قواعد العلل وقرائن الترجيح
قواعد العلل وقرائن الترجيح
Daabacaha
دار المحدث للنشر والتوزيع
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٢٥ هـ
Noocyada
قواعد العلل
وقرائن الترجيح
الدكتور: عادل عبد الشكور الزرقي
Bog aan la aqoon
(مقدمة وتعريف)
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِالله من شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محَمَّدًَا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ.
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْي هَدْيُ محَمَّدٍ ﷺ، وَشرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
وَبَعْدُ.
فَإنَّهُ لمَّا كان عِلْمُ الحَدِيثِ من أَجَلِّ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ وَأَفْضَلِهَا. وَكان عِلْمُ عِلَلِ الأَحَادِيثِ من أَصْعَبِ فُرُوعِ هذا العِلْمِ التي تَفَرَّعَتْ مِنْهُ.
كان مِنَ الَّلازِمِ على أَهْلِ العِلْمِ الاهتِمَامُ بهَذَا الأَمْرِ، خِدْمَةً لدِينِ الله وَسُنَّةِ نَبِّيهِ ﷺ.
وفي هذا الكتاب (١) جمعت قواعد هذا العلم العملية، وقرائنه الترجيحية، من كلام أهله السابقين، مما شرد وندر في كتب العلل والتواريخ
_________
(١) أصل هذا الكتاب جزء من رسالة "دكتوراه" في الحديث وعلومه، مقدمة إلى كلية أصول الدين، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وقد أجيزت بمرتبة الشرف الأولى، بفضل الله (الكاتب /د. عادل الزرقي).
1 / 5
والسؤالات والمسائل والمصطلح وغيرها.
وسلكت فيه مسلك التوسع في جمع أصوله العملية لا النظرية غالبًا، مع الاختصار في التقرير والتمثيل.
وجعلت لكل موضوع مبحثًا مستقلًا، تيسيرًا للفهم، وترتيبًا للذهن.
معتمدًا على العلماء السابقين، مراعيًا في ذلك اصطلاحات علمائه اللاحقين وفهمهم.
والمرجو من كل قارئ يجد فيه نقصًا أو خلالًا أن يسدِّده بدعوة صادقة، وأن يبعث إليَّ بما تجود به نفسه من فائدة على عنوان دار المحدِّث، لتداركه في زمن لاحق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
1 / 6
١- تَعْرِيفُ العِلَّةِ:
العِلَّةُ في اللُّغَةِ: - قال في القَامُوسِ: «والعِلَّةُ - بالكَسْرِ -: المَرَضُ. عَلَّ يَعِلُّ، واعتلَّ، وأعلَّه الله تعالى فهو مُعَلٌّ، وعَلِيل، ولا تقل: مَعْلُول ...» (١) . وقال النَّوويُّ عن "مَعْلُول": «هو لحن»، وتبعه السّيوطي (٢) . بينما عبَّر ابن الصلاح بقوله: «والمَعْلُول مرذول عند أهل العربية واللُّغة»، وعلق العراقي على ذلك بقوله: «واعتُرِض عليه بأنه قد حكاه جماعة من أهل اللُّغة، منهم قُطْرُب (٣)، بينما حكاه اللَّبْلي (٤) والجوهري (٥) في الصِّحاح والمُطَرِّزي (٦)
في المُغْرِب»، ثم قال العراقيُّ: «والجواب عن
_________
(١) القاموس: مادة «علل» .
(٢) تدريب الراوي (١/٢٩٤) .
(٣) هو أبو علي محمد بن المستنير البصري، أحد العلماء بالنحو واللغة، توفي سنة ٢٠٦هـ - تاريخ بغداد (٣/٢٩٨) .
(٤) هو أبو العباس أحمد بن يوسف الفهري، ولد بلَبْلَة غرب الأندلس عام ٦٢٣هـ، وتوفي سنة ٦٩١هـ، له تحفة المجد الصريح في شرح كتاب الفصيح - مقدمة فهرس اللبلي (ص٥) وما بعدها.
(٥) هو أبو نصر إسماعيل بن حمَّاد الجوهري الفارابي، من بلاد الترك، إمام في علم اللغة، وخطه يضرب به المثل في الحسن، توفي سنة ٣٩٨ هـ - إنباه الرُّوَاة للقفطي (١/٢٢٩) .
(٦) هو ناصر بن عبد السَّيِّد الخوارزمي الحنفي، شيخ المعتزلة، له شرح المقامات، توفي سنة ٦١٠هـ - السير (٢٢/٢٨) ..
1 / 7
المصنِّف - أي ابن الصَّلاح - أنه لا شكَّ في أنَّه ضعيف وإنْ حكاه بعض من صنَّف في الأفعال كابن القُوطيَّة (١) . وقد أنكره غير واحد من أهل اللُّغة كابن سيده (٢) والحَريري (٣) وغيرهما» (٤) . وفيما قاله نظر، ولعلَّ قول الزَّركشي أَقرب حيث قال: «والصَّواب أنه يجوز أن يقال: علَّه، فهو مَعْلُول، من العِلَّة والاعتلال، إلا أنه قليل ... ويشهد لهذه العِلَّة قولهم: عليل كما يقولون قتيل وجريح ... وظهر بما ذكرناه أن قول المصنِّف: "مرذول"، أجود من قول النَّووي في اختصاره: "لحن"، لأن اللَّحن ساقط غير معتبر البتة، بخلاف المرذول. وأما قول المحدِّثين: "علَّله فلان بكذا"، فهو غير موجود في اللغة، وإنَّما هو مشهور عندَهم بمعنى ألهاه بالشيء وشغله، من تعليل الصَّبي بالطَّعام. لكنَّ استعمال المحدِّثين (٥) له في هذا المعنى على سبيل الاستعارة» (٦) .
وأقدم من وجدته استعمل كلمة معلول بمعنى مريض - ممن يحتجُّ بكلامه في اللُّغة - مع العلم والإمامة في الدِّين - الإمامُ الشَّافعي، حيث قال في كتاب الرَّهن من كتابه "الأمِّ": «ومن يجوز ارتهانه ثلاث أصناف: - صحيح وآخر مَعْلُول وآخر فاسد ...»، إلى أنْ قال: «فهذا الرَّهن
_________
(١) هو أبو بكر محمد بن عمر الأندلسي النحوي، كَانَ رأسًا في اللغة والنحو، ذا عبادة ونسك، توفي سنة ٣٧٦هـ - السير (١٦/٢١٩) .
(٢) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل المرسي الضرير، عالم باللغة، توفي سنة ٤٥٨هـ - السير (١٨/١٤٤) .
(٣) هو أبو محمد القاسم بن علي البصري، صاحب المقامات، توفي سنة ٥١٦هـ - السير (١٩/٤٦٠) .
(٤) التقييد (ص١١٦) .
(٥) لم أجد عمَّن سلف من المحدثين من استعملها، فالمراد من تأخر منهم، فلا ينسب إليهم هذا الاستعمال بإطلاق.
(٦) النكت للزركشي (٢/٢٠٥-٢٠٦) .
1 / 8
الصَّحيح الذي لا علة فيه، وأما المَعْلُول ...» (١) .
فهذا النَّصُّ يردُّ على كلِّ من أنكره لغةً، فاللفظة قليلة الاستعمال، صحيحة لغة، لا مرذولة.
وأقدم من وجدته استعمل لفظة: "معلّ" هو العقيليُّ (٢)، وهي صحيحة.
أما لفظة: «مَعْلُول» فقليلة عند السلف من المحدثين (٣)، فيما يظهر.
العِلَّة في الاصطلاح:
عرَّف العراقي (٤) العِلَّة في منظومته الألفية بقوله: -
وهي عبارة عن أسباب طرت ... فيها غموض وخفاء أثَّرت (٥) .
فيؤخذ مما قال أن العِلَّةَ: سببٌ خفيٌ وغامضٌ مؤثِّرٌ في الحديث الذي
_________
(١) الأم (٣/١٨٤)، وقد قال عبد الملك بن هشام النحوي وأبو عبيد القاسم: «الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة» - مناقب الشافعي لابن أَبي حاتم (ص١٣٦) . ولم أجد شاهدًا - بعد البحث - من الشعر القديم المحتج به على المراد هنا.
(٢) الضعفاء (٣/٢٨٧) .
(٣) من أقدم من ذكر هذه اللفظة:
١. البخاري فيما نقله عنه الترمذي في علله الكبير (١/٥٥١-ترتيبه)، والخليلي في الإرشاد (٣/٩٦١) .
٢. أَبُو داود في رسالته (ص٣٤) .
٣. الترمذي في جامعه في موضعين (٩٧و١١١٩)، ولم أجده عن غيرهم من العلماء ممن هو في طبقتهم المتقدمة.
(٤) وهو مقتضى كلام الحاكم وابن الصلاح وغيرهما، كما سيأتي.
(٥) فتح المغيث (١/٢٥٨) .
1 / 9
ظاهره السَّلامة. فللعلة ركنان هما: -
١. الخفاء والغموض.
٢. القدح في الحديث، سندًا أو متنًا.
ويلزم عليه أنه إن تخلَّف أحدهما فلا يسمى الحديث مُعَلًا اصطلاحًا.
وهذا التَّعريف الذي استقرَّ مؤخرًا - وهو ما سار عليه غالب العلماء.
فهو يخصِّص العلَّة ويحصرها بوصفين، أما السابقون من المحدِّثين فإن العِلَّة عندهم أعمُّ مما اشتهر بعد، فهي: «كلُّ ما أثَّر - ولو لم يقدح - في الحديث سندًا أو متنًا، لفظًا أو معنىً، ظهر أم خفي» .
حيث نجد في كتب الحديث والعلل الكثيرَ من تعليلِ أحاديثٍ بغيرِ ما تقدَّم في التعريف الأول (١)، فيعللون بعلل غير خفية بل في غاية الوضوح كالرَّاوي المتروك (٢)، ويعللون بغيْر قادحٍ كتغيير الصَّحابي.
ويشهد لذلك تسميةُ التِّرمذيِّ المنسوخَ معلولًا لعدم العمل به (٣)، لا لعدم صحته، لاشتمال الصَّحيح على أحاديث منسوخة (٤) .
_________
(١) علوم الحديث لابن الصلاح (١٢٢-التقييد) والنكت لابن حجر (٢/٧٧١) وتوضيح الأفكار (٢/٢٧) .
(٢) قال ابن أَبي حاتم: «سألت أَبي عن حديث رَوَاهُ عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه أن عليًا انكسرت إحدى زنديه فأمره النبي ﷺ أن يمسح على الجبائر فقال أَبي: هذا حديث باطل، لا أصل له، وعمرو بن خالد: متروك الحديث» - العلل (١/٤٦) . وسئل الدارقطني عن حديث آخر من حديث ابن عباس عن أَبي بكر أن النبي ﷺ قال: «العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه» . فقال: يرويه الوليد بن سلمة الأردني، وهو متروك الحديث عن عمر بن قيس سندل، وهو ضعيف أيضًا ويضطرب في إسناده ...» - العلل للدارقطني (١/٢١٣) .
(٣) فتح المغيث (١/٢٧٢) .
(٤) النكت للزركشي (٢/٢١٥) .
1 / 10
ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه قوله: «حديث ابن مسعود في التطبيق منسوخ» (١) .
ونصَّ ابن الصلاح على ما سبق، فقال: «إنَّ بعضهم - أي المحدِّثين - أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح» (٢) .
ولعلَّ تخصيص المتأخِّرين هذا النوع باسم العلل لأن أكثر أحاديث كتب العلل من هذا النَّوع، كما هو ظاهر وصرَّح به السخاوي (٣)، أو لأنه أدقُّها وأغمضُها، وقد اعتَرَض بعضُهم بشدة على هذا التخصيص، ولكلٍ وجهٍ ما يؤيده، ولعل ما ذهب إليه المتأخرون نوع من الحصر والتقييد، لا تغيير في المنهج بالمعنى العام، وإلا فما سلف من صنيعهم أولى، وصنيع الخلف أسهل للتعلم والفهم، والخلاف في النهاية غير مؤثر إذا سلم النهج العام.
وعلى ما سبق، فالحديث المعلُّ اصطلاحًا متأخرًا هو: "الحديث الذي ظاهره السَّلامة، اطُّلع على قادح في صحته سندًا أو متنًا".
فلا يكون الحديث معلولًا - اصطلاحًا - إلا إذا توفر فيه شرطان هما: -
١. السَّلامة في الظاهر بتحقق شروط صحة الحديث - سندًا (٤) - أولًا.
_________
(١) العلل (١/٩١) .
(٢) مقدمة ابن الصلاح (ص-التقييد) .
(٣) فتح المغيث (١/٢٧١) .
(٤) عبَّر العراقي عن ذلك بقوله: «ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر» - التقييد (ص١١٦)، ولذا لا يشتغل بتعليل رواية الضعفاء كما قال أَبُو حاتم لابنه: «ليس عبد الله في هذا الوزن أن يشتغل بخطئه، عامة حديثه على هذا» - العلل (٢/٢٦٦) .
1 / 11
٢. الوقوف على قادح في أحد هذه الشروط - غالبًا - ثانيًا.
قال الحاكم: «وإنَّما يعلَّل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإنَّ حديث المجروح ساقط واهٍ (١)، وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثِّقات، أنْ يحدِّثوا بحديثٍ له علة فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديث معلولًا ...» (٢) .
ويظهر أن الحاكم أول من خصَّص هذا المصطلح، وتبعه من بعده دون أن يستدرك عليه، بل إنَّ ابن حجر قال بعد كلام لابن الصلاح: «وفي هذا ردٌّ على من زعم أن المعلول يشمل كلَّ مردود» (٣)، وقال أيضًا: «المعلول ما علته قادحة خفية» (٤)، وعلى هذا التعريف الأخير سار الرُّكبان من أهل الحديث.
تنبيه: لا يلزم من الإشارة إلى وجود علة في حديث أن يكون معلًا مطلقًا.
قال العلائي: «وإنَّما يقوى القول بالتَّعليل عند عدم المعارض، وحيث يجزم المعلِّلُ بتقديم التَّعليل، أو أنَّه أظهر، فأمَّا إذا اقتصر على الإشارة إلى العِلَّة فقط، بأن يقول - مثلًا - في الموصول: رواه فلان مرسلًا، أو نحو ذلك، ولا يبيِّن أي الرِّوايتين أرجح، فهذا موجود في كلامهم، ولا يلزم منه رجحان الإرسال على الموصول» (٥)، وبنحوه لابن حجر (٦) أيضًا.
* * *
_________
(١) يعرف ضعف المحدِّث - غالبًا - بمخالفة بقية الثقات، كما قال الدارقطني عن راوٍ: «يحدِّث بأحاديث يسندها، ويوقفها غيْره» - سؤالات الحاكم للدارقطني. (٣٣٤) .
(٢) معرفة علوم الحديث (ص١١٢-١١٣) .
(٣) النكت لابن حجر (٢/٧٠٩) .
(٤) النكت لابن حجر (٢/٧٧١) .
(٥) النكت لابن حجر (٢/٧٧٧) .
(٦) المصدر السابق.
1 / 12
٢- أهمية علم العلل وصعوبته:
يعتبر علم العلل من أجلِّ أنواع علوم الحديث (١)، وأدقِّها وأشرفها. وإنَّما يضطَّلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثَّاقب (٢) .
قال ابن حجر عن هذا العلم: «هو من أغمض أنواع علوم الحديث، وأدقِّها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله فهما ثاقبًا، وحفظًا واسعًا، ومعرفة بمراتب الرُّواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون. ولذا لم يتكلم فيه إلا القليل من أهل هذا الشَّأن كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة الرَّازيَّين والدَّارقطني»، قال: «وقد تقصر عبارة المعلِّلِ عن إقامة الحجَّة على دعواه، كالصَّيرفيِّ في نقد الدِّينار والدِّرهم» (٣) .
قال ابن المديني: «لأنْ أعرف علة حديث هو عندي أحب إليَّ من أن أكتب عشرين حديثًا ليس عندي» (٤) .
وقال ابن مهدي: «لأَنْ أعرفَ علةَ حديثٍ واحدٍ أحبُّ إليَّ من أن أستفيد عشرة أحاديث» (٥) .
وقال الحاكم: «هو عِلْمٌ برأسه غير الصَّحيح والسَّقيم، والجرح والتَّعديل» .
_________
(١) قاله الخطيب في الجامع (٢/٤٥٠) .
(٢) علوم الحديث لابن الصلاح (ص ١١٦) .
(٣) نزهة النظر لابن حجر (ص ٨٩)، وقوله بقصور العبارة أمر نسبي نادر، والنص كرره في النكت (٢/٧١١) بنحوه.
(٤) العلل لابن أَبي حاتم (١/١٠) .
(٥) المعرفة للحاكم (ص١١٢) والجامع للخطيب (٢/٤٥٢) والسير (٩/٢٠٦) وشرح العلل (١/١٩٩) .
1 / 13
وقال أيضًا: «معرفة علل الحديث من أجلِّ هذه العلوم» (١) .
ولأهمية هذا العلم كان بعض المحدِّثين يعقدون مجالس خاصة به.
قال ابن عبد الحكم: «ما رأينا مثل الشَّافعي كان أصحاب الحديث ونقَّاده يجيئون إليه فيعرضون عليه فربما أعلَّ نقد النُّقاد منهم ويوقفهم على غوامض من علل الحديث لم يقفوا عليها فيقومون وهم يتعجَّبون منه» (٢) .
وقال الخطيب: «أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصَّرف ونقد الدِّنانير والدِّراهم، فإنه لا يعرف جودة الدِّينار والدِّراهم بلون ولا مسٍّ ولا طراوة ولا دنس ولا نقش ولا صفة تعود إلى صغر أو كبر ولا إلى ضيق أو سعة، وإنَّما يعرفه النَّاقد عند المعاينة، فيعرف البَهْرَجَ الزَّائِفَ والخالص والمغشوش، وكذلك تمييز الحديث، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب بعد طول الممارسة له والاعتناء به» (٣) .
واقترن بهذه الأهمية صعوبات كثيرة لا يكاد يدركها إلا الحافظ ومن خاض غمار هذا الأمر وعاناه.
قال ابن المديني: «أخذ عبد الرحمن بن مهدي على رجل من أهل البصرة - لا أسميه - حديثًا، قال فغضب له جماعة، قال: فأتوه، فقالوا: يا أبا سعيد من أين قلت هذا في صاحبنا؟ قال فغضب عبد الرحمن بن مهدي وقال: أرأيت لو أن رجلًا أتى بدينار إلى صيرفي فقال: انتقد
_________
(١) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص١١٢و١١٩) .
(٢) تاريخ دمشق (٥١/٣٣٥)، والنص يحتمل أن المراد بالعلة فيه الفقهية ونحوها.
(٣) الجامع (٢/٣٨٢) .
1 / 14
لي هذا. فقال: هو بهرج. يقول له: من أين قلت لي: إنه بهرج؟ الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم» (١) .
قال ابن نمير: قال عبد الرحمن بن مهدي: «معرفة الحديث إلهام. لو قلت للعالم يعلِّل الحديث من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة»، قال ابن نمير: «وصدق، لو قلت له من أين قلت؟ لم يكن له جواب» (٢) .
وعقَّب السخاوي على قول ابن مهدي الأخير: «يعني يعبر بها غالبًا، وإلا ففي نفسه حجج للقبول والرفض» (٣) .
وقال ابن مهدي أيضًا: «إنكارنا للحديث عند الجهَّال كهانة» (٤) .
وقال ابن نمير: «معرفة الحديث بمنزلة الذهب، إنما يبصره أهله، وليس للبصير فيه حجة ...» (٥) .
ومما يدلُّ على قولِ ابنِ مهدي ما حكاه أبو زرعة الرَّازي، وسأله رجل: «ما الحجَّة في تعليلكم الحديث»؟ قال: «الحجَّة أن تسألني عن حديث له علَّة، فأذكر علته. ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميِّز كلام كلٍ مِنَّا على ذلك الحديث، فإن وجدَّت بيننا خلافًا في علته، فاعلم أنَّ كلًا مِنَّا تكلَّم على مراده، وإن وجدَّت الكلمة متَّفقة فاعلم حقيقة هذا العلم» . قال: ففعل
_________
(١) الجامع للخطيب (٢/٣٨٣) .
(٢) العلل لابن أَبي حاتم (١/١٠) والجامع للخطيب (٢/٣٨٣) .
(٣) فتح المغيث (١/٢٣٦) .
(٤) المصدران السابقان، وعني بالجهال من لا علم لهم بالعلل.
(٥) الجامع للخطيث (٢/٣٨٤) .
1 / 15
الرجل فاتفقت كلماتهم. فقال: «أشهد أن هذا العلم إلهام» (١) .
وقال نعيم بن حماد لابن مهدي: «كيف تعرف صحيح الحديث من سقيمه؟ قال: كما يعرف الطبيبُ المجنونَ» (٢) .
وقال الحاكم: «إن الصَّحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنَّما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السَّماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة، ليظهر ما يخفى من علة الحديث، فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصَّحيحة غير المخرَّجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم، لزم صاحب الحديث التَّنقير عن علته، ومذاكرة أهل المعرفة لتظهر علته» (٣) .
وقال ابن رجب عن الحفَّاظ: «فإنَّ هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث مختصون بمعرفته كما يختصُّ البصير الحاذق بمعرفة النُّقود، جيِّدها ورديئها ومشوبها ...، وكلٌّ من هؤلاء لا يمكن أن يعبِّر عن سبب معرفته، ولا يقيم عليه دليلًا لغيره»، قال: «وبكل حال، فالجهابذة النُّقاد والعارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جدًا ...» (٤) .
وقوله: «لا يقيم عليه دليلًا لغيره»، أراد به الدَّليل القطعي اليقيني على ما ذكر من وَهْمٍ أو خطأ للراوي. أما الدليل بالقرائن والخبرة فهذا ما لا
_________
(١) المعرفة للحاكم (ص١١٣) والجامع للخطيب (٢/٣٨٤)، وقد عبر السخاوي عن ذلك بتعبير آخر فقال: «أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم ردُّه، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها» - فتح المغيث (١/٢٧٤)، وفي عبارته شيء، فلو عبر بما عبر السلف لكان أولى وأدق.
(٢) الجرح (١/٢٥٢) والمجروحين (١/٣٢) .
(٣) المعرفة للحاكم (ص٥٩-٦٠) .
(٤) جامع العلوم (٢٧) .
1 / 16
يُنفى علمهم به.
وقال ابن قيِّم الجوزية: «وربَّما يظنُّ الغالط الذي ليس له ذَوق القوم ونقدهم أَنَّ هذا تناقضٌ منهم، فإنهم يحتجُّون بالرَّجل ويوثقونه في موضع، ثم يضعِّفونه بعينه ولا يحتجُّون به في موضع آخر. ويقولون: إن كان ثقة وجب قبول روايته جملة، وإن لم يكن ثقة وجب ترك الاحتجاج به جملة. وهذه طريقة فاسدة مُجمعٌ بين أهل الحديث على فسادها، فإنهم يحتجُّون من حديث الرجل بما تابعه غيره عليه وقامت شهوده من طرقٍ ومتونٍ أخرى، ويتركون حديثه بعينه إذا روى ما يخالف النَّاس أو انفرد عنهم بما لا يتابعونه عليه. إذِ الغلط في موضع لا يوجب الغلط في كل موضعٍ والإصابة في بعض الحديث أو في غالبه لا توجب العصمة من الخطأ في بعضه ولا سيَّما إذا عُلم من مثل هذا أغلاطٌ عديدةٌ ثم روى ما يخالف النَّاس ولا يتابعونه عليه فإنَّه يغلب على الظن أو يجزم بغلطه.
وهنا يعرِض - لمن قَصُرَ نقدُهُ وذَوقه عن نقد الأئمَّة وذوقهم في هذا الشَّأن - نوعان من الغلط ننبِّه عليهما لعظيم فائدة الاحتراز منهما:
١. أحدهما: - أن يرى مثل هذا الرَّجل قد وثق وشهد له بالصدق والعدالة أو خرج حديثه في الصَّحيح فيجعل كلَّ ما رواه على شرط الصَّحيح، وهذا غلط ظاهر فإنه إنَّما يكون على شرط الصَّحيح إذا انتفت عنه العلل والشُّذوذ والنَّكارة وتوبع عليه فأما مع وجود ذلك أو بعضه فإنه لا يكون صحيحًا ولا على شرط الصَّحيح. ومن تأمَّل كلام البخاري ونظرائه في تعليله أحاديث جماعة أخرج حديثهم في صحيحه، علم إمامته وموقعه من هذا الشأن وتبيَّن به حقيقة ما ذكرنا.
٢. النوع الثاني من الغلط: - أن يرى الرَّجل قد تكلِّم في بعض حديثه
1 / 17
وَضُعِّفَ في شيخ أو في حديث فيجعل ذلك سببًا لتعليل حديثه وتضعيفه أين وجد كما يفعله بعض المتأخِّرين من أهل الظَّاهر وغيرهم وهذا أَيضًا غلط. فإن تضعيفَه في رجل أو في حديث ظهر فيه غلطُه لا يوجب التَّضعيف لحديثه مطلقًا. وأئمَّة الحديث على التَّفصيل والنَّقد واعتبار حديث الرَّجل بغيره، والفرق بين ما انفرد به أو وافق فيه الثِّقات. وهذه كلمات نافعة في هذا الموضع، تبيِّن كيف يكون نقد الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه ومعلوله من سليمه (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًَا فَمَا لَهُ من نُورٍ)» (١) .
والنَّص التالي عن أبي حاتم الرَّازي - على طوله - يبيِّن أهمية هذا العلم وصعوبته، بل وغرابته أَيضًا على عموم النَّاس، حيث قال: «جاءني رجل من جلِّة أصحاب الرَّأي من أهل الفهم منهم، ومعه دفتر فعرضه عليَّ، فقلت في بعضها: هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح، فقال: من أين علمت أَنَّ هذا خطأ وأَنَّ هذا باطل وأَنَّ هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأنَّي غلطت وأنَّي كذبت في حديث كذا؟ فقلت: لا! ما أدري هذا الجزء من رواية مَن هو؟ غير أني أعلم أَنَّ هذا خطأ، وأَنَّ هذا الحديث باطل، وأَنَّ هذا الحديث كذب فقال: تدَّعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادِّعاء الغيب، قال: فما الدَّليل على ما تقول؟ قلت: سلْ عمَّا قلتُ مَنْ يحسن مثلَ ما أحسنُ فإن اتفقنا علمت أنَّا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم. قال: من هو الذي يحسن مثلَ ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة. قال: ويقول أبو زرعة مثلَ ما قلتَ؟ قلت: نعم. قال: هذا
_________
(١) الفروسية (ص٤٤-٤٥)، وفي النسخة أغلاط كثيرة أصلحت من طبعة أخرى.
1 / 18
عجبٌ! فأخذ فكتب في كاغدٍ (١) ألفاظي في تلك الأحاديث ثم رجع إليَّ وقد كتب ألفاظ ما تكلَّم به أبا زرعة في تلك الأحاديث. فما قلت: إنه باطل، قال أبو زرعة: هو كذب. قلت: الكذب والباطل واحد، وما قلت: إنه كذب قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت: إنه منكر قال: هو منكر، كما قلت، وما قلت: إنه صحاح قال أبو زرعة: هو صحاح فقال: ما أعجب هذا! تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما. فقلت: فقد دلَّك، أنَّا لم نجازف، وإنَّما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدَّليل على صحة ما نقوله، بأنَّ دينارًا نَبَهْرَجًا (٢)
يحمل إلى النَّاقد فيقول: هذا دينار نَبَهْرَج، ويقول لدينار: هو جيد فان قيل له: من أين قلت أَنَّ هذا نبهرج! هل كنت حاضرًا حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا فان قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار قال: لا، قيل: فمن أين قلت: أَنَّ هذا نَبَهْرَج؟ قال: علمًا رزقت. وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك. قلت له: فتحمل فصَّ ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين فيقول: هذا زجاج ويقول لمثله: هذا ياقوت، فان قيل له: من أين علمت أَنَّ هذا زجاج وأَنَّ هذا ياقوت هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج؟ قال: لا قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجًا؟ قال: لا، قال: فمن أين علمت؟ قال: هذا علم رُزقت. وكذلك نحن رُزقنا علمًا لا يتهيَّأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأَنَّ هذا الحديث كذب وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه» اهـ.
قال ابن أبي حاتم عَقِبَ ذلك: «تعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره فإن تخلف عنه في الحمرة والصَّفاء علم أنه مغشوش ويعلم جنس الجوهر بالقياس
_________
(١) الكاغد القرطاس، كذا في القاموس (ص٤٠٢) .
(٢) قال ابن الأعرابي: «البَهْرَجُ الدرهم المُبْطَلُ السِّكَّةِ، وكلُّ مردود عند العرب بَهْرَجٌ ونَبَهْرَجٌ. والبَهْرَجُ: الباطلُ والرَّدِيءُ من الشيء» - اللسان (٢/٢١٧) ..
1 / 19
إلى غيره فان خالفه بالماء والصَّلابة علم أنه زجاج ويقاس صحة الحديث:
أ- بعدالة ناقليه.
ب- وأن يكون كلامًا يصلح (١) أن يكون من كلام النُّبوة.
ويعلم سقمه وإنكاره بتفرُّد مَن لم تصحَّ عدالته بروايته، والله أعلم» (٢) .
فأشار ﵀ إلى قرائن معرفة ذلك بالقياس على رواية بقية الرواة، والقياس لا يحسنه كل أحد، ولا يصبر عليه السِّنين إلا القليل.
وقال العلائي: «التَّعليل أمر خفي، لا يقوم به إلا نقاد أئمة الحديث دون من لا اطلاع له على طرقه وخفاياه» (٣) .
ومما سبق يتبيَّن أَنَّ هذا العلم شاقٌّ وأنَّ معرفة علة الحديث قد لا تظهر إلا بعد سنين.
قال الخطيب: «فمن الأحاديث ما تخفى علته، فلا توقف عليها إلا بعد النَّظر الشَّديد، ومضي الزَّمن البعيد»، ثم أسند عن ابن المديني قوله: «ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة» (٤) .
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه في حديث ذكره: «ولم أزل أفتِّش عن هذا الحديث، وهمَّني جدًَّا حتى رأيته في موضع ...» (٥) .
_________
(١) هذا القيد مهم جدًا في تصحيح الأحاديث التي أسانيدها قوية في الظاهر، وقد غفل عنه كثير من المعاصرين.
(٢) الجرح (١/٣٤٩-٣٥١) .
(٣) النكت لابن حجر (٢/٧٨٢) .
(٤) الجامع للخطيب (٢/٣٨٥) .
(٥) العلل لابن أَبي حاتم (٢/٢٧٠) .
1 / 20
وقال أيضًا: «قلت لأبي زرعة: أيهما عندَك أشبه؟ قال: الله أعلم. ثم تفكَّر ساعةً، فقال: حديث الدَّراوردي أشبه ...» (١) .
ولربما رجَّح العالم ما خفي على من هو أعلم منه بالحديث أو ما خالفه هو بعد زمن، كما حصل لأبي حاتم الرَّازي، حيث سأله ابنه عن حديث اختلف فيه، هل هو عن ابن مسعود ﵁ أو عن جابر ﵁ قال: «قلت لأبي أيهما أصحُّ؟ قال: عبد الله أصحُّ ... ثم قال ابن أبي حاتم: سألت أبي مرةً أخرى عن هذا الحديث فقال: يحيى القطَّان ومعتمر وغيرهما يقولون عن التَّيمي عن أبي نضرة عن جابر عن النَّبي ﷺ، وهو أشبه بالصَّواب» (٢) .
وقال ابن أبي حاتم: «سألت أبي عن حديث رواه احمد بن حنبل وفضل الأعرج عن هشام بن سعيد أبي أحمد الطَّالقاني عن محمد بن مهاجر عن عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمى وكانت له صحبة قال: قال رسول الله ﷺ: (سموا أولادكم أسماء الأنبياء وأحسن الأسماء عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة وارتبطوا الخيل وامسحوا على نواصيها وقلدوها ولا تقلدوها الأوثان) . قال أبي: سمعت هذا الحديث من فضل الأعرج وفاتني من أحمد، وأنكرته في نفسي وكان يقع في قلبي أنه أبو وهب الكلاعي صاحب مكحول، وكان أصحابنا يستغربون فلا يمكنني أن أقول شيئًا لما رواه أحمد، ثم قدمت حمص فإذا قد حدثنا ابن المصفى عن أبي المغيرة قال حدثني محمد بن مهاجر قال حدثني عقيل بن سعيد عن أبي وهب الكلاعي قال: قال النبي ﷺ
_________
(١) العلل لابن أَبي حاتم (٢/٢٦٦) .
(٢) العلل لابن أَبي حاتم (٢/٤١٦) .
1 / 21
قال أبي: فعلمت أن ذلك باطل وعلمت أن إنكاري كان صحيحًا وأبو وهب الكلاعى هو صاحب مكحول الذي يروى عن مكحول واسمه عبيد الله بن عبيد وهو دون التابعين يروى عن التابعين وضربه مثل الأوزاعي ونحوه فبقيت متعجبًا من أحمد بن حنبل كيف خَفِيَ عليه فإني أنكرته حين سمعت به قبل أن أقف عليه» (١) .
وهذا الحافظ ابن حجر على سعة علمه بالعلل وطرق التَّرجيح فيه يقول في حديث: «وقد رجَّح البخاري أنه عن جابر، وخالفه أبو مسعود والبيهقي فرجَّحا أنه عن أبي هريرة، ولم يظهر لي في ذلك ترجيح، والله أعلم» (٢) .
وكان هذا العلم ذا أهمية وصعوبة لعدَّة أمور منها:
١- أنه يتعلق بكلام رسول ﷺ، «والثقة إذا حدَّث بالخطأ، فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ، يعمل به على الدَّوام للوثوق بنقله، فيكون سببًا للعمل بما لم يقله الشرع» (٣) .
٢- ظهور صحة الحديث بالنَّظر إلى ظاهر السَّند والمتن، وفي هذه الحالة يبعد لدى النَّاظر احتمال وجود علة خفية، ويكثر وقوعه ممن أكثر من الحكم على الأحاديث من المتأخِّرين كالسّيوطي ومن سار على نهجه في التَّصحيح بظواهر الأسانيد فحسب، أو بتتبع الشَّواهد دون تمحيصها وتتبع عللها الخفيَّة، أو أهمل إعلال الأئمَّة لها اتكالًا على قوة الطُّرق عنده وكثرة الشَّواهد.
_________
(١) العلل لابن أبي حاتم (٢/٣١٢) .
(٢) الفتح (٢/٦١١) .
(٣) الفتح (١/٢٦٥) حديث (١٠٧) .
1 / 22
٣- اختلال العمل بمنهج المحدثين قرنًا بعد قرن، باعتماد كثير من المتأخِّرين على ظواهر الأسانيد من حيث لا يشعرون، ودخول علم المنطق في علوم الحديث من خلال كتب المصطلح المتأخِّرة خاصَّة، فأهمية إبراز علة الحديث تزداد بقدر ذلك الاعتماد المشار إليه.
٤- تفرُّق كثير من الأحاديث المعلَّة في بطون عشرات الكتب، ولا شكَّ أن التَّنقير عن ذلك واستخراجه من الصُّعوبة بمكان.
وهذا العلم قد قلَّ من يفهمه ويُعنى به في العصور السَّابقة، فكيف بهذا الزمن قال أبو حاتم: «جرى بيني وبين أبي زرعة يومًا تمييز الحديث ومعرفته، فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها، وكذلك كنت أذكر أحاديث خطأ وعللها وخطأ الشيوخ، فقال لي: يا أبا حاتم قلَّ من يفهم هذا، ما أعزَّ هذا. إذا رفعت هذا من واحد واثنين فما أقلَّ أن تجد من يحسن هذا ...» (١) .
وقال ابن حجر: «لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم» (٢) .
ولا يفهم من النصوص السابقة في صعوبة علم العلل وغرابته أنه لا قيام لشأنه بعد رحيل أهله الأوائل. فإن أصوله وقواعده باقية وطرائق أصحابه متداولة، تعتمد على الفهم والذكاء والخبرة وطول الممارسة ودقة التنقير.
وقد تصعب العلة وتدق، بحيث لا يقدر على حل رمزها وكشف
_________
(١) الجرح (١/٣٥٦) .
(٢) النكت (٢/٧١١) .
1 / 23