بين الحق والقوة
قصة هي أضخم قصص الحياة جميعا؛ لأنها تروي أضخم أحداث التاريخ جميعا؛ على أنها قصة لم يلفقها الخيال، ولم يبتكر لها الأبطال، ولم يخترع لها الوقائع اختراعا، ولم يبتدع لها النتائج ابتداعا، ومع هذا فهي أجمل ما روى أصحاب القصص وأبدع، وأفخم ما حال خيال الروائيين وأروع، هي قصة إذا لم تكن من نسج الخيال، فإن الحقيقة فيها قد سمت على محلق الخيال!
هي شيء لولا أنه وقع لما صدق أحد أنه يقع، ولولا أنه كان لما ارتاب أحد في أنه لا يمكن أن يكون، ولقد جرت حوادث هذه القصة في صدر القرن السابع لميلاد المسيح - عليه السلام - وأما موضوعها فالصراع بين الحق والقوة، وأما مكانها فمكة فبيثرب ثم مكة، وأما أبطالها فمحمد بن عبد الله، وأما أشخاصها فصحبه من ناحية، وقبائل قريش من ناحية أخرى.
هي قصة طويلة جدا، فقد استهلكت حوادثها العتيقة الرائعة نيفا وعشرين سنة، وهي مبسوطة مفصلة في كتب التاريخ وفي كتب السير، وما كنت لأطمع بالضرورة في أن آتي عليها في مثل هذا المقال، على أن في تلخيص الملخصين لها ما دعت المناسبات الغنى والكفاية.
على أنني اليوم متعمد بعض مواقفها التي أرى فيها أشد مواطن العبرة، وخاصة ما يومئ منها إلى ما يجوز بالعالم في هذه الأيام، فلعل فيه قدوة لقوم يتفكرون.
إذن فلا بد من قتله وعلى ذلك اجتمعوا، ولم ينشز منهم على هذا الرأي أحد.
ثلاث عشرة سنة مضت وهو لا يفتأ يوالي إيذاءهم وإضرام الغيظ في صدورهم بتقريعهم وتسفيه أحلامهم، وتهاون دينهم، والزراية على آلهتم، ودعوتهم في غير فتور ولا وناء، إلى الالتفات عما وجدوا عليه آباءهم وآباء آبائهم، مما استولى منهم على مجامع الشعور، وملك عليهم أقطار الفكر، وجرى في الأعراق مجرى الدم، إذ هم قوم غلاظ شداد الطبع، تعميهم الأفقه والحفاظ فلا يهتدون بين يديهما طريقا!
فلما رأوا أن عمه وكافله قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشرافهم إليه فقالوا: يا فلان إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه وإما أن تخلي بيننا وبينه.
ثم إنهم مشوا إليه مرة أخرى فقالوا له: يا فلان إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا، من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه.
فلما قالوا له هذه المقالة بعث إلى ابن أخيه فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، الذي كانوا قالوا له، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.
Bog aan la aqoon