وسلام على فلان بك في الحكائين ورحمة الله عليهم أجمعين.
مع ذبابة
قال لي صاحبي في مستهل حديثه، ولقد رويت لقراء «الثقافة» أحاديث عن صاحبي هذا، ولكنني لم أقل لهم من هو؟ ولا ما صفته؟ ولم أكشف لهم عن أية خلة فيه، ولم أشر إلى أي شيء يعطي القارئ ولو فكرة ضئيلة عنه، حتى يحل أحاديثه من نفسه في الزواية التي تكافئها من التقدير، وفي الحق أنني في هذا معذور فالرجل صديقي من عهد طويل، وما نكاد نفترق إلا على نية لقاء، فليس من اليسر أن أهتف من صفته بما عسى أن يكره وكيفما كان الأمر، فإنني أكتفي في تقديمه اليوم بأنه رجل حاد الذكاء وحاد المزاج مرهف الحس، دقيق الملاحطة، سريع الخاطر، حاضر الحكم على كل ما يسنح له من الأشياء، وكثيرا ما يكون حكمه نقدا لاذعا تدفعه ثورة النفس، وأنه بهذه الخلال ليشقى الشقاء كله، ويتعب صاحبه التعب أجمعه!
يغضبه ويثيره أتفه شيء يلحظه من الناس مما لا يبعث انتباهي ولا انتباهك، ولو كان هذا الشيء مما لا يعنيه ولا يتصل به بأي حال، فإذا رأى مثلا بائعا من هؤلاء الباعة الجوالين يحلف لمساومه بأنه باعه بأقل مما اشترى، ثار ثائره وجعل يرغي ويزبد، ويرثي لحال الزمان من لؤم أبناء الزمان! وإذا أصاب ثلاثة يقفون في غير حاجة على الطوار - الرصيف - فيعوقون السابلة، وقد يلجئون بعضهم إلى التدلي في الشارع؛ ليمضوا لطياتهم فيتعرضون بذلك لتلك الفواتك العابرة التي أصبح لا ينقطع لها في طرق القاهرة مرد، رأيته يقف بهم فيلومهم ويبكتهم، ويضرب لهم أبلغ الأمثال على سوء عملهم، وقلة ذوقهم، وفداحة جنايتهم في وقفتهم السمجة، على من لا جناية لهم من الناس، غير مبال بما يلقى من مثل أولئك الأرذال!
على أنه - مع هذا - طيب القلب، صافي النفس، لا يحتاج في رده إلى الرضاء إلا إلى أيسر قدر من الاعتذار، مهما يقع على شخصه هو من أسباب الإعنات والأغضاب، وإن ليلة واحدة لكفيلة بأن تغسل صدره من كل ما أجن لامرئ من الحقد والاضطغان!
هذا صاحبي، وبحسبك اليوم معرفة هذا القدر من خلاله، فلنمض في حديثه على اسم الله.
زارني ذات يوم من أيام هذا الأسبوع، فكان أول ما لحظته منه اطمئنان الوجه، ووداعة النفس، ورفق الحديث، وهذه أشياء عهدي بها منه أقل من القليل.
وسألته عن حاله كما يسأل الصديق عن حال الصديق، فقال بعد أن حمد الله وأثنى على جليل فضله: لقد خضت عشية أمس ساعات ثقالا جدا، لقد غاظتني وأبرمتني وفرقت نفسي، وأطارت لبي حتى جازت بي أقصى حدود الصبر، وعصفت بكل ما يقدر للمرء من الاحتمال، فقلت له: «شنشنة أعرفها من أخزم»، ولكن قل لي: كيف كان ذاك؟
قال: استويت للعشاء، وكنت شديد الجوع، وبي من الشهوة للطعام ما لا أجده في أكثر الأيام، وطعامي كما تعلم قل وكثر إنما يوضع بين يدي جملة لأصيب من أي ألوانه ما أشاء في أية لحظة أشاء، وما كدت أسمي الله وأحور يدي إلى الصفحة بأول لقمة حتى رأيت ذبابا قد هوى إلى مهوى أصابعي من الصحفة، فذبيته فعاد لتوها إلى موضعه وجعل يلغ كما كان يلغ، فعدت إلى زجره فعاد كذلك، فأدرت الصحفة لأصيب مما لم يصب، فسرعان ما دنب إلى حيث أرسل يدي وأقبل من فوره على شأنه، ما دفع إلا رجع، ولا زجر إلا عاد، فلم يسعني إلا أن أرفع هذه الصحفة الملوثة الموبوءة، وأنحيها بعيدا وأقرب غيرها، وعوضي على الله، على أنه لم يعفها ولم يعفني، فلقد هبط منها مهبطه من أختها، فأدرت الطبق كذلك فدار معه حتى استقر منه في منحدر يدي، وكان الغيظ قد بلغ في قصارى قصاراه، فأهويت بكفي عليه لأقتله وأخلص من لؤمه وأذاء، فتكسر الطبق شظايا وتناثر الطعام على الخوان، وأصاب وجهي وثوبي منه رشاش، أما الذباب فلم يكفه الإفلات من هذه الضربة الساحقة، بل لقد راح يمرع في هذا الذي تطاير على الخوان! فقمت عن المائدة وأنا أحلف بكل مؤثمة من الإيمان ألا أذوق في ليلتي أي طعام!
أويت إلى فراشي، أرجو بهجعة خفيفة أن أستريح ولو من بعض ما أجد ولكن كيف لي بالنوم وقد قيل: «لا نوم لجائع»، ولو دار الأمر على الجوع وحده لهان الخطب، فإن وراء الجوع نار الغيظ وثورة الغضب، وهذان وحدهما زعيمان بنفي المنام الليالي الطوال.
Bog aan la aqoon