ودعنا الآن من المجادلات العلمية أو الفنية، وخد بنا في ألوان الحوار التي تجري كل ساعة بين الأصدقاء وغير الأصدقاء.
يقول لك فلان: إن فلانا صنع كيت وكيت مما يتعاظمك ويروعك لضخامته أو لتعذر أسبابه، فإذا باديته ولو بالشك فيما يزعم ابتدرك بقوله: «وليه لأ؟» كأن الأصل أن تضاف إلى الناس الأفعال أو الأقوال، وعلى المنكر أن يقيم هو الدليل على العكس، أي: العدم أو استحالة الوقوع، ناسين أبسط القضايا وأوضحها «البينة على من ادعى!»
ويقول لك آخر: إن فلانا يرتكب كذا وكذا من المؤثمات، فإذا أنكرت منه هذا القول قال في غير ورع ظانا أنه يقيم الحجة عليك: كيف وأنا أقارف معه تلك المؤثمات؟ وقد فاته أن الاعتراف حجة قاصرة على النفس، فإذا أشرك الغير كان دعوى تحتاج إلى دليل!
ولقد تروي، في بساطة، ما انتهى إليك من خبر نشرته إحدى الصحف، أو جعلت تردده المجالس من أن فلانا اتهم في كذا، فيبادرك رجل من شيعته طبعا: حضرتك مبسوط من كده ... وترى أن الخبر قد التبس على الغبي بالأمنية، اللهم إلا أن يكون فاسد الضمير فاجر النية!
ومما يضحك ويبكي نقل موضوعات النزاع، إما فرارا من لزوم الحجة، أو طلبا للكيد والأذى، أو جهلا وشدة غباء.
وأذكر نموذجا واحدا مما وقع لي في ذلك الباب على جهة التمثيل أيضا، ولم يكن ثمت موضع نزاع، بل كان هناك سؤال استحال في غير موجب إلى نزاع. من بضعة أيام طلبت عيادة طبيب الأسنان؛ ليخلع ضرسا ألح علي ألمه، وورم لي صدغي ... وبينما أنا في غرفة الانتظار ريثما ينتهي الطبيب من علاج من تقدمني، إذا رجل حسن السمت أنيق البزة، ويبدأ بالتحية، فأردها بأحسن منها ... وما يكاد يأخذ مجلسه حتى يطارح الحديث كعادتنا نحن المصريين إلى من نعرف ومن لا نعرف، فماددته الحديث على ما بي - في الأسباب العامة طبعا - ومن حديثه أدركت أنه رجل مزخرف الثقافة مذوق اللسان، ثم إذا هو يفاجئني بهذا السؤال: حضرتك من أهل الريف؟ فأجبته من فوري: لا يا سيدي، فأنا مولود في القاهرة، وما زالت موطني إلى الآن، فرد علي في ثورة عنيفة: ليه هيه العيشة في الريف وحشة؟
لقد ثار ثائري ونهضت لتوي وخرجت مسرعا إلى داري، مؤثرا وجع الضرس وضرباته على هذا اللون من الحوار!
إذن؛ لقد كان علي أن أخلق قبل أن أخلق، وأن أولد قبل أن أولد حتى إذا بلغت من التمييز في النشأة الأولى؛ كان على القدر أن يخيرني الولادة في الريف أو الحضر، فأختار أول الأمرين، ثم أتبخر في الأثير، ثم أبعث في الريف من جديد، وإلا كنت امرأ آثما يستحق اللوم والتأنيب!
وبعد هذه الوقفة المريحة أو المتعبة المعنية، نرجع سياقة الحديث على اسم الله:
لقد اقترنت عناية السابقين في الإسلام بعلوم الدين؛ بعناية غيرهم بعلوم اللسان، من نحو وصرف وأدب وبيان، وذلك لأنها الوسيلة إلى فهم لباب الدين.
Bog aan la aqoon