بسم الله الرحمن الرحيم
1- الحمد لله العزيز الغفار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مبدل السيئات حسنات، وماحي الأوزار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار. أما بعد.
2- فإني سئلت عن علم الحديث الذي أخرج في بعض السنن عن العباس بن مرداس السلمي في مغفرة الله عز وجل ذنوب الحاج ذي التبعات.
هل هو صحيح أو حسن أو ضعيف يعمل في الفضائل بمثله؟ أو هو في حيز المنكرات أو الموضوعات؟
3- والجواب عن ذلك:
Bogga 17
أنه جاء من طرق أشهرها حديث العباس بن مردان السلمي، فخرج في ((مسند الإمام أحمد))، وأخرج أبو داود في ((السنن)) طرفا منه وسكت عليه، فهو على رأي ابن الصلاح ومن تبعه حسن، وعلى رأي الجمهور كذلك، ولكن باعتبار انضمام الطرق الأخرى إليه لا بانفراده.
Bogga 18
4- فاستخرت الله تعالى في جمع طرقه، وبذلك يتبين حاله، فإن المقبول ما اتصل سنده، وعدلت رجاله، أو اعتضد بعض طرقه ببعض حتى تحصل القوة بالصورة المجموعة، ولو كان كل طريق منها لو انفردت لم تكن القوة فيها مشروعة.
5- وبهذا يظهر عذر أهل الحديث في تكثيرهم طرق الحديث الواحد ليعتمد عليه، إذ الإعراض عن ذلك يستلزم ترك الفقيه العمل بكثير من الأحاديث اعتمادا على ضعف الطريق التي اتصلت إليه.
وهذا حين الشروع في المقصود فيما قصدت، وعلى الله الكريم اعتمدت، وبتيسيره اعتضدت.
6- أما حديث العباس بن مرداس فقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في
(زيادة المسند) مسند أبيه:
Bogga 19
حدثنا إبراهيم بن الحجاج حدثنا عبد القاهر بن السري حدثنا عبد الله بن كنانة بن العباس بن مرداس عن أبيه أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة، فأكثر الدعاء، فأجابه الله عز وجل: {أن قد فعلت وغفرت لأمتك إلا من ظلم بعضهم بعضا}. فقال: ((يا رب إنك قادر أن تغفر للظالم وتثيب المظلوم خيرا من مظلمته)). فلم يكن تلك العشية إلا ذا.
فلما كان الغد غداة المزدلفة، فعاد يدعو لأمته فما لبث النبي صلى الله عليه وسلم أن تبسم، فقال بعض أصحابه: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي. ضحكت في ساعة لم تكن تضحك فيها؛ فما أضحكك؟ أضحك الله سنك.
قال: تبسمت من عدو الله إبليس، حين علم أن الله عز وجل قد استجاب لي في أمتي، وغفر للظالم، أهوى يدعو بالثبور والويل، ويحثو التراب على وجهه ورأسه فتبسمت مما يصنع من جزعه.
7- وقال الطبراني في (المعجم الكبير):
Bogga 20
حدثنا معاذ بن المثنى وآخرون، قالوا: أنبأنا أبو الوليد الطيالسي زاد معاذ: وأنبأنا عيسى بن إبراهيم قالا: حدثنا عبد القاهر بن السري عن ابن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي عن أبيه عن جده عباس بن مرداس، وذكره.
وقال في روايته: ((إلا ظلم بعضهم بعضا، فأما ما بيني وبينهم فقد غفرتها)).
وقال فيها: ((فلما كانت غداة المزدلفة أعاد الدعاء، فأجابه: إني قد غفرت. قال: فتبسم)).
فذكره مثله إلى قوله: ((على رأسه)).
8- وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى) ولفظه كلفظ رواية الطبراني، وفي أكثر الروايات لم يسم ابن كنانة.
وقد سماه بعضهم عن عبد القاهر بن السري فقال ابن ماجة:
Bogga 21
حدثنا أيوب بن محمد الهاشمي، حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي، حدثنا عبد الله بن كنانة بن عباس بن مردان السلمي أن أباه أخبره عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب: ((إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإني آخذ للمظلوم منه)). فقال: ((أي رب إن شئت أعطيت المظلوم الجنة وغفرت للظالم)). فلم يجب عشية عرفة، فلما أصبح بالمزلدفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو قال سر، فقال له أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، بأبي أنت وأمي يا رسول الله. إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها؛ فما الذي أضحكك؟ أضحك الله سنك. قال: ((إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي، وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فضحكت لما رأيته من جزعه)).
9- وأخرجه ابن عدي عن علي بن سعيد عن أيوب بن محمد بهذا السند، وسمى ابن كنانة عبد الله كما عند ابن ماجة.
Bogga 22
وقال في سياقه عن أبيه العباس بن مرداس وفيه: دعا ربه، وفيه: أن الله أجابه بالمغفرة لأمته إلا ظلم بعضهم بعضا، فإنه يأخذ للمظلوم من الظالم، فأعاد الدعاء، فقال: ((أي رب إنك قادر أن تثيب المظلوم خيرا من مظلمته الجنة، وتغفر لهذا الظالم)).
وفيه: فأجابه الله عز وجل: ((إني قد فعلت)) ولم يقل: أو سر.
وفيه: ضحكت أن الخبيث إبليس حين علم أن الله استجاب دعائي.
10- وأخرج أبو داود هذا الحديث في ((السنن)) فقال في كتاب الأدب:
حدثنا عيسى بن إبراهيم البركي، حدثنا عبد القاهر بن السري، عن ابن كنانة بن عباس بن مرداس، عن أبيه عن جده:
ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر أو عمر: أضحك الله سنك، وساق الحديث.
11- وسكت عليه أبو داود فهو صالح عنده، وقد أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في ((الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين)) من طرق عن عبد القاهر بن السري.
Bogga 23
12- قال البيهقي هذا الحديث له شواهد كثيرة، قد ذكرناها في كتاب ((البعث))، فإن صح بشواهده ففيه الحجة.
قلت: جاء أيضا عن عبادة بن الصامت وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وزيد جد عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد.
Bogga 24
13- أما حديث عبادة بن الصامت فأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه)،
والطبراني في (المعجم الكبير) من طريقه، عن معمر عن من سمع، قتادة يقول:
Bogga 25
حدثنا خلاس بن عمرو عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أيها الناس إن الله عز وجل تطول عليكم في هذا اليوم، فغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، فادفعوا باسم الله)).
فلما كان بجمع قال:
((إن الله قد غفر لصالحيكم، وشفع صامحيكم في طالحيكم، ينزل المغفرة فيعمهم، يفرق المغفرة في الأرض، فتقع على كل تائب ممن حفظ لسانه ويده، وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم، فإذا نزلت المغفرة دعا هو وجنوده بالويل.
يقول: كنت أستفزهم حقبا من الدهر، ثم جاءت المغفرة، فغشيتهم؛ فيتفرقون وهم يدعون بالويل والثبور)).
14- ورجال هذا السند ثقات، إلا الذي سمع قتادة، ولم يسمه معمر فإن كان ثقة فهو على شرط الصحيح؛ وإن كان ضعيفا فهو عاضد للسند الذي قبله، وقد سمع معمر من قتادة كثيرا، لكنه بين أنه بينه وبين قتادة فيه واسطة.
15- وأما حديث أنس فأخرجه أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى
الموصلي في (مسنده)، قال:
Bogga 26
حدثنا إبراهيم بن الحجاج -هو السامي البصري- أنبأنا صالح المري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تطول على أهل عرفات يباهي بهم الملائكة)) يقول: يا ملائكتي. انظروا إلى عبادي شعثا غبرا أقبلوا، يضربون إلي من كل فج عميق، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميعا ما سألوني غير التباعات التي بينهم.
فإذا أفاض القوم إلى جمع، ودفعوا، وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله تعالى؛ فيقول الله تعالى: يا ملائكتي عبادي وقوفا فعادوا في الرغبة والطلب؛ فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميع ما سألوني، وكفلت عنهم التبعات التي بينهم)).
وهذا السند ضعيف، فإن صالحا المري وشيخه ضعيفان.
Bogga 27
16- وقد أخرجه أحمد بن منيع في (مسنده) من وجه آخر عن صالح المري.
Bogga 28
وذكره الحافظ المنذري في (الترغيب) من رواية عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وقد كادت الشمس أن تغرب، فقال: ((يا بلال، أنصت الناس)). فقال بلال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فنصت الناس، فقال: ((معاشر الناس، أتاني جبريل آنفا، وأقرأني من ربي السلام، وقال: إن الله عز وجل، غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات)).
فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله. هذا لنا خاصة؟ قال: ((هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة)). فقال عمر: كثر والله خير الله وطاب.
17- قلت: إن ثبت سنده إلى عبد الله بن المبارك فهو على شرط الصحيح.
Bogga 29
فقد أخرج البخاري من رواية الزبير بن عدي حديثا ومسلم من روايته حديثا آخر.
وقد أخرج مسدد بن مسرهد في (مسنده) لهذه الطريق شاهدا من وجه آخر مرسل رجاله ثقات، ولكنه ليس بتمامه.
18- وأما حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال أبو جعفر محمد بن
جرير الطبري في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة:
{واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}.
Bogga 30
عن مجاهد قال: إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى السماء الدنيا في الملائكة فيقول لهم: ((عبادي آمنوا بوعدي وصدقوا رسلي ما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم.
فذلك قوله تعالى:
{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}.
19- ثم قال: حدثني مسلم بن حاتم الأنصاري، حدثنا بشار بن بكير الحنفي، أنبأنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال: ((أيها الناس. إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله)).
Bogga 31
فلما كان غداة جمع، قال: ((أيها الناس، إن الله قد تطول عليكم في مقامكم فقبل من محسنكم، ووهب سيئكم لمحسنكم والتبعات عوضها من عنده، أفيضوا على اسم الله)).
فقال أصحابه: يا رسول الله. أفضت بنا بالأمس حزينا، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إني سألت ربي بالأمس شيئا لم يجد لي به، سألته التبعات فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل فقال: إن ربك يقرؤك السلام، ويقول: ضمنت التبعات وعوضتها من عندي)).
20- وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) عن محمد بن عبد الرحمن بن مخلد ، عن سهل بن موسى، حدثنا مسلم بن حاتم الأنصاري.
وأخرجه أبو نعيم أيضا من ((مسند الحسن بن سفيان)) قال: حدثنا إسماعيل بن هود، حدثنا أبو هشام، حدثنا عبد الرحيم بن هارون الغساني، عن عبد العزيز بن أبي رواد، فذكره باختصار.
Bogga 32
21- ولحديث ابن عمر طرق أخرى أخرجها أبو حاتم ابن حبان في (كتاب الضعفاء) من رواية يحيى بن عنبسة، عن مالك عن نافع، عن ابن عمر قال: وقف بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفات، فلما كان عند الدفعة استنصت الناس. فأنصتوا. فقال: ((أيها الناس، إن ربكم تطول عليكم في يومكم هذا)).
فذكر الرواية السابقة بطولها إلى قوله: ((ادفعوا بسم الله)). وزاد:
فقام أعرابي فأخذ بزمام الناقة فقال: يا رسول الله. والذي بعثك بالحق ما بقي من عمل إلا عملته، وإني لأحلف على اليمين الفاجرة، فهل أدخل فيمن وقف. فقال: ((يا أعرابي. أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم بأبي أنت. فقال: يا أعرابي. إنك إن تحسن فيما تستأنف يغفر لك)).
Bogga 33
22- وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو حاتم ابن حبان أيضا في
(كتاب الضعفاء) والدارقطني في (غرائب مالك مما ليس في الموطأ) من رواية أبي عبد الغني الحسن بن علي الأردني، عن عبد الرزاق، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج، وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار، فإذا كان يوم منى غفر الله للحمالين، فإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسؤال، فلا يشهد ذلك الموضع أحد إلا غفر له)).
Bogga 34
23- قال ابن حبان في (الضعفاء) .. .. (¬1) وقال الدارقطني: هذا حديث باطل، وضعه أبو عبد الغني على عبد الرزاق.
24- وأما حديث زيد فأخرجه أبو عبد الله ابن منده في: (كتاب)
الصحابة) من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن صالح بن عبد الله بن صالح. عن عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد، عن أبيه عن جده قال :
وقف النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة فقال: ((أيها الناس. قد تطول الله عليكم في يومكم هذا فوهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، وغفر لكم ما كان بينكم)).
25- وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في (الموضوعات) من حديث
Bogga 35
العباس بن مرداس، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث عبادة بن الصامت.
وقال: قال ابن حبان: كنانة منكر الحديث جدا، ولا أدري التخليط منه أو من ولده.
وقال في حديث ابن عمر: عبد العزيز بن أبي رواد قال ابن حبان: كان يحدث على الوهم والحسبان.
وعبد الرحيم كذبه الدراقطني، وبشار مجهول، ويحيى كذبوه.
وقال في حديث أبي هريرة: الحسن بن علي أبو عبد الغني كان يضع الحديث.
وقال في حديث عبادة شيخ معمر الذي حدثه عن قتادة: لا يعرف حاله، وخلاس كان مغيرة بن مقسم لا يعبأ به.
وقال: أيوب لا يروى عنه، فإنه صحفي.
Bogga 36