يقضي النظام الحكومي بأن يحضر الموظفون إلى مكاتبهم في وقت معين، وألا ينصرفوا عنها إلا في وقت معين، بحيث يجزى من تأخر عن الأول ومن تقدم على الثاني، وقد تضبطهم بدفتر أو «بساعة» ترقم وقت حضورهم مثلا، وذلك رغبة في سرعة إنجاز ما تعالجه المصالح من وجوه الأعمال، وإنهم لينفذون هذا النظام راضين أو كارهين، ولكنك مع هذا تجد المسألة ليس من شأنها أن تشغل من وقت الموظف ساعة أو بعض الساعة، تلبث بين يديه الأيام بل الأسابيع، بل الشهور في بعض الأحيان، وكذلك تعوق المصالح العامة، وكذلك تعطل مصالح الناس.
ذلك بأننا نحضر في الميعاد وننصرف كذلك في الميعاد، ألسنا قد خرجنا من العهدة، وأمنا حتى سوء المقال؟
ولقد يكون بعض الموظفين مرهقين بكثرة ما يعالجون من الأعمال، ولكنهم ليسوا كثرة على كل حال.
وقس على هذين المثالين ما تهيأ لك القياس على أنني لا أحب أن أدع الكلام في هذا المقام قبل أن أضرب مثلا ثالثا قد يجهله كثير من القراء، ولعل فيه ما يروح عنهم بعد ذلك الحديث الأليم، وإن كان هو أيضا لا يخلو من العظمة والاعتبار.
زعموا أنه في عهد «السلطة» صدرت الأوامر إلى رجال الإدارة بمصادرة جميع الأسلحة التي يحرزها الأهلون، فجعل حضرات رجال الإدارة وعلى رءوسهم حضرات مأموري المراكز يتبارون في تنفيذ هذا الأمر، استباقا إلى إدراك الحظوة، وتبوء منزلة الرضا عند من في يدهم السلطان.
ويسمع المأمور أن زميله فلانا جمع من بلاد مركزه خمسة آلاف بندقية في خلال الشهر، فيأتي هو إلا أن يجمع ستة آلاف، وهكذا ويستمر التنافس بين حضرات المأمورين في جمع البنادق حتى أقبلوا على العمد والأعيان يكلفونهم الهبوط إلى القاهرة لشراء كل ما تيسر لهم شراؤه من الأسلحة القديمة في سوق السلاح!
وأخيرا عز على أحدهم ألا يعزهم جميعا، ويظفر دونهم من الحظوة بأعلى مكان، فحشر إليه كل النجارين والحدادين في مركزه، وكان في الوجه القبلي، وتقدم إليهم بأن يتفرغوا من كل ما بأيديهم إلى صنع بنادق لا تزيد على كعوب وأنابيب وشيء يشبه الزناد، وكذلك تم له أن يورد في خلال عام وبعض العام، نحو مائة ألف بندقية مصادرة من الأهلين!
ويشاء الله أن يرقى هذا المأمور في إثر ذلك إلى منصب وكيل مديرية، وما شاء الله كان!
وبعد، فأعزز على أن أجلو عن نفوسنا هذه الخلال! وما بي - شهد الله - إلا أن نتفطن إلى أمراضنا لنسعفها بالدواء الناجع إن شاء الله، ولله در القائل: «أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك.» فإن من أبكاك اليوم أضحكك في الغد، وإن من يضحكك اليوم لمبكيك طول الأبد.
على أنني لست اليوم متشائما، بل إنني لمتفائل - والشكر لله - أعظم التفاؤل، متفائل لأننا أنشأنا ندرك واجبنا، ونمهد لألوان التبعات عواتقنا من يوم صار إلينا السلطان في بلادنا، متفائل لأننا جعلنا ندرك ما فاتنا في تلك السنين الطوال، فرحنا نستدركه في قوة وعزم، وأرجو لها مزيدا على الأيام، متفائل لأننا الآن ولا ريب في نهضة ترسل الحياة دراكا في جميع نواحي الحياة، وحسبنا أن كنا إذا سيق الشاب من أبنائنا إلى الجندية، شيعته أمه وإخوته وعماته وخالاته، كما يشيع أعز الموتى، وماذا بعد النواح والعويل ولطم الخدود وشق الجيوب. حيث لا حرب ولا قتال، ولا توقع حرب ولا قتال، إن هو إلا تدريب عسكري لاستعراض في هذا المهرجان أو ذلك المهرجان؟
Bog aan la aqoon