذوق ولا حياء، ذهل وفزع فتمتم: شد ما تغيرت يا نعمة الله!
فقالت ببرود: لقد تغيرت أكثر يا عبد الله.
فتساءل بأسى: أينتهي كل شيء كأن لم يكن؟
فقالت بضجر: أنت الذي نهيته! - لعلي مريض. - ولا أمل في الشفاء.
فهتف حانقا: إنك أقسى مما يظن أعدى أعدائك.
فقالت ساخرة: بل إنكم لا تفكرون إلا في أنفسكم. - أليس للحب حق؟
فقالت بنبرة ختامية: إذا مات فلا حق له.
ونهضت متبرمة فمضت إلى الخلوة وأغلقت الباب بقوة ... لبث وحيدا مع برودة آخر الليل واليأس، احتدمت الخواطر برأسه كفقاعات الماء المغلي، فازداد يأسا وتسليما بالواقع، وبدت له أحلام سعادته كذبة فاجرة قاسية. ومن شدة العناء والإرهاق هرب في النوم ساعة واحدة، وفي الصباح الباكر هجر البيت متلفعا في عباءته السوداء، حاملا بيسراه حقيبة متوسطة الحجم، كانت الشمس ترسل أول طلقة من أشعتها الدافئة، والحركة تدب في الجنبات ... فتحت نوافذ وأبواب وتتابعت أفواج الخلق، سار بخطوات وئيدة ثقيلة تغشاه مخايل الرحيل ... رآه أول من رآه عبدون فرج الله، فرماه بنظرة دهشة خلت من الحقد لأول مرة، وسأله: أأنت راحل؟
Bog aan la aqoon
فأجاب باقتضاب: أستودعك الله.
وترامت عبارته إلى أقرب الجيران، فقال رياض الدبش دون مبالاة: مع السلامة!
وتمتم حلومة الجحش: يا خسارة!
وأثار رحيله اهتماما مؤقتا شاملا ... ورغم إرهاقه، كان يرى ما تقع عليه عيناه بوضوح شديد، فكأنه يراه لأول مرة، فمازج نفوره حنين غامض، واعترضه عم مخلوف زينهم أمام الزاوية، فتوقف دون أن يبتسم ... سأله الكهل برقة: أأنت ذاهب حقا؟
فحنى رأسه بالإيجاب فسأله: إلى أين؟
فأجاب دون مبالاة: لا علم لي بشيء. - بوسعك أن تبقى حتى تسترد ذاكرتك.
فقال بمرارة : لا أستطيع، وقلبي يحدثني بأنني لن أعرف شيئا ما دمت هنا.
فربت الرجل منكبه بحنان، وقال مسلما: في رعاية الله.
وواصل المسير تتابعه الأعين من النوافذ والدكاكين والطريق ... شيعته نظرات متضاربة من الحياد والشماتة، العطف والكراهية، السرور والحزن ... واصل المسير حتى غيبه المنعطف الأخير عن الحارة إلى الأبد.
من فضلك وإحسانك
Bog aan la aqoon
اكتشف الحب، أو اكتشفه الحب، أول عهده بالمرحلة الثانوية. في الخامسة عشرة كان، وفي الرابعة عشرة كانت، اتفقا على خطوبة غير رسمية يحتفظان بها سرا بينهما حتى يبلغ المرحلة الجامعية، ثم تعلن وتمضي الأمور في طريقها المعهود. وهو وسيم رشيق ذو سمرة صافية، وهي في نفس المستوى في أعين الناس، ولكن جمالها في قلبه يتلألأ بأضواء مسحورة، ومع أن الأسرتين تقيمان في عمارة واحدة بشارع مريوط بمنشية البكري، إلا أنهما لم يتعارفا قط، ولا تبادلا تحية عابرة، فاستمد معلوماته القليلة عن أسرة حبيبته «جميلة» من حديثها. عرف أن أباها يدعى «عبد الرحيم يسري»، من ذوي المعاشات، مترجم سابق بالخارجية، تركز اهتمامه أخيرا في العبادة ولعب الطاولة. أما أمها «شامة لطف الله» فهي مفتشة بالتربية والتعليم، معروفة بالحزم بقدر ما هي مغرمة بالتلفزيون. ولها أيضا إخوة ثلاثة؛ أكبرهم ضابط جيش استشهد في حرب 1948، ومهندس واقتصادي موظفان في شركتين. ولم تكن جميلة متفوقة في دراستها، ولكنه كان هو أيضا يماثلها في ذلك. وكان مغرما بكرة القدم، ويلعبها بمهارة لا بأس بها، ولا يبدي أي اهتمام بالحياة العامة، مثله في ذلك مثل أبيه وأمه، بل مثل شقيقتيه المهاجرتين مع زوجيهما بليبيا والبحرين. لم يرتفع في ذلك المسكن صوت لتأييد رأي أو معارضة رأي أو إعلان موقف ولا حتى كمتفرجين، فلا مشاركة وجدانية، وكأنما ينتمون إلى كوكب آخر. تدور الأحاديث عادة عن المدرسة، المسلسلات التلفزيونية، الكرة، الطعام، أو شركة الأجهزة المنزلية حيث يعمل الأب «إبراهيم الدارجي» مراجعا للحسابات، والأم «بيسة فضل الله» في قسم الإعلانات. رأى «عبد الفتاح» جميلة أول ما رآها في شارع مريوط الذي يعترض طرفه الشرقي الشارع العمومي المتجه إلى «مصر الجديدة»، رآها بعد ذلك في مدخل العمارة، شملهما من بادئ الأمر مناخ طيب يجود بالأنس والاستلطاف، وتبادلا الابتسام والتحية.
وأعقب ذلك اللقاء في الشارع العمومي بعيدا عن الأنظار، انفجرت في قلبه حياة جديدة بقوة ملهمة ... فاعترف، وتم الاتفاق على المستقبل القريب والبعيد، وحملها أمانة كبيرة، وهو يقول لها: لا حياة لي بدونك.
ولأول مرة يجاوز اهتماماته الصغيرة إلى حياة جديدة واعدة بثراء جديد، ويحطم حاجز الانحصار الذاتي واثبا للغير. عاش عامين سعيدا، عاش في سعادة حقيقية، ولكنها انسابت بخفة بلا تركيز أو وعي منه، فلم يعرفها - مثل كثيرين - إلا كذكرى؛ ذلك أن الحب تعرض للاغتيال ... وهو نفسه قال: «ليس لي قصة حب، ولكن قصتي تبدأ بعد وفاة الحب.» تلقى منها رسالة بيد زميلة عالمة بسرهما تنبئه فيها بأنها خطبت، وأنها عجزت عن إنقاذ حبها، وأنها حزينة أسيفة ولكن لا مناص من قطع العلاقة ... قرأ وأعاد القراءة. هل يمكن؟ بلا تمهيد؟ وهذا الأسلوب؟ قال للرسولة، وتدعى «بثينة»، أو قال على مسمع منها: أي جفاء ... إنها برقية لا رسالة!
فقالت الفتاة معتذرة عن صديقتها: عواطفها أكبر من ذلك، لكنها لا تحسن الكتابة!
وأخبرته أنها تألمت، وأنها توسلت إلى أمها أن تتركها وشأنها، أن تتركها لتنتظره، وأنها راضية بحظها، ولكنها لاقت موقفا مصمما مسلحا بالحجج الواقعية الصارمة، من تكاليف الزواج الباهظة، وأزمة المساكن، وعجز المرتبات، وأنه لا أمل لشاب في الحياة الزوجية إن لم يكن غنيا أو مهاجرا، وأن الخطيب الجديد «حامد بك مظهر» هو مناسب جدا في الظروف الراهنة ... أجل إنه في الأربعين من عمره، ولكنه خبير ذو مرتب ضخم، إلى جانب نشاط خاص يدر عليه دخلا محترما، فهو قادر وأهل للحياة الزوجية، وفي كنفه ستحظى بالحياة الكريمة والسعادة الحقيقية، لا السعادة الوهمية التي سرعان ما تتلاشى في خلاء التقشف والضنك، وحذرتها من أن تظن بها الطمع، أو تخلط بينها وبين النموذج التليفزيوني للمرأة المادية التي ترفع المادة فوق العاطفة، المسألة بكل بساطة أن الزواج ضروري لها - لجميلة - وهو غير ميسر إلا مع رجل مثل حامد مظهر، ومن حسن الحظ أنه لا تشوبه شبهة من شبهات الانفتاح، فهو قادر وشريف، فلا مفر من التسامح في عمره، وهو على أي حال لم يجاوز السن المناسبة للزواج، ومضت بثينة تقول إن جميلة لم تستطع أن تقارع الحجة بالحجة، ولعلها لم تتصور أن الأمور معقدة إلى ذلك الحد، فانطلقت تخاطب قلب أمها، وقلب أبيها أيضا، ولكن الأب قال لها: «مسايرتك تعني التضحية بك، أقسم لك بصلاتي أني صادق، ليس ما تشعرين به هو الحب، في مثل سنك لا تعرف القلوب الحب الحقيقي، ستعرفين ذلك بنفسك.» وعند ذاك قالت له بثينة: لعله مما ساعدها على الإذعان أنها ستنقطع عن الدراسة، فهو يريدها ست بيت، وأنت تعلم أنها لا تحب المدرسة!
تابعها عبد الفتاح بذهول، ثم ماج قلبه بالغضب والعذاب، وأصر على مقابلتها، فكلف بثينة بإتمام ذلك، وجاءته في أصيل اليوم التالي والخريف يقطر مناخا معتدلا ... جاءت منكسرة الطرف، تتعثر في الخجل، قابضة بأصابع متشنجة على منديلها الأبيض الصغير، حيته بغير ابتسام هامسة: إني آسفة.
حثه منظرها على التمسك بها باستماتة، غير أن نبرة صوته نمت عن الغيظ وهو يقول محتجا: تقتلينني ثم تأسفين! ماذا أصنع بأسفك؟
فقالت له بحرارة: حزني أشد مما تتصور.
فقال ساخرا: صدقت فيما يتعلق بتصوري. - لا تظلمني. - أعلني الرفض وأصري عليه.
صمتت في حيرة جلية، فطفر الغيظ إلى قسمات وجهه وتساءل: ماذا قلت؟
Bog aan la aqoon
فقالت، وهي تتنهد: لن نستطيع الزواج كما نتمنى.
فقال مستسلما لغيظه: أعرف ما قيل وما يقال، ولكن الحب أقوى من ذلك.
فقالت وعيناها تدمعان: الواقع أقوى من أمانينا. - المسألة أن حبك ليس بالقوة التي ظننتها. - لا تظلمني.
شعر بأنها لا تريد أن تعدل عن قرارها، إنها لم تعد تحبه، إنها لم تحبه قط.
هتف غاضبا: أكذوبة!
تمتمت بانزعاج: ماذا؟ - خاب ظني فيك.
قالت بتوسل: لا تزد في عذابي.
لوح بيده غاضبا، فأصابت أنامله جبينها، فتراجعت مذعورة. أفاق من غضبه. وثب نحوها قائلا: معذرة، لم أقصد. - كفى! - أكرر الأسف .
فقالت بصوت هادئ: يجب أن أذهب.
فتحول عنها دون تحية. توغل في الطريق صوب الشمال والظلام يهبط ودفقات من الهواء الرطب تهب. عجب من فراغ الوجود من كل شيء إلا نبض الألم في أعماقه، ألم وفراغ، فراغ وألم، إن لم يكن الحب مرضا فلا بد له أن يوجد له دواء. ولكن أين وكيف ومتى؟ وفكر في أنه أخطأ في تركها تفلت من يده، فاستدار وراح يعدو ليلحق بها، ولكنه لم يعثر لها على أثر. ورجع الفراغ ورجع الألم، وحلم أنه يستطيع أن يقتل أمها، فقرر أن يقطع رأسها تحت المقصلة، استحضر بخياله صورة المقصلة كما رآها في فصل الثورة الفرنسية. يا للداهية! ما هذا الفراغ وما هذا الألم؟ ولأول مرة يعاني الوحدة وهو وسط أصحابه وهم يقضون الفترة الأخيرة من العطلة الصيفية، رغم أنهم جميعا على شاكلته، ممن لا يكترثون للحياة العامة وتستغرقهم الشئون الخاصة. وبدافع من كبرياء لم يبح لأحد منهم بسره. أما أكثر اليوم فخلا فيه إلى نفسه في حجرته الخاصة - للنوم والدراسة معا - غارقا في التأمل، ولم يخرج من عزلته في سهرة التلفزيون حيث تجتمع الأسرة وكأنها غير مجتمعة. غرق في التأمل حتى وجد نفسه، ولأول مرة، يسأل عن معنى حياته أو معنى الحياة. ومضت المعاني تتلاشى وتتبخر في الهواء، وقلب عينيه بين جدران الحجرة وسقفها وكأنما يجول في الكون، ثم سأل: هل يوجد في قلب هذا الكون هدف أو معنى؟!
Bog aan la aqoon