يريد أن يعبر الشارع، فسرعان ما يعبره ما يجشم نفسه الالتفات ذات اليمين ولا ذات الشمال، ولعل أكثرهم يفحص عينيه من وقت العبور؛ لكيلا يرى الفواتك الجارية من هنا ومن هنا، وهذا ممكن ولعله في بعض الأحيان حسن، على أن هناك أمرا غريبا لا بد أن يكشف العلم عن سره في يوم من الأيام، ذلك بأن الإنسان يستطيع أن يفحص عينيه لكيلا يرى، فهل ترى لآذان هؤلاء الناس جفون أيضا يستطيعون أن يطبقوها؛ لكي يستريحوا من استماع دوي الترام وجرسه، وزمر الأتومبيل وكلاكسه؟
وإنك يا سيدي القارئ لترى في كل شارع، في كل يوم، وفي كل ساعة، وفي كل دقيقة من لا يرضون أن يطمئنوا في مواقفهم حتى يجوز الترام أو تجوز السيارة مهما تكن سرعتها وقربها منهم، بل لا بد من القفز أمامها وقطع الشارع فورا، ولماذا ينتظر المرء دقيقة أو بضع ثوان، والوقت كما تعرف من ذهب؟
ولقد كنت في يوم من أيام الأسبوع الماضي أمشي في شارع قصر ابن العيني على الطوار طبعا، وإذا بالترام القادم من ميدان الإسماعيلية يجري بآخر جهده، وإذا بشيخ مرسل اللحية؛ مخفوض الشارب، يضع على قبائه - قفطانه - معطفا، وعلى رأسه طربوشا، وفي يمينه عكازة وفي يساره مسبحة تتلقط أنامله حباتها دراكا، وأنت خبير بما تفعل مع ذلك شفتاه أما ما يشغل قلبه فلا يعلمه إلا الله! أقول وإذا هذا الشيخ يقفز من بين يدي الترام قفزة عنيفة نجا بها - والحمد لله - وإذا كان ظله القصير لم ينج من وطء العجلات الأولى، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ولقد لحقت به، وقلت له: يا عم! قد يجوز أن حسابك دقيق مضبوط في قياس سرعة الترام، ومقدار المسافة التي عليك أن تقطعها بين يديه، ومدى جهدك في القفز، والمدة التي تحتاج إليها في ذلك، لقد يكون حسابك في كل أولئك دقيقا مضبوطا، ولكنك لم تدخل في هذا الحساب عثرة الرجل مثلا، أو اعتراض سيارة مفاجئة من شطر الطريق الذي تطليه، فكيف كانت تكون الحال؟
فأقبل علي وقال: أي والله يا ابني! صدقت، ولكن ... ربنا يستر! ... آمنت بالله!
وأرجو ألا تنسى أن هذه الكلمة «ربنا يستر»، هي في هذه البلاد شعار كل ملق بنفسه إلى التهلكة، أو بغيره إلى الهلاك.
ومن بضع عشرة سنة كنت أركب الترام، وكان مجلسي خلف السائق مباشرة، وبينا كان يجري بأقصى سرعته في شارع كلوت بك إذا فتى يجوز من أمامه، ولولا أن السائق أسرع فضبط العجلات «بالفرامل» ضبطا عنيفا رج الركب رجا عنيفا وأزعجهم ازعاجا شديدا، لصار هذا الفتى «المستعجل» للحظته أنقاضا على أنقاض.
إذن لقد وقف القطار، ومر الفتى لم يكلم أي عضو من أعضائه كلما، بل لقد امتاز على هؤلاء الراكبين بالدعة، فما وجف له قلب ولا نبض فيه عرق، ولا امتقع لونه ولا جف ريقه، ولقد بدا لي أن أنزل فأتبعه لأرى ما الذي أعجله من جلى الأحداث العالمية، حتى خاطر بحياته بهذا القدر المرعب المهول.
وأتبعه حتى بلغ الطوار الثاني، فإذا هو فتى متشرد من هؤلاء الفتيان المتشردين، خلق الثوب، حافي القدم، وسخ الوجه والقفا، ثم وقف بحذاء دكان تبيع الشمال،
1
Bog aan la aqoon